نقوس المهدي
كاتب
في الاهتمامات الأدبية والفنية الأوربية المبكرة وما تلاها وصف بورخيس كتاب ألف ليلة وليلة (الذي كان يقرأه على السطح خلسة كونه كتابا بذيئاً!) أنه كتاب مذهل يثير الإعجاب في الغرب أكثر مما في الشرق. ولا يعدو بورخيس إلا واحداَ من عشرات الكتّاب الأوربيين الذين لم يغادروا العجائب العربية هذه إلا ونسجوا شيئاً من ماهيتها الأدبية بدءاً من القرن السابع عشر الذي شهد ترجمة «غالان» لهذا السفْر الضخم الذي كسر ايقاع السرد الكلاسيكي السائد آنذاك، بتجربته الحكائية المتداخلة وسرده المتواتر، ليكون في صدارة الكتب التي شهدت إقبالا منقطع النظير في القراءة الأوربية، وحتى عصر النهضة الذي شهد اهتماما واضحاً بالشرق العربي من النواحي كافة، وكان لألف ليلة وليلة أثره الذي مهر شيئا غير قليل من الآداب الأوربية خاصة في فن السرد، ويمكن ملاحظة مدى التأثير الذي تركته الليالي العربية على رموز أدبية عالمية كبيرة الأسماء والمعطيات كـ«فولتير» القائل أنه لو لم يقرأ هذا الكتاب 14 مرة لما أمكنه أن يكتب القصة القصيرة! في حين استلهم الشاعر الألماني «غوته» حكايات شهرزاد في عمله الروائي «فيلهلم مايستر» كذلك استفاد بوشكين من الليالي العربية في كتابه «رسلان ولودميلا» الذي كان سبب شهرته، في حين سلّم باحثون كثيرون بأن شكسبير تأثر في ألف ليلة وليلة في معظم مسرحياته، بينما الكاتب الإيطالي «جيوفاني بوكاشيو» عرفت عنه أروع إبداعاته الروائية «الديكاميرون» وعلى نهج «بوكاشيو» سار الشاعر الإنكليزي «جيفري تشوسر» مستوحيا من «ألف ليلة وليلة» عمله الشهير «حكايات كانتربري»...
وآخر ما يمكن أن نستشهد هو «غابرييل جارسيا ماركيز» في مذكراته حينما كتب «تعلمت من ألف ليلة وليلة ما لن أنساه أبدا، بأنه يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على أن نعيد قراءتها».
هذه إطلالة سريعة غير مكتملة على أسماء غربية عُرفت بإنجازاتها الأدبية التي لم تخلُ من تأثرات واضحة وصريحة في بنية النص الشهرزادي الملولب ذي الرؤوس متعددة الاتجاهات، ولاشك أن مثل هذا النص المفتوح على قراءات متعددة أبهر الآسلاف بإمكانيته الحكائية الدورانية التي أنتجت سرداً عربيا خالصا بمعطيات عربية اسلامية شرقية تشير الى قوة السارد العربي المجهول الذي ابتكر هذا اللون الفني المشوّق وهو يؤسس لبنية نصية جديدة في مستواها السردي. وهي بنية متحفية صامدة حتى اليوم بنسجها المتواتر.
