شيرين حامد فهمي - جوته.. ألف ليلة وليلة

"ألف ليلة وليلة".. ملهمة الشعراء الألمان
شعر "جوته" بحميمية تجاه بغداد وأصبحت "شهرزاد" ملهمته الأولى

"جوته" والإسلام (1)

هذا هو الجزء الأول من كتاب "جوته" والإسلام، الصادر عن مكتبة دار الشروق الدولية عام 2004، والمُترجم من الألمانية إلى العربية على يد الكاتبة شيرين حامد فهمي. مؤلفة هذا الكتاب هي الأديبة الألمانية الأستاذة الدكتورة "كاترينا مومسين Katrina Mommsen" التي أرادت من خلال كتابها هذا إبراز مبدأ "التعارف" عالياً في وجه "الصدام"؛ أرادت نشر هذا المبدأ وسط بني جلدتها أولاً، ليعلموا بأنه كان موجوداً في يومٍ من الأيام. أرادت أن تنشر هذا المبدأ من خلال إنعاش ذاكرة المواطن الألماني بإرثه وتاريخه الذي احترم وطبق مبدأ "التعارف"؛ وكان "جوته" خير من مثل ذلك الإرث وذلك التاريخ. إليكم الجزء الأول من هذا الكتاب، كما هو منشور:
(1)
ماذا كان يعلم الكتاب والمؤلفون الألمان عن العرب...عن أدبياتهم؟ وماذا يعلمون الآن؟ في بداية القرن الثامن عشر، وصل أول عمل أدبي عربي إلى القارة الأوروبية، إلا إنه وصل في ثوب فرنسي: لقد كانت الرواية العربية المشهورة "ألف ليلة وليلة" باللغة الفرنسية، التي ترجمها المستشرق الفرنسي المعروف "أنطوان جالاند" (1715-1646). وهكذا اندفعت تلك الشرارة من فرنسا، لتبث آثارها في شتى بقاع الأرض.

وكان الانتشار الواسع، الذي لاقاه هذا العمل الأدبي، أمراً غير معهود في ذلك الوقت، إذ لم يكن هناك – بجانب كتاب الإنجيل – كتب تُذكر، تبلغ ذلك الصيت الذي نالته تلك الرواية العربية. بلغة أخرى، لقد ذاع صيت "ألف ليلة وليلة" في قت كان فيه كتاب الإنجيل هو الكتاب الوحيد المتربع على الساحة الفكرية، والمتداول وسط الجميع، باستثناء كتب نادرة وقليلة جداً، يُصعب ذكرها أو تذكرها.

لقد استطاع هذا العمل الخارق أن يكتسب أهمية مباشرة من خلال انتشاره الواسع في معظم البلدان الثقافية في أنحاء أوروبا، لدرجة أنه لم يمر على أحدٍ من تلك البلدان إلا ويكون قد قرأها مرة واحدة على الأقل..على أن تكون هذه المرة حافلة بالسعادة والإثارة في آن واحد؛ كما استطاع هذا العمل أن يكتسب أهمية غير مباشرة، حينما أتاح لكثير من الأدباء استخدامه كمادة ثرية للنهل منها؛ تلك المادة التي لا يذهب سحرها أبداً، مهما مرت عليها السنين والأعوام.

باختصار، إن السحر الذي عكسته رواية "ألف ليلة وليلة" – ذلك السحر غير العادي – كان من العظمة التي لا يمكن نكرانها على أية حال؛ لدرجة أنه يصير من الجائز ومن المنطقي وضعه مع "ملاحم هومير" أو"دراما شيكسبير" على قدم المساواة، بالرغم من اختلاف المحتوى اختلافاً تاماً.

كتاب ألمان كثيرون...ومثلهم شعراء ومؤلفون..دخلوا بحماسة شديدة في خندق "ألف ليلة وليلة"، ذلك الخندق المحظور آنذاك. فكان هناك "جوته"، "ماكسيماليين كلينجير"، "يوهان هاينريش فوس"، "جون بول"، "أوجوست فون بلاتين"، "جورج كريستوف ليشتينبيرج"، "فريدريش روكيرت"، "كارل ميرمان"، "فيلهيلم هاوف"، "إيه.تيه.آه.هوفمان"، "كريستوف مارتين فييلاند"، "هوجو فون هوفمان شتال"، "شتيفان جورج"، "راينر ماريا ريلكه"، "جيورج فريدريش يونجر"، "هيرمان هيسه"، "هيرمان بروخ"...هؤلاء جميعاً أظهروا تبنياً واضحاً وملموساً لرواية "ألف ليلة وليلة"؛ فنشأت تجارب أدبية كثيرة على أثر ذلك التبني.

