نقوس المهدي
كاتب
في مفتتح الليالي يكمن المغزي, وبتعبير آخر فإن المشهد الافتتاحي لليالي هو بيت القصيد, وفي الخاتمة يتضح القصد النبيل من الليالي, فبعد ألف ليلة من الحكايات التي كانت في معظمها تنويعات علي ما جاء في المفتتح , أو أشبه بتقاسيم نغمية يقودها الخيال المتوهج إلي شطحات من نفس المقام.
ثم ما تلبث حتي تعود إلي اللحن الأصلي, اللحن الأساس.. بعدئذ يكون الملك شهريار قد استرد إنسانيته ورشده ورقت مشاعره وصار إنسانا متحضرا يعرف قيمة المرأة علي حقيقتها, ويتأكد له ـ عبر كل هذه الحكايات التي حوت صنوفا من الحياة والبشر ـ أن المرأة كائن محترم ينبغي تقديره إلي حد التبجيل, ولكن المجتمعات الذكورية البدائية حينما التحقت بالمدنية لم تتنازل عن هذا المكسب الرجولي الكبير الذي يضع الرجل في المقام الأعلي ويضع المرأة في غير مقام, مجرد جارية وأداة للمتعة, لدرجة أن الخيال الشعبي إلي اليوم يرمز في المنامات التي يراها الرجال إلي المرأة بالحذاء, فمن يري في المنام ـ مثلا مثلا ـ أنه اشتري حذاء جديدا فمعني تفسيره أنه سيتزوج أو سيعشق امرأة جديدة! فالمجتمع الذكوري ـ إذن ـ هو الذي جني علي المرأة بافتراضه الدونية فيها ومن ثم فإنها ـ في المأثور الشعبي الدارج ـ الضلع الأعوج من آدم. وفرض عليها من القيود الرقابية والاستبدادية ما يفوق في بشاعته سجون التعذيب, أقرب مثل علي ذلك ما سمي بحزام العفة في العصور الوسطي, حيث يقوم الزوج بإلباس زوجه حزاما حديديا لا يسمح إلا بفتحة ضيقة لقضاء الحاجة, يغلقه بقفل ويحتفظ بمفتاحه في جيبه إذا ما اضطر إلي السفر أو المبيت خارج بيته ليلة أو أكثر, وكثيرا ما كان الحزام يظل مقفولا علي طول الزمان لا يفكه الزوج إلا حين يطلبها للنوم. فمثل هذا التاريخ المؤلم في التعامل مع المرأة علي هذا النحو لابد أن يخلق منها هذه الصور التي عرضتها الليالي للمرأة من جميع الطبقات في حال من الوضاعة والدناءة والخبث الشرير والانحلال والخيانة والمتاجرة بالجسد.. إلخ إلخ.
ولكن ماذا في المشهد الافتتاحي لليالي؟..
تعالوا نعيد قراءته انه يتلخص فيما يلي: الملك شهريار المحبوب من شعبه لما يتميز به من حكم عادل, اشتاق لرؤية أخيه الملك شاه زمان ملك سمرقند والعجم. وبما أنه الأكبر فقد بعث بوزيره إليه ليدعوه ويعود معه. فلبي الملك شاه زمان دعوة أخيه شهريار وتحرك موكبه علي طريق السفر, إلا إنه في مدخل الليل تذكر خرزة زرقاء يتعين عليه أن يحملها في الطريق إلي أخيه فقفل عائدا ليأخذها, فما أن دخل غرفة نومه مباغتة حتي فوجئ بزوجه مع عبد أسود من عبيد القصر, فطار صوابه, لم يتمالك شعوره, بالسيف ضرب عنقيهما, وعاد إلي القافلة مستأنفا الرحيل وقد امتلأ صدره بالغم والكرب, لا تري عيناه إلا الظلام حتي في وضح النهار. إلي أن وصل إلي قصر أخيه شهريار.
