أحمد نظمي - الحكايات ذات الأصول المصرية في ألف ليلة وليلة

عُرفت ألف ليلة وليلة أكثر ما عُرفت في البلاد المصرية وهي المنطقة التي ظلت لعهود طويلة تضم مصر والشام سواء كان ذلك ابان الدولة الطولونية أو الأخشيدية أو الفاطمية أو الأيوبية مرورا بالفترة المملوكية حتى بدء العصر العثماني. حيث نُسخت هذه الحكايات وتداولها العديد من الأفراد ورويت في المجالس والمحافل والمقاهي وفيما بعد أصبحت مادة للمسلسلات الاذاعية والتليفزيونية والأفلام المصرية

ولا شك أن حكايات ألف ليلة وليلة هي أكبر مجموعـة من الحكايات الشعبية التي تمثل تراثا ثقافيا متوارثا يجمع ثقافات شعبية عـدة في كتاب واحد، وقد عُرفت فقط في اللغة العربية بالرغم من أن هناك اشارات في المصادر العربية بأن اصولها ترجمت عن الفارسية. ويبدو أن هذه الحكايات كانت معروفة في دولة الخلافة منذ العصر العباسي الأول، حيث يذكر لنا أبو الحسن المسعودي المؤرخ العربي الذي عاش في القرن الرابع هـ /العاشر الميلادي في كتابه المعروف "مروج الذهب ومعادن الجوهر" أن هناك حكايات شائعة بين العامة يروونها ويتناقلونها تُعرف باسم " هزار افساه - افسان" أي ألف حكاية. كما أشار الى ذلك ابن النديم في كتابه الفهرست. وقد أشار إبن النديم الى محاولة كتابة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى على يد الوزير العباسي عبد الله بن عبدوس الجهشياري مؤلف كتاب الوزراء والكتاب. ويذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أن أول من صنف في الخرافات هم الفرس وأول كتاب كتب في هذا المعني هو كتاب هزار افسان ومعناه ألف خرافة. وقد أوضح ابن النديم السبب في وضع هذه الحكايات وقصة الملك شهريار والأميرة شهر زاد التي عملت من خلال الدراما القصصية على إنقاذ بنات جنسها من يد الملك الغيور. بعد ذلك أصبحت هزار افسان وسيلة للمسامرة بين الناس. ويذكر ابن النديم أنه رأى هذا الكتاب بتمامه باللغة العربية في عدة مجلدات. كما يضيف بأن الوزير الجهشياري هو الذي بدأ بتسجيله من لسان الرواة والمسامرين الا أنه لم يتم سوى 480 ليلة فقط. كل ليلة مؤلفة من خمسين ورقة

أما أول ذكر لحكايات ألف ليلة وليلة بهذا الاسم الذي نعرفه الآن فربما يعود الى العصر الفاطمي، حيث ذكر واحد من المؤرخين المصريين في هذا العصر وهو المعروف باسم القرطي (1160-71) الذي كتب تاريخ مصر في العصر الفاطمي أن هناك مجموعة من القصص بين أيدي الناس تعرف بأسم " ألف ليلة وليلة" يتسامرون بها في اجتمعاتهم وسهراتهم الليلية . كما عُرفت نسخ منقحة لبعض هذه الحكايات والتي كتبت فيما بين القرن 13 و14 الميلادي ووجدت نسخها في القاهرة واستانبول

ولا شك أنه قبل وفي العصر الفاطمي وما بعده وحتى زمن متأخر من العصر المملوكي وبداية العصر العثماني قد اضيفت العديد من الحكايات ذات الصفات المحلية المصرية في مصر وتم دمجها في حكايات ألف ليلة وليلة. ويقول المتخصصون أن حكايات ألف ليلة وليلة تنقسم الى قسمين رئيسيين. قسم يعرف بالقسم البغدادي أي الذي وضعت اسسه الدرامية في بغداد وقسم مصري ينسب لواضعيه في مصر. أما القسم البغدادي فيشتمل على الحكايات الخاصة بالخلفاء العباسيين مثل هارون الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق وابراهيم بن المهدي وغيرهم، ولكن لا يعني ذلك أن أغلبها بغدادية فقد تكون قاهرية لبست لباس الخلافة العباسية. كما أن هناك اعتقاد واضح بأن العمود الفقري أو البناء الأساسي للقالب الدرامي لهذه الحكايات هو ما يعرف بالألف خرافة الفارسية (هزار افسان) . بالرغم من أننا لا نعرف وقت وكيفية انتقال حكايات الف ليلة الى مصر وتطورها على النحو الذي عرفت به فيما بعد، الا أن ت. ليفيتسكي يعتقد أن ذلك ربما حدث بعد سيطرة السلاجقة على دار الخلافة في بغداد، أى مع حلول القرن الحادى عشر

