نقوس المهدي
كاتب
لا شك في أن العودة إلى دراسة أي موضوع تراثي عربي، يحمل في كثير من جوانبه مفاهيم إشكالية ومربكة. وذلك بسبب وجود هذا التراث أو بعضه في عدد من مكتبات الدول الأجنبية ومتاحفها ولا سيما تلك الدول التي احتلت البلاد العربية. وأيضاً لأن قسماً من هذا التراث ما يزال مجهولاً لدى العرب لا يعرفون عنه شيئاً، لأن المستشرقين لم يكشفوا عنه النقاب بعد. وأقول المستشرقين، لأننا تعودنا منهم أن يكونوا أول الباحثين عن تراثنا وأول البادئين بدراسته.
فكتاب ألف ليلة وليلة واحد من الكتب التي وصلت إلى الثقافة العربية عبر أوروبا، بعد صدوره في عدة لغات أجنبية، ومنها العربية التي أنجزها الفرنسي انطوان غالان عام 1704م وأصدرها في مجموعة أدبية ذات وحدة كاملة، كانت هي الأكثر شيوعاً والأكثر قراءة والأكثر ديمومة. وتركت تأثيراً واضحاً على أسلوب الكتابة الأوروبية في الفترة الذهبية التي شهدها ذلك القرن. وقد برزت حكايات ألف ليلة وليلة، من خلال أعمال بعض الأدباء الفرنسيين الكبار، أمثال ستاندال وكوليردج وأدغار ألان بو وسواهم.
كما لعبت ترجمة الليالي إلى لغات مختلفة دوراً مهماً في تعريف المهتمين بهذا النوع من الأدب السردي. فعلى سبيل المثال يصف الأديب التركي (أورهان باموك) في مقابلة له في (جريدة الحياة، عدد 15897 تاريخ 13 تشرين الأول)، كتاب ألف ليلة وليلة ((بكنز لا يقدر بثمن)). ويقول إنه تمكن ((من قراءته باللغة الإنكليزية، فأعجب بالمنطلق الدفين لحكاياته، وبدعاباتها الخفية وغناها وغرابتها وجمالها وقباحتها ووقاحتها وصفاقتها)).
ويضيف: ((بعد قراءتي الثالثة لها، بدأت أفهم السر الكامن وراء إعجاب أدباء الغرب بها، ورأيتها كأنها بحر من القصص لا نهاية له. وأذهلني ما تضمنته من خفايا تركيبية. وربما يعود ذلك إلى أني عشت بما فيه الكفاية، وعرفت أن الحياة عبارة عن خيانة وحيلة. لذا تمكنت من أن أقدر ألف ليلة وليلة على أنها تحفة فنية.)).
أما الأدباء العرب الذين اهتموا بالأدب المكتوب باللغة العربية الفصيحة، فقد عزفوا عن دراسة الأدب المكتوب باللغة المحكية، ولم يلتفتوا إلى الليالي إلا في زمن متأخر وبعد أن لحظوا اهتمام الباحثين الغربيين بها، واستلهامهم منها أعمالاً موسيقية وقصصاً وروايات وحتى أفلاماً سينمائية. وقد عاد كتاب ألف ليلة وليلة من الغرب إلى التراث العربي، محملاً بعلوقات كثيرة من ثقافات صادفها في أثناء عبوره الزمني والمكاني، وبتأويلات السابقين إلى قراءته الباحثين في مضامينه، وذلك لأن تدوينه تم في مراحل متأخرة.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب، فليس غريباً أن يقع عليه اختيار الأديب حسن حميد كمادة بحثية من أجل الحصول على درجة علمية عالية. فهو عمل كلاسيكي خالد، ما يزال يجذب الناس إليه ويحثهم على قراءته، لما تنطوي عليه حكاياتها من عجائب الأحداث وغرائب الطباع. ولما تتركه من أثر في نفس قارئها، وفي تكوينه الثقافي. فمعانيها لا تنتهي ولطائفها لا تستنفد، مهما تكررت قراءتها ومهما اختلف القراء فيها أو عليها.
وليس غريباً أيضاً، أن يظهر صوت حسن حميد مميزاً في دراسة هذا التاريخ السردي وهو أديب مشهود له بالاجتهاد في العمل وبتفرد في الأسلوب. فقد أراد أن يكون له طريقة في البحث تفترق عن طرائق من سبقه من الباحثين في هذا التراث، لكي يُسمع صوته الخاص به، لا أن يكون صدى لأصوات الآخرين. وليضفي على بحثه جدة، تمنحه ألق العلم وجاذبية المعرفة.
لهذا فإن عمله لم يقتصر على البحث في محوري الأدب والتاريخ لحكايات ألف ليلة وليلة، اللذين تركزت عليهما معظم الدراسات، وإنما جاس خفايا المشاهد بجرأة الباحث عن الحقيقة، وتمعن فيها بعينين تختلفان عن عيون سواه من الباحثين. فحملت دراسته إلى القارئ رؤية خاصة ومعاني مميزة وتحليلاً غير مسبوق. فلجأ إلى المنهج التحليلي وطرح أسئلة شغلت فكره وقلمه، يتعلق معظمها بموقف شهريار من النساء وتبنيه قتلهن.
***
يدرس الباحث الليالي تاريخياً واجتماعياً، لمعرفة نشأتها ورصد آثارها وبيان مصادرها. ولبيان الأدوار الاجتماعية لكل من الرجل والمرأة، ولاستخلاص القيم الأخلاقية منها واستجلاء المعايير الجمالية فيها.
فالدراسات العربية عموماً، كما يقول، تعاملت مع الليالي على أنها عبارة عن حوادث وأخبار، بعيداً عن وظائفها الاجتماعية. ويأخذ على الدارسين العرب، إهمالهم الزلزال الذي أحدثه الفعل الدموي في بنيتين أساسيتين تتمثلان، في البنية النفسية لشهريار والبنية المعرفية للمجتمع. ويرى أن الغاية من تدوين الليالي وأهميتها، ليست في كونها تؤرخ لفترة زمنية وتقدم أنماط المجتمع وطبقاته. ولا في كونها تقص أخبار العلوم وتطورها، وتتحدث عن العمران والفتوحات والإصلاح وشؤونه. ولا لأنها تبين درجات الظلم في المجتمع وألوانه تطلعاً إلى العدل والعلوم الجديدة. لكن الغاية من التدوين، كما يظن، هي أبعد من كل ما سبق ذكره على أهميته، وتكمن في مضمون الليالي الذي يقدم صورة معرفية عن الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الأيام.
***
يقوم الكتاب على سبعة فصول، تقدم لمحة عن مجتمع ألف ليلة وليلة، في جميع مكوناته الفكرية والدينية والعلمية. وهي: 1 ـ نشأة الليالي: تاريخها ومؤلفها. 2 ـ غيبوبة القص ـ غيبوبة الاستماع. 3 ـ الانزياح: الجسد والسلطة. 4 ـ المرأة في مجتمعها. 5 ـ الذكورة في مواجهة الأنوثة. 6 ـ الذكورة المريضة، أو الذكورة المثلية. 7 ـ المضامين والأساليب.
في الفصل الأول، يبين الكاتب أن الحكايات في كتاب ألف ليلة وليلة، لا تحمل توقيع مؤلف واحد. وإنما هي عبارة عن عمل تراكمي تم جمعها على فترات متعددة ومن قبل رواة عديدين، شأنها في ذلك شأن الأدب الشعبي على مختلف أنواعه السردية والشعرية.
