نقوس المهدي
كاتب
توطئة:
يعدّ كتاب ألف ليلة وليلة من أبرز الكتب القصصية الشعبية التي لقيت رواجاً عالمياً، وأثرت تأثيرات متنوعة في الآداب العالمية "مسرحاً ـ وشعراً ـ وقصة ـ ورواية" وقد ألهم هذا السفر الأدباء والفنانين بمادته الحكائية الغزيرة التي حوت غرائب الأخبار وعجائب الأمصار ولقد لخص "أندري جيد" (André Jide) الموقف قائلاً إن أمهات الكتب العالمية ثلاث: "الكتاب المقدس ـ وأشعار هوميروس ـ وكتاب ألف ليلة وليلة".
تحوّل هذا النص التراثي على امتداد العصور إلى نص ثقافي شامل وعالمي تولدت عنه نصوص عديدة في الثقافة العربية والأجنبية، وقدمت الليالي العربية الشرق من منظور ثري بالخيال والإبداع. فكانت العفاريت والسحرة والإباحية مفاتيح أساسية لمعرفة الشرق في الذهن الغربي "وإذا كان في تلك القصص ما يصف فعلاً جوانب من الحياة الثقافية والاجتماعية في الشرق أثناء الفترات التي دونت بها. فإن ذلك لا يرقى أبداً إلى مستوى التعميم والمطابقة التي تفصح عنها رؤية كثير من الكتاب الغربيين في توظيفاتهم المختلفة" (1).
احتضن العالم الغربي الليالي العربية في مرحلة تاريخية مميزة، وكانت عملية التلقي خاضعة لمقتضيات الثقافة ولراهنية التصورات والاحتياجات الاجتماعية والسياسية. وقد تسللت الأميرة الشرقية شهرزاد إلى البلاط الغربي واقتحمت قصور باريس وإنكلترا لترسم تحولاً جديداً "لقد حملت شهرزاد ألف ليلة وليلة الكثير من أحلامها وحركياتها وشهوتها المكبوتة وغير المكبوتة التي تشكل في مجموعها تمرداً على السلطة والنظام والقانون بغية التخلص منها. وركبت المخاطر لتتحرر ولم يكن ذلك ممكناً لولا جذور الرفض التي في أعماقها" (2).
* شهرزاد وألف ليلة وليلة:
تحولت شهرزاد مبدعة الليالي إلى أسطورة أدبية ألهمت مخيلة الأدباء إذ غامرت بنفسها وواجهت قهر السلطان بسلاح الكلمة، وقدمت نفسها فداءً، لبنات جنسها متحدية الموت ومؤجلة قرار إعدامها عن طريق الحكاية" شهرزاد لم تكن طوال الألف ليلة وليلة امرأة واحدة بل كانت ألف امرأة وامرأة فهي في كل قصة كانت تقلع من شخصية شهريار بعضاً من تحديه لبنات جنسها وتضع مكانه بعض تحديها لبني جنسه" (3).
تعلو حكاية "شهرزاد" والملك "شهريار" في الليالي وتكوّن الحكاية الإطار (conte cadre) الذي يحوي كل الحكايات، ويؤسس الليالي وتربطها بعضها ببعض ويكون الفجر الحاجز الفاصل بين كل حكاية وحكاية "وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح". وتكوّن شهرزاد الرواية المؤطرة التي تحكي تنسج خيالها محاولة ترميم وإعادة بناء العالم الذكري وتلخص هذه الليالي مجتمعة صراعاً خصباً بين رغبتين:
أ ـ رغبة في القتل/الموت: مثلها شهريار بعد مشاهدته حادث الخيانة.
ب ـ رغبة في الحياة/الاستمرار: مثلتها شهرزاد فكانت قرباناً ونذرت نفسها للدفاع عن الوجود بالحكاية.
لقد تحول شهريار بعد حكايتها من قاتل نهم إلى سامع متشوق عارف ومن مستمع موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، واستطاعت هذه الشخصية أن تعيد بناء المدينة الشهريارية وأن تسترجع للأنثى موقعاً آخر يتجاوز الخطيئة ويذكرنا من جانب آخر بالمرأة القربان في الطقوس القديمة. وغدت شهرزاد شخصية أسطورية عالمية، وأصبح كل ما ينسج حولها من حوادث وحكايات ينبوعاً يفجر الخيال في الآداب العالمية، فنقل العديد من الأدباء أفكارهم على طريقتها الحكائية وخيالها الخصب. وتساءل الكثير منهم عن مصيرها بعد انتهاء الليالي، حيث حاول كل أديب أن يعيد تشكيل هذه الشخصية الأسطورية بما يتلاءم ومتطلبات المجتمع وروح العصر ناهيك عن القناعات الذاتية. وظهرت تبعاً لذلك أعمال أدبية في مختلف الأجناس الأدبية، كما ألهمت الأدباء والفنانين في كل مكان وزمان وأتاحت لهم فرصة الهروب إلى عوالم ممتعة خالية من الكآبة والجمود.
ابتدعت شهرزاد أجواء من السخرية والتخيل والأسطورة والسياسة والدين وجل التناقضات التي مكنت هذه المرأة من أن تكون اسماً مميزاً لمبدعي الغرب ومثقفيه وفنانيه. ورسمت علاقة جديدة بين الشرق والغرب فكانت المواجهة حادة في بداية رحلة المرأة ولكن سرعان ما استقر وضعها وطاب لها المقام ومكنت المرأة الغربية من التجاوب معها وفتحت لها عوالم قوامها: السحر/الجمال/الذكاء.
ويرى البروفسور "جون جولمبير" أن لشهرزاد أثراً في تاريخ المرأة الأوروبية فيقول في هذا السياق: "إن شخصية شهرزاد أثرت تأثيراً حاسماً في تاريخ المرأة الأوروبية. وجعلت القرن الثامن عشر أعظم القرون في حياتها، وكان لجمالها وثقتها بنفسها وتصديها وتحديها لشهريار الذي قد عجز كل الرجال عن أن يوقظوه واستخدامها لسلاح الأنوثة والمعرفة معاً. كان لهذا كله أثر كبير في تكوين شخصية المرأة الأوروبية".
أشاد الباحثون والمفكرون بتأثيرات شخصية شهرزاد الأدبية اللامحدودة وقد استمدت هذه الشخصية الأنثوية قوتها في الإقناع من الثقة بالذات وهذه الثقة تشكل بؤرة التواصل وتجعلها مثيرة للإعجاب، وقد وجدت هذه الأسطورة الأنثى تربتها في كل مكان وفتحت آفاقاً للتخيل وفي رحلتها المزدوجة الشرقية الغربية حافظت على بعض خصائصها الأصلية واكتسبت في الوقت نفسه سمات جديدة أضفت على شخصيتها أبعاداً "جمالية، وفكرية، ونفسية" وارتدت ثياباً وأفكاراً أجنبية بمجرد وصولها إلى الديار الفرنسية. سنتوقف عند رحلتها المغرية إلى فرنسا لنكتشف أهم تحولاتها وأبعاد مواجهة الأنا والآخر وذلك من خلال عنصرين أساسيين:
1 ـ شهرزاد ترحل إلى فرنسا "الانبهار بالأنا واستلاب الآخر".
