نقوس المهدي
كاتب
(1)
يبدو كتاب (تاريخ القراءة) لـ "ألبرتو مانغويل"[1] كتابًا:
1- ماتعًا من جهة؛ فهو ينبش مقبرة جُثث القرّاء، قديمهم وحديثهم، ويُخرج عِظامهم، ويجعل منها حطبًا يتدفأ عليه القارئ البردان؛ إذ يستمتع أثناء قراءته بالحصول على كلّ هذا الحطب لشتاء القراءة الطويل والبديع، فجثث القُرَّاء تخرج تباعًا من جِراب التاريخ المعرفي الإنساني، وتأخذ حيّزًا لها في ذهن القارئ، فتحلّ حيواتها في رأسه الواحدة تلو الأخرى.
2- مُفارقًا من جهة ثانية؛ فذلك القارئ البردان لا يلبث أن يشعر بالاسترخاء وهو يقرأ كتاب (تاريخ القراءة)، ويتدفّأ على عِظام قُرّاء مثله من مختلف ثقافات العالَم، قديمها وحديثها؛ لذا من المحتمل أن تتحوّل عِظامه هو الآخر إلى حطبٍ يتدفّأ عليه قارئ آخر، لا سيما إذا ما أتى كاتب آخر، وأكمل مشروع "ألبرتو مانغويل" في تأريخ تاريخ القُرّاء، واستنهاض حيواتهم حتى بعد أن يموتوا، والعمل على نفخ الروح فيها من جديد؛ لتُساهم في دفء قرّاء آخرين لا زالوا على قيد الحياة. فهو في مرمى الاستهداف أساسًا، ولَكَم هو سعيد بهذا الاستهداف؛ إذ يمكن أن يتشارك مع إخوة له في نوعٍ من التعاضد المعنوي ولو بعد آلافٍ مؤلّفة من السنين.
ما بين المتعة في إخراج الجثث من مقبرة التاريخ المعرفي الإنساني وتشميس عظامها في هاجرة النهار، وبين المُفارقة في قبول القارئ، لحظة البدء في قراءة الكتاب، بأن يأتي أحد ويخرج جثّته هو الآخر، بعد زمن طويل، وتحويل عِظامه هو الآخر إلى حطب لكي يتدفأ عليه غيره من القرَّاء، يتولّد نوع من الشعور التواصلي بين ذواتٍ تَحِنُّ إلى بعضها البعض على مستوى اللاوعي، لكن لم يصار إلى تلقيح بويضاتها إلا في رَحِم كاتب ما، سيتجلّى لاحقًا على هيئة مولود جميل اسمه (تاريخ القراءة)؛ فهو كتاب يحمل إغراءً كبيرًا لناحية إغواء القارئ وإدخاله في جو لذيذ من الحميمية العقلية، إلى درجة يشعر مها أنه يتواصل جنسيًا، ولو على المستوى العقلي، مع حيوات لقرّاء كثيرين ومن مختلف الثقافات الإنسانية، بما يفتح المجال واسعًا لتجاوز إحداثية القهر؛ البيولوجي، العشائري، المجتمعي، الجغرافي، التاريخي، الإثني، الديني، الأيديولوجي، والاتصال بشركائه على المستوى الإنساني، أيًّا كانت ثقافاتهم ودياناتهم وعقائدهم واماكنهم وأزمانهم...الخ.
(2)
بموازاة كتاب (تاريخ القراءة) لـ "ألبرتو مانغويل" ثمّة فيلم سينمائي موسوم بـ The Reader من إخراج "ستيف دالدري" يتناوب فيه البطل والبطلة على ممارسة الجنس والقراءة تباعًا بعد علاقة حبّ تجمعهما معًا، رغم فارق السنّ بينهما.