فالأدب الشعبي السردي نما وانتشر شفهياً، ومن ثم استطالت أحداثه وتفاصيله تبعاً لموهبة الراوي ومقدرته اللغوية والحكائية، ووفقاً لرغبات المستمعين وأهوائهم أيضاً. وهذا يبرر تعدد الأساليب التي كتبت بها حكايات ألف ليلة وليلة، وما يشابهها في السرديات الشعبية. والسبب، عند الباحث، في عدم نسبة الليالي إلى مؤلف بعينه يعود إلى جملة الدواعي التي أدت إلى تجاهل الليالي والصدود عنها، لأنها موجهة للعامة والرعاع وليس للخاصة من ملوك وأمراء وولاة وتجار. وأيضاً بسبب خرافاتها الكثيرة وخيالها الممتد إلى عوالم الجن والعفاريت، ولاتسامها بالسطحية والعفوية، وإلى عدم احتفائها بالقيم الأخلاقية والاحتشام، حيث ذكرت فيها اللقاءات الجنسية وتفاصيل الأعضاء التناسلية عند الجنسين، وهذا ما جعل الحكواتي يخجل من أن ينسب هذه التوصيفات إلى نفسه. بل إن المجاهرة في ذلك العصر بتأليف كتاب مثل ألف ليلة وليلة، كانت مغامرة. ولا سيما في عصر ألفت فيه أمهات الكتب في علوم العربية والفلسفة والفقه.
وهنا أود الإشارة إلى أن الباحث لم يكن دقيقاً جداً عندما رد عدم معرفة اسم مؤلف الليالي إلى كونها (موجهة للعامة وليس للخاصة)، وأيضاً (لاتسامها بالعفوية والسطحية). فلو كانت الليالي في مضمونها لا تخص سوى الطبقة الشعبية البسيطة، لما غادرت بيئتها ووصلت إلى شهريار وفتنته. كما أن العفوية لا علاقة لها بالسطحية، فكم من عمل فني يحمل في عمق مراميه، عفوية تشد السامع والمشاهد والقارئ!
أما صعوبة التعرف بدقة إلى تاريخ نشوء الليالي، فيعود إلى تعدد طبعات الليالي في الشرق وفي الغرب، وإلى تباين طرائق روايتها وتفاوت مستوياتها في اللغة والأسلوب.
ويرجع بعض الباحثين القدماء، أن نواة هذه الليالي قد تكون فارسية الأصل مأخوذة من مخطوط فارسي اسمه (هزار أفسانة)، لكنها مع مرور الزمن صارت بشخصياتها وبيئاتها الاجتماعية، عربية الهوية والانتماء.
***
في الفصل الثاني، وعنوانه: غيبوبة القص ـ غيبوبة الاستماع، يسعى الكاتب إلى طرح فرضيات تحمل وجهات نظره، للدخول في حكايات الليالي وفي شخصيتي شهريار وشهرزاد، للتعرف على ما ينهض في حياتهما من مواقف راسخة وأحداث مستجدة بعد ممارسة القص وممارسة الاستماع.
1 ـ تقوم الفرضية الأولى على خلفية بعض أنماط السلوك المختلفة في المعاملة الجنسية، والتي عرفت بالشذوذ الجنسي أو ما يسمى بالمثلية. ويعزو علماء النفس الشذوذ، إلى وجود خلل في النسيج العام للبنية النفسية من جهة، وإلى وجود خلل في البنية الاجتماعية من جهة أخرى، إضافة إلى الظروف التي رافقت نشأة الشخص المثلي.
2 ـ فرضية ثانية، تصل حد اليقين، تقول إن الملك شهريار كان رجلاً مثلياً.
ويبني الباحث هذه الفرضية على الحكايات الدائرة بين والدة شهريار وأبيه، وتدل على أن العلاقة بينهما كانت علاقة اجتماعية، لا علاقة زوجية. إلى جانب أن المجتمع الأنثوي كان مجهولاً لدى شهريار، على الرغم من اكتظاظ القصر بالحريم.
فمشهد الملكة الزوجة مع عبدها مسعود في طقس جنسي كامل، أعاد شهريار إلى الرؤية الأولى حين شاهد أمه في واحدة من مضاجعاتها العديدة مع عبيد قصرها وخدمها.
3 ـ الفرضية الثالثة، تتعلق بتصرفات الملكة الأم والملكة زوجة الابن التي نتجت عن كون الأب والابن مثليين. فالرجال في القصر تحولوا عاطفياً إلى أمثالهم من الرجال، وتجاهلوا النساء. والمتعة التي ولدتهما لديهم المثلية منذ الصغر، أغنتهما عن الخوض في التجربة مع النساء وإدراك مغزاها وتذوق جمالها.
4 ـ الفرضية الرابعة، مستقاة من الأخبار التي وردت في الليالي عن الملكين شهريار وأخيه شاه زمان، وجميعها تتمحور حول مضاجعة امرأتيهما عبدين من عبيد القصر. هذه المضاجعة التي طيرت الهدوء من حياتهما. وشوهت إحساسهما الإنساني السوي.
5 ـ الفرضية الخامسة، تنهض على أن وجود المرأة في القصر، كان وجوداً شكلياً ليس إلا. لأن تأثيرات الطفولة على حياة شهريار وأخيه شاه زاد، خربت علاقتهما بالمرأة وأبعدتهما عنها جنسياً وعاطفياً.
وبعد كل هذه التراكمات السلبية، كان لا بد من يأتي الخلاص عن طريق شخص ما، فكانت شهرزاد. شهرزاد التي أرادت، في الظاهر، أن تكون فداء لبنات جنسها. لكنها في الواقع ومن وجهة نظري، أرادت أن تعالج ندوب شهريار التي تنز صديداً وحقداً، لقناعة منها بأن أعماقه ليست شريرة كما تبدو. فرغبت بأن تقوم بعمل ينقذه من نفسه، وينقله من دائرة القدرة على القتل إلى دائرة القدرة على العفو والتسامح.
وبالفعل استطاعت شهرزاد بحكمتها وحنكتها وحكاياتها أن تقلب مفاهيم شهريار حول المرأة ومواقفه منها، وتخلصه من عقدة نفسية تتلخص في أن جميع النساء خائنات بدءاً من زوجته وانتهاء بأمه. بل وزادت على ذلك، بأن أعادت مشاعره إلى مسارها الإنساني وخلصته من حمى الغريزة وطغيانها.
ويعتقد الباحث بأن حكاية (التاجر والجني) التي استهلت بها شهرزاد لياليها، هي صاحبة الفضل في إدخال شهريار في غيبوبة المتعة والاستماع، وفي إدخال شهرزاد في غيبوبة القص ومتعة السرد. فالجني أطلق سراح التاجر ووهب دمه للمسافرين الثلاثة، تماماً مثلما فعل شهريار، ووهب دم شهرزاد إلى المجتمع الأنثوي.
في حين يغلب على الظن أنه كان من الأفضل القول، إن هذه الحكاية أهدت (شهريار) مفتاحاً فتح بوابة عقله، وأهلته أن ينظر إلى العلائق الإنسانية بين الرجل والمرأة، نظرة موضوعية وعقلانية. وزيادة في التوكيد على استمتاع شهريار بحكايات شهرزاد واستغراقه في الاستماع إليها، يشير الباحث أن (شهريار) لم يتنبه إلى التبدلات التي طرأت على جسد شهرزاد في أثناء حملها منه، وإنجابها ثلاثة ذكور.
