نقوس المهدي
كاتب
بعد قرون، (الديكاميرون) تصدر بنصها الكامل بالعربية للمرة الاولى ، عن دار المدى بطبعة انيقة ضمن سلسلة (اعمال خالدة) ،2006، من القطع الكبير بواقع (702) صفحات، ترجمة صالح علماني ، الذي تصدرت ترجمته للرواية مقدمة وافية، وصف فيها ملامح الحياة الادبية في القرن الرابع عشر ، الذي شهد بزوغ عصر النهضة ، وبداية احتضار العصور الوسطى في اوربا ، اذ أنجب هذا القرن اعظم عباقرة الادب الايطالي امثال ، دانتي اليجري ، بترارك ، بوكاشيو .. حيث عملت البرجوازية الناشئة على رعاية الثقافة والفنون والعلوم ، لكن القرن الرابع عشر كان عصر الاوبئة ايضاً حيث الطاعون الاسود الذي اودى بحياة ربع سكان القارة . وهو عصر الحروب الذي اندلعت فيه حرب المائة عام (1337-1453) بين فرنسا وانكلترا ، وفي هذا القرن بات يتراجع نفوذ الكنيسة التي كانت لها اليد العليا لقرون طويلة في شؤون اللاهوت والسياسة ، وما رافق ذلك من ظهور للحركات الصوفية ، والتوجهات الجديدة التي تدعو الى تحكيم العقل في مختلف القضايا والامور الحياتية ، ما تسبب في تراجع دور الكنسية ومكانتها بوصفها الوسيط بين الانسان والرب ، حسب ما ورد في مقدمة .
مائة قصة
(ديكاميرون) سبق ان ترجم جزء منها في خمسينات القرن الماضي عام 1956 ، ضمن (سلسلة كتابي) التي يشرف على اصدارها حلمي مراد ، وقد ضم الكتاب 22 قصة مختارة من قصص بوكاشيو للمترجم اسماعيل كامل على ان يتبعها اصدار اجزاء آخر لأستكمال (مائة قصة) هو عدد قصص (الديكاميرون) كونها تحفة فنية ظلت حية على مدى القرون حافلة بالمرح والمباهج والمتعة والجمال ، والحكايات السرية ، والبهجة واللوعة والغواية ، والمكر ، والخديعة ، والاغراء ، والسخرية ، والتهكم على حد وصف المترجم ، كل ذلك وغيره في قصص يومية مبهرة مستوحاة مما يحدث في الغرف او وراء الابواب المغلقة ، يقصها رواتها العشرة ، ثلاثة شبان ، وسبع فتيات ، جمعهم الرعب ، الذي اثاره الطاعون ولاذوا بالعزلة في حدائق قصر ريفي ، وراحوا يسردون القصص لنسيان الموت وأهواله ، وهكذا اخذ كل منهم يروي قصة كل يوم ، فكانت الحصيلة عشر قصص يومياً ، خلال الايام العشرة ، وكانت هذه الحكايات والقصص من النمط الشائع في اوساط العامة في مختلف البلدان والشعوب القديمة ، بوصفها نوعاً من المتعة ، خاصة في اوقات الفراغ او الاستراحة من الاعمال الجادة وغالباً ما يعمد الراوي الى اظهار البراعة والفطنة في سرد قصصه ، وهو يختار نماذجه من بين بسطاء الناس في الغالب كالفلاحين ، والكسبة والفقراء من القرى والارياف ، او من قصور الملوك والسلاطين بما يحدث فيها من مؤامرات ودسائس وخيانات ، مستقياً مادته من واقع الحياة والحوادث اليومية ، وعلى مر الازمان خصصت في بعض المدن اماكن ترفيهية للحكايات والقصص .
