جهاد فاضل - "شهرزاد".. لا تعر ف التهذيب في ألف ليلة وليلة

  • ألف ليلة وليلة نتاج عربي وفارسي لكنها وصلتنا بواسطة الأجانب وطُبعت في الخارج قبل أن تُطبع عندنا
  • بماذا تختلف "الليالي" عن "المقامات"؟
  • أول طبعة من "الليالي" صدرت في "كلكتا" بالهند سنة 1814 وأحدث طبعة 2010 بمصر
  • في الطبعات الأولى من "الليالي" لم يتحرج المشرفون عليها من مشاهد الجنس ولم يظهروا أي لون من التزمت إزاء بعض عباراتها
  • هل كان هناك نسخة خطية تونسية من "الليالي"؟

"ألف ليلة وليلة" من أشهر المؤلفات التي أطلقتها الحضارة العربية الإسلامية.. وقد فتنت الغربيين على الخصوص، وألهمت روائييهم وفنانيهم، وعنها صدرت أبحاث ودراسات بلا حصر في اللغات الحية المعاصرة.


ومع أنها نتاج عربي وفارسي، كما يجزم الباحثون، إلا أنها وصلتنا بواسطة الأجانب، غربيين وغير غربيين، الذين طبعوها قبلنا وقرأوها قبل أن نقرأها. والطريف أن الكثير من طبعاتها العربية، أو تلك التي صدرت في البلاد العربية، قد عرفت "التهذيب" إن جاز التعبير، ولم تصدر كما كتبها مؤلفوها القدماء المجهولون. فقد كتبها هؤلاء بلغة عامية حيناً، ووسط بين العامية والعربية حيناً آخر، ولكن على "السجية" إن جاز التعبير.

أي انهم استخدموا أسلوب "الصراحة الكاملة" في الرواية دون أن يراعوا أي شيء آخر. فكأنهم كانوا يروون تلك الحكايات التي وضعوها على لسان شهر زاد، وكأن شهر زاد ترويها لأترابها وصديقاتها في مجالس خاصة، ولا ترويها في كتب معدة للقراءة العامة. ولكن الكثيرين احتجوا على هذا "التهذيب" الذي خضعت له "الليالي"، واعتبروا أنه يسيئ إليها ولا يُحسن على الإطلاق.

فـ"الليالي" حكايات شعبية في الأساس، لا روايات رصينة من نوع "المقامات" التي كتبها الحريري، أوبديع الزمان الهمذاني. ناهيك عن أن تجريدها من عفويتها الحكائية يلحق بها ضرراً كبيراً إذ يفقدها نكهتها الأصلية ومذاقها الخاص الذي لها في الأصل.

والواقع أن من يقرأ "الليالي" تلك القراءة المهذبة التي خضعت لها على يد مؤلفين عرب محدثين، منهم قدري قلعجي، يجدون أنها فقدت جوهرها الحكائي والفني على السواء، وبخاصة عنصر الصدق الذي يصاحب نصوصها.

ويبدو أن صراحتها الفجة كانت وراء عدم انتشارها عربياً لأن الكثير من الأُسر لا يرحبون بوصولها إلى بيوتهم وبيئاتهم. ولكن "الليالي" تمكنت في السنوات الأخيرة من أن تشق طريقها إلى عالم النشر العربي عبر أكثر من طبعة كانت أحدثها طبعة دار الكتب المصرية التي صدرت قبل أيام قليلة. وكانت صدرت ثلاث طبعات سابقة منها عن الدار المذكورة كانت تنفد بسرعة.

طُبع كتاب "ألف ليلة وليلة" لأول مرة بالأحرف العربية بمدينة كلكتا بالهند في جزءين. كان ذلك في المطبعة الهندوستانية وبرعاية كلية فورت وليام التي أصدرت الجزء الأول بعنوان حكايات مئة ليلة من ألف ليلة سنة 1814، واتبعته بالجزء الثاني الذي اشتمل على حكايات مئة ليلة وأخبار السندباد مع الهندباد سنة 1818. وكانت هذه الطبعة التي لم تنشر النص كاملاً البداية الفعلية التي مهدت الطريق أمام الطبعات الكاملة اللاحقة من "الليالي".