2 ـ شهرزاد الفرنسية "استلاب الأنا والانبهار بالآخر".
بهرت هذه المرأة الشرقيين والغربيين رجالاً ونساءاً في الأمس واليوم فهل ستحافظ على هذا الانبهار أم ستتعرض للاستلاب بمجرد أن تعبر إلى باريس؟.
* شهرزاد ترحل إلى فرنسا "الانبهار بالأنا واستلاب الآخر":
إذا تصفحنا الكثير من الكتب التاريخية التي ترصد العلاقة بين فرنسا والشرق تبين لنا أنها علاقات موغلة في القدم شديدة التشابك تختلف درجاتها بين التعاطف والتنافس والانبهار والاستلاب ومحاكاة النموذج الآخر أو البحث عن نقيضه، ومن ثَمّ فهي علاقات شديدة الإشعاع.
دفع ولع الفرنسيين بالشرق إلى العكوف على منجزاته الحضارية ومحاولة البحث عن كنوزه والإطلاع المباشر عليها من خلال تشجيع حركة الرحلة إلى الشرق والبحث عن تراثه ومحاولة ترجمته ونقله إلى القراء الفرنسيين.
كان الفرنسيون مدينين في معرفتهم لشهرزاد للمستشرق "أنطوان جالان Antoine Galland" الذي عمل على ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية ما بين عامي (1704/1717) في اثني عشر مجلداً." والواقع إن ترجمة "الليالي" لأول مرة إلى اللغة الفرنسية، تمثل نقطة تحول بارزة في تاريخ العلاقات الغربية الشرقية، وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن هذه الترجمة لم تكن حادثاً غير متصل بما قبله أو بعده، بل كانت نهاية حركة كبيرة نحو تصوير الشرق، في صورة خيالية مستمدة من القصص المغربية والرحلات الأولى إلى الشرق." (4)
أسهم "أنطوان جالان" مع غيره في القرن الثامن عشر في أن تتمتع شهرزاد ولياليها بمكانة عالية وهو ما جعل هذا القرن يعرف بقرن شهرزاد مصدر الإلهام والوحي والتغيير. وأصبحت منذ هذه الترجمة مدخل للعالم الشرقي، إذ زاد الاهتمام بالدراسات الشرقية كما كانت دافعاً لتطور الفلكلور، وأدّت إلى ميلاد مدرسة كاملة للحكايات الشرقية. و"نجحت شهرزاد خلال فترة وجيزة جداً في تحقيق ما فشلت به الجيوش خلال الحروب الصليبية. لقد غزت العالم المسيحي معتمدة في ذلك على القوة الوحيدة التي تملكها، أي قوة الكلمات، فانقاد لجاذبيتها الزهاد الكاثوليكيون والبروتستانتيون والإغريق والأرثوذوكسيون تباعاً.." (5)
وكان تأثيرها قوياً في المرأة والرجل على حد سواء، ويمكن أن نوضح صورة شهرزاد في فرنسا إبان القرن الثامن عشر من خلال رصد حركيتها في المجتمع الفرنسي وأهم التحولات التي أحدثتها لدى الجنسين:
1 ـ شهرزاد والمرأة الفرنسية:
انبهرت المرأة الباريسية بهذه الشرقية، ومن الثابت تاريخياً أنها دخلت البلاط الفرنسي من بابه الواسع. فكانت "الماركيزة والكونتيسة والأميرة "أول من سمح لها بتخطي قصور فرنسا" وظهرت حكاية الملكة شهرزاد في وقت كانت الصالونات الأدبية التي تمتلكها سيدات الطبقة الراقية مكاناً للتعارف والتقييم والشهرة ونشر الفكر الجديد بل إنها كانت تتحكم في معايير التذوق.." (6)
ويمكن أن نشير إلى أن استقبال الفرنسيات لشهرزاد اتخّذ شكلين مختلفين:
أ ـ الاستقبال الشكلي الظاهري:
حيث لم تهتم بعض سيدات فرنسا إلا بالجوانب الحسية الشكلية المغرية فأسكنت شهرزاد البلاط الفرنسي وأبقتها صامتة لا تقوى على الحركة ولا تنبس ببنت شفة سجينة في حدائق فرساي بأشكال الزينة المبالغ فيها حسب العادة الجارية، وهنا بطبيعة الحال عاشت هذه المرأة غربة واستلاباً حقيقيين وتحولت إلى مدام دي بومبادور جديدة مثيرة بتسريحاتها الرائعة وحليّها وأقمشتها الفضفاضة الزاهية، وهكذا "جردت شهرزاد من ذكائها حين غادرت الشرق وعبرت الحدود إلى الغرب" أي من كل ما يشكل هويتها. والواقع أن الفرنسيين لم يأبهوا إلا بمشاهد المغامرة والغرام في ألف ليلة وليلة الذي انحصر هو الآخر في الزينة ولغة الجسد بشكل يبعث على الاستغراب" (7).
ب ـ الاستقبال الفكري الباطني:
استوعبت بعض سيدات فرنسا رسالة شهرزاد واستفادت من تجربتها مع شهريار ومع الحكايات وحاولن أن يقتفين أثرها لاسيما أن معظمهن كن من علية القوم وأسهمن في الحركة الأدبية" وكانت منهن من تكتب الأشعار وتقرأها على المترددين عليها. وتساهم في حركة الترجمة مثل مدام داسيه Dacier مترجمة هوميروس والكونتيسة دولنوا d`enoloy" التي اشتهرت في مجال كتب الأطفال، كما برعت المرأة بالذات في أدب المراسلات الذي اقترب من نوعين أدبيين سيكون لهما شأن هما: السيرة الذاتية والرواية..." (8).
برزت في الساحة الأدبية أصوات أدبية نسوية استفادت من ليالي شهرزاد وشرقها الدافئ وحاولت محاكاته والنسيج على منوالها والتطرق إلى أكثر المواضيع خطورة في ذلك الوقت ويمكن أن نذكر على سبيل المثال بعض الروائيات أمثال "دوجوميزو" و"دو فيليدو" اللتين تجاوزتا عقدة الحياء والاحتشام في التطرق لموضوع الحب والجنس.