النظريات السردية التي انتخبت مناهجها النقدية الحديثة في الفن الروائي على وجه التحديد تنوعت في قراءاتها ومستويات رصدها وهي تستقرئ تاريخية تلك السرود وتطورها في ضوء مسلمات نظريات ورؤى سابقة، وهي نظريات على الأغلب الأعم معنية بإيجاد صلات ممكنة بينها وبين السابق من تلك السرود، بمعنى أن النظريات النقدية كونها تابعا يستقرئ ويفحص ابداع السردي، تميل الى أرخنة المسارات الطبيعية لذلك الابداع وبالتالي فمهمتها على الأرجح تكون تاريخية قبل أن تكون فنية، وشهد العصر الآخير من تطور الفن الروائي تحولات منهجية في قراءة الآثار السردية ممتلكاً حجته القوية بديمومة وبقاء تلك الآثار، وهذا التحول الراصد لهذا اللون الأدبي وقفت وراءه أعمال روائية كبرى بدءاً من القرن السابع عشر وحتى اليوم ومنذ ترجمة ألف ليلة وليلة على يد «غالان». فخلصته من كلاسيكية القص المتكرر الى شموليته المعرفية في استيحاء وتداخل الفنون الاخرى في المتن السردي من شعر وسينما وتراث وتشكيل ووثائق وجغرافيا وتاريخ وسحر وأسطورة، وبدت الرواية المعرفية تفرض حضورها على المشهد السردي العالمي، وجل روايات القرن الأخير هي روايات معارف وتاريخ ووثيقة وثقافات شعبية ومحلية لها نكهتها المطعمة بالتراث المحلي ولونها المتميز الذي يتشابه أو لا يتشابه من حيث تاريخيتها وتراثها الحكائي، حتى انبثقت من ركن قصي في العالم ما سمي بالسرد العجائبي أو الغرائبي الذي قاده ساردو أميركا اللاتينية برأس ماركيز ويوسا وغيرهما، الأمر الذي لفت الانتباه الى سرديات أخرى جاءت من أفريقيا واليابان وبعض دول المشرق العربي في تثبيت علائم محليتها الحكائية مستندة الى قواعد جديدة في محاكاة الواقع بشتى مستوياته وتأثراته، ومنتمية في تأسيساتها الى النظرية الألفليلاتية الباهرة في تشكلاتها السردية القصيرة والطويلة.
(٢)
قراءة ألف ليلة وليلة تتم في ضوء معطيات السرد العالمي الحديث تقع في منتصف هذا الخطاب الجديد الذي يستوحي الحكاية كباث أول في مسار السرد الجديد وهو ما يجب أن ننتبه اليه في النصوص السردية الحديثة عربيا وعالميا من حيث اغترافها من هذا الموروث الحكائي ذي الأصل الشهرزادي العربي، فالمساحة العربية في النص الشهرزادي وإن تلونت بألوان محلية لا تتشابه معها من حيث المكان، لكنها تبقى تشير الى مادة أولية قديمة كقيمة فنية أنتجت كل هذا الفيض الفني من السرود. وهذا اللاث ـ الحكاية لم يكن متعارفاً عليه في السرد الروائي، بل لم يكن يسبق ألف ليلة أي أثر روائي يمكن مقارنته أو استجلاء فنيته، لذلك نرى أن الخطاب الأدبي والفني المعاصر وبعد شيوع فضاءات الحداثة وما بعد الحداثة انشغلت بالتعالق البنائي والدلالي مع البنى التراثية، وكان نص الف ليلة وليلة حاضرا في الكثير من الرؤى السردية والسينمائية والتشكيلية والبحثية والنقدية برؤى جديدة فككت أوصال الحكاية وقرأت الظاهر والمستور منها في معالجات نصية جديدة، أوصلت هذا الأثر إلى أن يكون جديدا دائما في اختباراته الفنية وخبراته الفذة بكونه أثراً ذا قراءات مختلفة ومتعددة من زواياه كافة، فالدكتور محسن الموسوي على سبيل المثال قرأ (مجتمع ألف ليلة وليلة) بأكمله بكتاب جاء يحمل العنوان ذاته باحثا ومنقبا في سراديب هذا الأثر وأنفاقه وخفاياه، من القمقم الذي فتحه الفرنسي غالان في الربع الأخير من القرن السابع عشر وحتى آخر لحظات شهرزاد وهي تنتصر على شهريارها بحكايات متناسلة كلفتها ثلاث سنوات من الحكي والتأليف والقص بسرد متداخل اكتظ بالمعارف المختلفة وتأليف الحكايات الشفاهية المرتجلة، مروراً بالوقوف على أنواع الأطعمة في الحياة الاجتماعية كونها تدخل في تكوينات السرد، وعجائب الحكايات وخرافاتها وغرائبها والمدهش فيها والغناء البغدادي والطلاسم والحزازير والتعددية اللسانية والشعر وملذات الجسد وخيال الشخصيات والمكان بوصفه من مكملات السرد والمحكي عن المرأة وغلمانيات شهريار ولغة المجتمع العباسي وبقايا الأثر فيها والمدن والتجارة والرحلات والاسفار وتعاقب الحكي، في دراسة منهجية طويلة وقف فيها الموسوي على تجليات النص الشهرزادي بوصفه نصاً روائيا مولّداً لسرود متداخلة، حيث لم تكن الرواية معروفة قبل ألف ليلة وليلة.