وكانت أولى هذه الطبعات الكاملة طبعة مدينة برسلاو بألمانيا التي ظهرت بعدها طبعة بولاق في مدينة القاهرة بمصر، ثم طبعة كلكتا الثانية بالهند، وذلك في التتابع التاريخي الذي سبقت فيه طبعة برسلاو غيرها من الطبعات الكاملة. فكانت البداية التي قرأ بواسطتها العالم كله الحكايات الكاملة، أو ما تصور أنه الحكايات الكاملة لكتاب ألف ليلة وليلة مطبوعة بالأحرف العربية للمرة الأولى.

يعود الفضل في إصدار هذه الطبعة للمستعرب الألماني مكسميليمان هانجت "1775- 1839" الذي درس العربية في المعهد البروسي ثم ذهب إلى باريس حيث تتلمذ على المستعرب الشهير دي ساسي "1758- 1838" وأتم الدرس عليه وعلى الأب روفائيل المصري إلى أن أجاد العربية. وعاد إلى موطنه حيث تولى تدريس العربية في المعهد البروسي بجامعة برسلاو.

ويبدو أن هانجت تفرغ قبل موته لإكمال ألف ليلة التي لم يمهله العمر لإصدار كل مجلداتها، فنهض بعبئها بعد وفاته هاينرخ فلايشر "1801- 1888" استاذ اللغات الشرقية في المدرسة العظمى الملكية في لاينبرغ بألمانيا.

وتتميز هذه الطبعة النفيسة من ليالي ألف ليلة بميزات ثلاث يشير إليها الدكتور جابر عصفور في المقدمة التي وضعها للطبعة العربية الجديدة أولاها من أنها الطبعة الأولى الكاملة "لليالي". فهي أسبق من طبعة بولاق الأولى "1835" والثانية "1862"، ومن طبعة كلكتا الثانية "1839- 1842"، فضلاً عن بقية الطبعات المتأخرة في القرن التاسع عشر، وأهمها طبعة المطبعة الوهبية "1880" والشرفية "1883" والعثمانية "1884" مروراً بطبعة الأباء اليسوعيين المهذبة في المطبعة الكاثوليكية في بيروت "1888" وانتهاء بطبعة دار الهلال المهذبة التي صدرت في القاهرة ابتداء من سنة 1900.

وقد استنت الطبعة البرسلاوية في حفاظها على الأصل ما تبعته فيها إلى حد ما الطبعتان الهندية والبولاقية وغيرهما من الطبعات اللاحقة التي لم يتدخل فيها المصححون سوى بتصويب الأخطاء اللغوية والاقتراب من الفصحى بما لا ينحرف بالنص عن وجهته الفنية. ولم يتحرج المشرفون على هذه الطبعات من مشاهد الجنس في الليالي، أو يظهرون أي لون من ألوان التزمت الأخلاقي إزاء بعض عباراتها أو كلماتها.

وقد مضت طبعات "الليالي" بعد طبعة برسلاو في هذا النهج على عادة السلف الصالح فلم يحذف العلماء المشرفون عليها شيئاً، ولم يتحرجوا من كلمة أو عبارة أو مشهد، ولم يتأثموا من ذكر أسماء الأعضاء التي ليس هناك إثم في ذكرها، مدركين المغزى والمرمى من وراء كل عبارة أو حكاية أو مشهد، حريصين على خصائص الحكي الذي يذهب بحلاوته التدخل في لغة السرد بالتغيير أو التعديل أو الحذف.

ولكن طبعة برسلاو مضت إلى أبعد من ذلك فحافظت على الأصل في أوضاعه اللغوية التي كان عليها. ومن هنا تأتي ميزتها الثانية، فقد نقلت الأصل الخطي كما هو، محافظة على لهجته العامية دون تغيير أو تحريف فيما هو ظاهر من النص المطبوع.

ولعل هانجت ومن بعده فلايشر أتبعا ما سبق أن قاله الجاحظ ومن بعده ابن قتيبة بخصوص إبقاء لغة النوادر والحكايات على حالها اللغوي الذي هو عليه، لأن الأعراب ربما سلب الحديث غير المعرب حسنه، وترجمة العامية إلى الفصحى تذهب بطلاوتها.