ففي بداية العلاقة بينهما وقبل أن تتحوّل هذه العلاقة من دفقة جسمانية ميكانيكية محضة، يتبادلان فيها حاجتهما على المستوى البيولوجي المحض، إلى دفقة حسّية مُتعدّدة الأغراض، يأخذان، في البداية، بممارسة الجنس أولاً، ويؤكّدان تِلْكُم العلاقة الغرائزية بين الذكر والأنثى، سواء أكانت لإنسان أم لحيوان، ثمّ عندما تتطوّر هذه العلاقة، يقوم البطل بقراءة بعض الأعمال الأدبية، التي كانت من ضمن مقرّراته في المدرسة، للبطلة التي تُعاني من الأُمّية وعدم القدرة على القراءة، وفي فترة لاحقة، بعد أن تترسّخ العلاقة وتنتقل العلاقة بينهما من طور الفعل الجنسي الآلي، إلى طور الفعل الإنساني الراقي، الذي تقترن فيه البيولوجيا بالمشاعر والأحاسيس المُرهفة، يبدأ البطل بالقراءة لها أولًا ثم يمارسان الجنس لاحقًا، في تأكيد على التهيئة الجنسية العقلية[2] قبل الإقدام على الفعل الجنسي الجسدي، بما يشبه تركيب النشوة العقلية على الشهوة الجسدية. فلقد انبنى المعمار التواصلي بين البطل والبطلة على تطوّر حسّي ملحوظ بين ما هو جسدي وما هو عقلي أيضًا، ففي البداية، تقدّم الجسد على العقل، بما أبقى على الإنسان في مرحلة مهوشة وغرائزية تفتقد إلى ما هو عميق على المستوى الشعوري، فالذكر، بصيغته الحيوانية، بحاجةٍ أساسًا إلى الأنثى، كما الأنثى، بصيغتها الحيوانية، تحتاج إلى الذكر على المستوى البيولوجي، وهذا شيء تشترك فيه جميع الحيوانات. لكن انبناءً لمعمار حِبِّي بينهما، سينقل هذا العلاقة إلى مرحلة جديدة، تتسامى على ما هو بيولوجي محض، فترتقي إلى ما هو إنساني أيضًا، ولقد تجلّى هذا التسامي في الفيلم المذكور بفعل (القراءة) الذي تمظهر في العلاقة بين البطل والبطلة، وأخذ يُهيّئ لما هو أعمق بينهما، إلى درجة تحوّل فعل القراءة إلى فعل جنسي لكن على المستوى العقلي، بما يضع هذا الفعل الراقي في مصافّ الإبداعات البشرية الكبرى، ورحلة الكفاح الطويلة التي خاضها الإنسان ليُؤنسن علاقاته، ويدفع بها باتجاهات تتجاوز العلاقات البيولوجية التي رسّخته كحيوانٍ نشط، إلى ما هو أعمق وأجمل وأرقى بما يُرسّخ قيمته كإنسانٍ فاعل أيضًا.
(3)
كما أن الجسد الذكوري بحاجةٍ إلى جسدٍ أنثوي؛ لكي تتولّد شرارة اللذة بينهما بما يُفضي إلى تناسلٍ في الأجساد، يصبح قادرًا على رفد الحياة البشرية بعددٍ كافٍ من الناس، للاضطلاع بعمارة الأرض وتنشيط دورة الحياة الحضارية في الزمن والمكان، فإنَّ العقل بحاجةٍ، هو الآخر، إلى عقل آخر لكي تنقدح شرارة الإبداع فيه، بما يعزّز القيمة المعنوية للإنسان في هذا العالَم، كما القيمة المادية، والدفع باتجاه مساحات جديدة من الإبداع الذي ما كان له أن يكون لولا الاحتكاك بعقولٍ أخرى، والاكتفاء بما يضفيه العقل الأحادي على مسيرة الحضارة الإنسانية، ولقد وفّر فعل القراءة مساحة جدّ هامة للتواصل بين العقول، وإضفاء معنى أعمق على طبيعة العلاقة التي تحتكم إليها؛ إذ أمكن لمُدونة الخبرات الإنسانية المتموضعة في النصوص الأدبية والدينية والعلمية والفلسفية، أن ترفد المرء بخبرة هائلة تجعل من عقله رَحِمًا مُهيّأً للخصوبة والولادة الإبداعية بالتالي.