2 ـ شهرزاد والرجل الفرنسي:
أثّرت شهرزاد في الرجل الفرنسي فناناً ورساماً وفيلسوفاً وأديباً. إذ رسم الكاتب الفرنسي صورة مميزة للأميرة الشرقية مكنتها من أن تحتل الريادة وأن تكون السيدة الشرقية التي تمتلك سلاح الجمال والمعرفة بلا منازع، وقد تأثر معظم كتاب القرن الثامن عشر بالعالم العجائبي والفكري الذي نسجته هذه المرأة وحاول بعضهم محاكاتها واستخدام رموزها المختلفة بغية التأثير في خارطة الفكر الفرنسي ولاسيما وأن وصول هذه المرأة إلى باريس كان في فترة "تزخر بشتى ألوان الصراع ضد الملكية والثورة على مفاسدها، وعلى ذلك كانت الفرصة مواتية لاستخدام شهرزاد وإيحاءاتها الخصبة التي لا تنتهي في النيل من الملوك والسخرية منهم، وهو ما تحددت به مهمة السيدة العربية الغامضة المثيرة في كل آداب القرن الرومانسي" (9).
أتاحت ليالي شهرزاد لأدباء فرنسا فرصة الهروب إلى عالم جديد وجعلتهم طيلة قرن كامل يحلمون بشرقها الدافئ وينتقلون إليهم إبداعياً يتعلمون الحكمة والفلسفة ويحاولون في الآن نفسه رسم معالم التغيير في المجتمع الفرنسي. ويمكن أن نذكر في هذا السياق ما قام به ديدرو "Diderot" في مؤلفيه الطائر الأبيض "L`oiseau blanc" والجواهر كاشفة السر "Les Bijoux indiscrets" وقد استلهم "ديدرو" من ليالي شهرزاد كل ما يخدم أفكاره السياسية والاجتماعية والدينية.
ويعد فولتير الشخصية الأدبية الثانية التي تأثرت بالشرق إذ خصص لـه مجالاً واسعاً في كتاباته واتخذه كوسيلة للمقارنة بين حضارتين مختلفتين واستعان بالليالي وأجوائها الشرقية لبث أفكاره التربوية والفلسفية والاجتماعية لاسيما في مؤلفه صديق أو القدر "Zadig ou la destinée" فقد أوحت إليه شهرزاد بأفكار وصور وتقنيات وزودته بكل الأساليب التي مكنته من المقارنة بين عالمين متناقضين: عالم الشرق المؤطر بالحكمة وعالم الكنيسة الممتلئ بالكتب. لذلك لا نتعجب عندما نجد هذا الكاتب يهدي هذا العمل إلى هذه السيدة الشرقية.
لقد ملكت شهرزاد كتاب فرنسا خلال هذا القرن وأنصتوا لحكمتها واقتبسوا كل ما يخدم برنامجهم السياسي والاجتماعي والفلسفي. وهكذا كان الموقع الذي تتحرك فيه هذه المرأة الأسطورة استراتيجياً إذ عبرت عن انبهار تام بالشرق واستلاب كامل للغرب. ويمكن أن ندرك أن رحلة شهرزاد إلى فرنسا كانت ثرية وذات أبعاد مختلفة:
تاريخية: شهرزاد والثورة الفرنسية.
اجتماعية: شهرزاد والمرأة الفرنسية الجديدة.
سياسية: شهرزاد أسيرة البلاط الفرنسي.
جمالية: شهرزاد والرومانسية.
دينية: شهرزاد والكنيسة.
وهكذا تاهت شهرزاد في المجتمع الفرنسي لتتحول بعد ذلك إلى شهرزاد الفرنسية لا الشرقية.
ثانياً: شهرزاد الفرنسية: استلاب الأنا وانبهار الآخر.
لقيت شهرزاد في رحلتها إلى باريس رواجاً في مختلف المجالات، وتقبلها الجمهور الفرنسي بشغف كبير وانبهر بها إلى حدّ الاستلاب فأضحت علامة بارزة في الأدب والفنون، وقد تغيرت في أثناء استقرارها وحملت أفكاراً جديدة بدءاً من القرن التاسع عشر لتدخل مرحلة جديدة بدأت بدراسة هذه الشخصية وتحليلها وانتهت إلى استلابها وتغريبها وحاولت شهرزاد أمام كل ذلك أن تتمسك بإطارها وملامحها الشرقية، وعبثاً حاولت ذلك طيلة قرن آخر دون جدوى فقد ارتدت ثياب جديدة وأفكاراً أجنبية واردة عليها وحياة غربية وعاشت حضارة كانت نتاج فكر أوروبا وتطوراتها التاريخية.
وهكذا كما أثرت شهرزاد في أدباء فرنسا في القرن الثامن عشر فقد تأثرت بهم وحملت الكثير من أفكارهم الجمالية والفلسفية، بدءاً بالرومانسية ووصولاً إلى الوجودية ومن الحرية إلى الديمقراطية، ولم يمس التغيير هيئة شهرزاد وشكلها وهندامها وإنّما امتد إلى أفكارها، لتعيش مستلبة وفاقدة حقّها الطبيعي في الكلام. وكان تغريبها في كل الفنون: الموسيقى والرسم والفنون التشكيلية والسينما.
ولعل أهم مظاهر استلاب هذه المرأة الشرقية التركيز على جانبها الشكلي الإغرائي وتغييب عنصر الذكاء والمعرفة وجعل هذه المرأة سجينة لغة الجسد بإيحاءاته المادية المختلفة، كما أن أغلب من كتب عن هذه المرأة بدءاً من النهاية أي الليلة الثانية بعد الألف ليرسم بها نهاية هذه المرأة أولاً وليسلب منها حق الكلام ثانياً وليحيلها إلى الصمت في الأخير، ويبدو أن شهرزاد انتصرت بالكلمة/المعرفة في ربوعها الحقيقية "الشرق" وانهزمت شهرزاد بانعدام الكلمة/الصمت في ديار الغرب "وكانت هذه المرأة غريبة بالفعل، إلى درجة أنها وصفت بالمرأة الجميلة الخلابة المغرية جنسياً، الماكرة الحكيمة، اللغز الساحر بغموضه" (10).
إذن نحن إزاء شهرزاد فرنسية تعبّر عن الأنا الشرقية المستلبة والمنبهرة بالآخر، لقد نفدت حكايات شهرزاد وأحيلت إلى صمت عند كل من "تيوفيل غوتيه" Théophile Gautier (1872 ـ 1811) وهنري دورونه (1864 ـ 1636) Henri de Rénie ودخلت مغامرات أخرى لتعبر عن نقلة أخرى عرفتها فرنسا.
أ ـ شهرزاد غوتيه الصامتة:
يصور هذا الكاتب في قصته الليلة الثانية بعد الألف "La mille et deuxiéme nuit" شهرزاد وقد نفد زادها من الحكايات؛ فرّت إلى الكاتب تتوسل إليه كي يقص عليها قصصاً أخرى تنقذها من الموت فيلبي الكاتب رغبتها، ونجد في هذه القصة الشرق بسحره وإطاره العجائبي من خلال حضور الأماكن والشخصيات والأسماء، وقد استعان "غوتيه" في قصته بالحكاية الإطار، وركز على مصير شهرزاد بعد الألف ليلة وهي النقطة التي حاول الكثير من المبدعين الانطلاق منها في نسج لياليهم الثانية بعد الألف.