هذه التزكية الواقعية لنص شهرزاد العجائبي تدفعنا الى مطالعة قوة هذا النص وقراءة جمالياته بضوء المتاح من المعارف النقدية التي تقتفي هذا الأثر المؤثر بمستويات قرائية متعددة المداخل، فالحفر في هذا النص يبقى ممكناً دائما بسبب قدرته على إيجاد مداخل نقدية حديثة تحاكيه وتتوسم فيه إجراءات نقدية دقيقة وتسبر أعماقه وتفك تشابكاته النصية الداخلية وتفرزن حكاياته المتوالدة ككرة الثلج المنحدرة في سرد متدفق لا يهدأ على مدار النص.
وحتى الربع الأخير من القرن السابع عشر لم يعرف الأدب الأوربي التوليدات المتعاقبة في الفن الروائي بحسب الناقد الموسوي وهي تقنية فنية جاءت بها ألف ليلة وليلة من دون غيرها في رصد حكائي عجائبي عالي المستوى بابتكاره بؤراً متوترة في أقطاب سردية متعددة الاتجاهات تفترعها المفارقات والغرائب والمفاجآت بحكايات تتداخل فيما بينها وتنشئ حكايات جديدة، وهذه الأخيرة تبتكر لها أيضا بؤر سرد جديدة في متواليات مصممة أساساً لإبهار شهريار ملك النساء، لكنها بالتالي تشكل بؤرَ سردٍ فنية شهرزادية بامتياز فيها من الدقة الفنية أكبر مما فيها من المتعة الشهريارية اليومية التي أجّلت السرد الى معارف جديدة ورؤى أخرى تنتجها الحكّاءة العربية الأولى شهرزاد.
(٣)
السرد المتدفق والخيوط الحكائية المتداخلة والمعقودة فيما بينها انتظمت بوحدات سردية متقدمة وهي سرديات توليدية تكشف العوالم الظاهرة والباطنة للمجتمع العباسي المتقدم على عصره لتقدم لنا عبر الحكايات مكوناً فعليا لحركة السرد وهو يتماهى مع عناصر الحكايات المبتكرة التي برعت شهرزاد بتوليدها على مدار ثلاث سنوات لتقدم رواية عربية خالصة استبقت العصر الروائي المعاصر كثيراَ وتقدمت الى العصور التالية بوصفها حاضنة سردية أولى.
سيبدو مثل هذا السرد السيّال والتناسل الحكائي المستمر أحد مبررات هذا التوليد القصصي العجيب الذي عرفت به ألف ليلة كنص ذي تفريعات لا تنتهي، ومثل هذه التفريعات أنتجت قصصاً لا حصر لها ولا يمكن عزلها عن السياق الروائي الشهرزادي العام، لكن يمكن التعامل معها منفردة كنصوص مغذية للمتن الشهرزادي بطابعها التي هي فيه. وقد يظن البعض أن هذه التفريعات السردية عشوائية بطبيعتها السحرية والخوارقية والخرافية لتمرير لعبة شهرزاد على مليكها المعقّد بمكونات قصصية فردية تتسع كثيرا ثم تتراجع الى بؤرة انطلاقها معقودة على حل أو حلول ومنبّهة الى عقدة أخرى بحكاية جديدة، وهذا التوليد القصصي تقف وراءه ناظمة النص شهرزاد بوصفها بنية كلية لراوية وحيدة تدير لعبة الحكايات بمهارة روائية اضطرتها لأن تجد سبيلها الى القصص والحكايات الصغيرة التي تشحنها بالعجائبي المجتمعي والخيالي السحري الخارج من لعبة هذا النص بمتسعاته النصية الكثيرة ووحداته التوليدية التي لا تكف عن إيجاد بؤر سرد جديدة في كل مرة.