***
في الفصل الثالث، وموضوعاته: الجسد، الشهوة، الانزياح: الجسد والسلطة، يقدم الكاتب معالجة نصية لمفهوم الانزياح في الليالي والثبات فيها، ولا سيما أن شهريار عاش الانزياح النفسي والجسدي بنوعيه: السلبي والإيجابي. فقد عرف الانزياح السلبي، منذ طفولته. ذاق مرارته وعانى من شدة وطأته، على روحه وجسده. وذلك بسبب رؤية أمه، وهي تضاجع أحد عبيد القصر. وما عمق الانزياح السلبي في نفس شهريار وفي تصرفاته، أن زوجته لم تكن أحسن حالاً من أمه، فهي أيضاً سلكت السلوك ذاته وضاجعت العبد مسعود. قسوة المشهد صدمت شهريار، وأفقدته إحساسه بأنوثة المرأة. وقادته بالتالي إلى اتخاذ مواقف غير سوية، تجلت بقتل النساء اللاتي قادهن القدر إلى المثول بين يديه.
وقد أدت معاناة شهريار، إلى اضطراب في الجانب المعرفي تجاه المرأة في مجتمع يقف شهريار في مقدمته. أما الانزياح الإيجابي، فتم بعد أن تعرف شهريار إلى شهرزاد، وبدأ مرحلة التفاعل مع رسائلها التي كانت تبثها له عبر شخوص حكاياتها وتصرفاتهم، توكيداً على أن الكلمة الطيبة يمكن أن تكون معادلة للدم.
فحينما وجد شهريار أن شهرزاد تختلف بحضورها وحنكتها وذكائها عن النساء اللاتي عرفهن، وثق بها وسكن إليها، مستمتعاً بلذة الاستماع وباكتشاف جمال المرأة وروعة التعرف إلى أنوثتها ورهافة إنسانيتها. هذا الاكتشاف، أزاح شهريار ومجتمعه إلى ضفة أخرى من المشاعر الإنسانية، مشاعر المحبة والثقة. وأعاد إليه طمأنينة افتقد وجودها هو وشعبه. ولا ننسى بأن شهرزاد تمكنت من نزع فتيل الشك بالنساء من قلب شهريار، وجعلته يتعرف إلى المرأة روحاً وجسداً، ويحبها. يضاف إلى ذلك أنها استطاعت بأنوثتها الخلاقة أن تحوله من رجل عقيم، إلى رجل ولود.
إن ما صنعته شهرزاد يشير إلى أنها كانت النقطة الفاصلة بين (الوعي الاجتماعي) الذي تكون لدى شهريار بسبب وجودها، وبين (العماء الغريزي) الذي كان عليه قبل أن تدخل حياته. ولا بد من التذكير بأن شهرزاد لم تكن بعيدة عن رياح الانزياح الذي تجلى في تسهيل مهمة والدها، وتصميمها على تقديم نفسها ضحية جديدة للملك. وبهذا الموقف تكونُ شهرزاد قد أخذت دور والدها، الوزير مملية عليه رغبتها، إنقاذاً لـه من غضب شهريار، وحقناً لدماء بنات جنسها.
***
يختص الفصل الرابع، بموضوعة (المرأة في مجتمعها). وفيه يشير الكاتب إلى أن البيئة في الليالي تمضي في نسق حكائي اجتماعي، واقعي وخيالي.
فهناك واقعي اجتماعي عربي، وتمثله مدن متعددة هي (بغداد البصرة القاهرة ودمشق). وواقعي اجتماعي أجنبي، تمثله (بلاد الهند وفارس وفرنسا والنمسا والصين).
أما الخيالي، فيقسم إلى خيالي عربي وخيالي أجنبي. فالخيالي العربي مستمد من بيئات اجتماعية قديمة، ومن بيئات أخرى معاصرة للراوي. في حين أن الخيالي الأجنبي فهو من تصورات الراوي ومن مسموعاته عن بعض البلاد البعيدة عن المنطقة العربية.
وفي جميع هذه الأحوال يبقى المناخ العالم لبيئة الليالي، هو مناخ عربي إسلامي. وإذا عدنا إلى الخيال، فإننا نلحظ بأن القاص خلق عالماً خيالياً دمج فيه الروح المشتركة بين العوالم المعروفة في الأدب، وهي: العالم العلوي، والواقع المرئي، والعالم السفلي. ومن خلال قدرة الراوي على الانتقال من عالم علوي إلى واقعي وآخر سفلي، من غير أن يشعر المستمع بذلك، تتبدى مهارته وسعة اطلاعه على حضارات مختلفة وعلوم متنوعة. ويرى الكاتب أن الحكايات التي جسدت البيئات الاجتماعية الأجنبية لم تكن من اختراع خيال الرواة، وإنما دخلت نسيج الليالي بفعل انتقال حكايات الليالي إلى تلك البلاد عن طريق التجار والرحالة.
ولدت الليالي وعاشت في أحضان القصور، لذلك حفلت بأخبار سكانها من ملوك وجوار وبكل ما يدور حولهم. لكنها في الوقت ذاته، لم تنس القاع الشعبي وأخباره وما يحدث فيه.
وهذا ما أشار إليه أبو حيان التوحيدي، في قوله: ((لقد خرجت الليالي عن المألوف من المؤلفات والقيم لأنها لم تكن موجهة إلى طبقة الحكام والولاة والعارفين، وإنما كانت موجهة إلى الرعاع وأهل الطبقة المتوسطة)).
ومع ذلك يأسف الباحث، لعدم اهتمام الليالي بالناس وبحركة الشارع وبجوانية البيوت، مثل اهتماماتها بالخانات وبالمقاهي وبالمال والتجارة. ويرى أن الليل كان أكثر حضوراً من النهار، ويعزو ذلك إلى حرارة الطقس نهاراً في المدن مركز الأحداث. ويشير إلى أن حضور البيئة المصرية في الليالي كان أكثر من حضور البيئة البغدادية، وهذا يعود إلى أن تدوين العديد من الحكايات تم في العصريين المملوكي والعثماني. ويستغرب ندرة الطقوس الاجتماعية العامة التي تجلت في بعض المناسبات الفرحة أو الترحة، كأن يعتلي خليفة سدة الحكم أو أن يموت خليفة آخر.
أفاض الباحث في التحدث عن أمور سبق أن مر عليها في الفصول السابقة، وسيمر عليها أيضاً في الفصول اللاحقة. لكن موضوعة المرأة التي هي عنوان الفصل لم تلق منه دراسة وافية، واكتفى بإشارة عابرة إلى نفوذ الزوجة المصرية في الحياة الاجتماعية الأسرية، من حيث عنايتها بأولادها من الناحية العلمية والاجتماعية، مشيداً بدورها الذي يوازي دور الرجل وقد يفوقه في بعض الأحيان.
ولا بد من التنويه إلى الاهتمام، الذي حظيت به المرأة ـ الجارية في تلك العصور. فكان تجار النخاسة يهتمون بتثقيفها وتعليمها، لأنها تشكل لهم مصدر رزق وفير.
***
في الفصل الخامس، يضع حسن حميد (الذكورة في مواجهة الأنوثة، ويبحث الإشكالية الأساسية في الليالي المتمثلة بعلاقة المرأة بالرجل: اختلافاً وتوافقاً وحضوراً وغياباً وقسوة وألفة. فعندما أقلع شهريار عن قتل الفتيات، فهو لم يقلع عن ذلك إكراماً لشهرزاد وتكرماً عليها بحياتها، ولا حفاظاً على الجنس الأنثوي من الانقراض، وإنما كان إقلاعاً عن مد روحه بأسباب الموت الشخصي قهراً وكمداً. وهذا يدل على استجابته للعلاج عن طريق الكلام، الذي زينته شهرزاد بالأمثلة والحكايات والروايات.