هذه شهرزاد "غوتيه" تقتحم صمته وتأتيه برفقة أختها "دنيا زاد" تطلب منه المساعدة بعد أن استنفدت طاقتها الحكائية، فيستجيب لطلبها. وتنتهي الليلة الثانية بعد الألف على النحو التالي "هذه هي مادة الحكاية التي أمليتها على شهرزاد بواسطة فرانشسكو.
كيف وجد حكايتك العربية وما هو مصير شهرزاد؟
لم أرها بعد ذلك. أعتقد بأن شهريار الذي أغضبته تلك الحكاية قطع رأس السلطانة." (غوتيه: ألف ليلة وليلتان)، وقد أنهى الكاتب قصته نهاية مأساوية، إذ لم تعجب القصة شهريار فقطع رأس شهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف، بينما أصيبت أختها بالجنون.
ويتبين لنا من خلال توظيف الكاتب أنه أحال هذه المرأة إلى صمت وجعلها قاصرة لا تمتلك آلية خلاصها وهو "واقع" ما يترجمه واقع الشرق/السبات/الصمت فنحن في هذه القصة أمام معادلة عكسية:
ـ صمت شهرزاد/إلغاء عنصر الحكي الشرقي.
ـ سلطة حكي الرجل الغربي/إحلال عنصر الحكي الغربي.
فيبدو أن شهرزاد الشرق قد سكتت فعلاً عن الكلام المباح، الذي تحول إلى الطرف الآخر جغرافياً وجنسياً أي الغرب/الذكر، لذا كانت نهاية شهرزاد مأساوية فقدت كل مبررات وجودها في فرنسا.
ب ـ شهرزاد "دورونيه": Le voyage d`amour ou l`initiation vénitienne
يبدأ كذلك بعد انتهاء ليالي شهرزاد ليصور لنا تفردها بالحكم بعد مقتل شهريار، تملك كل شيء (الجمال/السلطة/المال/الذكاء) ولكنها تشعر بالكآبة داخل هذا القصر الساحر، لذا فإنها تتخلى عن هوايتها السابقة "نسج الحكايات" وتبحث عن قاص يسليها؛ وهكذا تحولت من راوية إلى مستمعة وتحول فعل نسج الحكايات من فعل أنثوي إلى فعل ذكري، وتكون عقوبة من لا يسليها عظيمة "صلم أذنيه". يتصدى لها كثيرون دون أن يحفلوا برضاها. وتظفر آخر الأمر بفتى جميل يحبها ولكن سرعان ما يخونها. لتلتقي بعد ذلك بفرنسية تدعى (جيرمين Germine) عاشت نفس تجربة الخيانة فتتشاكيان وتتحابان لتجد كل منهما السلوى عند الأخرى. وكرد فعل على ما أصابهما (خيانة الرجل) تقرر المرأتان نهائياً التخلي عن الرجال، فالحب الحقيقي الذي توصلتا إليه (شهرزاد وجرمين) هو المتماثل،
وهكذا نجد أن شهرزاد "رونييه" حملت الكثير:
ـ تحولت إلى مستمعة. تعيش حياة البذخ والترف وتعاقب: الاستماع <-- اللذة
ـ موضوع الخيانة. العلاقة/ذكر/أنثى.
ـ اللقاء بالفرنسية العلاقة أنثى/أنثى.
وهكذا فقد حملت هذه المرأة كل ما يمور في الشارع الباريسي من تغيرات وحركات اجتماعية وفكرية ونفسية كما عبرت عن فقدان التوازن في بعض العلاقات وإحلال محلها علاقات أخرى متكافئة جنسياً أنثى أنثى. إذن تحولت شهرزاد إلى مستمعة وفقدت عنصر الجمال وغرقت في لذة وحملت تطورات القرن العشرين. ومع ذلك يبقى التساؤل هنا: من هي شهرزاد الفرنسية إذا فقدت خاصيتها الأساسية الكلام/الذكاء/المعرفة؟ وما هي الأسلحة التي يمنحها لها الفرنسيون ليمكنوها من إغرائهم؟
خلاصة القول:
تُعبّر رحلة شهرزاد إلى فرنسا عن مواجهة حقيقية بين حضارتين: شرقية وغربية، وفي بداية الرحلة يبدو أن الانبهار كان شديداً بالنموذج الشرقي لكن سرعان ما عادت هذه المرأة مكسورة الجناح. ومع ذلك يبقى اختيار شهرزاد/الأنثى كموضوع للقاء بين الأنا والآخر إحياء للطرف الصامت في التاريخ الإنساني وإعادة الاعتبار لهذا العنصر وتحليل مجمل العوامل التي أدت إلى قهره. ولاشك أننا نعيش تطورات جديدة وحركات متعددة تحاول أن توجه هذا العنصر وفقاً لمتطلبات العصر. كما أنّ اختيار الأنثى هو استراتيجية جمالية لما تملكه من مواصفات تمكن الأديب من أن يستخدمها كقناع يمرر خلالها أفكاره، ومن هنا كان الاهتمام بشهرزاد الأنثى/الأسطورة لما تتضمنه هذه الشخصية من دلالات.
الهوامش:
1 ـ سعد البازغي: مقاربة الآخر، مقاربات أدبية دار الشروق، 1999. ص 96.
2 ـ خديجة صبار: المرأة بين المثلوجيا والحداثة، أفريقيا الشرق، المغرب. 1999. ص 75.
3 ـ ياسين النصير، المساحة المختفية، قراءة في الحكاية الشعبية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1995 . 1. ص 141.
4 ـ عبد الواحد شريفي: ص 79.
5 ـ فاطمة المرنيسي، العابرة المكسورة الجناح "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، ترجمة فاطمة الزهراء أزروبيل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. ط 2002. 1 . ص 79.
6 ـ هيام أبو الحسين: شهرزاد وتطور الرواية الفرنسية من الكلاسيكية إلى الرمزية، فصول. ج3. م 13. ع2 صيف 1994. ص 267.
7 ـ فاطمة المرنيسي: المرجع السابق، ص 81. 80.
8 ـ هيام أبو حسين: المرجع السابق، ص 267.
9 ـ مصطفى عبد الغني: شهرزاد في الفكر العربي الحديث، دار الشرق، ط 1. 1985.
ص 26.
10 ـ المرجع السابق، ص 21.
