خيري شلبي - الف ليلة وليلة تكريس العدل الاجتماعي

لمعروف الإسكافي زوج متسلطة سليطة اللسان مجردة من الإنسانية شأن كثيرات من أمثالها لاتزال تحفل بهن حوارينا العتيقة الآهلة . اسمها فوق ذلك » فاطمة العرَّة . ذات يوم طلبت منه كنافة بالفستق والعسل النحل . وهو رجل أرزقي . وقد حل المساء ولم يفتح الله عليه بشيء يذكر، فامتعض وخاف من بطش زوجه . لكن صديقه بائع الكنافة لا يرضيه رجعته للدار خاوي اليدين، فيعطيه كنافة وخبزاً علي الحساب لحين ميسرة . غير أن كنافته كانت بعسل القصب، وقد رضي بها معروف شاكراً ممتناً . إلا أن زوجه ترميها في وجهه مشفوعة ببصاقها، وتفرج عليه الخلق الذين يخلصون لحيته منها . أكل هو الكنافة نيابة عنها علي وعد بأن يجيء لها في الغد بغيرها . وفي الغد يصلي لله في طلب الرزق، ولكن المرسال يأتي في طلبه للقاضي، فإذا بزوجه فاطمة العرَّة قد اشتكته للقاضي . وفي التحقيق معه حكي للقاضي ما حدث . فأشفق عليه القاضي، ووهب الزوجة ربع دينار وحثها علي أن تطيع زوجها، وأن يترفق زوجها بها في المقابل . وفي الطريق يلحق به رسل القاضي طالبين أجرتهم نصف دينار . فباع عدة شغله في السوق وأعطاهم نصف الدينار . لكنه لا يكاد يستقر في جلسته حزينا حتي يجيء رسل آخرون في طلبه لقاضٍ آخر، فإذا بفاطمة العرَّة قد اشتكته لهذا القاضي الآخر . فحكي لهذا القاضي أمرها معه . فنبه عليها القاضي بضرورة الصلح والتراضي، ثم أمره أن يعطي للرسل حقهم، فأعطاهم ما تبقي معه، وعاد إلي دكانه كاسف البال . ثم خشي أن تشكوه زوجه إلي الباب العالي فينزل عليه » أبوطبق « فأغلق الدكان وهرب في جهة باب النصر . ونزل عليه المطر غزيراً، فدخل العادلية، فرأي موضعاً حجرياً فيه حاصل مهجور، فجلس يبتهل إلي ربه أن يخلصه من هذه الزوج . فإذا بالحائط ينشق، ويخرج منه مارد . وإذا بالمارد يحمله ويطير به . ثم أنزل علي جبل وقال له انحدر من فوقه تر عتبة مدينة فادخلها فلن تعرف زوجك مكانك . مشي في سوق المدينة محيراً، والناس يلاحظون غرابة شكله وملبسه . وإذا بتاجر موسر يقبل في أبهة، فيفض الناس عنه ويأخذه إلي داره حيث يكرمه ويخلع عليه الخلع الثمينة . يتحدثان، فيتضح أن هذا التاجر الموسر مصري، بالتحديد من حي الدرب الأحمر، نفس الحي الذي يسكنه معروف الإسكافي . تتري بينهما الذكريات عن الطفولة فيتضح أن هذا التاجر الموسر كان صديقاً لمعروف الإسكافي زمن الصبا، واسمه » علي بن الشيخ أحمد العطار « ، الذي كان قد هرب إثر علقة سخنة من أبيه منذ عشرين سنة، ومن يومها لم يعرف أحد مكانه في هذه المدينة البعيدة التي وصفها القاص الشعبي بأنها دولة أخري مجاورة لمصر . وشأن السلوك المصري العتيد يأخذ الإسكافي سر التاجر الموسر في بلاد الغربة، ويتقلده ليعيش به . وهو لم ينتزعه منه، إنما التاجر - شأن السلوك المصري أيضاً - هو الذي أفضي إليه به، ونصحه أن يتقلده لينجح في غربته، وأن يفعل