بشكل عام فحتى الآن لا توجد لدينا أى أسس علمية كي نعتقد أن هناك شخص بعينه هو مؤلف حكايات ألف ليلة وليلة رغم ادعاء البعض بذلك. وهذا ما ادعاه وليام لين في مقدمة الترجمة الانجليزية التي صدرت في السنوات ما بين 1839-41 اذ يذكر أن هذه الحكايات تمت كتابتها عن طريق مؤلف واحد في الفترة ما بين 1475-1529 ، كما يعتقد أن المؤلف ربما يكون مصريا ، ولكن من الصعب الجزم بذلك. ربما وليام لين يشير هنا الى الشخص المجهول الذي قام بتجميع هذه الحكايات سواء العراقية أو المصرية منها في كتاب واحد

وقد ظلت هذه الحكايات تروى شفهيا على مر العصور وتتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل ويسردها الرواة في المقاهي والتجمعات الشعبية ربما حتى منتصف القرن العشرين. ولم يقتصر الأمر على الرواية الشفهية فقط بل كانت هناك مخطوطات لهذه الحكايات في كل بلد عربي، ربما تختلف اختلافا بسيطا من بلد لآخر أو من زمن لآخر أيضا. ولا شك أن هذه الحكايات كانت تتزايد نسبيا من عصر الى عصر. فبالاضافة الى الحكايات التي نسجت في العراق، كانت هناك اضافات اخرى حدثت في بعض البلدان العربية خاصة مصر والشام. لذلك نرى أن مجموعة الحكايات المضافة هذه ما لبثت وأن أصبحت جزءا أساسيا من حكايات ألف ليلة وليلة

تحتوى ألف ليلة وليلة على العديد من الحكايات التي يمكن أن نصنفها تحت عناوين عدة : مثل الأساطير ، وحكايات الجان، والحكايات التاريخية، والحكايات الاجتماعية، والحكايات الوعظية. كما احتوت ألف ليلة وليلة على أبطال حقيقيين مثل الاسكندر الأكبر، هارون الرشيد، الخليفة المأمون هذا بالاضافة الى الأبطال الاسطوريين أو نصف الاسطوريين. كما حوت أيضا على أبطال من نسج الخيال يمثلون أبطالا من بين بعض فئات الشعب مثال السندباد المغامر وعلى الزيبق الذي كان يقاوم استبداد الحكام، وعلى بابا البطل الطيب المحظوظ وعلاء الدين ومصباحه السحرى، بالاضافة الى الحكايات ذات الخيال العلمي السابق لعصره كعبد الله البري وعبد الله البحري والبساط السحري والحصان الطائر ومدينة النحاس وغيرها من الحكايات. ولا ينبغي أن تخدعنا بعض الأسماء التي توحي بأصول هندية، فمثلا اسم السندباد يوحي بأصول هندية الا أن كافة مغامراته تحدث بين موانيء بغداد والبصرة من ناحية وأعالي البحار الشرقية ونكاد نشعر بأنه فتى بغدادي الأصل كما تروي الحكاية. كما قد يظن البعض أن الأسم ربما يكون تركيبة تركية الا أن الحكاية بتفاصيلها لا توحي بذلك

أصول حكايات ألف ليلة وليلة

يرجع المستشرق اينو ليتمان المصادر الأولى لحكايات ألف ليلة وليلة الى اصول هندية وفارسية. ولا شك أن القارىء المثقف يستطيع بشىء من الجهد أن يميز بين طبيعة الحكايات وبعضها البعض. فهناك حكايات الجن والسحر، وهذه من الممكن ارجاعها على الأغلب الى أصول هندية، وهناك حكايات البلاط والملوك والتي تبدو فيها ملامح البلاط الساساني والفارسي وهذه من المحتمل أن تكون ذات مصدر فارسي. أما الحكايات ذات الأصول العربية فقد استطاع العديد من المتخصصين ارجاعها الى اصولها العربية سواء كانت في بغداد أو البصرة أو القاهرة أو دمشق. كما استطاع المستشرق الهولندي دي خويه وبعد سلسلة من الأبحاث قدمها المستشرق دي ساسي والمستشرق هامر والمستشرق الألماني نولديك أن يبين المصادر الأصلية لقصص ألف ليلة وليلة واستطاع أن يفصل بين الحكايات ذات الأصل المصري وتلك ذات الأصل البغدادي العراقي أو الشامي من ناحية وبين الحكايات ذات الأصل الهندي أو الفا