والرواية العالمية وحتى العربية الجديدة اتكأت على هذا المتن الحكائي كثيراً وتعمقت بالدورة السردية فيه في تعالقات نصوصها معه، عبر التراث الحكائي المحلي وقصصه وعناصر تجسيده التي لا تخرج كثير عن المتن الفريد، مغذية خيال الروائيين بسرود ونصوص لم يكن لها لتظهر إلا عبر محور هذه الليالي ومرتكزها الأساسي في ثبات النص على جوهر حكاية تتفرع وتتطاول كشجرة وتمد جذورها بعيدا في أعماق اللاوعي، لتكتسب درجة قطعية في بنائها الحكواتي الذي يبقى ينهل كثيراً من جذور تلك الشجرة.
* assafir
وآخر ما يمكن أن نستشهد هو «غابرييل جارسيا ماركيز» في مذكراته حينما كتب «تعلمت من ألف ليلة وليلة ما لن أنساه أبدا، بأنه يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على أن نعيد قراءتها».
هذه إطلالة سريعة غير مكتملة على أسماء غربية عُرفت بإنجازاتها الأدبية التي لم تخلُ من تأثرات واضحة وصريحة في بنية النص الشهرزادي الملولب ذي الرؤوس متعددة الاتجاهات، ولاشك أن مثل هذا النص المفتوح على قراءات متعددة أبهر الآسلاف بإمكانيته الحكائية الدورانية التي أنتجت سرداً عربيا خالصا بمعطيات عربية اسلامية شرقية تشير الى قوة السارد العربي المجهول الذي ابتكر هذا اللون الفني المشوّق وهو يؤسس لبنية نصية جديدة في مستواها السردي. وهي بنية متحفية صامدة حتى اليوم بنسجها المتواتر.
النظريات السردية التي انتخبت مناهجها النقدية الحديثة في الفن الروائي على وجه التحديد تنوعت في قراءاتها ومستويات رصدها وهي تستقرئ تاريخية تلك السرود وتطورها في ضوء مسلمات نظريات ورؤى سابقة، وهي نظريات على الأغلب الأعم معنية بإيجاد صلات ممكنة بينها وبين السابق من تلك السرود، بمعنى أن النظريات النقدية كونها تابعا يستقرئ ويفحص ابداع السردي، تميل الى أرخنة المسارات الطبيعية لذلك الابداع وبالتالي فمهمتها على الأرجح تكون تاريخية قبل أن تكون فنية، وشهد العصر الآخير من تطور الفن الروائي تحولات منهجية في قراءة الآثار السردية ممتلكاً حجته القوية بديمومة وبقاء تلك الآثار، وهذا التحول الراصد لهذا اللون الأدبي وقفت وراءه أعمال روائية كبرى بدءاً من القرن السابع عشر وحتى اليوم ومنذ ترجمة ألف ليلة وليلة على يد «غالان». فخلصته من كلاسيكية القص المتكرر الى شموليته المعرفية في استيحاء وتداخل الفنون الاخرى في المتن السردي من شعر وسينما وتراث وتشكيل ووثائق وجغرافيا وتاريخ وسحر وأسطورة، وبدت الرواية المعرفية تفرض حضورها على المشهد السردي العالمي، وجل روايات القرن الأخير هي روايات معارف وتاريخ ووثيقة وثقافات شعبية ومحلية لها نكهتها المطعمة بالتراث المحلي ولونها المتميز الذي يتشابه أو لا يتشابه من حيث تاريخيتها وتراثها الحكائي، حتى انبثقت من ركن قصي في العالم ما سمي بالسرد العجائبي أو الغرائبي الذي قاده ساردو أميركا اللاتينية برأس ماركيز ويوسا وغيرهما، الأمر الذي لفت الانتباه الى سرديات أخرى جاءت من أفريقيا واليابان وبعض دول المشرق العربي في تثبيت علائم محليتها الحكائية مستندة الى قواعد جديدة في محاكاة الواقع بشتى مستوياته وتأثراته، ومنتمية في تأسيساتها الى النظرية الألفليلاتية الباهرة في تشكلاتها السردية القصيرة والطويلة.
