حاتم الصكر - لكلّ ليلةٍ كتاب

في التمهيد الذي يتقدم حكايات ألف ليلة وليلة ويشكل إطارها السردي، وقبل أن تتسلم شهرزاد مهمة الحكي ورواية القصص، يحدثنا راوٍ خارجي عن سبب تولي شهرزاد للمهمة، وحكاية الملكين الأخوين شهريار و شاه زمان، وبحث الوزير والد شهرزاد عن فتاة كل ليلة ليفتك بها شهريار انتقاماً مما قامت به زوجته، ولسوف ييأس الوزير أخيراً من العثور على مزيد من الفتيات فتتقدم ابنته شهرزاد متطوعةً (لافتداء بنات المسلمين ولتكون سببا لخلاصهن من بين يدي شهريار ) كما تقول.

كان الراوي الخارجي يلملم خيوط الحكاية التي تمثل السياق الأكبر لليالي الكتاب الذي يعده الدارسون اليوم-عربا وغربيين - كنزا حكائياً هائلا ومستودعا للسرد العجائبي المتلون بأطياف المخيلة الشعبية الحرة التي تقوم بالتعويض عن حرمانات كثيرة، فيحصل الفقراء والهامشيون على مكافآت ومفاجآت وهدايا تخبئها لهم أحداث الحكايات التي لا يحكمهما منطق خارجي، ولا تخضع لتفسير عقلي، بل ينتظمها منطقها الداخلي الخاص، فتصبح التحولات الحادة والغرائب والأعاجيب جزءاً من شعرية الحكي ودلالاته المسكوت عنها.

وإذا كان الأدب السردي الموروث ممثلاً بحكايات (كليلة ودمنة) يوصي بحكمة مفادها: إصمت تعش، ويسوق الأمثولات على ذلك –كحكاية البطتين والسلحفاة التي فاهت بالكلام فسقطت وماتت- فإن حكايات ألف ليلة وليلة واستجابةً للمخيلة الشعبية التي تؤدي وظيفة التعويض عن الواقع القاسي ، تقدم حكمةً معاكسة تماماً ملخصها: إحكِ تعش ، ولكن من أين لشهرزاد تلك المقدرة على إدامة الحكي كي لا تموت بالصمت وانقطاع الكلام؟

الراوي الخارجي نفسه وفي التمهيد الإطاري للحكايات يفسر ذلك حين يصف شهرزاد بأنها( قد قرأت الكتب والتواريخ، وسير المتقدمين وأخبار الماضين، وقيل إنها جمعت ألف كتاب من الكتب المتعلقة بالأمم السالفة والملك الخالية والشعراء) وذلك يشبه الاستباق في الروايات الحديثة حيث تتصدّر هذه الصفات مشاركة شهرزاد وقبل دخولها في أحداث السرد وتأثيرها فيها عبر تحديد المصائر واتجاهات الأحداث والوقائع.

هنا يتساءل القارئ: أكان ممكنا لشهرزاد أن توقف النزوع الانتقامي في نفس شهريار وأن تحمي بنات جنسها كما تقول في حجاجها مع أبيها لإقناعه بقيامها بالمهمة لولا هذا العدد من الكتب الذي جمعته وقرأته بالضرورة قبل إسناد المهمة إليها؟؟

ولماذا كان عدد الكتب التي ( جمعتها) شهرزاد، ولم تقرأها فحسب ثم تتخلى عنها، (ألف كتاب) مضاهاةً لعدد الليالي التي ستصارع فيها رغبة شهرزاد في القتل كل ليلة، فكأن كل كتاب يقوم بإطفاء شهوة القتل لليلة، ثم يتولى سواه من كتبها التي جمعتها مهمة الليلة التالية .