- د. نظيرة الكنز
شهرزاد في فرنسا من الانبهار إلى الاستلاب
الأنا والآخر في مواجهة
شهرزاد في فرنسا من الانبهار إلى الاستلاب الأنا والآخر في مواجهة ـــ نظيرة الكنز
يعدّ كتاب ألف ليلة وليلة من أبرز الكتب القصصية الشعبية التي لقيت رواجاً عالمياً، وأثرت تأثيرات متنوعة في الآداب العالمية "مسرحاً ـ وشعراً ـ وقصة ـ ورواية" وقد ألهم هذا السفر الأدباء والفنانين بمادته الحكائية الغزيرة التي حوت غرائب الأخبار وعجائب الأمصار ولقد لخص "أندري جيد" (André Jide) الموقف قائلاً إن أمهات الكتب العالمية ثلاث: "الكتاب المقدس ـ وأشعار هوميروس ـ وكتاب ألف ليلة وليلة".
تحوّل هذا النص التراثي على امتداد العصور إلى نص ثقافي شامل وعالمي تولدت عنه نصوص عديدة في الثقافة العربية والأجنبية، وقدمت الليالي العربية الشرق من منظور ثري بالخيال والإبداع. فكانت العفاريت والسحرة والإباحية مفاتيح أساسية لمعرفة الشرق في الذهن الغربي "وإذا كان في تلك القصص ما يصف فعلاً جوانب من الحياة الثقافية والاجتماعية في الشرق أثناء الفترات التي دونت بها. فإن ذلك لا يرقى أبداً إلى مستوى التعميم والمطابقة التي تفصح عنها رؤية كثير من الكتاب الغربيين في توظيفاتهم المختلفة" (1).
احتضن العالم الغربي الليالي العربية في مرحلة تاريخية مميزة، وكانت عملية التلقي خاضعة لمقتضيات الثقافة ولراهنية التصورات والاحتياجات الاجتماعية والسياسية. وقد تسللت الأميرة الشرقية شهرزاد إلى البلاط الغربي واقتحمت قصور باريس وإنكلترا لترسم تحولاً جديداً "لقد حملت شهرزاد ألف ليلة وليلة الكثير من أحلامها وحركياتها وشهوتها المكبوتة وغير المكبوتة التي تشكل في مجموعها تمرداً على السلطة والنظام والقانون بغية التخلص منها. وركبت المخاطر لتتحرر ولم يكن ذلك ممكناً لولا جذور الرفض التي في أعماقها" (2).
* شهرزاد وألف ليلة وليلة:
تحولت شهرزاد مبدعة الليالي إلى أسطورة أدبية ألهمت مخيلة الأدباء إذ غامرت بنفسها وواجهت قهر السلطان بسلاح الكلمة، وقدمت نفسها فداءً، لبنات جنسها متحدية الموت ومؤجلة قرار إعدامها عن طريق الحكاية" شهرزاد لم تكن طوال الألف ليلة وليلة امرأة واحدة بل كانت ألف امرأة وامرأة فهي في كل قصة كانت تقلع من شخصية شهريار بعضاً من تحديه لبنات جنسها وتضع مكانه بعض تحديها لبني جنسه" (3).
تعلو حكاية "شهرزاد" والملك "شهريار" في الليالي وتكوّن الحكاية الإطار (conte cadre) الذي يحوي كل الحكايات، ويؤسس الليالي وتربطها بعضها ببعض ويكون الفجر الحاجز الفاصل بين كل حكاية وحكاية "وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح". وتكوّن شهرزاد الرواية المؤطرة التي تحكي تنسج خيالها محاولة ترميم وإعادة بناء العالم الذكري وتلخص هذه الليالي مجتمعة صراعاً خصباً بين رغبتين:
أ ـ رغبة في القتل/الموت: مثلها شهريار بعد مشاهدته حادث الخيانة.
ب ـ رغبة في الحياة/الاستمرار: مثلتها شهرزاد فكانت قرباناً ونذرت نفسها للدفاع عن الوجود بالحكاية.
لقد تحول شهريار بعد حكايتها من قاتل نهم إلى سامع متشوق عارف ومن مستمع موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، واستطاعت هذه الشخصية أن تعيد بناء المدينة الشهريارية وأن تسترجع للأنثى موقعاً آخر يتجاوز الخطيئة ويذكرنا من جانب آخر بالمرأة القربان في الطقوس القديمة. وغدت شهرزاد شخصية أسطورية عالمية، وأصبح كل ما ينسج حولها من حوادث وحكايات ينبوعاً يفجر الخيال في الآداب العالمية، فنقل العديد من الأدباء أفكارهم على طريقتها الحكائية وخيالها الخصب. وتساءل الكثير منهم عن مصيرها بعد انتهاء الليالي، حيث حاول كل أديب أن يعيد تشكيل هذه الشخصية الأسطورية بما يتلاءم ومتطلبات المجتمع وروح العصر ناهيك عن القناعات الذاتية. وظهرت تبعاً لذلك أعمال أدبية في مختلف الأجناس الأدبية، كما ألهمت الأدباء والفنانين في كل مكان وزمان وأتاحت لهم فرصة الهروب إلى عوالم ممتعة خالية من الكآبة والجمود.
ابتدعت شهرزاد أجواء من السخرية والتخيل والأسطورة والسياسة والدين وجل التناقضات التي مكنت هذه المرأة من أن تكون اسماً مميزاً لمبدعي الغرب ومثقفيه وفنانيه. ورسمت علاقة جديدة بين الشرق والغرب فكانت المواجهة حادة في بداية رحلة المرأة ولكن سرعان ما استقر وضعها وطاب لها المقام ومكنت المرأة الغربية من التجاوب معها وفتحت لها عوالم قوامها: السحر/الجمال/الذكاء.
ويرى البروفسور "جون جولمبير" أن لشهرزاد أثراً في تاريخ المرأة الأوروبية فيقول في هذا السياق: "إن شخصية شهرزاد أثرت تأثيراً حاسماً في تاريخ المرأة الأوروبية. وجعلت القرن الثامن عشر أعظم القرون في حياتها، وكان لجمالها وثقتها بنفسها وتصديها وتحديها لشهريار الذي قد عجز كل الرجال عن أن يوقظوه واستخدامها لسلاح الأنوثة والمعرفة معاً. كان لهذا كله أثر كبير في تكوين شخصية المرأة الأوروبية".
أشاد الباحثون والمفكرون بتأثيرات شخصية شهرزاد الأدبية اللامحدودة وقد استمدت هذه الشخصية الأنثوية قوتها في الإقناع من الثقة بالذات وهذه الثقة تشكل بؤرة التواصل وتجعلها مثيرة للإعجاب، وقد وجدت هذه الأسطورة الأنثى تربتها في كل مكان وفتحت آفاقاً للتخيل وفي رحلتها المزدوجة الشرقية الغربية حافظت على بعض خصائصها الأصلية واكتسبت في الوقت نفسه سمات جديدة أضفت على شخصيتها أبعاداً "جمالية، وفكرية، ونفسية" وارتدت ثياباً وأفكاراً أجنبية بمجرد وصولها إلى الديار الفرنسية. سنتوقف عند رحلتها المغرية إلى فرنسا لنكتشف أهم تحولاتها وأبعاد مواجهة الأنا والآخر وذلك من خلال عنصرين أساسيين:
1 ـ شهرزاد ترحل إلى فرنسا "الانبهار بالأنا واستلاب الآخر".