مصنع الاكاذيب
ففي القرن الرابع عشر اسس اول ناد للقصة بأيطاليا في مدينة روما ، متخذاً من قاعة كبيرة في مبنى الفاتيكان مقرا له ، اطلق عليه اسم (مصنع الاكاذيب) دأب في الحضور عدد من مساعدي البابا واصدقائهم لازجاء اوقات فراغهم في اللهو والتسلية ، وتبادل القصص والاخبار الشيقة والغريبة ، وفي (مصنع الاكاذيب) هذا كان يخترع او يقص كثير من النوادر والحكايات الطريفة عن رجال ونساء ايطاليا ، وعن البابا نفسه ، ما دعا الكثير من الاهالي الى التردد على هذه الندوات ، حتى لا يهزأ بهم في غيبتهم ، وكان من اكثر رواد (مصنع الاكاذيب) مثابرة واخصبهم خيالاً رجل غريب الاطوار اسمه (بوتشبو) الذي اشتغل نصف حياته سكرتيراً للبابا ، تزوج وهو في السبعين فتاة في الخامسة عشرة ، وبدأ بهذا الزواج حياته الادبية ، فدون النوادر التي قصها وسمعها في مصنع الاكاذيب فقد ظهرت ايضا في القرن الرابع عشر في ايطاليا على يد (جيوفاني بوكاشيو 1313-1375) بأصداره كتاباً ضمنه حكايات مليئة بالاثارة والمتعة ، يدعى (الديكاميرون) او المائة قصة ، التي استمدها من مصادر عديدة ومتباينة منها المصري والمغربي ، والفارسي ، والايطالي والفرنسي ، انما دون ما سمعه في (نابولي) وفي غيرها من المدن الايطالية ، لكنه كساها واضفى عليها اسلوبه وصياغته المشوقة ما جعلها تستأثر بأهتمام ومشاعر القراء ، و(الديكاميرون) معناها باليونانية ، (ريكا) اي الايام العشرة ، ويرى المترجم صالح علماني ان بوكاشيو يتوجه في كتابه هذا الى النساء تحديداً لغرض تسليتهن والترويح عنهن لانهن محرومات من وسائل اللهو والتسلية المتاحة للرجال، ويبدأ الكتاب بوصف تفصيلي ودقيق لوباء الطاعون، حيث الحياة انفلت هاربة ، ولا تنتظر ساعة واحدة ، وقد بدأ بوكاشيو كتابه (الديكاميرون) في سنة 1384 ، تدفعه قبل كل شيء آخر ، ذكرى (ماريا دي اكينو) المستغرقة انذاك في غراميات اخرى ، فعام 1348 هو عام الموت رجالاً ونساءً وهم يخلفون شبابهم وثروتهم ، وينزلون افواجاً الى القبور . فالطاعون الاسود ازهق الارواح اكثر من اي حرب ، فقد دخل بيوت فلورنسا الغنية وعاث بها خراباً ، وكان كثيرون قد ماتوا ، عندما قررت النساء (الديكاميرون) السبع مغادرة المدينة مع الشبان الثلاثة ! والهرب ليبعدوا عن اذهانهم ما عاشوه من اهوال ، وهكذا يرفع بوكاشيو ركائز عمله على حدث واقعي ، عانى منه هو نفسه ، وتألم مثل غيره من معاصريه .. من تجاهل الموت والاستمتاع بالحياة والتسلية .
الرواة العشرة
يروي بوكاشيو قصصه ، وتتجسد موهبته في حكاياته المفعمة بالتشويق والسخرية اللاذعة ذات المغزى والمرح ، حسب وصف المترجم.. واحياناً يغلب عليها طابع البهجة او يتلبسها الحزن ، حسب طبيعة الحكاية التي تروى على لسان الرواة العشرة الذين انتدبهم لسرد قصصه ، التي سعت الى معالجة العلاقات المتباينة في مجتمعه ، وتصوير حياة بلده في القرن الرابع عشر ، اذ تناولت موضوعات مختلفة على مدى الايام العشرة ، وتنوعت بين محاور عدة لمهمة النقد والتعرية والوعظ والحث على الفضيلة ، وكشف نزاعات الانسان ورغباته الدفينة ، مثلما تميزت قصصه في كشف غوايات الرجال ومباذلهم ، ومظاهر السذاجة والفجور ولحظات الحب ، وتصوير حالات النفاق والخداع والكذب ، وتجلت براعته في رصد دقيق للاحداث والمواقف المتناقضة ، وقد استطاع بموهبته ان يفوق معاصريه او السابقين عليه من الكتاب بما اكتنزت به قصصه من كثافة في التركيب والوصف والحوار ، التي تعد الارهاصات الاولى في بناء القصة الحديثة ، ولعله اول كاتب اوربي ادخل هذه التقنيات الفنية ممهداً بذلك الطريق لمن بعده من الكتاب وهذا يفسر سر انتشاره وترجمة اعماله الى كل اللغات فقلده الكثيرون في ايطاليا وبقية كتاب البلدان الاوربية . ما دفع بأيطاليا الى مكان الصدارة في الحياة الثقافية بين دول القارة ، وواصلت قصص بوكاشيو تأثيرها على امتداد القرنين الخامس والسادس عشر ، وهيمنت على الاجواء الادبية، حيث شاعت قصصه ، وكان مقروءاً على نحو واسع تاركاً بصماته الواضحة على عدد من كتاب اوربا ، وبخاصة شكسبير .