لكن سيكون النشاط الأبرز للإنسان على المستوى الحضاري؛ هو الجمع بين ما هو جسدي وما هو عقلي معًا دونما استبعاد طرفٍ على حساب الطرف الآخر، الجمع بين فعلي الجنس والقراءة معًا، بين نشوة العقل وشهوة الجسد، أو بالأحرى تحويل الجنس إلى نشاط عقلي وجسدي معًا، بحيث يتم تهيئة العقل لولادة العالَم كما يُهيّأ الرَحِم لولادة الإنسان؛ إذ يصير فعل القراءة بما هي ممارسة جنسية أساسًا بين القارئ والنص، فعلًا تواصليًّا بين ولادتين:
1- ولادة الإنسان ولادةً على مستوى الوعي الراقي؛ فهو يتسامى على سياقاته الحيوانية، ويتواصل مع مَلَكاته الإنسانية تحديدًا.
2- ولادة العالَم ولادة جديدة، بما يتجاوز الولادات السابقة لعقولٍ أخرى؛ إذ تصير الحضارة في مرمى العقل الإنساني وقدرته على توليد سياقات جديدة، من شأنها خدمة المشروع الحضاري الإنساني في عموميته.
وعليه، فمشروع القراءة والجنس ومحاولة الجمع بينهما في سياق واحد؛ هو استثمار بالإنسان على المستوى الحضاري، ودفع باتجاه تأكيد قيمتي الإنسان البيولوجية والإبيستمولوجية، فهو إذ يتأكّد في القراءة كعملية جنسية، كفعل بين عقل المُؤلّف على الإطلاق بعيدًا عن أيّ تصنيفات قَبْلية، وعقل القارئ على الإطلاق بعيدًا عن أيّ تصنيفات قَبْلية، وفي الجنس كعملية قرائية للطرف الآخر، الأنثى للذكر والذكر للأنثى، بما يجعل منهما إنسانًا واحدًا، يبحث عن نقصه الوجودي لدى الآخر، تكميلًا واستكمالًا للدورة الحضارية التي لا يمكن لها أن تقوم إلا على أكتاف الإنسان، ذكرًا وأنثى، جنبًا إلى جنب بعيدًا عن أي استبعادات مُضرّة ومؤذية.
وهو إذ يتأكّد في نسقي القراءة والجنس معًا؛ فإنّه يتحقّق في الجنس كقراءةٍ حضارية بالدرجة الأولى، تجعله مُتصلًا بالإنسانية جمعاء وإن كان يمارسها مع أناس بعينهم، وفي القراءة كجنسٍ راقٍ بين عقول شتّى من مختلف الثقافات والحضارات والديانات. وما أحوج الإنسان، أيًّا كانت ديانته أو ثقافته أو طائفته أو مذهبه أو أيديولوجيته، إلى أن يتحقّق في هذه الثنائية؛ لما تنطوي عليه من متعةٍ هائلةٍ، ستجعل منه كائنًا عابرًا للأزمان والأذهان، حتى وهو يراوح في زمنٍ بعينه ومكانٍ بعينه.
[1] لقد اهتم "ألبرتو مانغويل" بموضوع القراءة عمومًا؛ فله مساهمات عديدة في هذا الشأن، منها: (يوميات القراءة) (المكتبة في الليل)، لكن يبقى لكتابه (تاريخ القراءة) ميزة خاصة، نظرًا لتأريخه لتاريخ يكاد يكون شبه منسي لدى الكثيرين، وسرده لهذا التاريخ على هيئة حكاية جميلة وبهية.
[2] لربما حملت سورة (العلق) في النص القرآني إلماحًا ذكيًّا في هذا الشأن، تحديدًا في بداياتها:
{اِقْرَأ باسْمِ ربِّكَ الذي خَلَق (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَق (2) اِقْرَأ وَرَبُّكَ الأَكْرَم (3) الذي عَلَّم بالقَلَم (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم...}
فالقراءة فعل آت قبل الخلق؛ أي أن النشوة العقلية تسبق الشهوة الجسدية، بما يتسامى بهذه الشهوة، ويجعل منها فعلًا إبداعيًّا بالدّرجة الأولى، فالبيولوجيا تقترن بالإبيستمولوجيا، أثناء معاقرة الوجود الإنساني، بطريقة تجعل منه وجودًا لذيذًا، وأقرب ما يكون إلى الممارسة الجنسية الراقية، المليئة بالمشاعر والأحاسيس.
