نقوس المهدي
كاتب
مرة أخرى تتعرض طبعة من ألف ليلة وليلة - كتاب السرد العربي الخالد والكنز الحكائي الإنساني الأول- لمحاولة المنع والمصادرة وبحكم قضائي لتصوير أمر الحجْر على ذلك الإرث العجائبي النفيس وكأنه صادر عن المجتمع لا عن قراءة أفراد واستنتاجاتهم التي حدت بهم لوصف الليالي بأنها تشيع الفجور والفاحشة وتخدش الحياء العام، وتباكوا أيضاً على أموال الشعب التي يعاد بها طبع الليالي.
وإذا كان لشهرزاد الساردة العربية الأكثر بلاغة بين الساردين أن تتألم فليس لأنها ملاحقة بسيف شهريار إذا ما صمتت هذه المرة ، ولا خوفها عند تأجيل حكاياتها في نهايات الليالي عندما يدركها الصباح فتسكت عن الكلام المباح ، بل هي تألم لأن ثمة من يريد تكميمها من جديد أي لتموت ببساطة عبر احتراق أوراق الليالي التي تحمل حكاياتها ومسرح خيالها العجيب الذي ينمو بحرية ويقيم عوالم السرد بلا حدود؛ فيتم تعويض المعدمين عن حرماناتهم بما تكافئهم به الحكايات من بدائل: إذا كنت فقيرا فثمة كنز في البستان أو الطريق سيعوضك فقرك، وإذا كنت عاجزا عن السفر واختراق الآفاق فثمة أجنحة تطير بها وبساط وآلات عجيبة وسفن ومخلوقات تساعدك على مغادرة مكانك والطواف في مدن حقيقية أو متخيلة..وهكذا يقترن ابن الفقير ببنت التاجر أو العكس، وينجو المحكومون في اللحظات الأخيرة كما يتخلصون من مصائرهم المحققة، ويعود الممسوخون إلى هيئاتهم ويستردون طباعهم .
يبدو أن هذا الخيال الحر صار متهما وبأثر رجعي، فتعلو الأصوات المطالبة بإحراق ألف ليلة وليلة ومنع طبعتها الجديدة ،كما جرى في منتصف الثمانينيات، واحتشد وقتها المثقفون العرب في أوطانهم المختلفة لشجب القرار الذي رده القضاء أصلا ولم يتم تنفيذه ، لكن مجرد اتهام الليالي بالمروق وازدراء الأديان هو دعوة للتخلي عن قطع عزيزة من مخيالنا السردي الشعبي وقصِّنا المرمّز ومدياته الرحبة التي أبهرت قراءً مختلفي القوميات والأديان والألسنة، وحازت في نفوسهم على مكانة لم تتزعزع رغم هذه الهبّات الظالمة لإحراقها. وهذا التنازل عن ميراثنا المشرق والمشع يذكرني بالدعوات التي صدرت خلال حرب الخليج الأولى لمنع ومصادرة كتاب الأغاني وكليلة ودمنة بل لتغيير اسم شارع أبي نواس فلم يكتب لها التحقق، وذلك من عجائب أمور عقلنا العربي المناوئ لإبداعات أسلافه الذين لم يروا في تلك المدونات ما يخدش الحياء أو يهين المقدسات متفوقين على فكر بعض معاصرينا ممن (فوجئوا ) - كما يقول بلاغهم ضد ألف ليلة وليلة- بما فيها من إشارات تخدش الحياء العام، مدللين على جهلهم بكتاب طُبع عشرات الطبعات ومنذ قرابة قرنين، ومفاجأتهم لا تقل في وقعها عن مفاجأتنا بجهلهم أن ألف ليلة وليلة غير معروفة المؤلف بل هي نتاج العقل الجمعي وإضافات القراء؛ لذا كانت مطالبتهم القضائية بمعاقبة المؤلف تدعو للرثاء حقا.
