خيري شلبي - ألف ليلة وليلة تشعل الخيال العلمي في العالم

كان كتاب ( ألف ليلة وليلة ) - وهو في محتواه الاجتماعي والفني محسوب ضمن الفلكلور المصري - مخاضاً فنياً عظيماً لهذا التقدم العلمي الذي أحرزته البشرية طوال العهود الماضية التي يؤرخ لها بعصر النهضة الأوروبية، حيث بدأ العلم يعطي ثماره التكنولوجية الرهيبة . إن ذلك الخاتم الذي يدعكه المرء فيصعد منه خادم مارد يقول : شبيك لبيك عبدك بين يديك؛ ثم يحقق له ما يشاء من مطالب مهما كانت خارقة ومستحيلة؛ ما هو إلا ذلك الزر الذي أصبحنا نلمسه فتحضر علي الشاشة مباراة لكأس العالم في أقصي الأرض فيما نحن جلوس علي مصاطبنا في القري؛ أو نلمسه فيحملنا بساط الريح - الذي أصبح اسمه الطائرة أو الصاروخ - إلي أبعد القارات أو إلي كوكب القمر وكوكب المريخ بحيث يرانا أهالينا ونحن صعود في نفس اللحظة ويروننا ندوس بأقدامنا فوق سطح كوكب معلق في الفضاء . بل إن ( ألف ليلة وليلة ) قد تنبأت بالطاقة النووية وخطورة شأن من يملكها . إن رمز الخاتم السحري هو ما أصبح الآن حقيقة واقعة . فلو كان الخاتم في يد شرير دمر به الكون وأحرق الأخضر واليابس . ولو كان في يد خيرة رحيمة ملأ بها الكون زهراً وزاداً ومتعة وعدالة . تعالوا نتأمل قول خادم الرَصَد الذي يطلع لمعروف الإسكافي بمجرد دعكه للخاتم، إذ يقول بتلقائية محضة ودون تضمين دلالي مقصود : » شبيك لبيك يا سيدي فاطلب تعط ! هل تريد أن تعمر بلدا؟ أو تخرب مدينة؟ أو تقتل ملكاً؟ أو تحفر نهراً؟ أو نحو ذلك؟ فمهما طلبت فإنه قد صار بإذن الملك الجبار خالق الليل والنهار !«. فيقول له معروف الإسكافي: » يا مخلوق ربي من أنت وما تكون؟ «. قال : » أنا خادم هذا الخاتم القائم بخدمة مالكه، فمهما طلب من الأغراض قضيته له ولا عذر لي فيما يأمرني به فإني سلطان علي أعوان من الجان وعدة عسكري اثنتان وسبعون قبيلة كل قبيلة عدتها اثنان وسبعون ألفاً وكل واحد من الألف يحكم علي ألف مارد وكل مارد يحكم علي ألف عون وكل عون يحكم علي ألف شيطان وكل شيطان يحكم علي ألف جني وكلهم من تحت طاعتي ولا يقدرون علي مخالفتي وأنا مرصود لهذا الخاتم لا أقدر علي مخالفة من ملكه !«. ثم يقول له أيضاً : » إني سميع لقولك مطيع لأمرك إذا احتجت إلىَّ في أي وقت في البر أو في البحر فادعك هذا الخاتم تجدني عندك وإياك أن تدعكه مرتين متواليتين فتُحرق بنار الأسماء وتعدمني وتندم علي ما فاتك !«. هذه القوي الشيطانية الرهيبة لم تكن مجرد شطح من تخاريف العامة، كما أنها لم تكن مجرد حكايات غثة يقصد من ورائها التسلية والترفيه والإثارة . أبداً لم تكن كذلك وإن كُتبت بلغة العامة علي أحوالهم وأمورهم، مآسيهم وأفراحهم ومباذلهم . ولئن كانت هذه الحكايات مليئة بالسلاطين والملوك والقادة والمردة فإنها أولاً وأخيراً تسجيل لحياة العامة . العامة هم أبطال قصصها الضاربة فيهم حتي النخاع . وهذا ناشر الطبعة المصرية العتيقة الصفراء المكونة من أربعة مجلدات التي ورثتها منذ سبعين عاماً وعمرها من عمر المطبعة اليدوية - وهي الطبعة التي أتعامل معها - يصف الليالي علي الغلاف بأنها : » الكتاب الجامع من محاسن الأخبار العجب العجاب المتضمن لفنون من النوادر والآثار والآداب الشارح لأحوال العصور الوسطي الإسلامية والممثل لأخلاق أهلها ومعاملتهم وعاداتهم الأهلية «. والرأي عندي أن هذا الوصف يحمل قدراً كبيراً جداً من الحقيقة، فإننا واجدون في ألف ليلة وليلة ذروة المد الثقافي العربي واتساع نطاقه في العالم الإسلامي عن طريق هذه الثقافة الشعبية الوجدانية الإنشائية التي تغلغلت ليس في الوجدان الإسلامي كله فحسب، بل في وجدان العالم أجمع علي مختلف لغاته وثقافاته . إن الصياغة المصرية لليالي ليست متمثلة في اللهجة المصرية أو عامية الفصحي العربية بل تمثلت أكثر في الخيال الحضري