ولا يمكننا الفصل بأي حال من الأحوال بين ألف ليلة وليلة وبين كتب العجائب والكوسموغرافيا العربية التي كانت معروفة منذ القرن التاسع الميلادي وعلى سبيل المثال وليس الحصر كتاب أخبار الصين والهند لمؤلف مجهول جمع في سنة 237 هـ/ وكتاب عجائب الصين والهند للربان بزرج بن شهريار وخاصة كمصدر لحكايات السندباد وبعض المغامرات البحرية والرحلات الى بلاد غريبة، كما من الممكن اعتبار ملحمة الأميرة ذات الهمة التي تدور حوادثها على الحدود بين الشام والدولة البيزنطية مصدرا لبعض حكايات ألف ليلة. وقد ذكر ادوارد وليام لين في كتابه "المجتمع العربي في العصور الوسطى " مدى تعلق المصريين بالحكايات الاسطورية وحكايات الجن والسحر وكيف أنهم كانوا يعتقدون فيها اعتقادا شديدا ويروونها في الجلسات والمقاهي

وبقراءة لهذه الحكايات يمكن للمرء بعد الفحص والدراسة أن يميز الحكايات المصرية بل وأبيات الشعر المذكورة في سياق هذه الحكايات وكذلك الأحاجي والألغاز التى عمرت بها اذا ما كانت مصرية أو تعود الى بيئات وأماكن أخرى. فهناك أشعارمتناثرة عن مدينة القاهرة والأسكندرية متناثرة على صفحات الكتاب، كما أن هناك أحاجي وألغاز تتناول أشياء لا تتواجد الا في مصر وغير ذلك من العناصر المصرية القحة

وليس هناك مجال للشك في أن حكاية معروف الاسكافي هي حكاية مصرية قلبا وقالبا وهي الحكاية التي تبدا من الليلة 501 الى الليلة 720. كما أن أغلب الشخصيات المصاحبة ذات تسميات مصرية كفاطمة العرة زوجة معروف الشرسة الطباع التي تسببت في رحيل معروف خارج مصر للبحث عن حياة أفضل بعيدا عن زوجته المشاكسة والمغامرات التي تعرض لها، كما أن اللغة التي كتبت بها القصة تكاد أن تكون دارجة مصرية بشكل تام، ومن المؤكد أنها كتبت في العصر العثماني لاستعمال بعض المصطلحات التي تخص الدولة العثمانية كالباب العالي وقاضي القضاة والكيمان وغيرها ، كما أنها تتحدث عن الشطارة المصرية المعهودة

وتحتوى مجموعة الحكايات القصيرة التي تبدأ من الحكاية 801 حتى 1001 على عدد من الحكايات التي تدور حوادثها في مصر سواء في شمالها أو جنوبها أو على شاطيء نيلها والتي تأتي صريحة تحكي عن أشخاصها وبيئتها بشكل لا ينطبق إلا على مصر. كذلك فأن حكاية ابراهيم الخصيب الشخصية التي ربما تبدو هنا مصرية القلب والقالب والذي كان حاكما لأقليم المنيا في مصر مع جميلة بنت أبي الليث عامل البصرة والتي تستغرق الليالي 721-800 وتدور وقائعها خاصة في المرحلة الأولي على الأراضي المصرية ثم لا تلبث أن تحكي عن سفر بطل القصة الى العراق بحثا عن صاحبة الصورة التي رآها في أحد دكاكين الوراقة في القاهرة وعشقه على الفور لصاحبة الصورة. كذلك فقصة أبي الحسن الخراساني الصيرفي مع شجرة الدر تدور أحداثها في مصر والشخصية الرئيسية هي الملكة شجرة الدر في نهاية العصر الأيوبي . كما تأتي حكاية الملك الناصر والولاة الثلاثة لتعبر أصدق تعبير عن الفترة المملوكية في مصر وكيفية سياسة أمور الدولة. تليها حكاية التاجر على المصري، وحكاية "أحمد الدنف وحسن شومان مع الدليلة المحتالة وبنتها زينب النصابة" والتي بالرغم من أن حوادثها تجري في عصر هارون الرشيدإلا أنها ذات طابع وأسلوب مصري ينحو الى اللهجة الدارجة المصرية، حتى أسماء والقاب الأبطال هي من الأسماء المألوفة في مصر