هكذا نازلت شهرزاد الموت بالكتب الألف التي أمدتها بإرادة المقاومة لتراهن على قدرتها، وتصر على إمكان إنهاء مسلسل الموت المتجسد بثأر شهريار وغضبه الأعمى على جنس كامل، لكن الليالي تقدم شهرزاد بكونها دلالة على انتقام آخر، فحكاياتها التي فسرتها القراءات الذكورية على أنها تؤكد مكر النساء بالمعنى الأخلاقي، إنما هي جزء من تعويضات تقدمها الليالي، فإزاء العجز عن السفر مثلا نجد الحكايات تطير بأشخاصها بمخترعات خيالية- بساط الريح أو الطيران بآلة عجيبة أو الارتباط بجسم طائر ضخم- في حكايات السندباد التي تضمنتها رحلاته السبع، وتعويضات عن الخلق والتكوين يمثلها الانسلاخ عن الآدمية بالمسخ أو العكس- انسلاخ الحيوان عن حيوانيته ومعاشرته للبشر- ولذا لا يوافق السرديون المعاصرون على تشخيصات المحللين التقليديين للقص في الليالي ،كقولهم إن شخصياتها تفتقر إلى البعد النفسي والتحليل، أو أنها تمثل أنماطاً لا شخوصاً، فيرد تودروف على القائلين بان التحليل الداخلي للسمات غائب في الليالي محتجا بما يسميه بالتسلسل السببي في الحكايات، فتدخل الجمل السردية في علاقة تعاقبية أو تتابعية مع الجمل السابقة أو اللاحقة، وهذا يجعل قراءة الليالي ذات طابع سببي يكشف الترابط الداخلي لها، وهو الذي دعاني لاستذكار وصف الراوي الخارجي لشهرزاد بأنها (جمعت ألف كتاب) ،والجمع يعطي للكتاب قوة إضافية أكثر من مجرد قراءته ، فالديمومة المعرفية الماثلة له بالجمع تعطيه صلاحية النفوذ والأثر، ونستطيع أن نمثل بكثير من أحداث الليالي ووقائعها على ذلك، وربما كان أكثرها دلالة وشهرة حكاية رأس دميان والكتاب المسموم الذي تكفي تقليب صفحاته للموت لأن السم ملتصق ببياضها، وكلما وضع الإنسان إصبعه في فمه ليقلب المزيد من الصفحات تجرع مزيداً من السم، وعلى العكس من ذلك تكون القصص والحكايات ثمناً لنجاة الكثير من أبطال ألف ليلة وليلة، بل إن هؤلاء لا حياة لهم دون تلك القصص، لذا تلجأ متون الليالي إلى طريقة عجيبة في سرد القصص المغلفة ببعضها والمنسلة أو المتولدة منها والمتوسعة عنها ، وهو أنها تهمل أو تشذب بالقص عددا من المصائر والحبكات لتستبدلها بأخرى، وهذا ما صنعه راوي الإطار التمهيدي حين تحدث عن الملكين وما جرى لهما مع زوجتيهما ثم فرارهما من المملكة وعودتهما إلى المُلك بعد مقابلتهما لامرأة العلبة التي حبسها الجني في صندوق مقفل ،ورغم ذلك كانت تقابل مئات الرجال وتجمع خواتمهم للذكرى، بينما يرقد في حجرها جني أو عفريت بحري ضخم تتزلزل الأرض تحت خطاه عند خروجه من البحر ، حاملا العلبة التي أقفلها على العروس الشابة بعد أن خطفها ليلة عرسها.

لكن الراوي لا يحكي لنا ما جرى لشاه زمان ، واكتفى بالحكي عما جرى لأخيه شهريار، كذلك يحدثنا عن أخت صغرى لشهرزاد هي دنيا زاد ، ثم يسكت عنها مكتفيا بشهرزاد التي أفلحت كتبها الألف بأن تكون عتاداً هزمت به سيف شهريار وروضته ليستمر النسل وتعيش بنات جنسها، وليصبح للكتاب والكلام والقص تلك المكانة التي لا يدرك الكثيرون خطورتها اليوم.




* د. حاتم الصكر
لكلّ ليلةٍ كتاب


* hatemalsagrnet
 
أعلى