تقول مقدمة ألف ليلة وليلة أو إطارها السردي قبل بدء الحكايات إن شهرزاد قرأت ألف كتاب فتطوعت لتكون الضحية التالية لشهوة الموت لدى شهريار ، كأنما لتواجه بكل كتابٍ ليلةَ موتٍ مدبّرٍ لها ؛ وتنجو لتعود إلى الحكي ثانية. ولكن؟ كم من الكتب كان عليها أن تقرأ لتواجه الموت الجديد الذي يريده لها القراء المتعصبون ضد كل بهجة يتيحها الخيال .. قراء المطابقة بين الملفوظ المتخيل والواقع الخارجي الذين يحرّمون ويجرّمون كما يشتهون؟
ولعل منجز طبعة كلكتا الثانية التي أعادت نشرها سلسلة الذخائر بمصر عام 1997 كان يتوقع ما سيجري لها في القراءات المتعسفة ؛ فدعا في ختام أجزائها إلى النظر إليها (بناظر الإنصاف لا التمعن فيها بعين الاعتساف ) ، فلماذا إذن تجري محاولات حرقها كل مرة، ويعاد تكميم شهرزاد لتكف عن الحكي؟ ألأن حكيها المستعاد ينطبق على أحوالنا اليوم فيبرأ منه من يدعون أنهم القيمون على سنن المجتمع ونواميسه ؟
إن ملاحقة الليالي بالمنع والحرق والمصادرة لهو تصويت على خطورتها كمتن سردي مشاغب، لا يكف عن الإلهام وتغذية خيال الساردين والساردات الحديثين، فتنتقل عدواه إلى بورخيس وهو يسطّر استيهاماته في ظلام عماه وعتمة ممرات مكتبة بوينس ايرس وينظر ببصيرته إلى ما يحتويه هذا المتن العجائبي من سحر، أما تودوروف الذي يسمي ألف ليلة وليلة ( آلة أو ماكنة القصص العجيبة) فقد وصف المكافأة التي حصلت عليها شهرزاد بأنها أعظم ما يمكن أن يحصل عليه سارد لأنها تلقت حياتها ثمنا لحكيها.. هذه الحياة التي يريد القارئون الجهلة اليوم وأدها ثمنا لخيالها الذي لا يرون لها حقا فيه ولا لقرائها حق معاينته ..
إشارة: يستفيد العنوان من كتاب الباحثة والمترجمة العراقية بديعة أمين( هل ينبغي إحراق كافكا )الذي صدر في الثمانينيات إسهاما في الجدل حول إيديويوجية كافكا.
* د. حاتم الصكر
هل ينبغي إحراق ألف ليلة وليلة؟
hatemalsagr*
وإذا كان لشهرزاد الساردة العربية الأكثر بلاغة بين الساردين أن تتألم فليس لأنها ملاحقة بسيف شهريار إذا ما صمتت هذه المرة ، ولا خوفها عند تأجيل حكاياتها في نهايات الليالي عندما يدركها الصباح فتسكت عن الكلام المباح ، بل هي تألم لأن ثمة من يريد تكميمها من جديد أي لتموت ببساطة عبر احتراق أوراق الليالي التي تحمل حكاياتها ومسرح خيالها العجيب الذي ينمو بحرية ويقيم عوالم السرد بلا حدود؛ فيتم تعويض المعدمين عن حرماناتهم بما تكافئهم به الحكايات من بدائل: إذا كنت فقيرا فثمة كنز في البستان أو الطريق سيعوضك فقرك، وإذا كنت عاجزا عن السفر واختراق الآفاق فثمة أجنحة تطير بها وبساط وآلات عجيبة وسفن ومخلوقات تساعدك على مغادرة مكانك والطواف في مدن حقيقية أو متخيلة..وهكذا يقترن ابن الفقير ببنت التاجر أو العكس، وينجو المحكومون في اللحظات الأخيرة كما يتخلصون من مصائرهم المحققة، ويعود الممسوخون إلى هيئاتهم ويستردون طباعهم .