بعد الترحيب, وبعد زوال وعثاء السفر بأيام, لاحظ شهريار أن أخاه شاه زمان لا يزال كظيم الوجه ضيق الصدر ذاهب اللب. حاول شهريار أن يستميله إلي شيء من المرح فلم يفلح. استدرجه في الكلام بأساليب متعددة لعله يبوح بما عساه يكون وراء هذا الغم والنكد, وأبدا لا يبوح, ولقد فكر شهريا, في أن يصطحب أخاه شاه زمان إلي رحلة صيد لعلها ترفه عنه، وتخرجه من هذه الحالة الكئيبة. غير أن شاه زمان رفض الخروج إلي أي مكان, إذ إن حالته النفسية والمزاجية غير ملائمة لأي شيء سوي الخلوة إلي النفس ما أمكن. وهكذا تركه أخوه شهريار في حاله, وخرج هو للصيد في رحلة قد تستغرق أياما. كان شاه زمان ينزل في ضيافة أخيه في قصر منفصل لكنه ملتحق بنفس الحديقة وكل شيء فيها مكشوف للمقيم فيه وهكذا تمكن شاه زمان من رؤية زوج أخيه تخرج إلي البستان وسط عشرين جارية وعشرين عبدا.
ذهل شاه زمان مما رأي من انحلال في قصر أخيه شهريار. هانت عليه بلواه, فاسترد حيويته بعض الشيء كأن وقوع أخيه في نفس المحنة قد أزاح عنه نصف العبء النفسي وهدأ روعه مما فعلت يداه. غير أنه وقع في حيرة, ووقع ضميره في أزمة: هل يخبر أخاه عما رآه بعينيه؟ وهل يشفق عليه من هول الصدمة التي جربها هو منذ قليل؟ هل يخطيء ان امتنع عن القول؟ هل سيندم إذا لم يقل؟. علي كل حال لقد لزم الصمت المطبق لأنه لم يتمكن من الرسو علي شاطئ محدد إلا أن تغيرا ما في حالته هو الذي كشفه, فقد لاحظ أخوه شهريار أن الحيوية عادت إلي وجهه وأن الكظمة قد انفكت كثيرا فألح عليه في الرجاء أن يشرح له السر في هذا الذي حدث بين عشية وضحاها: لماذا كان كظيما شاحب الوجه؟ وما سبب انفكاك الكظمة وعودة الدماء إلي وجهه؟ فلما اشتد ضغطه علي شاه زمان وافق علي أن يجيبه علي السؤال الأول: لماذا كان كظيما؟ أما عودة الحيوية إلي وجهه فليعفه من ذكر السبب فكأنه أشعل فضول شهريار الذي أصر علي معرفة كافة الخبر باعتباره الأخ الأكبر, وقد حدث, اعترف له شاه زمان بما حدث له قبل المجئ, ثم حدثه عما رآه بعينيه في قصر أخيه من نفس المهزلة, قال شهريار: أريد أن أري بعيني, فرسم له شاه زمان الخطة فنفذها: ادعي أنه مسافر إلي بلاد بعيدة جدا, ثم جهز موكبا يليق بسفر طويل, فما أن صاروا علي قارعة الطريق حتي تنكر شهريار وعاد إلي القصر الذي يستضيف أخاه فيه. جلس في دروة شباك يكشف البستان كله, فرأي ما رآه أخوه يتكرر بحذافيره, ولوقت طويل دون ملل أو إرهاق.
عندئذ اغتم شهريار غما عظيما, فقال لأخيه شاه زمان: قم بنا نسافر إلي حال سبيلنا وليس لنا حاجة بالملك حتي ننظر هل حدث لأحد مثلنا أو لا, فيكون موتنا خير من حياتنا. فاستجاب له في الحال غادرا القصر من باب سري طال بهما السفر والتجوال كيفما اتفق.. إلي أن وصلا إلي شجرة في وسط مرج عندها عين ماء مجاورة للبحر المالح.. جلسا يستريحان ويشربان فما لبثا إلا ساعة وقد هاج البحر وطلع منه عمود أسود صاعد إلي السماء وهو قاصد تلك المرجة. من خوفهما تسلقا الشجرة يلوذان بفروعها الوارفة وإذا بجني طويل القامة عريض الهامة واسع الصدر علي رأسه صندوق طلع إلي البر, أتي إلي الشجرة, جلس تحتها, فتح الصندوق, أخرج منه علبة ثم فتحها, فخرجت منها صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة. قال الجني لها: يا سيدة الحرائر قد اختطفتك ليلة عرسك أريد أن أنام قليلا. ثم وضع رأسه علي ركبتيها ونام. ونظرت إلي أعلي الشجرة فرأت الملكين شهريار وشاه زمان, فرفعت رأس الجني ووضعتها علي الأرض, ووقفت تحت الشجرة وقالت لهما بالإشارة: انزلا ولا تخافا من هذا العفريت, فتوسلا إليها أن تعفو عنهما إن كانت تقصد بهما شرا فقالت لهما انزلا وإلا نبهت عليكما العفريت فيفتك بكما فنزلا في الحال فراودتهما عن نفسها فارتعدت فرائصهما, فأمرتهما بأن يفعلا ما تريده منهما وإلا نبهت العفريت فلم يجدا مفرا من الاستجابة لها. ثم إنها أخرجت من جيبها كيسا وأخرجت منه عقدا فيه خمسمائة وسبعون خاتما. قالت لهما إن أصحاب هذه الخواتم فعلوا معها نفس الفعل الذي أمرتهم به علي غفلة من قرن هذا العفريت, أخذت خاتميهما وضمتهما إلي عقدها قائلة إن هذا العفريت قد اختطفها ليلة عرسها, ووضعها في علبة, ووضع العلبة داخل الصندوق وعلي الصندوق سبعة أقفال ونزل بها في قاع البحر العجاج المتلاطم الأمواج: وهو يعرف أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء.