2 ـ شهرزاد الفرنسية "استلاب الأنا والانبهار بالآخر".
بهرت هذه المرأة الشرقيين والغربيين رجالاً ونساءاً في الأمس واليوم فهل ستحافظ على هذا الانبهار أم ستتعرض للاستلاب بمجرد أن تعبر إلى باريس؟.
* شهرزاد ترحل إلى فرنسا "الانبهار بالأنا واستلاب الآخر":
إذا تصفحنا الكثير من الكتب التاريخية التي ترصد العلاقة بين فرنسا والشرق تبين لنا أنها علاقات موغلة في القدم شديدة التشابك تختلف درجاتها بين التعاطف والتنافس والانبهار والاستلاب ومحاكاة النموذج الآخر أو البحث عن نقيضه، ومن ثَمّ فهي علاقات شديدة الإشعاع.
دفع ولع الفرنسيين بالشرق إلى العكوف على منجزاته الحضارية ومحاولة البحث عن كنوزه والإطلاع المباشر عليها من خلال تشجيع حركة الرحلة إلى الشرق والبحث عن تراثه ومحاولة ترجمته ونقله إلى القراء الفرنسيين.
كان الفرنسيون مدينين في معرفتهم لشهرزاد للمستشرق "أنطوان جالان Antoine Galland" الذي عمل على ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية ما بين عامي (1704/1717) في اثني عشر مجلداً." والواقع إن ترجمة "الليالي" لأول مرة إلى اللغة الفرنسية، تمثل نقطة تحول بارزة في تاريخ العلاقات الغربية الشرقية، وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن هذه الترجمة لم تكن حادثاً غير متصل بما قبله أو بعده، بل كانت نهاية حركة كبيرة نحو تصوير الشرق، في صورة خيالية مستمدة من القصص المغربية والرحلات الأولى إلى الشرق." (4)
أسهم "أنطوان جالان" مع غيره في القرن الثامن عشر في أن تتمتع شهرزاد ولياليها بمكانة عالية وهو ما جعل هذا القرن يعرف بقرن شهرزاد مصدر الإلهام والوحي والتغيير. وأصبحت منذ هذه الترجمة مدخل للعالم الشرقي، إذ زاد الاهتمام بالدراسات الشرقية كما كانت دافعاً لتطور الفلكلور، وأدّت إلى ميلاد مدرسة كاملة للحكايات الشرقية. و"نجحت شهرزاد خلال فترة وجيزة جداً في تحقيق ما فشلت به الجيوش خلال الحروب الصليبية. لقد غزت العالم المسيحي معتمدة في ذلك على القوة الوحيدة التي تملكها، أي قوة الكلمات، فانقاد لجاذبيتها الزهاد الكاثوليكيون والبروتستانتيون والإغريق والأرثوذوكسيون تباعاً.." (5)
وكان تأثيرها قوياً في المرأة والرجل على حد سواء، ويمكن أن نوضح صورة شهرزاد في فرنسا إبان القرن الثامن عشر من خلال رصد حركيتها في المجتمع الفرنسي وأهم التحولات التي أحدثتها لدى الجنسين:
1 ـ شهرزاد والمرأة الفرنسية:
انبهرت المرأة الباريسية بهذه الشرقية، ومن الثابت تاريخياً أنها دخلت البلاط الفرنسي من بابه الواسع. فكانت "الماركيزة والكونتيسة والأميرة "أول من سمح لها بتخطي قصور فرنسا" وظهرت حكاية الملكة شهرزاد في وقت كانت الصالونات الأدبية التي تمتلكها سيدات الطبقة الراقية مكاناً للتعارف والتقييم والشهرة ونشر الفكر الجديد بل إنها كانت تتحكم في معايير التذوق.." (6)
ويمكن أن نشير إلى أن استقبال الفرنسيات لشهرزاد اتخّذ شكلين مختلفين:
أ ـ الاستقبال الشكلي الظاهري:
حيث لم تهتم بعض سيدات فرنسا إلا بالجوانب الحسية الشكلية المغرية فأسكنت شهرزاد البلاط الفرنسي وأبقتها صامتة لا تقوى على الحركة ولا تنبس ببنت شفة سجينة في حدائق فرساي بأشكال الزينة المبالغ فيها حسب العادة الجارية، وهنا بطبيعة الحال عاشت هذه المرأة غربة واستلاباً حقيقيين وتحولت إلى مدام دي بومبادور جديدة مثيرة بتسريحاتها الرائعة وحليّها وأقمشتها الفضفاضة الزاهية، وهكذا "جردت شهرزاد من ذكائها حين غادرت الشرق وعبرت الحدود إلى الغرب" أي من كل ما يشكل هويتها. والواقع أن الفرنسيين لم يأبهوا إلا بمشاهد المغامرة والغرام في ألف ليلة وليلة الذي انحصر هو الآخر في الزينة ولغة الجسد بشكل يبعث على الاستغراب" (7).
ب ـ الاستقبال الفكري الباطني:
استوعبت بعض سيدات فرنسا رسالة شهرزاد واستفادت من تجربتها مع شهريار ومع الحكايات وحاولن أن يقتفين أثرها لاسيما أن معظمهن كن من علية القوم وأسهمن في الحركة الأدبية" وكانت منهن من تكتب الأشعار وتقرأها على المترددين عليها. وتساهم في حركة الترجمة مثل مدام داسيه Dacier مترجمة هوميروس والكونتيسة دولنوا d`enoloy" التي اشتهرت في مجال كتب الأطفال، كما برعت المرأة بالذات في أدب المراسلات الذي اقترب من نوعين أدبيين سيكون لهما شأن هما: السيرة الذاتية والرواية..." (8).
برزت في الساحة الأدبية أصوات أدبية نسوية استفادت من ليالي شهرزاد وشرقها الدافئ وحاولت محاكاته والنسيج على منوالها والتطرق إلى أكثر المواضيع خطورة في ذلك الوقت ويمكن أن نذكر على سبيل المثال بعض الروائيات أمثال "دوجوميزو" و"دو فيليدو" اللتين تجاوزتا عقدة الحياء والاحتشام في التطرق لموضوع الحب والجنس.