* alnoor
مائة قصة
(ديكاميرون) سبق ان ترجم جزء منها في خمسينات القرن الماضي عام 1956 ، ضمن (سلسلة كتابي) التي يشرف على اصدارها حلمي مراد ، وقد ضم الكتاب 22 قصة مختارة من قصص بوكاشيو للمترجم اسماعيل كامل على ان يتبعها اصدار اجزاء آخر لأستكمال (مائة قصة) هو عدد قصص (الديكاميرون) كونها تحفة فنية ظلت حية على مدى القرون حافلة بالمرح والمباهج والمتعة والجمال ، والحكايات السرية ، والبهجة واللوعة والغواية ، والمكر ، والخديعة ، والاغراء ، والسخرية ، والتهكم على حد وصف المترجم ، كل ذلك وغيره في قصص يومية مبهرة مستوحاة مما يحدث في الغرف او وراء الابواب المغلقة ، يقصها رواتها العشرة ، ثلاثة شبان ، وسبع فتيات ، جمعهم الرعب ، الذي اثاره الطاعون ولاذوا بالعزلة في حدائق قصر ريفي ، وراحوا يسردون القصص لنسيان الموت وأهواله ، وهكذا اخذ كل منهم يروي قصة كل يوم ، فكانت الحصيلة عشر قصص يومياً ، خلال الايام العشرة ، وكانت هذه الحكايات والقصص من النمط الشائع في اوساط العامة في مختلف البلدان والشعوب القديمة ، بوصفها نوعاً من المتعة ، خاصة في اوقات الفراغ او الاستراحة من الاعمال الجادة وغالباً ما يعمد الراوي الى اظهار البراعة والفطنة في سرد قصصه ، وهو يختار نماذجه من بين بسطاء الناس في الغالب كالفلاحين ، والكسبة والفقراء من القرى والارياف ، او من قصور الملوك والسلاطين بما يحدث فيها من مؤامرات ودسائس وخيانات ، مستقياً مادته من واقع الحياة والحوادث اليومية ، وعلى مر الازمان خصصت في بعض المدن اماكن ترفيهية للحكايات والقصص .
مصنع الاكاذيب
ففي القرن الرابع عشر اسس اول ناد للقصة بأيطاليا في مدينة روما ، متخذاً من قاعة كبيرة في مبنى الفاتيكان مقرا له ، اطلق عليه اسم (مصنع الاكاذيب) دأب في الحضور عدد من مساعدي البابا واصدقائهم لازجاء اوقات فراغهم في اللهو والتسلية ، وتبادل القصص والاخبار الشيقة والغريبة ، وفي (مصنع الاكاذيب) هذا كان يخترع او يقص كثير من النوادر والحكايات الطريفة عن رجال ونساء ايطاليا ، وعن البابا نفسه ، ما دعا الكثير من الاهالي الى التردد على هذه الندوات ، حتى لا يهزأ بهم في غيبتهم ، وكان من اكثر رواد (مصنع الاكاذيب) مثابرة واخصبهم خيالاً رجل غريب الاطوار اسمه (بوتشبو) الذي اشتغل نصف حياته سكرتيراً للبابا ، تزوج وهو في السبعين فتاة في الخامسة عشرة ، وبدأ بهذا الزواج حياته الادبية ، فدون النوادر التي قصها وسمعها في مصنع الاكاذيب فقد ظهرت ايضا في القرن الرابع عشر في ايطاليا على يد (جيوفاني بوكاشيو 1313-1375) بأصداره كتاباً ضمنه حكايات مليئة بالاثارة والمتعة ، يدعى (الديكاميرون) او المائة قصة ، التي استمدها من مصادر عديدة ومتباينة منها المصري والمغربي ، والفارسي ، والايطالي والفرنسي ، انما دون ما سمعه في (نابولي) وفي