كما أن حكاية سيف الملوك وبديعة الجمال والتي تبدأ حوادثها في مصر لملك وهمي اسمه عاصم بن صفوان وابنه سيف الملوك فهي تبدو أنها ذات أصل كتب في مصر في العصر المملوكي وتتناول مشكلة كانت شائعة أثناء حكم المماليك وهي رحيل السلطان المملوكي دون أن يخلف ابنا له على عرش البلاد والتي تكررت كثيرا على مر هذا العصر حيث كانوا ضعيفي الانجاب أو لم يعش على الأغلب لهم أطفال لتزاوجهم بين بعضهم البعض وعدم مقاومتهم لأمراض مصر المتوطنة آنذاك. وقد استغرقت هذه الحكاية 21 ليلة من ليالي ألف ليلة ، من الليلة 330 إلى 351 . وتكثر في هذه الحكاية الكلمات الحضارية التي كانت شائعة منذ العصر المملوكي كالخازندار، والمهمندار وخاتون والمملوك والمماليك والبقجة وغيرها من الكلمات. كما يتعرض بطل القصة الى كثير من المغامرات أثناء ترحاله الى الصين والهند وسرنديب والتي تذكرنا برحلات السندباد

كما أن قصة عبد الله البري وعبد الله البحري ينطبق عليها ما ذكرناه أعلاه بالاضافة الى أن الفكرة الأساسية للحكاية تعود الى المعتقدات العامة المصرية التي تعتقد في وجود قرين للانسان الموجود فوق الأرض وشبيها له ويحمل أسمه وصفاته إلا أنه يعيش تحت الأرض أو في أعماق البحر. وتكاد تتشابه معها في التسمية أيضا حكاية أبي صير وأبي قير والتي تدور حوادثها بمدينة الأسكندرية وترتبط بالبحر وحكايات الصيادين، ويبد أنها تعود للعصر المملوكي المتأخر أو ربما الى مطلع العصر العثماني وتستعمل اللهجة الدارجة المصرية بشكل كبيرمثل كلمة دايخ ، يتفسح ، مزين، الضبة والمفتاح وكلمة غليون بدلا من سفينة والتي كانت متداولة لحد كبير في العصر المملوكي والعثماني. وتكاد تتشابه معها من ناحية المغامرات والترحال حكاية التاجر على المصري

أما حكاية أنس الوجود والأميرة المعروفة باسم الورد بالاكمام فهي أيضا من حكايات ألف ليلة التي تعود الى اصول مصرية بل أن المكان الذي جرت عليه أحداث القصة وهي الجزيرة النائية عن العمران والواقعة فى نهر النيل جنوب مصر والتي سميت أيضا بجزيرة أنس الوجود والتي نعرفها الآن بجزيرة فيله على الأرجح

وفي حقيقة الأمر نستطيع القول بشكل مطمئن أن هناك ما يقارب من 40 حكاية من أصل مصري، هذا خلاف الحكايات التي تتضاربت فيها الأقوال والآراء ولم يبت حتى الآن في مصدرها بنسبة كبيرة. ولا يغرنا أحيانا أسماء الحكايات أو أماكن حوادثها فقد يوحي اسم الحكاية بأنها بغدادية إلا أنه بعد تمعن شديد في الأسلوب والطابع ومجريات الحوادث أنها مصرية ، كما في حكاية الشاب البغدادي التي بعد قراءتها نجد أنها ربما تعود للعصر الفاطمي، وهي في حقيقة أمرها مجموعة من الحكايات على مر العصور وفي زمن العديد من الخلفاء دونت في قالب مصري، وتشبه الى حد كبير ما دونه المسعودي في كتابه أخبار الزمان

* د. أحمد نظمي
أستاذ مساعد بقسم الدراسات العربية والاسلامية - جامعة وارسو
 
أعلى