2 ـ شهرزاد والرجل الفرنسي:
أثّرت شهرزاد في الرجل الفرنسي فناناً ورساماً وفيلسوفاً وأديباً. إذ رسم الكاتب الفرنسي صورة مميزة للأميرة الشرقية مكنتها من أن تحتل الريادة وأن تكون السيدة الشرقية التي تمتلك سلاح الجمال والمعرفة بلا منازع، وقد تأثر معظم كتاب القرن الثامن عشر بالعالم العجائبي والفكري الذي نسجته هذه المرأة وحاول بعضهم محاكاتها واستخدام رموزها المختلفة بغية التأثير في خارطة الفكر الفرنسي ولاسيما وأن وصول هذه المرأة إلى باريس كان في فترة "تزخر بشتى ألوان الصراع ضد الملكية والثورة على مفاسدها، وعلى ذلك كانت الفرصة مواتية لاستخدام شهرزاد وإيحاءاتها الخصبة التي لا تنتهي في النيل من الملوك والسخرية منهم، وهو ما تحددت به مهمة السيدة العربية الغامضة المثيرة في كل آداب القرن الرومانسي" (9).
أتاحت ليالي شهرزاد لأدباء فرنسا فرصة الهروب إلى عالم جديد وجعلتهم طيلة قرن كامل يحلمون بشرقها الدافئ وينتقلون إليهم إبداعياً يتعلمون الحكمة والفلسفة ويحاولون في الآن نفسه رسم معالم التغيير في المجتمع الفرنسي. ويمكن أن نذكر في هذا السياق ما قام به ديدرو "Diderot" في مؤلفيه الطائر الأبيض "L`oiseau blanc" والجواهر كاشفة السر "Les Bijoux indiscrets" وقد استلهم "ديدرو" من ليالي شهرزاد كل ما يخدم أفكاره السياسية والاجتماعية والدينية.
ويعد فولتير الشخصية الأدبية الثانية التي تأثرت بالشرق إذ خصص لـه مجالاً واسعاً في كتاباته واتخذه كوسيلة للمقارنة بين حضارتين مختلفتين واستعان بالليالي وأجوائها الشرقية لبث أفكاره التربوية والفلسفية والاجتماعية لاسيما في مؤلفه صديق أو القدر "Zadig ou la destinée" فقد أوحت إليه شهرزاد بأفكار وصور وتقنيات وزودته بكل الأساليب التي مكنته من المقارنة بين عالمين متناقضين: عالم الشرق المؤطر بالحكمة وعالم الكنيسة الممتلئ بالكتب. لذلك لا نتعجب عندما نجد هذا الكاتب يهدي هذا العمل إلى هذه السيدة الشرقية.
لقد ملكت شهرزاد كتاب فرنسا خلال هذا القرن وأنصتوا لحكمتها واقتبسوا كل ما يخدم برنامجهم السياسي والاجتماعي والفلسفي. وهكذا كان الموقع الذي تتحرك فيه هذه المرأة الأسطورة استراتيجياً إذ عبرت عن انبهار تام بالشرق واستلاب كامل للغرب. ويمكن أن ندرك أن رحلة شهرزاد إلى فرنسا كانت ثرية وذات أبعاد مختلفة:
تاريخية: شهرزاد والثورة الفرنسية.
اجتماعية: شهرزاد والمرأة الفرنسية الجديدة.
سياسية: شهرزاد أسيرة البلاط الفرنسي.
جمالية: شهرزاد والرومانسية.
دينية: شهرزاد والكنيسة.
وهكذا تاهت شهرزاد في المجتمع الفرنسي لتتحول بعد ذلك إلى شهرزاد الفرنسية لا الشرقية.
ثانياً: شهرزاد الفرنسية: استلاب الأنا وانبهار الآخر.
لقيت شهرزاد في رحلتها إلى باريس رواجاً في مختلف المجالات، وتقبلها الجمهور الفرنسي بشغف كبير وانبهر بها إلى حدّ الاستلاب فأضحت علامة بارزة في الأدب والفنون، وقد تغيرت في أثناء استقرارها وحملت أفكاراً جديدة بدءاً من القرن التاسع عشر لتدخل مرحلة جديدة بدأت بدراسة هذه الشخصية وتحليلها وانتهت إلى استلابها وتغريبها وحاولت شهرزاد أمام كل ذلك أن تتمسك بإطارها وملامحها الشرقية، وعبثاً حاولت ذلك طيلة قرن آخر دون جدوى فقد ارتدت ثياب جديدة وأفكاراً أجنبية واردة عليها وحياة غربية وعاشت حضارة كانت نتاج فكر أوروبا وتطوراتها التاريخية.
وهكذا كما أثرت شهرزاد في أدباء فرنسا في القرن الثامن عشر فقد تأثرت بهم وحملت الكثير من أفكارهم الجمالية والفلسفية، بدءاً بالرومانسية ووصولاً إلى الوجودية ومن الحرية إلى الديمقراطية، ولم يمس التغيير هيئة شهرزاد وشكلها وهندامها وإنّما امتد إلى أفكارها، لتعيش مستلبة وفاقدة حقّها الطبيعي في الكلام. وكان تغريبها في كل الفنون: الموسيقى والرسم والفنون التشكيلية والسينما.
ولعل أهم مظاهر استلاب هذه المرأة الشرقية التركيز على جانبها الشكلي الإغرائي وتغييب عنصر الذكاء والمعرفة وجعل هذه المرأة سجينة لغة الجسد بإيحاءاته المادية المختلفة، كما أن أغلب من كتب عن هذه المرأة بدءاً من النهاية أي الليلة الثانية بعد الألف ليرسم بها نهاية هذه المرأة أولاً وليسلب منها حق الكلام ثانياً وليحيلها إلى الصمت في الأخير، ويبدو أن شهرزاد انتصرت بالكلمة/المعرفة في ربوعها الحقيقية "الشرق" وانهزمت شهرزاد بانعدام الكلمة/الصمت في ديار الغرب "وكانت هذه المرأة غريبة بالفعل، إلى درجة أنها وصفت بالمرأة الجميلة الخلابة المغرية جنسياً، الماكرة الحكيمة، اللغز الساحر بغموضه" (10).
إذن نحن إزاء شهرزاد فرنسية تعبّر عن الأنا الشرقية المستلبة والمنبهرة بالآخر، لقد نفدت حكايات شهرزاد وأحيلت إلى صمت عند كل من "تيوفيل غوتيه" Théophile Gautier (1872 ـ 1811) وهنري دورونه (1864 ـ 1636) Henri de Rénie ودخلت مغامرات أخرى لتعبر عن نقلة أخرى عرفتها فرنسا.
أ ـ شهرزاد غوتيه الصامتة:
يصور هذا الكاتب في قصته الليلة الثانية بعد الألف "La mille et deuxiéme nuit" شهرزاد وقد نفد زادها من الحكايات؛ فرّت إلى الكاتب تتوسل إليه كي يقص عليها قصصاً أخرى تنقذها من الموت فيلبي الكاتب رغبتها، ونجد في هذه القصة الشرق بسحره وإطاره العجائبي من خلال حضور الأماكن والشخصيات والأسماء، وقد استعان "غوتيه" في قصته بالحكاية الإطار، وركز على مصير شهرزاد بعد الألف ليلة وهي النقطة التي حاول الكثير من المبدعين الانطلاق منها في نسج لياليهم الثانية بعد الألف.