(٢)
قراءة ألف ليلة وليلة تتم في ضوء معطيات السرد العالمي الحديث تقع في منتصف هذا الخطاب الجديد الذي يستوحي الحكاية كباث أول في مسار السرد الجديد وهو ما يجب أن ننتبه اليه في النصوص السردية الحديثة عربيا وعالميا من حيث اغترافها من هذا الموروث الحكائي ذي الأصل الشهرزادي العربي، فالمساحة العربية في النص الشهرزادي وإن تلونت بألوان محلية لا تتشابه معها من حيث المكان، لكنها تبقى تشير الى مادة أولية قديمة كقيمة فنية أنتجت كل هذا الفيض الفني من السرود. وهذا اللاث ـ الحكاية لم يكن متعارفاً عليه في السرد الروائي، بل لم يكن يسبق ألف ليلة أي أثر روائي يمكن مقارنته أو استجلاء فنيته، لذلك نرى أن الخطاب الأدبي والفني المعاصر وبعد شيوع فضاءات الحداثة وما بعد الحداثة انشغلت بالتعالق البنائي والدلالي مع البنى التراثية، وكان نص الف ليلة وليلة حاضرا في الكثير من الرؤى السردية والسينمائية والتشكيلية والبحثية والنقدية برؤى جديدة فككت أوصال الحكاية وقرأت الظاهر والمستور منها في معالجات نصية جديدة، أوصلت هذا الأثر إلى أن يكون جديدا دائما في اختباراته الفنية وخبراته الفذة بكونه أثراً ذا قراءات مختلفة ومتعددة من زواياه كافة، فالدكتور محسن الموسوي على سبيل المثال قرأ (مجتمع ألف ليلة وليلة) بأكمله بكتاب جاء يحمل العنوان ذاته باحثا ومنقبا في سراديب هذا الأثر وأنفاقه وخفاياه، من القمقم الذي فتحه الفرنسي غالان في الربع الأخير من القرن السابع عشر وحتى آخر لحظات شهرزاد وهي تنتصر على شهريارها بحكايات متناسلة كلفتها ثلاث سنوات من الحكي والتأليف والقص بسرد متداخل اكتظ بالمعارف المختلفة وتأليف الحكايات الشفاهية المرتجلة، مروراً بالوقوف على أنواع الأطعمة في الحياة الاجتماعية كونها تدخل في تكوينات السرد، وعجائب الحكايات وخرافاتها وغرائبها والمدهش فيها والغناء البغدادي والطلاسم والحزازير والتعددية اللسانية والشعر وملذات الجسد وخيال الشخصيات والمكان بوصفه من مكملات السرد والمحكي عن المرأة وغلمانيات شهريار ولغة المجتمع العباسي وبقايا الأثر فيها والمدن والتجارة والرحلات والاسفار وتعاقب الحكي، في دراسة منهجية طويلة وقف فيها الموسوي على تجليات النص الشهرزادي بوصفه نصاً روائيا مولّداً لسرود متداخلة، حيث لم تكن الرواية معروفة قبل ألف ليلة وليلة.
هذه التزكية الواقعية لنص شهرزاد العجائبي تدفعنا الى مطالعة قوة هذا النص وقراءة جمالياته بضوء المتاح من المعارف النقدية التي تقتفي هذا الأثر المؤثر بمستويات قرائية متعددة المداخل، فالحفر في هذا النص يبقى ممكناً دائما بسبب قدرته على إيجاد مداخل نقدية حديثة تحاكيه وتتوسم فيه إجراءات نقدية دقيقة وتسبر أعماقه وتفك تشابكاته النصية الداخلية وتفرزن حكاياته المتوالدة ككرة الثلج المنحدرة في سرد متدفق لا يهدأ على مدار النص.