وبفضل دأب شهرزاد وذكائها العالي، استطاعت أن تضع الذكورة في مكانها الطبيعي الفطري. وتظهر لشهريار بأن سوء العلاقة بين الرجل والمرأة، تتأتى من سوء تصرف الطرفين، وليس من المرأة وحدها.
فالمرأة، من وجهة نظر الباحث، عندما تشعر بحاجتها إلى زوجها وتجده غير مكترث بانفعالاتها الأنثوية، يتولد لديها شعور يدفعها إلى التطلع نحو رجل آخر، تتوسم فيه قدرة تولد ما عجز الزوج عن إنجازه. وما اضطراب العلاقة الزوجية في أكثر الحكايات، إلا لعدم فهم الرجل طبيعة المرأة، أو لعدم تنازله عن منزلته (البطريركية).
لكن شهرزاد بحصافتها أفسحت في المجال لتعبر بحكاياتها عن سيطرة الذكور، وعن إذعان المرأة ورضوخها. ورأت أن المرأة تمارس دورها الاجتماعي من أجل راحة الرجل ووجوده، لا من أجل ذاتها ووجودها. واستنكرت أن تتحول المرأة إلى مجرد شهوة، بيد رجل لاعب، غايته إشباع رغباته الذكورية.
وإنصافاً من شهرزاد للمرأة في ذلك العصر، عرضت لها في حكاياتها صوراً متعددة منها:
المرأة العالمة والقارئة والشاعرة واللغوية والتاجرة، وذلك بهدف عدم تأطيرها في نمطية المتعة والإنجاب.
***
في الفصل السادس، يتناول الباحث موضوعة (الذكورة المريضة ـ الذكورة المثلية). ويرى أن العلاقة بين الذكر والأنثى في الليالي، تبدو في حالة مواجهة دائمة بين طبيعة قاسية وأخرى لطيفة. الطبيعة الأولى زادتها بعض الظروف الاجتماعية قسوة، والطبيعة الثانية زادتها بعض الظروف العدوانية انسحاباً وتوارياً. لكن عندما أوقف شهريار في نفسه غريزة القتل، أوقفت شهرزاد المطاردة العدوانية بين الذكر والأنثى. وطويت الظنون التي يوجهها أحدهما للآخر، اتهاماً بخيانته مع آخر أو مع أخرى، فتحولت العلاقة بينهما إلى محبة وتواد وتراحم.
وقد أكدت شهرزاد بمواقفها، أن المرأة لا تخون قناعاتها الاجتماعية ولا تربيتها، من أجل إرضاء غريزتها ومتطلبات أنوثتها. كما أنها لا تخون عواطفها وأنوثتها، فإن هي أعطت مغتصبها جسدها، مرغمة، لا تعطيه روحها.
***
في الفصل السابع، يجمل الباحث كل ما تقدم في الكتاب تحت بندين اثنين: (المضامين والأساليب). فالموضوعات تشير إلى مضمونية الحياة الاجتماعية، المكشوف منها والمضمر. وتشير أيضاً إلى حركية المعرفة وأساليبها جدة وتعدداً، وإلى استفادتها من الحضارات الإنسانية الأخرى. تجلت المضامين، في الموضوعات التالية:
1 ـ العشق، ويشكل موضوعة رئيسة في أغلب الحكايات تؤكد حاجة الذكر إلى الأنثى وبالعكس.
2 ـ التعددية في العلاقات بين الذكور والإناث.
3 ـ ظلم المرأة من قبل الرجل، بسبب انعدام معرفته بها معرفة حقيقية.
4 ـ وضوح التاريخية في الليالي، من خلال الإنسان والمكان والأحداث التي جرت في فترات زمنية مختلفة ومتعددة، سواء أكانت في بغداد أم في القاهرة أو في الشام.
فحضرت فيها وسائل المواصلات بطرقها المختلفة، والمدن المسورة وبواباتها التي تغلق مع حلول الظلام. فيصير الليل هجوعاً إلى المدينة ـ المكان، لا إلى الفراش.
5 ـ البطولة ومعانيها، والهدف منها ترسيخ قيم الشجاعة والصبر والذكاء، وتوكيد أهمية دور الفروسية في نصرة الدين الإسلامي.
6 ـ المغامرات الحافلة بالغرائبية والخيال، التي غالباً ما يكون مسرحها البحر أو الجزر التي تقع في فضائه. وتجلى فيها بساط الريح طائر الرخ والحصان الطائر.
7 ـ الاستبداد الذي يتمثل في عدة مواقف، منها: قتل شاه زمان لزوجته، وشهريار لزوجته وعشيقها، ثم متابعة أعماله الدموية.
أما الأساليب في الليالي، فتتنوع بين أنماط كتابية متعددة تتراوح بين الخبر القصصي والقصة والرواية والسيرة والحكاية والطرافة والتعليق. وقد غلب على معظمها السطحية ما عدا القليل منها الذي يتحلى بعمق أدبي ولا سيما في الجانب الأسطوري من القصص.
تتمثل البنية المعرفية في الليالي، في ثلاثة مستويات:
1 ـ التقاليد: التي تنتج أحكاماً منقولة من جيل إلى جيل آخر، فتحملها الأسرة ويتبناها المجتمع.
2 ـ الأفكار: أسهم العقل العربي في إنجاز الكثير من الأفكار، التي سمحت بإيجاد نهضة معرفية قل نظيرها في ذلك الزمان. ويعد كتاب الليالي كتاباً حاملاً للفكر والمعرفة، لأنه لم يكتف بأفكار مجتمعه ومعارف قومه، بل نقل أفكار حضارات أخرى ومعارفها.
3 ـ الخيال الذي أنتج تصورات مهمة، ليس عن الواقع المعيش وحده وإنما عن عوالم في مجتمعات وأماكن لم ترها غير عين الراوي، المحمول إليها على جناح الخيال.
***
لفتتني في هذه الدراسة، العلاقة الحميمة التي عقدها حسن حميد بينه وبين مفردات لغوية عديدة، استطاع بها أن يعبر عن أسلوب يخصه وحده. فتمكن بهذه المفردات ومن خلال دربة مميزة، أن ينجز نصاً يشبهه كعادته دائماً. من هذه المفردات، أذكر:
(انشغالاً حميماً)، (الرؤية الراغبة)، (المعيوشة)، (مضايفة)، (السامقة)، (لأسباب علوقة بها)، (الشهوة المحلومة)، (دواخلها الجوانية)، (جوانية البيوت)، (الباذخ)، (الجولان)، (المضايفات)، وسواها.
***
درس حسن حميد الليالي بقلب أديبٍ وقلم مفكرٍ وإحساس عالم اجتماع، واستطاع الوصول إلى مقاربات مهمة، تميزت بالحسم في كشفها عن جوهر العلاقات الثنائية بين الرجل والمرأة، وبين الرجل والرجل. وأدخلنا في تفاصيل حميمية، وهو متيقن من مثلية شهريار ومثلية سواه من رجال القصر الملكي في زمنه وفي زمن والده من قبله. فقد وضعنا أمام مشهدٍ كأنه هاربٌ من المسرح الشكسبيري، لكن الحقيقة هي أن (حسن) وبفضل باصرتِه السابرةِ لروحِ الشخصيات، أراد أن يواجهنا بأمرٍ خيل إليه أننا نجهله، أو ربما يخطرُ في بالنا ونتحاشى التحدثَ فيه.