ولذلك حافظ هذان المستعربان على السرد العامي "لليالي"، ولم يفعلا ما فعله الشيخ عبدالرحمن الصفتي أو قطة العدوي أو الشيخ قطرية بالطبعات المصرية حين تدخلوا في المتن، وترجموا اللهجة العامية في السرد والحوار إلى لغة فصحى في حالات كثيرة.

هذه الميزة في طبعة برسلاو تجعلها أقرب إلى الروايات الشفاهية التي انتهت إليها حكايات ألف ليلة، وهي الحكايات التي كانت تُتناقل بواسطة الذاكرة أو بواسطة الكتابة التي تسجل الرواية الشفهية كما هي دون تدخل.

ويبدو أن نصوص ألف ليلة وليلة الأصلية- كما يضيف الدكتور جابر عصفور- انتقلت سريعاً من مرحلتها الكتابية الأولى وهي المرحلة التي لم تفارق الفصحى، كما يفترض، ولم تفارق الوظائف الرمزية الأولى للنص، فشاعت بين الجماهير التي أسهمت في إعادة انتاجها، الأمر الذي انتهى بها إلى أن تغدو نصاً شفاهياً شعبياً يكتسب من كل بيئة خصائص اللهجة السائدة فيها، ومن كل مجموعة من الرواة خصائصهم الأدائية، وهذا ملمح ظاهر في الطبعة البرسلاوية التي تحمل الكثير من تراكيب العامية المصرية ومفرداتها.

وهي تراكيب ومفردات يمكن أن تكشف الدراسة اللغوية المتأنية لها عن العصر الذي صيغت فيه أو الزمن الذي تنسب إليه. ويقول الدكتور جابر: أتصور أن هذه الطبعة كنز ثمين لعلماء فقه اللغة التاريخي من هذه الزاوية.

فهي تتيح لهم بخصائصها اللغوية مادة ثرية للدرس التاريخي المقارن الذي يكشف عن جانب من تاريخ اللهجات العامية في علاقتها بالفصحى التي اكتسبت خصائص مدينية لافتة.

والصلة بين هذا البعد اللغوي والبعد الأدائي وثيقة جداً، ذلك لأنه من خلال تجليات المروى عليه في نص هذه الطبعة يمكن أن يخرج دارسو الفنون الشعبية بملاحظات كثيرة مفيدة عن طرائق الأداء الشفاهي للحكي.

وهي طرائق تنطوي على بعض التساهل اللغوي الذي يبدو أنه انتقل إلى "مرتب الأحرف" الذي تساهل في الحفاظ على الأصل العامي، مع دقة التصويب، ففاته التدقيق في مجموعة من الأخطاء التي لم يستطع تداركها في ملاحق تصويب الأخطاء.

والواقع أن ترتيب الحكايات في هذه الطبعة، فضلاً عن عدد الحكايات نفسها وتفاصيلها، أمر آخر يستحق دراسة مفصلة من منظور المقارنة بين هذه الطبعة وغيرها من الطبعات، لملاحظة أوجه الاختلاف الدالة ومواضع الزيادة والنقصان التي لا تخلو من مغزى.

ويلحظ القارئ لهذه الطبعة ما تتميز به خاتمتها من زيادة دالة. فكل الطبعات المعروفة تنتهي بعفو الملك عن شهرزاد التي أصبح لها ثلاثة أولاد ذكور، ومكافأة أبيها الوزير وكامل الوزراء والأمراء وأرباب الدولة، وتزيينه للمدينة ثلاثين يوماً مع التصدق على الفقراء من الرعية الذين عاشوا في نعيم وحبور حتى أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.

ولكن تضيف طبعة برسلاو إلى ذلك أن شهريار أحضر المؤرخين والنسّاخ وأمرهم أن يكتبوا جميع ما جرى له مع زوجته من أوله إلى آخره فكتبوا ذلك، وسموها سيرة ألف ليلة التي جاءت في ثلاثين مجلداً، وضعها الملك في خزانته، وأقام مع أنسبائه من الملوك في ألذ عيش حتى انتقلوا إلى رحمة الله، وهدمت قصورهم، وتوارث الملوك أموالهم، إلى أن ملك بعدهم ملك عاقل عادل لبيب أديب محب للأخبار وخصوصاً سير الملوك والسلاطين. فوجد هذه السيرة العجيبة الغريبة، وهي ثلاثون مجلداً، فقرأ فيها إلى أن انتهى إلى آخرها، فتعجب مما سمعه من حديث وحكايات ونوادر ومواعظ وآثار وتذكار.

