الشروق الجديد - البحث عن ( ألف ليلة وليلة ) الأصلية

حيرت روايات الليالى «ألف ليلة وليلة» الباحثين، فمع أنها نتاج عربى وفارسى، فى الأصل، حسب تأكيدات البعض، إلا أنها كتبت ونُشرت بواسطة غير العرب الذين طبعوها وقرأوها قبل البلاد العربية. والغريب فى الأمر أن الطبعات العربية عرفت طريق «التهذيب والتنقيح» التى يعارضها المثقفون للحفاظ على حرية التعبير والإبداع لهذه الحكايات التى تعتبر أكبر مجموعة من الحكايات الشعبية الشفهية،

لذلك تثير هذه الحكايات الجدل لمعرفة ما هو الأصل الحقيقى لألف ليلة وليلة الذى تداخلت معها الروايات الشفهية، عبر الزمن. وهذا يطرح سؤالا: هل التراث يشمل أيضا القصص التى تداخلت مع القصص الأصلية؟. ومن أين لنا أن نعرف ما هى القصص الأصلية، والقصص غير الأصلية، خاصة أن قصص الليالى شفهية، جائز أن تزيد أو تنقص حسب الرواة؟!.
وظلت هذه الحكايات تروى حسب حديثنا مع الدكتور خالد أبوالليل أستاذ الأدب الشعبى بجامعة شمس شفهيا على مر العصور، وتتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل ويسردها الرواة فى المقاهى والتجمعات الشعبية ربما حتى وقت قريب.

لم يقتصر الأمر على الرواية الشفهية فقط بل كانت هناك مخطوطات لهذه الحكايات فى كل بلد عربى، ربما تختلف اختلافا من بلد لآخر، أو من زمن لآخر أيضا وربما تزيد حكايات البعض منها عن الآخر.

وأشار أبوالليل إلى الدراسة المهمة التى كتبتها الدكتورة سهير القلماوى، التى توضح أن ألف ليلة وليلة كانت تتزايد نسبيا من عصر إلى عصر. فبالإضافة إلى الحكايات التى نسجت فى العراق، كانت هناك إضافات أخرى حدثت فى بعض البلدان العربية خاصة مصر والشام. لذلك نرى أن مجموعة الحكايات المضافة هذه ما لبثت أن أصبحت جزءا أساسيا من حكايات ألف ليلة وليلة.

حكايات شعبية

و«الليالى» حكايات شعبية فى الأساس، كما أكد من قبل الكاتب جهاد فاضل، لا روايات رصينة من نوع «المقامات» التى كتبها الحريرى، أو بديع الزمان الهمذانى. ناهيك عن أن تجريدها من عفويتها الحكائية يلحق بها ضررا كبيرا، إذ يفقدها نكهتها الأصلية، ومذاقها الخاص الذى لها فى الأصل،

واستطرد فاضل قائلا: «ويبدو أن صراحتها الفجة يقصد الألفاظ الجنسية كانت وراء عدم انتشارها عربيا لأن الكثير من الأُسر لا يرحبون بوصولها إلى بيوتهم وبيئاتهم. ولكن «الليالى» تمكنت فى السنوات الأخيرة من أن تشق طريقها إلى عالم النشر العربى عبر أكثر من طبعة».

يبدو أن حكايات «ألف ليلة وليلة» كانت معروفة فى دولة الخلافة منذ العصر العباسى الأول، حيث ذكر المؤرخ أبوالحسن المسعودى الذى عاش فى القرن الرابع الهجرى العاشر الميلادى فى كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» أن هناك حكايات شائعة بين العامة يروونها ويتناقلونها تعرف باسم «هزار افساه افسان» أى ألف حكاية خرافة.

وأوضح ذلك ابن النديم فى كتابه «الفهرست»، مشيرا إلى محاولة كتابة الليالى للمرة الأولى على يد الوزير العباسى «عبدالله بن عبدوس الجهشيارى» مؤلف كتاب الوزراء والكتاب. وذكر ابن النديم أن أول من صنف فى الخرافات هم الفرس، وأول كتاب عمل فى هذا المعنى هو كتاب «هزار افسان». وقد أوضح ابن النديم السبب فى وضع هذه الحكايات، وقصة الملك شهريار، والأميرة شهرزاد التى عملت من خلال الدراما القصصية على إنقاذ بنات جنسها من يد الملك الغيور والمنتقم.

بعد ذلك أصبحت هزار افسان وسيلة للمسامرة بين الناس. ويذكر ابن النديم أنه رأى هذا الكتاب بتمامه باللغة العربية فى عدة مجلدات. كما يضيف بأن الوزير الجهشيارى هو الذى بدأ بتسجيله من لسان الرواة والمسامرين أو ترجمة ما وقع تحت يده عن الفارسية، إلا أنه لم يتم سوى 480 ليلة فقط. كل ليلة مؤلفة من خمسين ورقة.