وفي ظني أن مقاربات حسن التي تحلت في معظمها بالحسم واليقين، هو أمر يحسب له بقدر ما يحسب عليه. لأن الحسم في الأحداث التاريخية أمر صعب المنال، مهما انطوت عليه تفاصيل هذه الأحداث من مشاعر إنسانية، ومهما امتلك الباحث من دقة في التحليل وقوة في الحدس.
فكتاب ألف ليلة وليلة واحد من الكتب التي وصلت إلى الثقافة العربية عبر أوروبا، بعد صدوره في عدة لغات أجنبية، ومنها العربية التي أنجزها الفرنسي انطوان غالان عام 1704م وأصدرها في مجموعة أدبية ذات وحدة كاملة، كانت هي الأكثر شيوعاً والأكثر قراءة والأكثر ديمومة. وتركت تأثيراً واضحاً على أسلوب الكتابة الأوروبية في الفترة الذهبية التي شهدها ذلك القرن. وقد برزت حكايات ألف ليلة وليلة، من خلال أعمال بعض الأدباء الفرنسيين الكبار، أمثال ستاندال وكوليردج وأدغار ألان بو وسواهم.
كما لعبت ترجمة الليالي إلى لغات مختلفة دوراً مهماً في تعريف المهتمين بهذا النوع من الأدب السردي. فعلى سبيل المثال يصف الأديب التركي (أورهان باموك) في مقابلة له في (جريدة الحياة، عدد 15897 تاريخ 13 تشرين الأول)، كتاب ألف ليلة وليلة ((بكنز لا يقدر بثمن)). ويقول إنه تمكن ((من قراءته باللغة الإنكليزية، فأعجب بالمنطلق الدفين لحكاياته، وبدعاباتها الخفية وغناها وغرابتها وجمالها وقباحتها ووقاحتها وصفاقتها)).
ويضيف: ((بعد قراءتي الثالثة لها، بدأت أفهم السر الكامن وراء إعجاب أدباء الغرب بها، ورأيتها كأنها بحر من القصص لا نهاية له. وأذهلني ما تضمنته من خفايا تركيبية. وربما يعود ذلك إلى أني عشت بما فيه الكفاية، وعرفت أن الحياة عبارة عن خيانة وحيلة. لذا تمكنت من أن أقدر ألف ليلة وليلة على أنها تحفة فنية.)).
أما الأدباء العرب الذين اهتموا بالأدب المكتوب باللغة العربية الفصيحة، فقد عزفوا عن دراسة الأدب المكتوب باللغة المحكية، ولم يلتفتوا إلى الليالي إلا في زمن متأخر وبعد أن لحظوا اهتمام الباحثين الغربيين بها، واستلهامهم منها أعمالاً موسيقية وقصصاً وروايات وحتى أفلاماً سينمائية. وقد عاد كتاب ألف ليلة وليلة من الغرب إلى التراث العربي، محملاً بعلوقات كثيرة من ثقافات صادفها في أثناء عبوره الزمني والمكاني، وبتأويلات السابقين إلى قراءته الباحثين في مضامينه، وذلك لأن تدوينه تم في مراحل متأخرة.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب، فليس غريباً أن يقع عليه اختيار الأديب حسن حميد كمادة بحثية من أجل الحصول على درجة علمية عالية. فهو عمل كلاسيكي خالد، ما يزال يجذب الناس إليه ويحثهم على قراءته، لما تنطوي عليه حكاياتها من عجائب الأحداث وغرائب الطباع. ولما تتركه من أثر في نفس قارئها، وفي تكوينه الثقافي. فمعانيها لا تنتهي ولطائفها لا تستنفد، مهما تكررت قراءتها ومهما اختلف القراء فيها أو عليها.
وليس غريباً أيضاً، أن يظهر صوت حسن حميد مميزاً في دراسة هذا التاريخ السردي وهو أديب مشهود له بالاجتهاد في العمل وبتفرد في الأسلوب. فقد أراد أن يكون له طريقة في البحث تفترق عن طرائق من سبقه من الباحثين في هذا التراث، لكي يُسمع صوته الخاص به، لا أن يكون صدى لأصوات الآخرين. وليضفي على بحثه جدة، تمنحه ألق العلم وجاذبية المعرفة.
لهذا فإن عمله لم يقتصر على البحث في محوري الأدب والتاريخ لحكايات ألف ليلة وليلة، اللذين تركزت عليهما معظم الدراسات، وإنما جاس خفايا المشاهد بجرأة الباحث عن الحقيقة، وتمعن فيها بعينين تختلفان عن عيون سواه من الباحثين. فحملت دراسته إلى القارئ رؤية خاصة ومعاني مميزة وتحليلاً غير مسبوق. فلجأ إلى المنهج التحليلي وطرح أسئلة شغلت فكره وقلمه، يتعلق معظمها بموقف شهريار من النساء وتبنيه قتلهن.
***
يدرس الباحث الليالي تاريخياً واجتماعياً، لمعرفة نشأتها ورصد آثارها وبيان مصادرها. ولبيان الأدوار الاجتماعية لكل من الرجل والمرأة، ولاستخلاص القيم الأخلاقية منها واستجلاء المعايير الجمالية فيها.
فالدراسات العربية عموماً، كما يقول، تعاملت مع الليالي على أنها عبارة عن حوادث وأخبار، بعيداً عن وظائفها الاجتماعية. ويأخذ على الدارسين العرب، إهمالهم الزلزال الذي أحدثه الفعل الدموي في بنيتين أساسيتين تتمثلان، في البنية النفسية لشهريار والبنية المعرفية للمجتمع. ويرى أن الغاية من تدوين الليالي وأهميتها، ليست في كونها تؤرخ لفترة زمنية وتقدم أنماط المجتمع وطبقاته. ولا في كونها تقص أخبار العلوم وتطورها، وتتحدث عن العمران والفتوحات والإصلاح وشؤونه. ولا لأنها تبين درجات الظلم في المجتمع وألوانه تطلعاً إلى العدل والعلوم الجديدة. لكن الغاية من التدوين، كما يظن، هي أبعد من كل ما سبق ذكره على أهميته، وتكمن في مضمون الليالي الذي يقدم صورة معرفية عن الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك الأيام.
***
يقوم الكتاب على سبعة فصول، تقدم لمحة عن مجتمع ألف ليلة وليلة، في جميع مكوناته الفكرية والدينية والعلمية. وهي: 1 ـ نشأة الليالي: تاريخها ومؤلفها. 2 ـ غيبوبة القص ـ غيبوبة الاستماع. 3 ـ الانزياح: الجسد والسلطة. 4 ـ المرأة في مجتمعها. 5 ـ الذكورة في مواجهة الأنوثة. 6 ـ الذكورة المريضة، أو الذكورة المثلية. 7 ـ المضامين والأساليب.
في الفصل الأول، يبين الكاتب أن الحكايات في كتاب ألف ليلة وليلة، لا تحمل توقيع مؤلف واحد. وإنما هي عبارة عن عمل تراكمي تم جمعها على فترات متعددة ومن قبل رواة عديدين، شأنها في ذلك شأن الأدب الشعبي على مختلف أنواعه السردية والشعرية.