ولم يقتصر هذا الولع على الماضي..بل امتد أيضاً إلى الحاضر، إلى يومنا هذا. وإن مثالاً واحداً من قصائد الشعر الغنائي الألماني الحديث يمكن أن يُرينا جميعاً مدى ذلك التأثير الخرافي الذي مارسته تلك الأعجوبة الأدبية على شعراء ومؤلفي ألمانيا الحالية. فها هي أشعار "أنا ماريا شيميل" تبث لنا ذلك الولع، قائلة:
لقد جعلتني أحلم
في ألف ليلة وليلة:
مدينة التوابل والذهب
الآن استيقظتَ وأفقت
فذهبت الألوان وبهتت
إلا أنه ما زال هناك البخور
يعيش ويقطن في الطرقات

نحن لن نستطيع إحصاء الأسباب وراء تلك التأثيرات المهولة التي خلفتها "ألف ليلة وليلة"؛ فهي كثيرة وعديدة، لا نهاية لها: ولعل الطابع الديمقراطي لهذه الرواية هو الذي أدى بالفعل إلى ذلك الاستقبال الحميم لتلك النوعية من القصص من قبل الأدب الكلاسيكي الألماني! فقد أشار "كريستوف مارتين فييلاند" (1813-1733) إلى ذلك، موضحاً أن "ألف ليلة وليلة" خاطبت جميع الدوائر: "جميع الأعمار، جميع الأجناس، جميع المستويات، الشباب والعجائز، المتعلمين وغير الأميين، الأغنياء والفقراء، العاملين والعاطلين...كل هؤلاء يجتمعون حول الراوي، ليستمعوا إليه بشغف ونهم، وهو يسرد لهم العجائب والمعجزات. وتناغماً مع هذا الرأي، نجد "جوته" واقفاً..واصفاً إياها باقتضاب، قائلاً: "المتعلم وغير المتعلم يهيم شوقاً بها".
الخيال، السحر، الجان...كلها أدوات تلعب دوراً مركزياً وأساسياً في الرواية؛ ولكن هذا ليس معناه طغيان الغموض والتعقيد والغلظة، بل العكس هو الصحيح: فكل ما هو غير ممكن يُعرض بمنتهى البساطة، بمنتهى الوضوح، بمنتهى الرشاقة. ومن ثم، فلا مكان للألوان السوداوية، ولا مكان للضبابية أو السرمدية التي اعتاد أهل الشمال على استخدامها.

في القرنين الثامن والتاسع عشر، لعبت "الإنسانية" في "ألف ليلة وليلة" دوراً عظيماً ومؤثراً؛ فإذا تصفحتها، وجدت نفسك تتحرك في وسط مجتمع حضاري من الدرجة الأولى، مما يدل على ثقافة راقية قويمة، استمرت عصوراً مديدة لكي تفرز لنا في النهاية ذلك المجتمع الحضاري الرفيع. في "الف ليلة وليلة" نجد الحوارات تُدار بين مختلف المخلوقات: تارة الإنسان مع الإنسان، وتارة الشبح مع الشبح، وتارة الجان مع الإنسان، وتارة الجان مع الشبح..كلها حوارات تدور في أفلاك متعددة ومختلفة: مرة في فلك الضعف والرقة، ومرة أخرى في فلك الحذر والحيطة.

لا شك أن هذا العمل كان ذا ملمس حضاري متميز، تجلى بوضوح في جميع أبطال وشخصيات الرواية، التي انتمت جميعها إلى ثقافة عالية وسامية. فنجد مثلاً حامل الأمتعة يدير حواراً ثرياً للغاية مع سيدة من المجتمع الراقي، بغض النظر عن الفارق بينهما؛ الأمر الذي يدلل مرة أخرى على الثقافة الرفيعة المتميزة التي اتصفت بها القرون العربية الوسطى؛ تلك الثقافة التي أعلت من شأن المُعلم العالم، فجعلته في أعلى مكانة يمكن أن يصل إليها بشر؛ بل جعلته من خير وأفضل نوعية البشر. ولذا كانت المعرفة من أهم الاعتبارات التي شحذت انتباه العرب؛ وأكبر دليل على ذلك ما كانت تسرده وتصوره قصص الحب العربية؛ حينما كانت تصف البطل الجسور – سواء كان أميراً او ابناً لتاجر – بكونه متعلم ومثقف من الدرجة الأولى؛ فتصير أهم مميزاته: إلمامه بلغات عدة، وحبه الشديد للشعر وتمكنه منه.

وقد انسحبت هذه الثقافة – بوجه خاص – على شخصية المرأة في "ألف ليلة وليلة". ومن ثم، فلم يكن عجيباً أبداً، أن تصدر أكثر الكلمات اتزاناً ونضجاً من النساء. إن الرواية أظهرت ذكاء وفطنة ولباقة الراوية، التي اعتمدت كثيراً على ضلاعتها ونجابتها في إدارة الحديث، وفي اختيار الكلمات. وليس أدل علن ذلك من كياستها التي أبدتها في أثناء حديثها مع السلطان الفظ – إلى درجة الجنون – ومخاطبتها له من خلال "العلاج الحواري"، مما يضرب بالنظرة السائدة والمهينة عن المرأة العربية، التي لا تخلو من الازدراء ومن الاستهانة بقدراتها، عرض الحائط.