وحتى الربع الأخير من القرن السابع عشر لم يعرف الأدب الأوربي التوليدات المتعاقبة في الفن الروائي بحسب الناقد الموسوي وهي تقنية فنية جاءت بها ألف ليلة وليلة من دون غيرها في رصد حكائي عجائبي عالي المستوى بابتكاره بؤراً متوترة في أقطاب سردية متعددة الاتجاهات تفترعها المفارقات والغرائب والمفاجآت بحكايات تتداخل فيما بينها وتنشئ حكايات جديدة، وهذه الأخيرة تبتكر لها أيضا بؤر سرد جديدة في متواليات مصممة أساساً لإبهار شهريار ملك النساء، لكنها بالتالي تشكل بؤرَ سردٍ فنية شهرزادية بامتياز فيها من الدقة الفنية أكبر مما فيها من المتعة الشهريارية اليومية التي أجّلت السرد الى معارف جديدة ورؤى أخرى تنتجها الحكّاءة العربية الأولى شهرزاد.
(٣)
السرد المتدفق والخيوط الحكائية المتداخلة والمعقودة فيما بينها انتظمت بوحدات سردية متقدمة وهي سرديات توليدية تكشف العوالم الظاهرة والباطنة للمجتمع العباسي المتقدم على عصره لتقدم لنا عبر الحكايات مكوناً فعليا لحركة السرد وهو يتماهى مع عناصر الحكايات المبتكرة التي برعت شهرزاد بتوليدها على مدار ثلاث سنوات لتقدم رواية عربية خالصة استبقت العصر الروائي المعاصر كثيراَ وتقدمت الى العصور التالية بوصفها حاضنة سردية أولى.
سيبدو مثل هذا السرد السيّال والتناسل الحكائي المستمر أحد مبررات هذا التوليد القصصي العجيب الذي عرفت به ألف ليلة كنص ذي تفريعات لا تنتهي، ومثل هذه التفريعات أنتجت قصصاً لا حصر لها ولا يمكن عزلها عن السياق الروائي الشهرزادي العام، لكن يمكن التعامل معها منفردة كنصوص مغذية للمتن الشهرزادي بطابعها التي هي فيه. وقد يظن البعض أن هذه التفريعات السردية عشوائية بطبيعتها السحرية والخوارقية والخرافية لتمرير لعبة شهرزاد على مليكها المعقّد بمكونات قصصية فردية تتسع كثيرا ثم تتراجع الى بؤرة انطلاقها معقودة على حل أو حلول ومنبّهة الى عقدة أخرى بحكاية جديدة، وهذا التوليد القصصي تقف وراءه ناظمة النص شهرزاد بوصفها بنية كلية لراوية وحيدة تدير لعبة الحكايات بمهارة روائية اضطرتها لأن تجد سبيلها الى القصص والحكايات الصغيرة التي تشحنها بالعجائبي المجتمعي والخيالي السحري الخارج من لعبة هذا النص بمتسعاته النصية الكثيرة ووحداته التوليدية التي لا تكف عن إيجاد بؤر سرد جديدة في كل مرة.
والرواية العالمية وحتى العربية الجديدة اتكأت على هذا المتن الحكائي كثيراً وتعمقت بالدورة السردية فيه في تعالقات نصوصها معه، عبر التراث الحكائي المحلي وقصصه وعناصر تجسيده التي لا تخرج كثير عن المتن الفريد، مغذية خيال الروائيين بسرود ونصوص لم يكن لها لتظهر إلا عبر محور هذه الليالي ومرتكزها الأساسي في ثبات النص على جوهر حكاية تتفرع وتتطاول كشجرة وتمد جذورها بعيدا في أعماق اللاوعي، لتكتسب درجة قطعية في بنائها الحكواتي الذي يبقى ينهل كثيراً من جذور تلك الشجرة.
* assafir