فأمر الناس أن يكتبوها وينشروها في جميع البلاد والأقاليم، فشاع ذكرها، وسموها "عجايب وغرايب ألف ليلة". وهذا ما انتهى إلينا من هذا الكتاب، فيما يقول متن هذه الطبعة. وهو قول يطرح على الدارسين أسئلة كثيرة ليس أقلها في الأهمية السؤال عن القسمة إلى ثلاثين مجلداً.

وتتميز هذه الطبعة بإشكال خاص ناقشه المستشرقون من منظور تقاليد الأمانة العلمية. وقد كشف محسن مهدي عن هذا الإشكال في اصدار طبعته التي صدرت عن ليدن بهولندا، ونبه إلى ما ذكره عنوان جزء من الأجزاء التي نشرها هانجت باللغة الألمانية من أنها"نُقلت عن نسخة خطية تونسية". وقد أوضح هانجت في مقدمة الجزء الأول المطبوعة بالألمانية أنه اقتنى هذه النسخة من عالم عربي تونسي اسمه م. النجار أرسلها له من تونس، في عشرة أجزاء مؤرخة 1144هـ "1731"م.

وقد قام المستشرق دانكان ماكدونالد بدراسة مفصلة لهذه الطبعة سنة 1909، فوجد أن النسخة التونسية المزعومة ليست إلا حديث خرافة، وأن هانجت تعمد اختلاق أسطورة في الأدب، وشوش الكتاب تشويشاً هائلاً. ومضى ماكدونالد يكشف تفصيلاً عن عمليات التلفيق التي قام بها هانجت في الخلط بين النسخ المختلفة، إلى جانب عمليات التدليس التي قسم معها "الليالي" تقسيماً لا يوجد في الأصل.

فكانت النتيجة طبعة لا قيمة لها من الناحية العلمية، ولا تصلح للاعتداد بها، حتى بوصفها رواية من الروايات. فيما يقول محسن مهدي الذي استبعد هذه الطبعة، ولم يعتمدها في تحقيقه الطبعة الفريدة التي نشرها معتمداً على أصول عربية أولى عن شركة بريل في ليدن سنة 1984م.

ترى هل كان هانجت يقوم بفعل غير أخلاقي من منظور الأمانة العلمية عندما تحدث عن نسخة خطية تونسية ليس لها وجود؟

الحكم العلمي الصارم في ذلك لا يقبل التخفيف. ولكن الحكم الفني قد يختلف نوعاً، خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا أن الرجل انتقلت إليه عدوى الروايات الشفاهية، فقام بما يقوم به الراوي الذي يؤلف من بين المرويات المعتمدة رواية خاصة به، كما لو كان يمارس دور المؤلف في الأداء الشعبي.

ويزيد من إمكان هذا الاحتمال ما نعرفه من أن مسألة إدماج نص أو نصوص مختلفة في نص الليالي أثناء الإعداد للطباعة مسألة متكررة في حالة "الليالي"، وموجودة على سبيل المثال في الطبعات الهندية التي أدمجت أكثر من نص في المتن الذي اعتمدته كل طبعة، فيما عدا الطبعات البولاقية التي التزم مصححوها بوحدة المتن الأصلي، حفاظاً على تقاليد النسخ والرواية التي تعلموها.

وعلى كل حال، فهذا الإشكال في طبعة برسلاو يطرح السؤال عن تسرب تقاليد الحكي الشفاهي من الرواة الشعبيين إلي المشرفين "من غير علماء الأزهر" على طباعة النص الذي لم يفارق شفاهيته وشعبيته، خصوصاً في هذه الطبعة التي تتميز بقربها الشديد من أصلها الشفاهي القابل للزيادة والنقصان. وفي ذلك وجه آخر من أوجه جاذبيتها لدى عشاق ألف ليلة وما أكثرهم!.


 
أعلى