هذا الموقف المفحم, العميق الدلالة, كان يجب أن يكون درسا لشهريار وأخيه شاه زمان. إن المشهد كله يعتبر تلخيصا فنيا عبقريا للمحنة التي يعيشها كل منهما بسبب المرأة. هو كذلك بمثابة رد مفحم علي غفلتهما عن هذه الحقيقة البديهية التي لخصتها فتاة الجني بقولها ان الجني ـ الذي يجسد موقفهما من المرأة ـ يعرف أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء. لقد أراد المؤلف المجهول لليالي أن يدين موقف الملكين بل موقف جميع الرجال من المرأة فرمز إليه بموقف الجني خاطف العروس وساجنها, ليسرب إلينا حقيقة دامغة يجب أن نضعها في اعتبارنا هي أننا مخطئون إذا تصورنا أن بإمكاننا منع المرأة بالقوة عن الزلل, أو التعامل معها باعتبارها دمية أو أداة للمتعة وتربية العيال, أو قمع شهواتها ورغباتها بأحزمة العفة أو حتي بالسجن في قمقم, فحتي العفريت نفسه فشل في ذلك فشلا ذريعا منكرا.
معني هذا المشهد ـ بداهة ـ أن الليالي تدعو إلي إعادة النظر في علاقتنا نحن الرجال بل نحن المجتمعات الراغبة في التقدم, بالمرأة, أن نعطيها حقها الذي أهلتها الطبيعة له, أن تحل التربية والتعليم والثقافة محل القمع والتسلط والعنف والقسوة والتخويف, أن تكون العفة سلوكا تربويا عن قناعة. فالوازع الأخلاقي أقوي من أي رادع إرهابي. الدليل علي ذلك أن الليالي, وقد قدمت صنوفا لا حصر لها من النساء الساقطات الفاجرات الضائعات المقهورات المدللات المقموعات المقتولات فداء للعشق والموءودات درءا لخطر العشق, في وسط هذه المعمعة النسائية قدمت النموذج الأمثل للمرأة الراقية التي تستحق التبجيل: إنها شهر زاد التي قرأت كتب التاريخ والأدب والأخبار والعلوم في ظل تربية متميزة خاصة, فحق لها أن تكون قادرة علي احتواء غضبة الملك الذي تزوج كل فتيات المملكة ليقتلهن في الصباح, وأن تحضره وتنقل إليه الحكمة والموعظة والاستقامة النفسية, وتنفذ إلي قلبه فيحبها, ليعقد عليها قرانه في الليلة الأولي بعد الألف.
لقد تكرر المشهد الافتتاحي ولكن في صورة عكسية واقعية صبية الجني هي نفسها شهر زاد, كلاهما نفس المرأة الداهية واسعة الحيلة, غير أن شهر زاد قد تعلمت وتثقفت, فصارت طاقة ايجابية في اصلاح حال الملك الذي سينعكس لا شك علي حياة الشعب. ثم إن شهريار هو المعادل الواقعي للجني المختطف السجان, أي أن الليالي عمدت إلي تبشيع موقف شهريار وأمثاله تبشيعا للموقف الذكوري المتضخم, لينقلب حال شهريار من النقيض إلي النقيض الايجابي المأمول, لمجرد أن امرأة ـ اسمها شهر زاد ـ قد احتوته بعاطفة قوية فأطلعته علي أحوال العباد في البلاد, وعبر التاريخ وثمرات الفكر وقطوف الأدب, فشذبته وهدبته.. وتزوجته!. وبهذا تكون ليالي ألف ليلة وليلة دعوة لاحترام, وتبجيل المرأة, وصيانتها بالعلم والثقافة لتبقي أبد الدهر مصدرا للإشراق ونبعا للحنان والعاطفة: أما وأختا وزوجا.. وحبيبة.