يبدو أن هذا الخيال الحر صار متهما وبأثر رجعي، فتعلو الأصوات المطالبة بإحراق ألف ليلة وليلة ومنع طبعتها الجديدة ،كما جرى في منتصف الثمانينيات، واحتشد وقتها المثقفون العرب في أوطانهم المختلفة لشجب القرار الذي رده القضاء أصلا ولم يتم تنفيذه ، لكن مجرد اتهام الليالي بالمروق وازدراء الأديان هو دعوة للتخلي عن قطع عزيزة من مخيالنا السردي الشعبي وقصِّنا المرمّز ومدياته الرحبة التي أبهرت قراءً مختلفي القوميات والأديان والألسنة، وحازت في نفوسهم على مكانة لم تتزعزع رغم هذه الهبّات الظالمة لإحراقها. وهذا التنازل عن ميراثنا المشرق والمشع يذكرني بالدعوات التي صدرت خلال حرب الخليج الأولى لمنع ومصادرة كتاب الأغاني وكليلة ودمنة بل لتغيير اسم شارع أبي نواس فلم يكتب لها التحقق، وذلك من عجائب أمور عقلنا العربي المناوئ لإبداعات أسلافه الذين لم يروا في تلك المدونات ما يخدش الحياء أو يهين المقدسات متفوقين على فكر بعض معاصرينا ممن (فوجئوا ) - كما يقول بلاغهم ضد ألف ليلة وليلة- بما فيها من إشارات تخدش الحياء العام، مدللين على جهلهم بكتاب طُبع عشرات الطبعات ومنذ قرابة قرنين، ومفاجأتهم لا تقل في وقعها عن مفاجأتنا بجهلهم أن ألف ليلة وليلة غير معروفة المؤلف بل هي نتاج العقل الجمعي وإضافات القراء؛ لذا كانت مطالبتهم القضائية بمعاقبة المؤلف تدعو للرثاء حقا.
تقول مقدمة ألف ليلة وليلة أو إطارها السردي قبل بدء الحكايات إن شهرزاد قرأت ألف كتاب فتطوعت لتكون الضحية التالية لشهوة الموت لدى شهريار ، كأنما لتواجه بكل كتابٍ ليلةَ موتٍ مدبّرٍ لها ؛ وتنجو لتعود إلى الحكي ثانية. ولكن؟ كم من الكتب كان عليها أن تقرأ لتواجه الموت الجديد الذي يريده لها القراء المتعصبون ضد كل بهجة يتيحها الخيال .. قراء المطابقة بين الملفوظ المتخيل والواقع الخارجي الذين يحرّمون ويجرّمون كما يشتهون؟
ولعل منجز طبعة كلكتا الثانية التي أعادت نشرها سلسلة الذخائر بمصر عام 1997 كان يتوقع ما سيجري لها في القراءات المتعسفة ؛ فدعا في ختام أجزائها إلى النظر إليها (بناظر الإنصاف لا التمعن فيها بعين الاعتساف ) ، فلماذا إذن تجري محاولات حرقها كل مرة، ويعاد تكميم شهرزاد لتكف عن الحكي؟ ألأن حكيها المستعاد ينطبق على أحوالنا اليوم فيبرأ منه من يدعون أنهم القيمون على سنن المجتمع ونواميسه ؟
إن ملاحقة الليالي بالمنع والحرق والمصادرة لهو تصويت على خطورتها كمتن سردي مشاغب، لا يكف عن الإلهام وتغذية خيال الساردين والساردات الحديثين، فتنتقل عدواه إلى بورخيس وهو يسطّر استيهاماته في ظلام عماه وعتمة ممرات مكتبة بوينس ايرس وينظر ببصيرته إلى ما يحتويه هذا المتن العجائبي من سحر، أما تودوروف الذي يسمي ألف ليلة وليلة ( آلة أو ماكنة القصص العجيبة) فقد وصف المكافأة التي حصلت عليها شهرزاد بأنها أعظم ما يمكن أن يحصل عليه سارد لأنها تلقت حياتها ثمنا لحكيها.. هذه الحياة التي يريد القارئون الجهلة اليوم وأدها ثمنا لخيالها الذي لا يرون لها حقا فيه ولا لقرائها حق معاينته ..
إشارة: يستفيد العنوان من كتاب الباحثة والمترجمة العراقية بديعة أمين( هل ينبغي إحراق كافكا )الذي صدر في الثمانينيات إسهاما في الجدل حول إيديويوجية كافكا.
* د. حاتم الصكر
هل ينبغي إحراق ألف ليلة وليلة؟
hatemalsagr*