الزراعي، وفي هذا الزخم الهائل من الشخصيات والحرف والحراك الاجتماعي والمواقف المثيرة كل ذلك جعل من هذا الشلال المتدفق بالحكايا صرحاً فنياً متكاملاً شديد الثراء بالمعطيات والدلالات، بل جعل منه - دونما اعتذار للمؤدين الخجولين من أبناء الطبقة المتوسطة الذي ينخدش حياؤهم من مفردات بعينها ! - كتاباً تعليمياً تربوياً بالدرجة الأولي يهدف إلي تهذيب البشر وتقويم النفس الإنسانية . ذلك أن تقويم النفوس لا يتأتي باستبعاد الألفاظ الخادشة والمناظر القبيحة بل يتأتي بفحص الدمامل وتطهيرها وكشف خبايا الجراثيم النفسية المتأصلة في النفوس بسبب من سوء التربية أو سوء الأحوال . فكتاب ألف ليلة وليلة إذن هو كتاب الشعب المصري قال فيه ما عجز العمل السياسي عن قوله أو فعله . وهو ليس كتاباً انتقادياً فحسب وإنما هو قبل ذلك وبعده كتاب إصلاحي يستشرف آفاق المستقبل ويدعو إلي تحرير المرأة وتعليمها وتثقيفها وتقديرها إلي أبعد الحدود لتكون مثل شهرزاد قادرة علي حماية نفسها وعلي تربية وتهذيب الرجال حتي وإن كانوا الغناة . إن شهرزاد التي أصلحت حال الملك شهريار وردته إلي الإنسانية تكاد تكون صورة حديثة من إيزيس المصرية . الخيال المصري الشعبي رمز بهذه القوي الشيطانية إلي التقدم العلمي المنتظر، وبثّ في الحكايات دعوة لاستخدامه في تحقيق العدالة الاجتماعية . لكأن خيال القاص المصري كان ينبه من بيدهم القوة التقليدية آنذاك، وفي الوقت نفسه ينبه الأجيال القادمة ممن سيتوفر لهم امتلاك القوة العلمية الخطيرة أن يستخدموها في نشر العدل بين البشر، وفي مضاعفة الخير للإنسان . كما ينبه علي هؤلاء وأولئك أن هذه القوة بقدر ما هي سلطان ورفعة لمن امتلكها فهي أيضاً مسئولية خطيرة أو هكذا يجب أن تكون . كما أنها يمكن أن تكون مصدر خراب مالكها ودماره حين يسيء استخدامها بطمع أو بجهالة فترتد عليه وتنسفه . بل إن هذه القوة الشيطانية التي تمثلت في خادم الرَصَد وأتباعه قد نشأت واقعياً من قلب الفاقة، من قاع الاحتياج الجماهيري الإنساني كحماية للقيم الإنسانية النبيلة وإعلاء لشأن الأصالة ومن يتمسكون بها . وربما كانت حكاية ( معروف الإسكافي ) - آخر حكايات ألف ليلة وليلة التي ىُختتم بها المجلد الرابع من الطبعة المذكورة - أكثر الحكايات تعبيراً عن هذا المعني واحتواء له . ولئن كانت ألف ليلة وليلة حافلة بالشخصيات الفريدة فلعل شخصية معروف الإسكافي أكثرها تفرداً وأشدها قرباً من قلوب القارئين علي اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الثقافية وتعدد أجيالهم؛ ربما لأنها أكثر تعبيراً عن شخصية الشعب المصري سلباً أو إيجاباً، وربما لخفة ظلها الشديد العذوبة كمذاق مياه نهر النيل . إني أزعم بل أجزم أن شخصية معروف الإسكافي في تركيبة مصرية خالصة المصرية، فيها كل مقومات الشخصية المصرية الشعبية وصفاتها وخصائصها النفسية المستقاة من طبيعة التجربة المصرية والتاريخ المصري خاصة في عصوره الإسلامية الوسطي وحتي الآن، ثم إن مصر هي موطن حكايته. اسمه في صنعته، وصنعته في اسمه. فهو إسكافي يعني صانعاً للأحذية ومرتق لها . ولهذا فهو معروف بمعني مشهور أي أن له من اسمه نصيباً في بُعد آخر إذ هو يؤمن بالمعروف ويقدره ويفعله ويقتدي بأصحابه في كل خطوة وهو يمثل روح العدالة في الفكر الشعبي الفولكلوري المصري . فالمعروف هو التقابل اللفظي للعدالة الاجتماعية بمفهومنا المعاصر إذا وضعنا في اعتبارنا أن ذلك التفكير الشعبي نشأ في مجتمع تجاري بورجوازي محصَّن، يقوم علي ملك ورعية، وحرية اقتصادية مطلقة إلا من فرض الزكاة؛ ولا يبقي لكي تستقيم الحياة فيه بسلام اجتماعي إلا أن يسود » المعروف « بين البشر كسلوك إنساني نبيل يعتمد علي التراحم والإيثار والإغاثة وتقديم العون والمساعدة والتضحية في سبيل الواجب .

.../...
 
أعلى