أحمد نظمي - ألف ليلة وليلة في اوربـا

مع عصر النهضة بدأ الاهتمام بالشرق ليس فقط من الناحية الفليولوجية والدراسات اللغوية أو الدينية فقط ولكن شمل ذلك كافة مجالات الفكر الاسلامي من فلسفة وعلوم وآداب. ومن ضمن كافة فروع الآداب العربية انفردت حكايات ألف ليلة وليلة وقصص كليلة ودمنة والمقامات العربية باهتمام خاص من قبل المستشرقين الاوربيين. وقد تواكب ذلك مع حدوث نهضة في فن المسرح الذي يعد فنا اوربيا بالاساس. ومع بداية النشاط المسرحي بدأت تخرج في المسرحيات المقدمة شخصيات وعناصر شرقية (عربية واسلامية) مستوحاة من الفنون الأدبية التي ذكرناها أعلاه

يشير اينو ليتمان الى أننا نستطيع أن نتتبع بداية دخول حكايات ألف ليلة وليلة الى الأدب الأوربي مع منتصف القرن الرابع عشر في كتابات جيوفاني سيركامبي (1347-1424) وكذلك في حكاية استولفو وجيوكوندو التي كتبت في أوائل القرن 16 من ضمن 28 حكاية من حكايات اورلاندو فوريوسو

وتكاملت هذه الظاهرة بشكل أوضح منذ القرن السادس عشر وفيما بعد. وتبلور ذلك في مسرح مولييرفي القرن السابع عشر ، وقد رسم موليير الشخصيات الشرقية في أعماله المسرحية كما يظهر ذلك في عمله " البرجوازي النبيل" ودخلت الملابس الشرقية سواء العربية أو التركية في هذه المسرحيات. ولم تكن أعمال موليير هي فقط المُعبرة عن هذه الظاهرة بل تبعه في ذلك مونتسكيو في عمله " رسائل فارسية" وفي أعمال فولتير وشاتوبريان وجوستاف فلوبير، الذي لم يستوحي فقط الشرق القريب بل عاد بالذاكرة التاريخية الى أمجاد قرطاجنة كما في قصته " سلامبو "

صحيح أن الشرق ظل بالنسبة لاوربا عدوا ، ولكنه أصبح عدوا مهزوما فلا مانع من الأخذ من معينه الذي لا ينضب. وكتب جوته أعماله الرومانسية الشهيرة المستوحاة من الشرق ( أو ما نستطيع أن نسميه بالادبيات الشرقية) وجاءت ألف ليلة وليلة كي تساهم في خلق الصورة الخيالية والرومانسية عن الشرق . حقا كانت صورة خيالية نقلت للغرب الذي لم يكن قادرا حتى الآن على الذهاب بنفسه للاطلاع عيانا على هذا الشرق ، بالرغم من أن عصر الرحالة كان قد بدأ ينشط منذ ماركوبولو حتى رحالة القرن الثامن عشر ومن تلاهم، ولكن يبدو أن تسجيلاتهم ومدوناتهم لم تكن كافية بعد في خلق الصورة الاكزوتية المطلوبة لتحريك الوعي الرومانسي الأوربي الذي كان في طور التكوين

وربما يكون بوكاتشيو أول المتأثرين بألف ليلة وليلة خاصة في عمله الشهير " الديكاميرون " أي الأيام العشرة. ويعتقد بعض الدارسين أن هذا العمل مستوحى من المقامات الأدبية العربية أكثر منه من ألف ليلة وليلة. حقيقة أنه حتى هذا الوقت لم تكن حكايات ألف ليلة قد أصبحت في متناول يد القاريء الأوربي كعمل كامل، الا أن هناك مؤشرات عديدة تفيد أن بعض هذه الحكايات قد ترجمت في وقت مبكر الى اللاتينية أو بعض اللغات الاوربية كاللغة الكاتالانية في شمال اسبانيا، وربما اطلع عليها بعض المستشرقين العارفين في لغتها الأصلية- العربية. بشكل عام من الثابت أن ألف ليلة لم تنقل بشكلها الكامل الى أي لغة أوربية قبل قيام المستشرق الفرنسي أنطوان جالان (1646-1715) بترجمتها الى اللغة الفرنسية. والجدير بالذكر أن جالان قد ساح طويلا في بلدان الشرق العربية واسترعى انتباهة حكايات ألف ليلة التي كانت تروى في مقاهي القاهرة وبغداد والبصرة ودمشق، فأخذ على عاتقه جمع هذه الحكايات مكتوبة، وبالفعل عاد الى بلاده حاملا معه عدد من مخطوطاتها المدونة باللغة العربية، بل حرص أيضا على تدوين بعض حكاياتها المروية شفهيا. وهناك حكاية تروى بخصوص ترجمة جالان لألف ليلة، حيث تذكر بعض المصادر أن اهتمامه بدأ أولا حينما عثر على قصة السندباد البحرى وبدأ في ترجمتها واكتشف انها مجرد جزء من مجموعة كبيرة من الحكايات اسمها ألف ليلة وليلة. بالطبع ليس من السهل تصديق أن جالان كان يجهل وجود قصص ألف ليلة وليلة حين بدأ في ترجمة حكايات السندباد