فالأدب الشعبي السردي نما وانتشر شفهياً، ومن ثم استطالت أحداثه وتفاصيله تبعاً لموهبة الراوي ومقدرته اللغوية والحكائية، ووفقاً لرغبات المستمعين وأهوائهم أيضاً. وهذا يبرر تعدد الأساليب التي كتبت بها حكايات ألف ليلة وليلة، وما يشابهها في السرديات الشعبية. والسبب، عند الباحث، في عدم نسبة الليالي إلى مؤلف بعينه يعود إلى جملة الدواعي التي أدت إلى تجاهل الليالي والصدود عنها، لأنها موجهة للعامة والرعاع وليس للخاصة من ملوك وأمراء وولاة وتجار. وأيضاً بسبب خرافاتها الكثيرة وخيالها الممتد إلى عوالم الجن والعفاريت، ولاتسامها بالسطحية والعفوية، وإلى عدم احتفائها بالقيم الأخلاقية والاحتشام، حيث ذكرت فيها اللقاءات الجنسية وتفاصيل الأعضاء التناسلية عند الجنسين، وهذا ما جعل الحكواتي يخجل من أن ينسب هذه التوصيفات إلى نفسه. بل إن المجاهرة في ذلك العصر بتأليف كتاب مثل ألف ليلة وليلة، كانت مغامرة. ولا سيما في عصر ألفت فيه أمهات الكتب في علوم العربية والفلسفة والفقه.
وهنا أود الإشارة إلى أن الباحث لم يكن دقيقاً جداً عندما رد عدم معرفة اسم مؤلف الليالي إلى كونها (موجهة للعامة وليس للخاصة)، وأيضاً (لاتسامها بالعفوية والسطحية). فلو كانت الليالي في مضمونها لا تخص سوى الطبقة الشعبية البسيطة، لما غادرت بيئتها ووصلت إلى شهريار وفتنته. كما أن العفوية لا علاقة لها بالسطحية، فكم من عمل فني يحمل في عمق مراميه، عفوية تشد السامع والمشاهد والقارئ!
أما صعوبة التعرف بدقة إلى تاريخ نشوء الليالي، فيعود إلى تعدد طبعات الليالي في الشرق وفي الغرب، وإلى تباين طرائق روايتها وتفاوت مستوياتها في اللغة والأسلوب.
ويرجع بعض الباحثين القدماء، أن نواة هذه الليالي قد تكون فارسية الأصل مأخوذة من مخطوط فارسي اسمه (هزار أفسانة)، لكنها مع مرور الزمن صارت بشخصياتها وبيئاتها الاجتماعية، عربية الهوية والانتماء.
***
في الفصل الثاني، وعنوانه: غيبوبة القص ـ غيبوبة الاستماع، يسعى الكاتب إلى طرح فرضيات تحمل وجهات نظره، للدخول في حكايات الليالي وفي شخصيتي شهريار وشهرزاد، للتعرف على ما ينهض في حياتهما من مواقف راسخة وأحداث مستجدة بعد ممارسة القص وممارسة الاستماع.
1 ـ تقوم الفرضية الأولى على خلفية بعض أنماط السلوك المختلفة في المعاملة الجنسية، والتي عرفت بالشذوذ الجنسي أو ما يسمى بالمثلية. ويعزو علماء النفس الشذوذ، إلى وجود خلل في النسيج العام للبنية النفسية من جهة، وإلى وجود خلل في البنية الاجتماعية من جهة أخرى، إضافة إلى الظروف التي رافقت نشأة الشخص المثلي.
2 ـ فرضية ثانية، تصل حد اليقين، تقول إن الملك شهريار كان رجلاً مثلياً.
ويبني الباحث هذه الفرضية على الحكايات الدائرة بين والدة شهريار وأبيه، وتدل على أن العلاقة بينهما كانت علاقة اجتماعية، لا علاقة زوجية. إلى جانب أن المجتمع الأنثوي كان مجهولاً لدى شهريار، على الرغم من اكتظاظ القصر بالحريم.
فمشهد الملكة الزوجة مع عبدها مسعود في طقس جنسي كامل، أعاد شهريار إلى الرؤية الأولى حين شاهد أمه في واحدة من مضاجعاتها العديدة مع عبيد قصرها وخدمها.
3 ـ الفرضية الثالثة، تتعلق بتصرفات الملكة الأم والملكة زوجة الابن التي نتجت عن كون الأب والابن مثليين. فالرجال في القصر تحولوا عاطفياً إلى أمثالهم من الرجال، وتجاهلوا النساء. والمتعة التي ولدتهما لديهم المثلية منذ الصغر، أغنتهما عن الخوض في التجربة مع النساء وإدراك مغزاها وتذوق جمالها.
4 ـ الفرضية الرابعة، مستقاة من الأخبار التي وردت في الليالي عن الملكين شهريار وأخيه شاه زمان، وجميعها تتمحور حول مضاجعة امرأتيهما عبدين من عبيد القصر. هذه المضاجعة التي طيرت الهدوء من حياتهما. وشوهت إحساسهما الإنساني السوي.
5 ـ الفرضية الخامسة، تنهض على أن وجود المرأة في القصر، كان وجوداً شكلياً ليس إلا. لأن تأثيرات الطفولة على حياة شهريار وأخيه شاه زاد، خربت علاقتهما بالمرأة وأبعدتهما عنها جنسياً وعاطفياً.
وبعد كل هذه التراكمات السلبية، كان لا بد من يأتي الخلاص عن طريق شخص ما، فكانت شهرزاد. شهرزاد التي أرادت، في الظاهر، أن تكون فداء لبنات جنسها. لكنها في الواقع ومن وجهة نظري، أرادت أن تعالج ندوب شهريار التي تنز صديداً وحقداً، لقناعة منها بأن أعماقه ليست شريرة كما تبدو. فرغبت بأن تقوم بعمل ينقذه من نفسه، وينقله من دائرة القدرة على القتل إلى دائرة القدرة على العفو والتسامح.
وبالفعل استطاعت شهرزاد بحكمتها وحنكتها وحكاياتها أن تقلب مفاهيم شهريار حول المرأة ومواقفه منها، وتخلصه من عقدة نفسية تتلخص في أن جميع النساء خائنات بدءاً من زوجته وانتهاء بأمه. بل وزادت على ذلك، بأن أعادت مشاعره إلى مسارها الإنساني وخلصته من حمى الغريزة وطغيانها.
ويعتقد الباحث بأن حكاية (التاجر والجني) التي استهلت بها شهرزاد لياليها، هي صاحبة الفضل في إدخال شهريار في غيبوبة المتعة والاستماع، وفي إدخال شهرزاد في غيبوبة القص ومتعة السرد. فالجني أطلق سراح التاجر ووهب دمه للمسافرين الثلاثة، تماماً مثلما فعل شهريار، ووهب دم شهرزاد إلى المجتمع الأنثوي.
في حين يغلب على الظن أنه كان من الأفضل القول، إن هذه الحكاية أهدت (شهريار) مفتاحاً فتح بوابة عقله، وأهلته أن ينظر إلى العلائق الإنسانية بين الرجل والمرأة، نظرة موضوعية وعقلانية. وزيادة في التوكيد على استمتاع شهريار بحكايات شهرزاد واستغراقه في الاستماع إليها، يشير الباحث أن (شهريار) لم يتنبه إلى التبدلات التي طرأت على جسد شهرزاد في أثناء حملها منه، وإنجابها ثلاثة ذكور.