يبقى أن "ألف ليلة وليلة" لم تتواجد فقط في ظل عالم من المثاليات الحالمة المرتفعة عن الواقع وأحداثه؛ ولم تتواجد فقط في عالم من السحر و"الفانتازيا" ليطفئ ظمأ المستمعين وتعطش القراء؛ بل إنها تواجدت أيضاً في ظل عالم محدد تاريخياً ومعروف جغرافياً؛ في ظل عالم مغلق على نفسه من قبل مناخ ثقافي معين. مناخ تلعب فيه قوى الروح دوراً محورياً، فيتحد العقل والروح سوياً ليقوما بتجديد الأخلاق والقيم معاً؛ إذ أن الراوي العربي كان في نفس الوقت مربياً، ليشكل في النهاية عالماً يسوده نظام أخلاقي قويم؛ وهو العالم الذي تريده الراوية "شهرزاد".

إن ولع الشعراء الألمان ب"ألف ليلة وليلة" كان معروفاً ومتعارفاً عليه؛ وقد أجادوا التعبير عن ذلك بأنفسهم، إلا إنهم لم يصلوا بتعبيرهم إلى الدرجة التي وصل إليها "هوجو فون هوفمان شتال" (1929-1874) الذي كتب قائلاً في عام 1906: "عندما كانت قلوبنا سابحة في مرحلة الشباب، وذواتنا سابحة في وحدتها وعزلتها، إذا بنا نجد أنفسنا في مدينة كبيرة..تغطيها الأسرار والأخطار والإثارة في آن واحد..". وفي مرحلة متأخرة من حياته، كتب "هوفمان شتال" عن "ألف ليلة وليلة" قائلاً: "هذا الشعر بين أيدينا يمثل عالماً بأكمله..ويا له من عالم حافل بشتى الألوان والصور، بالعمق في الفكر، بالقفزات الخيالية، بالوثبات غير الواقعية؛ وفي تفس الوقت بأصناف شتى من الحكمة والبصيرة. هنا تجد ما لا يعد من القصص المسلية، وما لا يحصى من أقوال الحكماء، وما لا يتخيل من المعجزات والخوارق الطريفة والأحلام. هنا تجد كرم الضيافة على أصوله، وتوازن العقل على أكمله، ليجتمعا في النهاية في شخص واحد..كان من الطبيعي - في وسط هذا العالم العجيب – أن تثار حواسنا، وأن يشحذ اهتمامنا من مفرق رءوسنا إلى أخمص قدمينا؛ الحقيقة أننا نعيش هنا كل شئ، فنشعر به ونحس به، مما يجلب إلينا المتعة...إننا نتحرك هنا من أعلى العالم إلى أدناه؛ من الخلفاء إلى البرابرة؛ من الصياد الفقير إلى التاجر الأمير...إنها الإنسانية بمختلف صورها؛ تحفنا، فتحملنا بأمواجها في خفة ورشاقة".

وكذلك تطرق "هوفمان شتال" إلى سمة التدين الملحوظة جداً في "ألف ليلة وليلة"، فقال: "إن وجود الإله كان مسيطراً على جميع هذه الأمور والأشياء؛ فكل شيء – سواء كان إنسانياً، حيوانياً، أو حتى شيطانياً – يتحرك في ظل القداسة الموجودة في السماء. فكما يتحرك الهواء، كانت تتحرك المشاعر الربانية، وكان يتحرك الوفاء والكرم من أول الرواية حتى نهايتها".

أما عن استخدام اللغة في "ألف ليلة وليلة"، فقد لاحظ "هوفمان شتال" الآتي: "هذه اللغة تحتوي على كلمات متحركة، وكذلك على كلمات صلبة وواقفة..إلا إنها - في النهاية - كلمات نابعة من القدم. استخدمت في عرض حياة مترفة باهرة، ولكن – في نفس الوقت – ممارسة بدوية بسيطة. ونحن طبعاً أبعد ما يكون عن ذلك العالم الطبيعي؛ فبغداد والبصرة ليستا مسكناً مناسباً لبطارقتنا الذين لا يستطيعون العيش في خيامها". وبناء على تلك الاستحقاقات والمؤهلات الشعرية الرفيعة، فإنه ليس غريباً على الإطلاق أن نجد "جوته" – بدءا من بلوغه سن الشباب – يشعر بحميمية شديدة تجاه بغداد "ألف ليلة وليلة" وكأنها بيته الذي يسكن إليه؛ وكذلك ليس غريباً على الإطلاق أن نجد شخصية "شهرزاد" مصدر إلهام ل"جوته"، لدرجة قيامه باقتباس العديد من أحاديثها، وتبنيها في الكثير من أعماله.

* باحثة دكتوراة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
 
أعلى