يبدو كتاب (تاريخ القراءة) لـ "ألبرتو مانغويل"[1] كتابًا:
1- ماتعًا من جهة؛ فهو ينبش مقبرة جُثث القرّاء، قديمهم وحديثهم، ويُخرج عِظامهم، ويجعل منها حطبًا يتدفأ عليه القارئ البردان؛ إذ يستمتع أثناء قراءته بالحصول على كلّ هذا الحطب لشتاء القراءة الطويل والبديع، فجثث القُرَّاء تخرج تباعًا من جِراب التاريخ المعرفي الإنساني، وتأخذ حيّزًا لها في ذهن القارئ، فتحلّ حيواتها في رأسه الواحدة تلو الأخرى.
2- مُفارقًا من جهة ثانية؛ فذلك القارئ البردان لا يلبث أن يشعر بالاسترخاء وهو يقرأ كتاب (تاريخ القراءة)، ويتدفّأ على عِظام قُرّاء مثله من مختلف ثقافات العالَم، قديمها وحديثها؛ لذا من المحتمل أن تتحوّل عِظامه هو الآخر إلى حطبٍ يتدفّأ عليه قارئ آخر، لا سيما إذا ما أتى كاتب آخر، وأكمل مشروع "ألبرتو مانغويل" في تأريخ تاريخ القُرّاء، واستنهاض حيواتهم حتى بعد أن يموتوا، والعمل على نفخ الروح فيها من جديد؛ لتُساهم في دفء قرّاء آخرين لا زالوا على قيد الحياة. فهو في مرمى الاستهداف أساسًا، ولَكَم هو سعيد بهذا الاستهداف؛ إذ يمكن أن يتشارك مع إخوة له في نوعٍ من التعاضد المعنوي ولو بعد آلافٍ مؤلّفة من السنين.
ما بين المتعة في إخراج الجثث من مقبرة التاريخ المعرفي الإنساني وتشميس عظامها في هاجرة النهار، وبين المُفارقة في قبول القارئ، لحظة البدء في قراءة الكتاب، بأن يأتي أحد ويخرج جثّته هو الآخر، بعد زمن طويل، وتحويل عِظامه هو الآخر إلى حطب لكي يتدفأ عليه غيره من القرَّاء، يتولّد نوع من الشعور التواصلي بين ذواتٍ تَحِنُّ إلى بعضها البعض على مستوى اللاوعي، لكن لم يصار إلى تلقيح بويضاتها إلا في رَحِم كاتب ما، سيتجلّى لاحقًا على هيئة مولود جميل اسمه (تاريخ القراءة)؛ فهو كتاب يحمل إغراءً كبيرًا لناحية إغواء القارئ وإدخاله في جو لذيذ من الحميمية العقلية، إلى درجة يشعر مها أنه يتواصل جنسيًا، ولو على المستوى العقلي، مع حيوات لقرّاء كثيرين ومن مختلف الثقافات الإنسانية، بما يفتح المجال واسعًا لتجاوز إحداثية القهر؛ البيولوجي، العشائري، المجتمعي، الجغرافي، التاريخي، الإثني، الديني، الأيديولوجي، والاتصال بشركائه على المستوى الإنساني، أيًّا كانت ثقافاتهم ودياناتهم وعقائدهم واماكنهم وأزمانهم...الخ.
(2)
بموازاة كتاب (تاريخ القراءة) لـ "ألبرتو مانغويل" ثمّة فيلم سينمائي موسوم بـ The Reader من إخراج "ستيف دالدري" يتناوب فيه البطل والبطلة على ممارسة الجنس والقراءة تباعًا بعد علاقة حبّ تجمعهما معًا، رغم فارق السنّ بينهما.
