نقوس المهدي
كاتب
علاقتي بست الحسن والجمال أقدم من علاقتي بشهرزاد وإن كانت الأخيرة أعمق تأثيراً في العقل والوجدان . كانت » ست الحسن والجمال « هي بطلة كل الحواديت التي حكتها أمي . ويبدو أن كل أم مصرية كان عليها أن تتزود بكم هائل من الحكايات ويبدو كذلك أن الحكايات الشعبية برصيدها ذاك الهائل كانت هي الأسلوب التربوي الأمثل لتنشئة الأولاد قبل نشأة المدارس النظامية . أما اليوم فإن عبارة » حواديت أمي « ، أو » حواديت جدتي « لم تعد تتردد بين الأجيال المعاصرة إلا فيما ندر . ذلك أن أمهات العصر الراهن، عصر ازدهار وسائل الاتصال الجماهيري، لم يعد لديهن متسع من الوقت أو من الذهن لحكي حكايات أو حتي لتبادل أي حوار خلاق مع أطفالهن المساكين، فرصيدهن من الحكايات التي زودتهن به أمهاتهن قد اجتاحته معطيات جديدة نضبتها وسائل الاتصال الجماهيري بلا انقطاع ليل نهار . فبطبيعة الحال لابد لهذا الطوفان المتدفق من المثيرات الجديدة والمعلومات المبهرة والاكتشافات والتراكيب البلهوانية واختلاط الواقع بالخيال في المخترعات التكنولوجية الحديثة المتمثلة في أشياء نستعملها فتقرب المسافات وتستدعي الصور والأشخاص، أن يصرف عقل المرء عن تراثه القومي حتي إن ظل مرتبطاً به ارتباطاً شكلياً . شاعراً باغتراب وجداني الشعبي طفقت أسعي للقاء » ست الحسن والجمال « وفي جعبتي أشواق وأسئلة أود أن أطرحها عليها علني أجد لديها إجابات شافية . لكن المشكلة ليست في أنني لا أعرف عنوانها، إنما المشكلة أنني أعرف لها عناوين كثيرة جداً إلا أنه من الصعب معرفة محل إقامتها علي وجه التحديد . ثم إنها لا تمكث في مكان واحد كثيراً، ولا مع الشاطر الواحد إلا بمقدار ما يتجاوز أزمته ويكمل طريقه إلي النصر كأحلي ما يكون، لتلحق هي بحبيب آخر علي ربوة أخري من ربي الأحلام والأمجاد، فكل أحبائها شطار . وهي في حياة كل شاطر منهم حبيبة وأم في نفس الآن . فهل تراها اليوم مع الشاطر حسن - أشهر شطار الحواديت المصرية قاطبة، أم مع الشاطر علي، أم تراها نزلت إلي شطار معاصرين مثل الشاطر الأسطي حسن الميكانيكي، أو الشاطر المعلم عباس أبو فلنكة، أو الشاطر مخيمر بطل أفلام الهلس وغناء العري والمسرحيات الهزلية؟ ثم وجف قلبي فجأة كأنني اجترأت علي عفاف ست الحسن والجمال . في الحال أنبت نفسي قائلاً إن هذا عيب، فست الحسن والجمال لا تعرف هذا النوع من الشطار، فتشت في الذاكرة عن الأماكن التي التقي فيها الشطار ست الحسن، فقامت في مخيلتي حدائق نخيل وأشجار وقمم جبال وأسواق، وبيوت طينية ما تلبث حتي تصير قصوراً تتبختر فيها ست الحسن والجمال . سافر خيالي إلي حيث تتوفر الأشجار والمساحات الخضراء، فإذا المساحة الخضراء قد ضؤلت في الواقع بفعل التجريف المتواصل للأرض من أجل الحصول علي طوب يبنون به العمائر المرشحة للانهيار فوق رؤوس ساكنيها، ثم إن الأشجار المتبقية علي الأرض قد هرمت وشاخت وتسوست جذورها من فرط الجفاف والإهمال، فاختفي عبير ست الحسن، وليس من جبل سوي المقطم الذي شاخ هو الآخر وباشت رواسيه في مياه الصرف غير الصحي، أما الأسواق فلم تعد أسواقاً بل محلات متفرنجة تسلب نقود الناس القليلة مقابل بضائع تالفة تقضي علي حياتهم . كدت أيأس من لقاء ست الحسن لولا أن خاطراً أشرق في مخيلتي ليذكرني بأن جميع الشطار من رعايا ست الحسن وعشاقها قد أفرزتهم أوضاع أشد