ثم ما تلبث حتي تعود إلي اللحن الأصلي, اللحن الأساس.. بعدئذ يكون الملك شهريار قد استرد إنسانيته ورشده ورقت مشاعره وصار إنسانا متحضرا يعرف قيمة المرأة علي حقيقتها, ويتأكد له ـ عبر كل هذه الحكايات التي حوت صنوفا من الحياة والبشر ـ أن المرأة كائن محترم ينبغي تقديره إلي حد التبجيل, ولكن المجتمعات الذكورية البدائية حينما التحقت بالمدنية لم تتنازل عن هذا المكسب الرجولي الكبير الذي يضع الرجل في المقام الأعلي ويضع المرأة في غير مقام, مجرد جارية وأداة للمتعة, لدرجة أن الخيال الشعبي إلي اليوم يرمز في المنامات التي يراها الرجال إلي المرأة بالحذاء, فمن يري في المنام ـ مثلا مثلا ـ أنه اشتري حذاء جديدا فمعني تفسيره أنه سيتزوج أو سيعشق امرأة جديدة! فالمجتمع الذكوري ـ إذن ـ هو الذي جني علي المرأة بافتراضه الدونية فيها ومن ثم فإنها ـ في المأثور الشعبي الدارج ـ الضلع الأعوج من آدم. وفرض عليها من القيود الرقابية والاستبدادية ما يفوق في بشاعته سجون التعذيب, أقرب مثل علي ذلك ما سمي بحزام العفة في العصور الوسطي, حيث يقوم الزوج بإلباس زوجه حزاما حديديا لا يسمح إلا بفتحة ضيقة لقضاء الحاجة, يغلقه بقفل ويحتفظ بمفتاحه في جيبه إذا ما اضطر إلي السفر أو المبيت خارج بيته ليلة أو أكثر, وكثيرا ما كان الحزام يظل مقفولا علي طول الزمان لا يفكه الزوج إلا حين يطلبها للنوم. فمثل هذا التاريخ المؤلم في التعامل مع المرأة علي هذا النحو لابد أن يخلق منها هذه الصور التي عرضتها الليالي للمرأة من جميع الطبقات في حال من الوضاعة والدناءة والخبث الشرير والانحلال والخيانة والمتاجرة بالجسد.. إلخ إلخ.
ولكن ماذا في المشهد الافتتاحي لليالي؟..
تعالوا نعيد قراءته انه يتلخص فيما يلي: الملك شهريار المحبوب من شعبه لما يتميز به من حكم عادل, اشتاق لرؤية أخيه الملك شاه زمان ملك سمرقند والعجم. وبما أنه الأكبر فقد بعث بوزيره إليه ليدعوه ويعود معه. فلبي الملك شاه زمان دعوة أخيه شهريار وتحرك موكبه علي طريق السفر, إلا إنه في مدخل الليل تذكر خرزة زرقاء يتعين عليه أن يحملها في الطريق إلي أخيه فقفل عائدا ليأخذها, فما أن دخل غرفة نومه مباغتة حتي فوجئ بزوجه مع عبد أسود من عبيد القصر, فطار صوابه, لم يتمالك شعوره, بالسيف ضرب عنقيهما, وعاد إلي القافلة مستأنفا الرحيل وقد امتلأ صدره بالغم والكرب, لا تري عيناه إلا الظلام حتي في وضح النهار. إلي أن وصل إلي قصر أخيه شهريار.
بعد الترحيب, وبعد زوال وعثاء السفر بأيام, لاحظ شهريار أن أخاه شاه زمان لا يزال كظيم الوجه ضيق الصدر ذاهب اللب. حاول شهريار أن يستميله إلي شيء من المرح فلم يفلح. استدرجه في الكلام بأساليب متعددة لعله يبوح بما عساه يكون وراء هذا الغم والنكد, وأبدا لا يبوح, ولقد فكر شهريا, في أن يصطحب أخاه شاه زمان إلي رحلة صيد لعلها ترفه عنه، وتخرجه من هذه الحالة الكئيبة. غير أن شاه زمان رفض الخروج إلي أي مكان, إذ إن حالته النفسية والمزاجية غير ملائمة لأي شيء سوي الخلوة إلي النفس ما أمكن. وهكذا تركه أخوه شهريار في حاله, وخرج هو للصيد في رحلة قد تستغرق أياما. كان شاه زمان ينزل في ضيافة أخيه في قصر منفصل لكنه ملتحق بنفس الحديقة وكل شيء فيها مكشوف للمقيم فيه وهكذا تمكن شاه زمان من رؤية زوج أخيه تخرج إلي البستان وسط عشرين جارية وعشرين عبدا.