ففي بداية العلاقة بينهما وقبل أن تتحوّل هذه العلاقة من دفقة جسمانية ميكانيكية محضة، يتبادلان فيها حاجتهما على المستوى البيولوجي المحض، إلى دفقة حسّية مُتعدّدة الأغراض، يأخذان، في البداية، بممارسة الجنس أولاً، ويؤكّدان تِلْكُم العلاقة الغرائزية بين الذكر والأنثى، سواء أكانت لإنسان أم لحيوان، ثمّ عندما تتطوّر هذه العلاقة، يقوم البطل بقراءة بعض الأعمال الأدبية، التي كانت من ضمن مقرّراته في المدرسة، للبطلة التي تُعاني من الأُمّية وعدم القدرة على القراءة، وفي فترة لاحقة، بعد أن تترسّخ العلاقة وتنتقل العلاقة بينهما من طور الفعل الجنسي الآلي، إلى طور الفعل الإنساني الراقي، الذي تقترن فيه البيولوجيا بالمشاعر والأحاسيس المُرهفة، يبدأ البطل بالقراءة لها أولًا ثم يمارسان الجنس لاحقًا، في تأكيد على التهيئة الجنسية العقلية[2] قبل الإقدام على الفعل الجنسي الجسدي، بما يشبه تركيب النشوة العقلية على الشهوة الجسدية. فلقد انبنى المعمار التواصلي بين البطل والبطلة على تطوّر حسّي ملحوظ بين ما هو جسدي وما هو عقلي أيضًا، ففي البداية، تقدّم الجسد على العقل، بما أبقى على الإنسان في مرحلة مهوشة وغرائزية تفتقد إلى ما هو عميق على المستوى الشعوري، فالذكر، بصيغته الحيوانية، بحاجةٍ أساسًا إلى الأنثى، كما الأنثى، بصيغتها الحيوانية، تحتاج إلى الذكر على المستوى البيولوجي، وهذا شيء تشترك فيه جميع الحيوانات. لكن انبناءً لمعمار حِبِّي بينهما، سينقل هذا العلاقة إلى مرحلة جديدة، تتسامى على ما هو بيولوجي محض، فترتقي إلى ما هو إنساني أيضًا، ولقد تجلّى هذا التسامي في الفيلم المذكور بفعل (القراءة) الذي تمظهر في العلاقة بين البطل والبطلة، وأخذ يُهيّئ لما هو أعمق بينهما، إلى درجة تحوّل فعل القراءة إلى فعل جنسي لكن على المستوى العقلي، بما يضع هذا الفعل الراقي في مصافّ الإبداعات البشرية الكبرى، ورحلة الكفاح الطويلة التي خاضها الإنسان ليُؤنسن علاقاته، ويدفع بها باتجاهات تتجاوز العلاقات البيولوجية التي رسّخته كحيوانٍ نشط، إلى ما هو أعمق وأجمل وأرقى بما يُرسّخ قيمته كإنسانٍ فاعل أيضًا.
(3)
كما أن الجسد الذكوري بحاجةٍ إلى جسدٍ أنثوي؛ لكي تتولّد شرارة اللذة بينهما بما يُفضي إلى تناسلٍ في الأجساد، يصبح قادرًا على رفد الحياة البشرية بعددٍ كافٍ من الناس، للاضطلاع بعمارة الأرض وتنشيط دورة الحياة الحضارية في الزمن والمكان، فإنَّ العقل بحاجةٍ، هو الآخر، إلى عقل آخر لكي تنقدح شرارة الإبداع فيه، بما يعزّز القيمة المعنوية للإنسان في هذا العالَم، كما القيمة المادية، والدفع باتجاه مساحات جديدة من الإبداع الذي ما كان له أن يكون لولا الاحتكاك بعقولٍ أخرى، والاكتفاء بما يضفيه العقل الأحادي على مسيرة الحضارة الإنسانية، ولقد وفّر فعل القراءة مساحة جدّ هامة للتواصل بين العقول، وإضفاء معنى أعمق على طبيعة العلاقة التي تحتكم إليها؛ إذ أمكن لمُدونة الخبرات الإنسانية المتموضعة في النصوص الأدبية والدينية والعلمية والفلسفية، أن ترفد المرء بخبرة هائلة تجعل من عقله رَحِمًا مُهيّأً للخصوبة والولادة الإبداعية بالتالي.