قسوة وانحطاطاً مما نحن فيه اليوم، قاموا بأعمال استحقوا عليها حب ست الحسن والجمال . لحظتئذ كنت أجلس في قبو قديم من أقبية مصر المملوكية العتيقة أحتسي الشاي الأخضر مع النارجيلة؛ أفكر فيما آل إليه حالنا من تدهور . دخان النارجيلة يتلوي ويتصاعد ويتكاثف يغلف جو القبو بضباب أسطوري مثير للخيال كأزمنة ألف ليلة وليلة وحواديت ست الحسن والجمال . رأيت بين سحب الدخان خيالاً شجياً راح يتجسد شيئاً فشيئاً كشبح الصورة الفوتوغرافية قبل تحميضها، سرعان ما انجلت الملامح فإذا هي فتاة مصرية الدم والتقاطيع فيها من البدو والحضر والفلاحين خلطة جذابة شهية، ما لبثت حتي استوت جالسة أمامي وعلي ثغرها ابتسامة عريضة . قالت : نريد أن تعرف من أنا علي وجه الدقة .. قلت : نعم . قالت : أنا عبقرية الشعب المصري، مثلي مثل إيزيس وشهرزاد خلقنا خيال الشعب وصب فينا لحمه ودمه، لكي نقوم بوظيفة تربوية وأخلاقية كبيرة، فحين أراد الشعب المصري تسجيل قيمه العظيمة وخبراته الاجتماعية والتارخية ومكابداته الفكرية والشعورية أوجدنا ليلعب هذا الدور من خلالنا، وقد نضجت شخصياتنا علي مر العصور والأخيلة حتي لم نعد مجرد أفكار خيالية بل أصبحنا شخصيات حقيقية . قلت : فما سر ارتباطك بالشطار أهو غرامك بهم يدفعك إلي احتضانهم وتأريق لياليهم من فرط الجوي؟ اتسعت ابتسامتها فومضت الغمازتان في خديها، قالت : وظيفتي في كل الحواديت التي سمعتها مني كانت من أجل هداية الشطار وترشيدهم لا أكثر ولا أقل، فكأنني المكافأة المأمولة لكل بطل يتفاني في خدمة المبدأ الإنساني علي أي نحو من الأنحاء، كنت غراماً، لكن لم تكن حياتي في كل القصص مع كل الشطار مجرد حكايات حب وغرام وخلفة صبيان وبنات وعيش بعد ذلك في النبات والتبات . قلت : جملة اعتراضية من فضلك، ما معني كلمة التبات هذه التي نسمعها في كل حدوتة كنهاية سعيدة؟ قالت : أما النبات فأمره معروف، وأما التبات فمعناها الثبات أي الاستقرار إذا انتبهنا إلي لحن العامة في تحويل حرف الثاء إلي تاء . قلت : أفادك الله . أكملي . قالت : لعلك تعرف ما معني الشاطر؟ قلت : الشاطر في نظر الجميع معناه الولد الناجح المدردح، المفتح، الذي لا ينضحك عليه ولا يفرط في حقوقه أو حقوق من يلوذ به، لديه خبرات وحيل لا تنتهي، ونحن جميعاً نصف أولادنا الناجحين بالشطار، ومعلم المدرسة إذا أعجبته نباهة تلميذ قال له : شاطر، فكأنه قال له أنت بطل من أبطال الغد . صفقت ست الحسن بيدها في مرح وفرح كبيرين، قالت : أرأيت؟ هذه بعض جهودي، فالحمد لله، لقد نجحت بطولاتي وأثمرت حكاياتي؛ أما الآن أشد علي يد الشعب المصري الذي حقق لي الخلود من ناحية وقام بتقويم اعوجاج الأمور من ناحية أخري ! قلت : مهلك يا ست الحسن، ما هو هذا النجاح الذي تقصدين؟ قالت : لقد نجحت في تطهير المحتوي الإنساني لشخصية الشاطر فتحول معني اللفظ عن دلالته السيئة إلي دلالة مشرقة، لقد أصبح الشاطر لقباً تفتخرون به في أزمنتكم المعاصرة بعد أن كان سبة في جبين المجتمعات المستقرة الآمنة، هو الذي كان معروفاً بالدهاء والخبث، ثم استدركت : لكي تفهم كلامي يجب أن تذكر أن معني كلمة الشاطر، لغوياً، من أعيا أهله، ويقال شطر علي أهله بمعني نزح وترك، والشطارة : الانفصال والابتعاد، والشاطر هو الذي عصا أباه وولي أمره وعاش في الخلاعة، وشطر فلان شطارة يعني اتصف بالدهاء والخيانة .