بعد عمل دائب استطاع جالان أن يقوم باصدار الترجمة التي أهداها للملك لويس الرابع عشر تباعا من سنة 1704 الى سنة 1717، أى أن العمل في شكله الكامل استغرق حوالى 13 سنة. وقد صدرت هذه الترجمة في 12 مجلدا. ولكن هذه الترجمة رغم تكاملها النسبي عانت الكثير من الحذف والبتر وخاصة للفقرات والمقاطع المنافية للأخلاق بمنظور هذا العصر. الشيء الآخر أن ترجمة جالان لم تكن مطابقة للنصوص الأصلية بل كانت نوعا من التصرف والصياغة باللغة الفرنسية، وقد سرى هذا التصرف أيضا على القصائد الشعرية التي حفلت بها قصص ألف ليلة، وراعى جالان أن تكون الترجمة مصاغة بالشكل المألوف باللغة الفرنسية بصرف النظر عن حرفية النص.
والملاحظ أنه بعد ظهور هذه الترجمة على الفور انتعشت الحياة الأدبية ونشطت الحركة الرومانسية في كل اوربا بدءا من فرنسا نفسها وقد انطبق ذلك على كافة مجالات الأدب والفنون الاوربية

وحينما ترجمت ألف ليلة وليلة الى اللغة الانجليزية انعكس على الفور تأثيرها على الأدب والشعر الانجليزي وأصبحت محور المناقشات في الصالونات الأدبية وداخل معاهد الاستشراق، فتأثر بها من الشعراء الأنجليز كل من والتر سكوت، لورد بايرون، توماس مور وجون كيتس. ويبدو هذا واضحا في ديوان لورد بايرون " حكايات شرقية" وهوديوان شعر رومانسي وكذلك عند توماس مور في روايته "لالا روخ". أما في فن التصوير فقد برز هذا التأثير في لوحات ديلاكروا و دي كامب وجيروم

ومثلما حدث في فرنسا وانجلتر، حدث ذلك أيضا في ألمانيا، فنرى أنه فور صدور الترجمة الفرنسية صدرت أيضا الترجمة الألمانية ولكن عن اللغة الفرنسية في وقت مواكب لصدورها في فرنسا. والتي بدأت منذ عام 1710 على يد تالاندر. ولكن الألمان ما لبثوا أن أصدروا ترجمة من اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر وذلك عن النسخة العربية التي طبعت في كلكتا في 1814 وعن النسخة المصرية طبعة بولاق في العشرينات من نفس القرن. وأهتم من ضمن مستشرقي المانيا بهذا العمل المستشرق فردريش روكرت الذي قدم العديد من الدراسات التي تتناول هذا الموضوع مثل " مباهج وتأملات شرقية " و " سبعة كتب وأساطير وحكايات من الشرق " ومارست ألف ليلة على الفور تأثيرها على الأدب الألماني فنجد أن لشتينبرج قد استعان بها في اخراج شعره الرومانسي وكذلك جوته الشاعر الألماني الكبير ، والحقيق أن هذا الأخير كان مهتم دوما بالشرق وآدابه وقبل ألف ليلة ظهر تأثره واضحا خاصة بالاسلام وشخصية محمد ، وقام بنفسه بترجمة بعض النصوص القرآنية عن ترجمة ماركيوس الى اللغة اللاتينية، وتوالت اهتماماته بهذا كله حتى أصدر روايته الشعرية " الديوان الشرقي-الغربي" ويبدو فيها تأثره واضحا بالشعر العربي والفارسي والقرآن الكريم وشعر المتصوفين خاصة جلال الدين الرومي وكذلك حكايات ألف ليلة. كما قام اوجست فون بلاتين بنظم ديوانه الشعري " العباسيون" مستوحيا ابداعه من ألف ليلة وليلة.
وهناك اعتقاد يسود بين النقاد فهم يستغربون أنه في أثناء القرن الثامن عشر والذي يسمونه بقرن التنوير والفلسفة العقلية تظهر فجأة حكايات ألف ليلة وتفرض تأثيرها المشهود على العصر بهذا الشكل الطاغي.
ورغم أدب الواقعية الذي تلى الرومانسية في أوربا الا أن العناصر الواقعية التي ظهرت في هذا الأدب ظلت مرتبطة بالعناصر الرومانسية المستوحاة من ألف ليلة ، وظلت أجيال من الادباء منذ القرن 18 حتى الآن مفتونة بهذه الحكايات، وظلت أسماء مثل السندباد وعلى بابا وهارون الرشيد وابو الحسن وذات الهمة معروفة لدى القاريء الأوربي بل وحتى الأطفال