***
في الفصل الثالث، وموضوعاته: الجسد، الشهوة، الانزياح: الجسد والسلطة، يقدم الكاتب معالجة نصية لمفهوم الانزياح في الليالي والثبات فيها، ولا سيما أن شهريار عاش الانزياح النفسي والجسدي بنوعيه: السلبي والإيجابي. فقد عرف الانزياح السلبي، منذ طفولته. ذاق مرارته وعانى من شدة وطأته، على روحه وجسده. وذلك بسبب رؤية أمه، وهي تضاجع أحد عبيد القصر. وما عمق الانزياح السلبي في نفس شهريار وفي تصرفاته، أن زوجته لم تكن أحسن حالاً من أمه، فهي أيضاً سلكت السلوك ذاته وضاجعت العبد مسعود. قسوة المشهد صدمت شهريار، وأفقدته إحساسه بأنوثة المرأة. وقادته بالتالي إلى اتخاذ مواقف غير سوية، تجلت بقتل النساء اللاتي قادهن القدر إلى المثول بين يديه.
وقد أدت معاناة شهريار، إلى اضطراب في الجانب المعرفي تجاه المرأة في مجتمع يقف شهريار في مقدمته. أما الانزياح الإيجابي، فتم بعد أن تعرف شهريار إلى شهرزاد، وبدأ مرحلة التفاعل مع رسائلها التي كانت تبثها له عبر شخوص حكاياتها وتصرفاتهم، توكيداً على أن الكلمة الطيبة يمكن أن تكون معادلة للدم.
فحينما وجد شهريار أن شهرزاد تختلف بحضورها وحنكتها وذكائها عن النساء اللاتي عرفهن، وثق بها وسكن إليها، مستمتعاً بلذة الاستماع وباكتشاف جمال المرأة وروعة التعرف إلى أنوثتها ورهافة إنسانيتها. هذا الاكتشاف، أزاح شهريار ومجتمعه إلى ضفة أخرى من المشاعر الإنسانية، مشاعر المحبة والثقة. وأعاد إليه طمأنينة افتقد وجودها هو وشعبه. ولا ننسى بأن شهرزاد تمكنت من نزع فتيل الشك بالنساء من قلب شهريار، وجعلته يتعرف إلى المرأة روحاً وجسداً، ويحبها. يضاف إلى ذلك أنها استطاعت بأنوثتها الخلاقة أن تحوله من رجل عقيم، إلى رجل ولود.
إن ما صنعته شهرزاد يشير إلى أنها كانت النقطة الفاصلة بين (الوعي الاجتماعي) الذي تكون لدى شهريار بسبب وجودها، وبين (العماء الغريزي) الذي كان عليه قبل أن تدخل حياته. ولا بد من التذكير بأن شهرزاد لم تكن بعيدة عن رياح الانزياح الذي تجلى في تسهيل مهمة والدها، وتصميمها على تقديم نفسها ضحية جديدة للملك. وبهذا الموقف تكونُ شهرزاد قد أخذت دور والدها، الوزير مملية عليه رغبتها، إنقاذاً لـه من غضب شهريار، وحقناً لدماء بنات جنسها.
***
يختص الفصل الرابع، بموضوعة (المرأة في مجتمعها). وفيه يشير الكاتب إلى أن البيئة في الليالي تمضي في نسق حكائي اجتماعي، واقعي وخيالي.
فهناك واقعي اجتماعي عربي، وتمثله مدن متعددة هي (بغداد البصرة القاهرة ودمشق). وواقعي اجتماعي أجنبي، تمثله (بلاد الهند وفارس وفرنسا والنمسا والصين).
أما الخيالي، فيقسم إلى خيالي عربي وخيالي أجنبي. فالخيالي العربي مستمد من بيئات اجتماعية قديمة، ومن بيئات أخرى معاصرة للراوي. في حين أن الخيالي الأجنبي فهو من تصورات الراوي ومن مسموعاته عن بعض البلاد البعيدة عن المنطقة العربية.
وفي جميع هذه الأحوال يبقى المناخ العالم لبيئة الليالي، هو مناخ عربي إسلامي. وإذا عدنا إلى الخيال، فإننا نلحظ بأن القاص خلق عالماً خيالياً دمج فيه الروح المشتركة بين العوالم المعروفة في الأدب، وهي: العالم العلوي، والواقع المرئي، والعالم السفلي. ومن خلال قدرة الراوي على الانتقال من عالم علوي إلى واقعي وآخر سفلي، من غير أن يشعر المستمع بذلك، تتبدى مهارته وسعة اطلاعه على حضارات مختلفة وعلوم متنوعة. ويرى الكاتب أن الحكايات التي جسدت البيئات الاجتماعية الأجنبية لم تكن من اختراع خيال الرواة، وإنما دخلت نسيج الليالي بفعل انتقال حكايات الليالي إلى تلك البلاد عن طريق التجار والرحالة.
ولدت الليالي وعاشت في أحضان القصور، لذلك حفلت بأخبار سكانها من ملوك وجوار وبكل ما يدور حولهم. لكنها في الوقت ذاته، لم تنس القاع الشعبي وأخباره وما يحدث فيه.
وهذا ما أشار إليه أبو حيان التوحيدي، في قوله: ((لقد خرجت الليالي عن المألوف من المؤلفات والقيم لأنها لم تكن موجهة إلى طبقة الحكام والولاة والعارفين، وإنما كانت موجهة إلى الرعاع وأهل الطبقة المتوسطة)).
ومع ذلك يأسف الباحث، لعدم اهتمام الليالي بالناس وبحركة الشارع وبجوانية البيوت، مثل اهتماماتها بالخانات وبالمقاهي وبالمال والتجارة. ويرى أن الليل كان أكثر حضوراً من النهار، ويعزو ذلك إلى حرارة الطقس نهاراً في المدن مركز الأحداث. ويشير إلى أن حضور البيئة المصرية في الليالي كان أكثر من حضور البيئة البغدادية، وهذا يعود إلى أن تدوين العديد من الحكايات تم في العصريين المملوكي والعثماني. ويستغرب ندرة الطقوس الاجتماعية العامة التي تجلت في بعض المناسبات الفرحة أو الترحة، كأن يعتلي خليفة سدة الحكم أو أن يموت خليفة آخر.
أفاض الباحث في التحدث عن أمور سبق أن مر عليها في الفصول السابقة، وسيمر عليها أيضاً في الفصول اللاحقة. لكن موضوعة المرأة التي هي عنوان الفصل لم تلق منه دراسة وافية، واكتفى بإشارة عابرة إلى نفوذ الزوجة المصرية في الحياة الاجتماعية الأسرية، من حيث عنايتها بأولادها من الناحية العلمية والاجتماعية، مشيداً بدورها الذي يوازي دور الرجل وقد يفوقه في بعض الأحيان.
ولا بد من التنويه إلى الاهتمام، الذي حظيت به المرأة ـ الجارية في تلك العصور. فكان تجار النخاسة يهتمون بتثقيفها وتعليمها، لأنها تشكل لهم مصدر رزق وفير.
***
في الفصل الخامس، يضع حسن حميد (الذكورة في مواجهة الأنوثة، ويبحث الإشكالية الأساسية في الليالي المتمثلة بعلاقة المرأة بالرجل: اختلافاً وتوافقاً وحضوراً وغياباً وقسوة وألفة. فعندما أقلع شهريار عن قتل الفتيات، فهو لم يقلع عن ذلك إكراماً لشهرزاد وتكرماً عليها بحياتها، ولا حفاظاً على الجنس الأنثوي من الانقراض، وإنما كان إقلاعاً عن مد روحه بأسباب الموت الشخصي قهراً وكمداً. وهذا يدل على استجابته للعلاج عن طريق الكلام، الذي زينته شهرزاد بالأمثلة والحكايات والروايات.
وبفضل دأب شهرزاد وذكائها العالي، استطاعت أن تضع الذكورة في مكانها الطبيعي الفطري. وتظهر لشهريار بأن سوء العلاقة بين الرجل والمرأة، تتأتى من سوء تصرف الطرفين، وليس من المرأة وحدها.