وقال واحد من المؤرخين المصريين فى العصر الفاطمى، وهو القرطى الذى كتب تاريخ مصر فى العصر الفاطمى، إن هناك مجموعة من القصص بين أيدى الناس تعرف باسم «ألف ليلة وليلة» يتسامرون بها فى اجتماعاتهم وسهراتهم الليلية. كما عرفت نسخ منقحة لبعض هذه الحكايات والتى كتبت فيما بين القرن 13 و14 الميلادى وموجود نسخها فى اسطنبول فى تركيا. وذكرت معظم الدراسات أنه لا توجد أى أسس علمية تؤكد من هو المؤلف الحقيقى لتلك الحكايات.

أصل الليالى

طبعت ألف ليلة وليلة لأول مرة باللغة العربية فى كلكتا بالهند تحت رعاية الشيخ أحمد بن محمود شيروانى فى عام 1814 فى مجلدها الأول فى حين صدر المجلد الثانى فى عام 1818 إلا أنها احتوت فقط على مائتى حكاية بالإضافة إلى حكايات السندباد البحرى. أما الطبعة الكاملة لها باللغة العربية فهى المعروفة بطبعة بولاق مصر التى صدرت فى عام 1835 فى أربعة مجلدات على أساس أكمل مخطوطة وجدت لها فى مصر. توالى فيما بعد طباعة ألف ليلة فاستكملت طبعة كلكتا فى الأعوام بين 1838 1842 فى أربعة مجلدات.

ولم تلبث أن صدرت طبعة بريسلاو الشهيرة فى عام 1909 التى اعتبرت من أفضل الطبعات. وقد تتابعت فيما بعد إعادة طباعة نسخة بولاق وكلكتا عدة مرات حتى أصبحت شائعة بين الناس فى المشرق والمغرب العربى. أصبحت ألف ليلة وليلة بشكلها الحالى، أو بمعنى أصح فى طبعتها المصرية تحتوى على نحو 170 حكاية موزعة على ألف ليلة وليلة، بعض هذه الحكايات تطول كى تبلغ أكثر من 30 ليلة وبعضها الآخر لا يتعدى ليلة واحدة.

وعن طبعة برسلاو كتب الناقد جابر عصفور مقدمة لطبعة دار الكتب والوثائق القومية لألف ليلة وليلة قائلا: (طُبع كتاب «ألف ليلة وليلة» لأول مرة بالأحرف العربية بمدينة كلكتا بالهند فى جزءين.

كان ذلك فى المطبعة الهندوستانية وبرعاية كلية فورت وليام التى أصدرت الجزء الأول بعنوان حكايات مائة ليلة من ألف ليلة سنة 1814، واتبعته بالجزء الثانى الذى اشتمل على حكايات مائة ليلة وأخبار السندباد مع الهندباد سنة 1818. وكانت هذه الطبعة التى لم تنشر النص كاملا البداية الفعلية التى مهدت الطريق أمام الطبعات الكاملة اللاحقة من «الليالى».

وكانت أولى هذه الطبعات الكاملة طبعة مدينة برسلاو بألمانيا التى ظهرت بعدها طبعة بولاق فى مدينة القاهرة بمصر، ثم طبعة كلكتا الثانية بالهند، وذلك فى التتابع التاريخى الذى سبقت فيه طبعة برسلاو غيرها من الطبعات الكاملة. فكانت البداية التى قرأ بواسطتها العالم كله الحكايات الكاملة، أو ما تصور أنه الحكايات الكاملة لكتاب ألف ليلة وليلة مطبوعة بالأحرف العربية للمرة الأولى).

طبعات مختلفة

وتتميز هذه الطبعة النفيسة من ليالى ألف ليلة بميزات ثلاث يشير إليها الدكتور جابر عصفور، أولاها من أنها الطبعة الأولى الكاملة «لليالى». فهى أسبق من طبعة بولاق الأولى «1835» والثانية «1862»، ومن طبعة كلكتا الثانية «1839 1842»، فضلا عن بقية الطبعات المتأخرة فى القرن التاسع عشر، وأهمها طبعة المطبعة الوهبية «1880» والشرفية «1883» والعثمانية «1884» مرورا بطبعة الآباء اليسوعيين المهذبة فى المطبعة الكاثوليكية فى بيروت «1888»، وانتهاء بطبعة دار الهلال المهذبة التى صدرت فى القاهرة ابتداء من سنة 1900.