ذهل شاه زمان مما رأي من انحلال في قصر أخيه شهريار. هانت عليه بلواه, فاسترد حيويته بعض الشيء كأن وقوع أخيه في نفس المحنة قد أزاح عنه نصف العبء النفسي وهدأ روعه مما فعلت يداه. غير أنه وقع في حيرة, ووقع ضميره في أزمة: هل يخبر أخاه عما رآه بعينيه؟ وهل يشفق عليه من هول الصدمة التي جربها هو منذ قليل؟ هل يخطيء ان امتنع عن القول؟ هل سيندم إذا لم يقل؟. علي كل حال لقد لزم الصمت المطبق لأنه لم يتمكن من الرسو علي شاطئ محدد إلا أن تغيرا ما في حالته هو الذي كشفه, فقد لاحظ أخوه شهريار أن الحيوية عادت إلي وجهه وأن الكظمة قد انفكت كثيرا فألح عليه في الرجاء أن يشرح له السر في هذا الذي حدث بين عشية وضحاها: لماذا كان كظيما شاحب الوجه؟ وما سبب انفكاك الكظمة وعودة الدماء إلي وجهه؟ فلما اشتد ضغطه علي شاه زمان وافق علي أن يجيبه علي السؤال الأول: لماذا كان كظيما؟ أما عودة الحيوية إلي وجهه فليعفه من ذكر السبب فكأنه أشعل فضول شهريار الذي أصر علي معرفة كافة الخبر باعتباره الأخ الأكبر, وقد حدث, اعترف له شاه زمان بما حدث له قبل المجئ, ثم حدثه عما رآه بعينيه في قصر أخيه من نفس المهزلة, قال شهريار: أريد أن أري بعيني, فرسم له شاه زمان الخطة فنفذها: ادعي أنه مسافر إلي بلاد بعيدة جدا, ثم جهز موكبا يليق بسفر طويل, فما أن صاروا علي قارعة الطريق حتي تنكر شهريار وعاد إلي القصر الذي يستضيف أخاه فيه. جلس في دروة شباك يكشف البستان كله, فرأي ما رآه أخوه يتكرر بحذافيره, ولوقت طويل دون ملل أو إرهاق.
عندئذ اغتم شهريار غما عظيما, فقال لأخيه شاه زمان: قم بنا نسافر إلي حال سبيلنا وليس لنا حاجة بالملك حتي ننظر هل حدث لأحد مثلنا أو لا, فيكون موتنا خير من حياتنا. فاستجاب له في الحال غادرا القصر من باب سري طال بهما السفر والتجوال كيفما اتفق.. إلي أن وصلا إلي شجرة في وسط مرج عندها عين ماء مجاورة للبحر المالح.. جلسا يستريحان ويشربان فما لبثا إلا ساعة وقد هاج البحر وطلع منه عمود أسود صاعد إلي السماء وهو قاصد تلك المرجة. من خوفهما تسلقا الشجرة يلوذان بفروعها الوارفة وإذا بجني طويل القامة عريض الهامة واسع الصدر علي رأسه صندوق طلع إلي البر, أتي إلي الشجرة, جلس تحتها, فتح الصندوق, أخرج منه علبة ثم فتحها, فخرجت منها صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة. قال الجني لها: يا سيدة الحرائر قد اختطفتك ليلة عرسك أريد أن أنام قليلا. ثم وضع رأسه علي ركبتيها ونام. ونظرت إلي أعلي الشجرة فرأت الملكين شهريار وشاه زمان, فرفعت رأس الجني ووضعتها علي الأرض, ووقفت تحت الشجرة وقالت لهما بالإشارة: انزلا ولا تخافا من هذا العفريت, فتوسلا إليها أن تعفو عنهما إن كانت تقصد بهما شرا فقالت لهما انزلا وإلا نبهت عليكما العفريت فيفتك بكما فنزلا في الحال فراودتهما عن نفسها فارتعدت فرائصهما, فأمرتهما بأن يفعلا ما تريده منهما وإلا نبهت العفريت فلم يجدا مفرا من الاستجابة لها. ثم إنها أخرجت من جيبها كيسا وأخرجت منه عقدا فيه خمسمائة وسبعون خاتما. قالت لهما إن أصحاب هذه الخواتم فعلوا معها نفس الفعل الذي أمرتهم به علي غفلة من قرن هذا العفريت, أخذت خاتميهما وضمتهما إلي عقدها قائلة إن هذا العفريت قد اختطفها ليلة عرسها, ووضعها في علبة, ووضع العلبة داخل الصندوق وعلي الصندوق سبعة أقفال ونزل بها في قاع البحر العجاج المتلاطم الأمواج: وهو يعرف أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء.
