جابر أحمد عصفور - شهرزاد

لا أنسى الأيام التي قضيتها وأنا أقرأ “ألف ليلة وليلة” في مجلداتها الأربعة. أذكر الأحرف المجموعة يدويا، وختام كل حكاية وبدايتها.

ولم أنتبه بالطبع إلى مغزى الحكاية الإطار لكل الحكايات، ولم أدرك أن كل الحكايات تبدأ منها، وتنتهي إليها، والأغرب أني لم أتوقف عند شهرزاد، تلك التي قرأت وعرفت علوم العرب والعجم، ولم أعرف بالطبع أن كلمة شهر بالفارسية تعني المدينة وأن زاد تعني ابنة، فقد كان عليّ أن انتظر سنين طويلة حتى ألم ببعض اللغة الفارسية، وأقرأ الكثير من النقد لأفهم المعنى المدني الذي يشير إلى ابنة المدنية التي تمثل حضور ثقافة المدينة الحديثة في مواجهة ثقافة البادية، ومن ثم بداية الفارق بين صورة المرأة التي هي محل لإفراغ الشهوة الجسدية ومصدر للإنجاب ولا علاقة لها بالرجل الذي لا يمكن أن تتساوى معه في عالم الصحراء الذي يعتمد على القوة الجسدية أكثر مما يعتمد على العقل. ومن ناحية مقابلة حضور المرأة في المدنية التي تتيح لها العلم والتفوق فيه، إلى أن تتفوق على كل العلماء كما فعلت الجارية تودد.

كل ما لفت انتباهي في المرة الأولى التي قرأت فيها ألف ليلة وليلة هو شهرزاد الأنثى بجمالها الفتان وجسمها البديع الذي تخيلته، وهمت طويلا في خيالي الذي سرح في مشهد ذلك العبد الفحل الذي خانت معه زوجة الخليفة زوجها في حفل جنسي يلهب الخيال، والمؤكد أن مجلدات ألف ليلة وليلة أهاجت خيال الجنس لدى شاب دخل مرحلة المراهقة، فقرأت مشاهد ألف ليلة الجنسية مرات ومرات، وحفظت عن ظهر القلب الأشعار التي تتناول الجنس، وصرت أتباهى بها على أقراني من المراهقين الذين تقرّب لي الكثير منهم ليستعير كل واحد جزءا من الليالي، إلى أن ضاعت أجزاؤها بين أصدقائي.

كل ذلك لا أنساه. ولكن الأهم منه وما أعيه بعد النضج، أن ألف ليلة وليلة فتحت أمامي عوالم الخيال بلا حدود، فحلقت فيها إلى ما فوق السحاب، محمولا على بساط سحري مرة، ومتعلقا بخصلة شعر مدلاة من رأس جني مرة ثانية، وممتطيا حصانا سحريا أغيّر وجهته بلولب سحري مرة ثالثة. هكذا، رأيت رحلات السندباد وفتنت بها، وعرفت المعنى الأول لعبارة صلاح عبد الصبور: “السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت”.

وعرفت على نحو غامض ما اتضح لي من تعدد رحلات السندباد وهو ضرورة الانفتاح على الغربة واكتشافها؛ فالبقاء في المكان الواحد جمود، والتغير سر تجدد الحياة، والسفر إضافة عوالم جديدة لا نهائية إلى عوالمنا المحدودة. وعرفت أن الأشرار كثيرون وأن الأخيار قليلون. لكن الله دائما مع المظلوم حتى لو طال عليه الظلم. المهم أن لا يقبل الإنسان الظلم ويرفضه، مستخدما عقله الذي هو مصدر لا ينفد من الألاعيب التي يبدو أنها ضرورية في حالات كثيرة لنيل الحقوق وتحقيق العدل. وأكثر ما يمكن أن يقال عن ألف ليلة وليلة أنها أهم ما خلفه الإبداع العربي في القص من حيث زمن الابتداء القديم.
 
أعلى