وقد استنت الطبعة البرسلاوية فى حفاظها على الأصل ما تبعته فيها إلى حد ما الطبعتان الهندية والبولاقية وغيرهما من الطبعات اللاحقة التى لم يتدخل فيها المصححون سوى بتصويب الأخطاء اللغوية والاقتراب من الفصحى بما لا ينحرف بالنص عن وجهته الفنية. ولم يتحرج المشرفون على هذه الطبعات من مشاهد الجنس فى الليالى، أو يظهرون أى لون من ألوان التزمت الأخلاقى إزاء بعض عباراتها أو كلماتها.

وقد مضت طبعات «الليالى» حسب مجلدات دار الكتب والوثائق القومية بعد طبعة برسلاو فى هذا النهج على عادة السلف الصالح فلم يحذف العلماء المشرفون عليها شيئا، ولم يتحرجوا من كلمة أو عبارة أو مشهد، ولم يتأثموا من ذكر أسماء الأعضاء التى ليس هناك إثم فى ذكرها، مدركين المغزى والمرمى من وراء كل عبارة أو حكاية أو مشهد، حريصين على خصائص الحكى الذى يذهب بحلاوته التدخل فى لغة السرد بالتغيير أو التعديل أو الحذف.
ولكن طبعة برسلا و مضت إلى أبعد من ذلك فحافظت على الأصل فى أوضاعه اللغوية التى كان عليها. ومن هنا تأتى ميزتها الثانية، فقد نقلت الأصل الخطى كما هو، محافظة على لهجته العامية دون تغيير أو تحريف فيما هو ظاهر من النص المطبوع.

والواقع أن ترتيب الحكايات فى هذه الطبعة، فضلا عن عدد الحكايات نفسها وتفاصيلها، أمر آخر يستحق دراسة مفصلة، طلب بها عصفور، من منظور المقارنة بين هذه الطبعة وغيرها من الطبعات، لملاحظة أوجه الاختلاف الدالة ومواضع الزيادة والنقصان التى لا تخلو من مغزى.
تدليس روايات شهرزاد

وتتميز هذه الطبعة، كما يذكر عصفور، بإشكال خاص ناقشه المستشرقون من منظور تقاليد الأمانة العلمية. وقد كشف محسن مهدى عن هذا الإشكال فى إصدار طبعته التى صدرت عن ليدن بهولندا، ونبه إلى ما ذكره عنوان جزء من الأجزاء التى نشرها هانجت باللغة الألمانية من أنها «نُقلت عن نسخة خطية تونسية». وقد أوضح هانجت فى مقدمة الجزء الأول المطبوعة بالألمانية أنه اقتنى هذه النسخة من عالم عربى تونسى اسمه م. النجار أرسلها له من تونس، فى عشرة أجزاء مؤرخة 1144ه «1731»م.

وقد قام المستشرق دانكان ماكدونالد بدراسة مفصلة لهذه الطبعة سنة 1909، فوجد أن النسخة التونسية المزعومة ليست إلا حديث خرافة، وأن هانجت تعمد اختلاق أسطورة فى الأدب، وشوش الكتاب تشويشا هائلا. ومضى ماكدونالد يكشف تفصيلا عن عمليات التلفيق التى قام بها هانجت فى الخلط بين النسخ المختلفة، إلى جانب عمليات التدليس التى قسّم معها «الليالى» تقسيما لا يوجد فى الأصل.

فكانت النتيجة طبعة لا قيمة لها من الناحية العلمية، ولا تصلح للاعتداد بها، حتى بوصفها رواية من الروايات. فيما يقول محسن مهدى الذى استبعد هذه الطبعة، ولم يعتمدها فى تحقيقه الطبعة الفريدة التى نشرها معتمدا على أصول عربية أولى عن شركة بريل فى ليدن سنة 1984.

وتساءل عصفور: ترى هل كان هانجت يقوم بفعل غير أخلاقى من منظور الأمانة العلمية عندما تحدث عن نسخة خطية تونسية ليس لها وجود؟
فأجاب: «الحكم العلمى الصارم فى ذلك لا يقبل التخفيف. ولكن الحكم الفنى قد يختلف نوعا، خصوصا إذا وضعنا فى اعتبارنا أن الرجل انتقلت إليه عدوى الروايات الشفاهية، فقام بما يقوم به الراوى الذى يؤلف من بين المرويات المعتمدة رواية خاصة به، كما لو كان يمارس دور المؤلف فى الأداء الشعبى».

ولعل هذا ينشط الذاكرة بأمر يشاع فى الوسط الثقافى من أن أحد الكتاب المهتمين بالأدب الشعبى ذكر أنه يستطيع أن يدون ألف ليلة وليلة من ذاكرته ما يجعله يختلق قصصا وينسبها إلى قصص ألف ليلة وليلة الأصلية التى لا يعرف أى باحث ما هى بالضبط؟!!.

masress
 
أعلى