فالمرأة، من وجهة نظر الباحث، عندما تشعر بحاجتها إلى زوجها وتجده غير مكترث بانفعالاتها الأنثوية، يتولد لديها شعور يدفعها إلى التطلع نحو رجل آخر، تتوسم فيه قدرة تولد ما عجز الزوج عن إنجازه. وما اضطراب العلاقة الزوجية في أكثر الحكايات، إلا لعدم فهم الرجل طبيعة المرأة، أو لعدم تنازله عن منزلته (البطريركية).
لكن شهرزاد بحصافتها أفسحت في المجال لتعبر بحكاياتها عن سيطرة الذكور، وعن إذعان المرأة ورضوخها. ورأت أن المرأة تمارس دورها الاجتماعي من أجل راحة الرجل ووجوده، لا من أجل ذاتها ووجودها. واستنكرت أن تتحول المرأة إلى مجرد شهوة، بيد رجل لاعب، غايته إشباع رغباته الذكورية.
وإنصافاً من شهرزاد للمرأة في ذلك العصر، عرضت لها في حكاياتها صوراً متعددة منها:
المرأة العالمة والقارئة والشاعرة واللغوية والتاجرة، وذلك بهدف عدم تأطيرها في نمطية المتعة والإنجاب.
***
في الفصل السادس، يتناول الباحث موضوعة (الذكورة المريضة ـ الذكورة المثلية). ويرى أن العلاقة بين الذكر والأنثى في الليالي، تبدو في حالة مواجهة دائمة بين طبيعة قاسية وأخرى لطيفة. الطبيعة الأولى زادتها بعض الظروف الاجتماعية قسوة، والطبيعة الثانية زادتها بعض الظروف العدوانية انسحاباً وتوارياً. لكن عندما أوقف شهريار في نفسه غريزة القتل، أوقفت شهرزاد المطاردة العدوانية بين الذكر والأنثى. وطويت الظنون التي يوجهها أحدهما للآخر، اتهاماً بخيانته مع آخر أو مع أخرى، فتحولت العلاقة بينهما إلى محبة وتواد وتراحم.
وقد أكدت شهرزاد بمواقفها، أن المرأة لا تخون قناعاتها الاجتماعية ولا تربيتها، من أجل إرضاء غريزتها ومتطلبات أنوثتها. كما أنها لا تخون عواطفها وأنوثتها، فإن هي أعطت مغتصبها جسدها، مرغمة، لا تعطيه روحها.
***
في الفصل السابع، يجمل الباحث كل ما تقدم في الكتاب تحت بندين اثنين: (المضامين والأساليب). فالموضوعات تشير إلى مضمونية الحياة الاجتماعية، المكشوف منها والمضمر. وتشير أيضاً إلى حركية المعرفة وأساليبها جدة وتعدداً، وإلى استفادتها من الحضارات الإنسانية الأخرى. تجلت المضامين، في الموضوعات التالية:
1 ـ العشق، ويشكل موضوعة رئيسة في أغلب الحكايات تؤكد حاجة الذكر إلى الأنثى وبالعكس.
2 ـ التعددية في العلاقات بين الذكور والإناث.
3 ـ ظلم المرأة من قبل الرجل، بسبب انعدام معرفته بها معرفة حقيقية.
4 ـ وضوح التاريخية في الليالي، من خلال الإنسان والمكان والأحداث التي جرت في فترات زمنية مختلفة ومتعددة، سواء أكانت في بغداد أم في القاهرة أو في الشام.
فحضرت فيها وسائل المواصلات بطرقها المختلفة، والمدن المسورة وبواباتها التي تغلق مع حلول الظلام. فيصير الليل هجوعاً إلى المدينة ـ المكان، لا إلى الفراش.
5 ـ البطولة ومعانيها، والهدف منها ترسيخ قيم الشجاعة والصبر والذكاء، وتوكيد أهمية دور الفروسية في نصرة الدين الإسلامي.
6 ـ المغامرات الحافلة بالغرائبية والخيال، التي غالباً ما يكون مسرحها البحر أو الجزر التي تقع في فضائه. وتجلى فيها بساط الريح طائر الرخ والحصان الطائر.
7 ـ الاستبداد الذي يتمثل في عدة مواقف، منها: قتل شاه زمان لزوجته، وشهريار لزوجته وعشيقها، ثم متابعة أعماله الدموية.
أما الأساليب في الليالي، فتتنوع بين أنماط كتابية متعددة تتراوح بين الخبر القصصي والقصة والرواية والسيرة والحكاية والطرافة والتعليق. وقد غلب على معظمها السطحية ما عدا القليل منها الذي يتحلى بعمق أدبي ولا سيما في الجانب الأسطوري من القصص.
تتمثل البنية المعرفية في الليالي، في ثلاثة مستويات:
1 ـ التقاليد: التي تنتج أحكاماً منقولة من جيل إلى جيل آخر، فتحملها الأسرة ويتبناها المجتمع.
2 ـ الأفكار: أسهم العقل العربي في إنجاز الكثير من الأفكار، التي سمحت بإيجاد نهضة معرفية قل نظيرها في ذلك الزمان. ويعد كتاب الليالي كتاباً حاملاً للفكر والمعرفة، لأنه لم يكتف بأفكار مجتمعه ومعارف قومه، بل نقل أفكار حضارات أخرى ومعارفها.
3 ـ الخيال الذي أنتج تصورات مهمة، ليس عن الواقع المعيش وحده وإنما عن عوالم في مجتمعات وأماكن لم ترها غير عين الراوي، المحمول إليها على جناح الخيال.
***
لفتتني في هذه الدراسة، العلاقة الحميمة التي عقدها حسن حميد بينه وبين مفردات لغوية عديدة، استطاع بها أن يعبر عن أسلوب يخصه وحده. فتمكن بهذه المفردات ومن خلال دربة مميزة، أن ينجز نصاً يشبهه كعادته دائماً. من هذه المفردات، أذكر:
(انشغالاً حميماً)، (الرؤية الراغبة)، (المعيوشة)، (مضايفة)، (السامقة)، (لأسباب علوقة بها)، (الشهوة المحلومة)، (دواخلها الجوانية)، (جوانية البيوت)، (الباذخ)، (الجولان)، (المضايفات)، وسواها.
***
درس حسن حميد الليالي بقلب أديبٍ وقلم مفكرٍ وإحساس عالم اجتماع، واستطاع الوصول إلى مقاربات مهمة، تميزت بالحسم في كشفها عن جوهر العلاقات الثنائية بين الرجل والمرأة، وبين الرجل والرجل. وأدخلنا في تفاصيل حميمية، وهو متيقن من مثلية شهريار ومثلية سواه من رجال القصر الملكي في زمنه وفي زمن والده من قبله. فقد وضعنا أمام مشهدٍ كأنه هاربٌ من المسرح الشكسبيري، لكن الحقيقة هي أن (حسن) وبفضل باصرتِه السابرةِ لروحِ الشخصيات، أراد أن يواجهنا بأمرٍ خيل إليه أننا نجهله، أو ربما يخطرُ في بالنا ونتحاشى التحدثَ فيه.
وفي ظني أن مقاربات حسن التي تحلت في معظمها بالحسم واليقين، هو أمر يحسب له بقدر ما يحسب عليه. لأن الحسم في الأحداث التاريخية أمر صعب المنال، مهما انطوت عليه تفاصيل هذه الأحداث من مشاعر إنسانية، ومهما امتلك الباحث من دقة في التحليل وقوة في الحدس.