لكن سيكون النشاط الأبرز للإنسان على المستوى الحضاري؛ هو الجمع بين ما هو جسدي وما هو عقلي معًا دونما استبعاد طرفٍ على حساب الطرف الآخر، الجمع بين فعلي الجنس والقراءة معًا، بين نشوة العقل وشهوة الجسد، أو بالأحرى تحويل الجنس إلى نشاط عقلي وجسدي معًا، بحيث يتم تهيئة العقل لولادة العالَم كما يُهيّأ الرَحِم لولادة الإنسان؛ إذ يصير فعل القراءة بما هي ممارسة جنسية أساسًا بين القارئ والنص، فعلًا تواصليًّا بين ولادتين:
1- ولادة الإنسان ولادةً على مستوى الوعي الراقي؛ فهو يتسامى على سياقاته الحيوانية، ويتواصل مع مَلَكاته الإنسانية تحديدًا.
2- ولادة العالَم ولادة جديدة، بما يتجاوز الولادات السابقة لعقولٍ أخرى؛ إذ تصير الحضارة في مرمى العقل الإنساني وقدرته على توليد سياقات جديدة، من شأنها خدمة المشروع الحضاري الإنساني في عموميته.
وعليه، فمشروع القراءة والجنس ومحاولة الجمع بينهما في سياق واحد؛ هو استثمار بالإنسان على المستوى الحضاري، ودفع باتجاه تأكيد قيمتي الإنسان البيولوجية والإبيستمولوجية، فهو إذ يتأكّد في القراءة كعملية جنسية، كفعل بين عقل المُؤلّف على الإطلاق بعيدًا عن أيّ تصنيفات قَبْلية، وعقل القارئ على الإطلاق بعيدًا عن أيّ تصنيفات قَبْلية، وفي الجنس كعملية قرائية للطرف الآخر، الأنثى للذكر والذكر للأنثى، بما يجعل منهما إنسانًا واحدًا، يبحث عن نقصه الوجودي لدى الآخر، تكميلًا واستكمالًا للدورة الحضارية التي لا يمكن لها أن تقوم إلا على أكتاف الإنسان، ذكرًا وأنثى، جنبًا إلى جنب بعيدًا عن أي استبعادات مُضرّة ومؤذية.
وهو إذ يتأكّد في نسقي القراءة والجنس معًا؛ فإنّه يتحقّق في الجنس كقراءةٍ حضارية بالدرجة الأولى، تجعله مُتصلًا بالإنسانية جمعاء وإن كان يمارسها مع أناس بعينهم، وفي القراءة كجنسٍ راقٍ بين عقول شتّى من مختلف الثقافات والحضارات والديانات. وما أحوج الإنسان، أيًّا كانت ديانته أو ثقافته أو طائفته أو مذهبه أو أيديولوجيته، إلى أن يتحقّق في هذه الثنائية؛ لما تنطوي عليه من متعةٍ هائلةٍ، ستجعل منه كائنًا عابرًا للأزمان والأذهان، حتى وهو يراوح في زمنٍ بعينه ومكانٍ بعينه.
[1] لقد اهتم "ألبرتو مانغويل" بموضوع القراءة عمومًا؛ فله مساهمات عديدة في هذا الشأن، منها: (يوميات القراءة) (المكتبة في الليل)، لكن يبقى لكتابه (تاريخ القراءة) ميزة خاصة، نظرًا لتأريخه لتاريخ يكاد يكون شبه منسي لدى الكثيرين، وسرده لهذا التاريخ على هيئة حكاية جميلة وبهية.
[2] لربما حملت سورة (العلق) في النص القرآني إلماحًا ذكيًّا في هذا الشأن، تحديدًا في بداياتها:
{اِقْرَأ باسْمِ ربِّكَ الذي خَلَق (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَق (2) اِقْرَأ وَرَبُّكَ الأَكْرَم (3) الذي عَلَّم بالقَلَم (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم...}
فالقراءة فعل آت قبل الخلق؛ أي أن النشوة العقلية تسبق الشهوة الجسدية، بما يتسامى بهذه الشهوة، ويجعل منها فعلًا إبداعيًّا بالدّرجة الأولى، فالبيولوجيا تقترن بالإبيستمولوجيا، أثناء معاقرة الوجود الإنساني، بطريقة تجعل منه وجودًا لذيذًا، وأقرب ما يكون إلى الممارسة الجنسية الراقية، المليئة بالمشاعر والأحاسيس.