غيرها من المدن الايطالية ، لكنه كساها واضفى عليها اسلوبه وصياغته المشوقة ما جعلها تستأثر بأهتمام ومشاعر القراء ، و(الديكاميرون) معناها باليونانية ، (ريكا) اي الايام العشرة ، ويرى المترجم صالح علماني ان بوكاشيو يتوجه في كتابه هذا الى النساء تحديداً لغرض تسليتهن والترويح عنهن لانهن محرومات من وسائل اللهو والتسلية المتاحة للرجال، ويبدأ الكتاب بوصف تفصيلي ودقيق لوباء الطاعون، حيث الحياة انفلت هاربة ، ولا تنتظر ساعة واحدة ، وقد بدأ بوكاشيو كتابه (الديكاميرون) في سنة 1384 ، تدفعه قبل كل شيء آخر ، ذكرى (ماريا دي اكينو) المستغرقة انذاك في غراميات اخرى ، فعام 1348 هو عام الموت رجالاً ونساءً وهم يخلفون شبابهم وثروتهم ، وينزلون افواجاً الى القبور . فالطاعون الاسود ازهق الارواح اكثر من اي حرب ، فقد دخل بيوت فلورنسا الغنية وعاث بها خراباً ، وكان كثيرون قد ماتوا ، عندما قررت النساء (الديكاميرون) السبع مغادرة المدينة مع الشبان الثلاثة ! والهرب ليبعدوا عن اذهانهم ما عاشوه من اهوال ، وهكذا يرفع بوكاشيو ركائز عمله على حدث واقعي ، عانى منه هو نفسه ، وتألم مثل غيره من معاصريه .. من تجاهل الموت والاستمتاع بالحياة والتسلية .
الرواة العشرة
يروي بوكاشيو قصصه ، وتتجسد موهبته في حكاياته المفعمة بالتشويق والسخرية اللاذعة ذات المغزى والمرح ، حسب وصف المترجم.. واحياناً يغلب عليها طابع البهجة او يتلبسها الحزن ، حسب طبيعة الحكاية التي تروى على لسان الرواة العشرة الذين انتدبهم لسرد قصصه ، التي سعت الى معالجة العلاقات المتباينة في مجتمعه ، وتصوير حياة بلده في القرن الرابع عشر ، اذ تناولت موضوعات مختلفة على مدى الايام العشرة ، وتنوعت بين محاور عدة لمهمة النقد والتعرية والوعظ والحث على الفضيلة ، وكشف نزاعات الانسان ورغباته الدفينة ، مثلما تميزت قصصه في كشف غوايات الرجال ومباذلهم ، ومظاهر السذاجة والفجور ولحظات الحب ، وتصوير حالات النفاق والخداع والكذب ، وتجلت براعته في رصد دقيق للاحداث والمواقف المتناقضة ، وقد استطاع بموهبته ان يفوق معاصريه او السابقين عليه من الكتاب بما اكتنزت به قصصه من كثافة في التركيب والوصف والحوار ، التي تعد الارهاصات الاولى في بناء القصة الحديثة ، ولعله اول كاتب اوربي ادخل هذه التقنيات الفنية ممهداً بذلك الطريق لمن بعده من الكتاب وهذا يفسر سر انتشاره وترجمة اعماله الى كل اللغات فقلده الكثيرون في ايطاليا وبقية كتاب البلدان الاوربية . ما دفع بأيطاليا الى مكان الصدارة في الحياة الثقافية بين دول القارة ، وواصلت قصص بوكاشيو تأثيرها على امتداد القرنين الخامس والسادس عشر ، وهيمنت على الاجواء الادبية، حيث شاعت قصصه ، وكان مقروءاً على نحو واسع تاركاً بصماته الواضحة على عدد من كتاب اوربا ، وبخاصة شكسبير .
* alnoor