أما بالنسبة للترجمة البولندية الكاملة، فلم تر النور الا في وقت متأخر نسبيا عن مثيلاتها الاوربية. حيث مع منتصف الخمسينيات تشكلت لجنة من أساتذة متخصصين من الأقسام الشرقية في بولندا ، وعلى رأسها جامعة ياجيلونسكي – معهد فقه اللغة، وجامعة وارسو – قسم الدراسات العربية، والتي أخذت على عاتقها نقل هذا العمل من لغته الأصلية الى اللغة البولندية. والجدير بالذكر أن بعضا من اولئك المتخصصين كانوا ما يزالون في مرحلة انهاء الدراسات العربية والاسلامية مثل كريستينا سكارجينسكا بوخاينسكا التي كانت مازالت طالبة في الصف الخامس بقسم الدراسات العربية والاسلامية، وهي الوحيدة من قسم الدراسات العربية والاسلامية بحامعة وارسو التي اختيرت من ضمن الطاقم الذي شارك في ترجمة هذا العمل. أما البقية فكانوا من معهد فقه اللغة – جامعة ياجيلونسكي في كراكوف وهم: أنجي شيبكيفتش، و آنـا كيموتوفيتش، و فواديسواف كوبياك، وزبجنيف ماسكا، و آنـا ميودونسكا سوسوفا. في حيــن قــام البروفيسور تاديــوش ليفتسكي بكتابة المقدمة التمهيدية للعمل والتي فصلها في شكل دراسة علمية عميقة عن ألف ليلة وليلة. والجدير بالذكر أن الترجمـة تمت عن طريق طبعة بولاق المصرية في أربعة مجلدات، وليس عن طريق غيرها، اذ كانت تعد أفضل وأكمل الطبعات التي صدرت بالعربية حتى وقتنا هذا. وبالرغم من أن عملية الترجمة قد بدأت في نهاية الخمسينيات1957-1958 من القرن العشرين وانتهت مع بداية الستينيات الا أنها لم ترى النور الا في سنة1974 حيث صدرت الترجمة البولندية في طبعتين : طبعة مختصرة في مجلد واحد تحتوي على أهم الحكايات المعروفة والتي يهتم بها القاريء العادي، وطبعة مفصلة للمهتمين في 9 مجلدات، المجلد التاسع منها يحتوي على فهرست مفصل لمحتويات المجلدات الثمانية

ومن الانصـاف القول أن حكايات ألف ليلة وليلة سبق وأن ترجمت الى البولندية مع منتصف القرن الثامن عشر ، حيث قام بترجمتها في سنة 1768 في 12 مجلدا عن ترجمة جالان، واعيد طباعتها في سنة 1772-74. كما قام بوهموليتس بترجمة ونشر بعض قصص ألف ليلة في مجلة مونيتور البولندية . وفي سنة 1819 نشرت ترجمة جديدة في فيلنا عن ترجمة جالان، تبعها في سنة 1873 ترجمة أخرى في وارسو، وكلها نقلت عن ترجمة جالان. في الخمسينيات صدرت بعض المختارات المترجمة عن طريق ف. كوبياك وتوبيليفتش ، ثم صدرت في عام 1959 طبعة أخرى تحتوي على عدد أكبر من المختارات ترجمها ف. كوبياك من اللغة العربية، وكانت هذه الأعمال مقدمة لصـدور الترجمة الكاملة مباشرة عن العربية في السبعينيات من القرن العشرين

* د. أحمد نظمي
أستاذ مساعد بقسم الدراسات العربية والاسلامية - جامعة وارسو
 
أعلى