هذه شهرزاد "غوتيه" تقتحم صمته وتأتيه برفقة أختها "دنيا زاد" تطلب منه المساعدة بعد أن استنفدت طاقتها الحكائية، فيستجيب لطلبها. وتنتهي الليلة الثانية بعد الألف على النحو التالي "هذه هي مادة الحكاية التي أمليتها على شهرزاد بواسطة فرانشسكو.
كيف وجد حكايتك العربية وما هو مصير شهرزاد؟
لم أرها بعد ذلك. أعتقد بأن شهريار الذي أغضبته تلك الحكاية قطع رأس السلطانة." (غوتيه: ألف ليلة وليلتان)، وقد أنهى الكاتب قصته نهاية مأساوية، إذ لم تعجب القصة شهريار فقطع رأس شهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف، بينما أصيبت أختها بالجنون.
ويتبين لنا من خلال توظيف الكاتب أنه أحال هذه المرأة إلى صمت وجعلها قاصرة لا تمتلك آلية خلاصها وهو "واقع" ما يترجمه واقع الشرق/السبات/الصمت فنحن في هذه القصة أمام معادلة عكسية:
ـ صمت شهرزاد/إلغاء عنصر الحكي الشرقي.
ـ سلطة حكي الرجل الغربي/إحلال عنصر الحكي الغربي.
فيبدو أن شهرزاد الشرق قد سكتت فعلاً عن الكلام المباح، الذي تحول إلى الطرف الآخر جغرافياً وجنسياً أي الغرب/الذكر، لذا كانت نهاية شهرزاد مأساوية فقدت كل مبررات وجودها في فرنسا.
ب ـ شهرزاد "دورونيه": Le voyage d`amour ou l`initiation vénitienne
يبدأ كذلك بعد انتهاء ليالي شهرزاد ليصور لنا تفردها بالحكم بعد مقتل شهريار، تملك كل شيء (الجمال/السلطة/المال/الذكاء) ولكنها تشعر بالكآبة داخل هذا القصر الساحر، لذا فإنها تتخلى عن هوايتها السابقة "نسج الحكايات" وتبحث عن قاص يسليها؛ وهكذا تحولت من راوية إلى مستمعة وتحول فعل نسج الحكايات من فعل أنثوي إلى فعل ذكري، وتكون عقوبة من لا يسليها عظيمة "صلم أذنيه". يتصدى لها كثيرون دون أن يحفلوا برضاها. وتظفر آخر الأمر بفتى جميل يحبها ولكن سرعان ما يخونها. لتلتقي بعد ذلك بفرنسية تدعى (جيرمين Germine) عاشت نفس تجربة الخيانة فتتشاكيان وتتحابان لتجد كل منهما السلوى عند الأخرى. وكرد فعل على ما أصابهما (خيانة الرجل) تقرر المرأتان نهائياً التخلي عن الرجال، فالحب الحقيقي الذي توصلتا إليه (شهرزاد وجرمين) هو المتماثل،
وهكذا نجد أن شهرزاد "رونييه" حملت الكثير:
ـ تحولت إلى مستمعة. تعيش حياة البذخ والترف وتعاقب: الاستماع <-- اللذة
ـ موضوع الخيانة. العلاقة/ذكر/أنثى.
ـ اللقاء بالفرنسية العلاقة أنثى/أنثى.
وهكذا فقد حملت هذه المرأة كل ما يمور في الشارع الباريسي من تغيرات وحركات اجتماعية وفكرية ونفسية كما عبرت عن فقدان التوازن في بعض العلاقات وإحلال محلها علاقات أخرى متكافئة جنسياً أنثى أنثى. إذن تحولت شهرزاد إلى مستمعة وفقدت عنصر الجمال وغرقت في لذة وحملت تطورات القرن العشرين. ومع ذلك يبقى التساؤل هنا: من هي شهرزاد الفرنسية إذا فقدت خاصيتها الأساسية الكلام/الذكاء/المعرفة؟ وما هي الأسلحة التي يمنحها لها الفرنسيون ليمكنوها من إغرائهم؟
خلاصة القول:
تُعبّر رحلة شهرزاد إلى فرنسا عن مواجهة حقيقية بين حضارتين: شرقية وغربية، وفي بداية الرحلة يبدو أن الانبهار كان شديداً بالنموذج الشرقي لكن سرعان ما عادت هذه المرأة مكسورة الجناح. ومع ذلك يبقى اختيار شهرزاد/الأنثى كموضوع للقاء بين الأنا والآخر إحياء للطرف الصامت في التاريخ الإنساني وإعادة الاعتبار لهذا العنصر وتحليل مجمل العوامل التي أدت إلى قهره. ولاشك أننا نعيش تطورات جديدة وحركات متعددة تحاول أن توجه هذا العنصر وفقاً لمتطلبات العصر. كما أنّ اختيار الأنثى هو استراتيجية جمالية لما تملكه من مواصفات تمكن الأديب من أن يستخدمها كقناع يمرر خلالها أفكاره، ومن هنا كان الاهتمام بشهرزاد الأنثى/الأسطورة لما تتضمنه هذه الشخصية من دلالات.
الهوامش:
1 ـ سعد البازغي: مقاربة الآخر، مقاربات أدبية دار الشروق، 1999. ص 96.
2 ـ خديجة صبار: المرأة بين المثلوجيا والحداثة، أفريقيا الشرق، المغرب. 1999. ص 75.
3 ـ ياسين النصير، المساحة المختفية، قراءة في الحكاية الشعبية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1995 . 1. ص 141.
4 ـ عبد الواحد شريفي: ص 79.
5 ـ فاطمة المرنيسي، العابرة المكسورة الجناح "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، ترجمة فاطمة الزهراء أزروبيل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. ط 2002. 1 . ص 79.
6 ـ هيام أبو الحسين: شهرزاد وتطور الرواية الفرنسية من الكلاسيكية إلى الرمزية، فصول. ج3. م 13. ع2 صيف 1994. ص 267.
7 ـ فاطمة المرنيسي: المرجع السابق، ص 81. 80.
8 ـ هيام أبو حسين: المرجع السابق، ص 267.
9 ـ مصطفى عبد الغني: شهرزاد في الفكر العربي الحديث، دار الشرق، ط 1. 1985.
ص 26.
10 ـ المرجع السابق، ص 21.
- د. نظيرة الكنز
شهرزاد في فرنسا من الانبهار إلى الاستلاب
الأنا والآخر في مواجهة
شهرزاد في فرنسا من الانبهار إلى الاستلاب الأنا والآخر في مواجهة ـــ نظيرة الكنز