مثلما فعل هو حين جاء إلي هذه المدينة أول مرة . حكي له أنه زعم لتجار هذه المدينة أنه تاجر كبير وصاحب قافلة تجارية مقبلة وراءه، حيث قد سبقها هو بمدة، ورجاهم في مسكن مؤقت يأوي إليه، وسلفة ألف دينار يتحرك بها ريثما تجيء قافلته .. فأدوه وأقرضوه، فنشط من غده في السوق واشتري أقمشة وباعها في الحال فكسب من ورائها مبلغاً لا بأس به، ثم اشتري غيرها وغيرها حتي تمكن من تسديد ديونه واستئجار مسكن، فلما أخذ الناس حقهم نسوا أمر القافلة، ثم إنه أثري بالفعل من بعدها . وقد نصح معروف بأن ينسي حكاية وصوله المدينة فوق ظهر المارد هذه، وحكاية كونه إسكافياً بسيطاً لأن مجتمع هذه المدينة لن يشفق عليه ويحترمه إلا إذا أوهمهم بأنه أغني منهم وصاحب قافلة قادمة في الطريق . ووعده بأن يساعده علي نشر هذه الشائعة بين التجار، وأن يقرضه ألف دينار يلعب بها في السوق، وأنه سيدعوه والتجار علي الغداء في منزله ليؤلف بينه وبينهم حتي يسهل عليه التجارة معهم، ونصحه كذلك أن يتصدق بشيء قليل مما معه لزوم رسم شخصية الثري . وأقرضه بغلة وعبدا وشيئاً كثيراً من الأبهة، وبالغ في التواضع من أجله فزعم لفريق التجار عند اللقاء أنه أحد خدامه . ارتسم معروف الإسكافي وصار شهبندر التجار بحق وحقيق . صار التجار يسألونه عن أنواع وألوان من نادر الأقمشة لعلها تكون في قافلته فيجيب : كثير كثير، حتي بدا للجميع أن جميع احتياجات التجار قد غدت وشيكة الحل، فغدا يبيعون ويشترون ويكسبون مما طال بحثهم عنه وطلب الناس له . وهنا مر عليهم شحاذ، فراحوا يتفاخرون أمام معروف بالتصدق علي الشحاذ من نصف فضة وطالع . فإذا بمعروف يكبش كبشة من ذهب ويعطيها للشحاذ . فوجم الجميع، ثم جاءت امرأة فقيرة فكبش وأعطاها . ثم توافد سائر فقراء المدينة وهو لا يني يكبش ويعطيهم من الذهب حتي ذعر التجار واستهولوا الأمر . فقال لهم معروف بقلب كسير إنه اكتشف أن معظم أبناء هذه المدينة فقراء، وأنه لو علم بذلك لانتظر المجيء مع القافلة ليحسن إليهم كما ينبغي .. فكأنه بذلك القول يعير التجار بكثرة ثرائهم الذي لاشك يكون مسئولاً عن كثرة فقرائهم، وفي الوقت نفسه يوحي إليهم بمدي ثرائه وعفته وحنوه . فما كان من صديقه التاجر المصري إلا أن أقرضه ألف دينار أخري . تسلمها معروف واستأنف التوزيع بالكبشة علي كل سائل . وعند الصلاة نثر ما تبقي معه فوق رؤوس المصلين وهم يصيحون بالدعاء له . وما علي أحد التجار واقترض منه ألف دينار، ثم فرقها كلها . وما كادت صلاة العصر تجيء حتي أقفل باب السوق من فرط زحام الفقراء، ومعروف يقترض من كل تاجر بضعة آلاف من الدنانير يوزعها بالكبشة وبالرش فوق الرؤوس وسط ذهول الجميع . وفي المساء احتفلوا به جالساً في صدر المجلس يتحدث عن ثرائه الفاحش . وفي الصباح التالي مضي في السوق واقترض من كل تاجر بضعة آلاف من الدنانير يفرقها علي كل سائل حتي بدون أن يسأل . ظل علي هذه الحال مدة عشرين يوماً ولا حس ولا خبر عن القافلة المزعومة . التجار قلقوا طبعاً علي أموالهم، فاشتكوا إلي صديقه المصري الموسر، وبالفعل كلمه صديقه في الأمر، فإذا بمعروف يرد عليه بكل صفاقة : عندما تجيء القافلة أعطيهم إن شاءوا قماشاً أو ذهباً أو فضة . ذهل صديقه لأنهما » دافنينه سوا « ، فكيف يزعم له معروف أن له قافلة بالفعل قادمة؟ ! ولكن معروف يتشبث بهذه الشائعة ويغلظ القول لصديقه، الذي يقرر الانسلاخ عنه في الحال، ثم يوعز للتجار بأن يرفعوا أمرهم إلي ملك المدينة . الطريف أن أمره ما يكاد يبلغ الملك حتي يطمع في هذه الثروة المزعومة، ويصارح وزيره بنيته في الإبقاء علي هذا الرجل الثري وأن يزوجه من ابنته لتؤول إليه ثروته . إلا أن الوزير يشككه في معروف، فلا يستجيب الملك لشكوكه علي اعتبار أن الوزير كان طامعاً في الزواج من ابنته تلك . ثم إن الملك يستدعي معروفاً ويتحاور معه ليكشف كذبه من صدقه . يعرض عليه جوهرة ليثمنها، فإذا بمعروف يحكها في ثوبه ثم يعلن أنها من معدن رخيص لا يليق بالملك الاحتفاظ بها، وأن الجوهرة الثمينة حقاً لابد أن يكون شكلها كذا ووزنها كذا . يقنع الملك بصدق معروف، يعرض عليه المصاهرة . لكن معروف يعتذر طالباً تأجيل ذلك لحين وصول القافلة حتي يتمكن من دفع المهر اللائق، خاصة أنه يلزمه قدر كبير من الجواهر يفرقه علي العروس وجواريها، وقدر من آلاف الدنانير يفرقها علي المحتاجين ويكسو بها عريهم في هذه المناسبة السعيدة، وقدر آخر للذبائح والأطعمة، عندئذ يزداد الملك اقتناعاً به وإصراراً عليه، فيخبره أن خزينته تحت أمره يأخذ منها ما يشاء لحين قدوم قافلته . وهكذا يقبل معروف الدخول علي بنت الملك . وتتفتح خزينة الملك بالفعل، فيغترف معروف منها بغير حساب، فوزع كل ما فيها علي المحتاجين والفقراء . وظل هكذا أربعين يوماً حتي دخل علي عروسه بنت الملك، وكان كل ما في الخزينة من أموال قد نفد . والوزير لا يكف عن لوم الملك وتحذيره . وقد ذهبا معاً إلي العروس في قصر الزوجية وطلباً إليها أن تستدرج زوجها بصنعة لطافة لكي تعرف منه الحقيقة . غير أن العروس كانت تخشي أن يؤول مصيرها إلي الوزير الذي لا تحبه، وفي الوقت نفسه كان قد أحبت معروفاً لشهامته وجرأته . فلما انفردت به أخذت تقرره حتي اعترف لها بقصته كاملة، فاعترفت له هي الأخري بخطة أبيها للانتقام منه . وليس يهمنا بعد ذلك كيف أن معروفاً في رحلة هروبه عثر علي كنز حقيقي كمكافأة له من السماء علي ما فعل من خير، ثم كيف استعان معروف بخادم الرصد في أن يعدله قافلة مهولة يعود بها إلي حيث كان ويسدد جميع ديونه . إنما يهمنا كيف استطاع معروف أن يحقق أسطورة القافلة ويحيلها إلي واقع قبل أن ترتد إلي أصلها الأسطوري، كيف حرك الأموال المدخرة في الخزائن وأنعش بها حياة فقراء المدينة، إن هذه الحكاية البديعة تقول ببلاغة درامية ناصعة إن تحقيق العدالة الاجتماعية ليس من قبيل الأساطير .
 
أعلى