هذا الموقف المفحم, العميق الدلالة, كان يجب أن يكون درسا لشهريار وأخيه شاه زمان. إن المشهد كله يعتبر تلخيصا فنيا عبقريا للمحنة التي يعيشها كل منهما بسبب المرأة. هو كذلك بمثابة رد مفحم علي غفلتهما عن هذه الحقيقة البديهية التي لخصتها فتاة الجني بقولها ان الجني ـ الذي يجسد موقفهما من المرأة ـ يعرف أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء. لقد أراد المؤلف المجهول لليالي أن يدين موقف الملكين بل موقف جميع الرجال من المرأة فرمز إليه بموقف الجني خاطف العروس وساجنها, ليسرب إلينا حقيقة دامغة يجب أن نضعها في اعتبارنا هي أننا مخطئون إذا تصورنا أن بإمكاننا منع المرأة بالقوة عن الزلل, أو التعامل معها باعتبارها دمية أو أداة للمتعة وتربية العيال, أو قمع شهواتها ورغباتها بأحزمة العفة أو حتي بالسجن في قمقم, فحتي العفريت نفسه فشل في ذلك فشلا ذريعا منكرا.
معني هذا المشهد ـ بداهة ـ أن الليالي تدعو إلي إعادة النظر في علاقتنا نحن الرجال بل نحن المجتمعات الراغبة في التقدم, بالمرأة, أن نعطيها حقها الذي أهلتها الطبيعة له, أن تحل التربية والتعليم والثقافة محل القمع والتسلط والعنف والقسوة والتخويف, أن تكون العفة سلوكا تربويا عن قناعة. فالوازع الأخلاقي أقوي من أي رادع إرهابي. الدليل علي ذلك أن الليالي, وقد قدمت صنوفا لا حصر لها من النساء الساقطات الفاجرات الضائعات المقهورات المدللات المقموعات المقتولات فداء للعشق والموءودات درءا لخطر العشق, في وسط هذه المعمعة النسائية قدمت النموذج الأمثل للمرأة الراقية التي تستحق التبجيل: إنها شهر زاد التي قرأت كتب التاريخ والأدب والأخبار والعلوم في ظل تربية متميزة خاصة, فحق لها أن تكون قادرة علي احتواء غضبة الملك الذي تزوج كل فتيات المملكة ليقتلهن في الصباح, وأن تحضره وتنقل إليه الحكمة والموعظة والاستقامة النفسية, وتنفذ إلي قلبه فيحبها, ليعقد عليها قرانه في الليلة الأولي بعد الألف.
لقد تكرر المشهد الافتتاحي ولكن في صورة عكسية واقعية صبية الجني هي نفسها شهر زاد, كلاهما نفس المرأة الداهية واسعة الحيلة, غير أن شهر زاد قد تعلمت وتثقفت, فصارت طاقة ايجابية في اصلاح حال الملك الذي سينعكس لا شك علي حياة الشعب. ثم إن شهريار هو المعادل الواقعي للجني المختطف السجان, أي أن الليالي عمدت إلي تبشيع موقف شهريار وأمثاله تبشيعا للموقف الذكوري المتضخم, لينقلب حال شهريار من النقيض إلي النقيض الايجابي المأمول, لمجرد أن امرأة ـ اسمها شهر زاد ـ قد احتوته بعاطفة قوية فأطلعته علي أحوال العباد في البلاد, وعبر التاريخ وثمرات الفكر وقطوف الأدب, فشذبته وهدبته.. وتزوجته!. وبهذا تكون ليالي ألف ليلة وليلة دعوة لاحترام, وتبجيل المرأة, وصيانتها بالعلم والثقافة لتبقي أبد الدهر مصدرا للإشراق ونبعا للحنان والعاطفة: أما وأختا وزوجا.. وحبيبة.