نقوس المهدي
كاتب
"المصري" المقصود في رواية الكاتب المغربي محمد أنقار ليس بطلها أو راويها أحمد الساحلي، ولكن المقصود الروائي نجيب محفوظ، المثل الأعلى للساحلي الذي أطلق عليه لقب "المارد المصري".
لقد قرأ الساحلي كل أعمال نجيب محفوظ، وافتتن بها وتمنى لو يكتب عملًا يخلد به مدينته تطوان، مثلما خلَّد محفوظ بعض أحياء القاهرة وحواريها وأزقتها في إبداعاته المختلفة. وكان يتساءل: "ما الذي انفرد به نجيب محفوظ حتى ألمَّ في رواياته بتفاصيل القاهرة وأزقتها، وملايين بشرها، وأصناف عاداتها، وآلاف مشاكلها وأحلامها؟"
مقالات للكاتب
سعد البازعي يوازن بين الألفة والغرابة
"جامعة المشير".. مائة عام من الفوضى
الإسكندرية شاعرة منذ ما قبل الميلاد
لقد تماهى الساحلي، أو اندمج نفسيًا وعاطفيًا، مع شخصيات روايات نجيب محفوظ، لدرجة أنه حدَّث أمه ذات يوم عن رغبته في الزواج من عايدة إحدى بطلات الثلاثية.
يقول الراوي: "وصل بي الهيام إلى درجة أني فاتحت أمي في موضوع الزواج من عايدة. فابتهجت العجوز للخبر وسألت:
- ومن تكون عايدة ..؟
- فاتنة مصرية حلوة وثرية .. لكن المصيبة أنها متزوجة!
ويمتقع وجه الأم من جراء خيبة الأمل. ويجيب الابن:
- عشقي في عايدة بنت آل شداد المصونة في العباسية، وليس في سواها من النساء.
فتنتفض الأم واقفة:
لن أُفاتح أحدًا بهذه الحماقات، وإلا أصبحنا أضحوكة".
وعندما يتزوج الساحلي من رقية، ابنة خالته، وينجب أولادًا، يختار للأول اسم نجيب، والآخر كمال، إشارة إلى نجيب محفوظ، وكمال عبد الجواد أحد أهم شخصيات الثلاثية، وبخاصة "قصر الشوق".
ليس نجيب محفوظ فحسب، ولكن هناك أيضًا أم كلثوم وأغانيها التي كثيرًا ما يحب الراو أو السارد سماعها.
يتأثر الراوي بموت صديقه عبدالكريم الصويري بعد سبعة أيام، أو أسبوع، من إحالته إلى التقاعد، وبلوغه سن الستين، وتملأ رحلات الفلاش باك والذكريات بينهما، أجواء العمل الروائي، بخاصة أن عبدالكريم هو الذي وضع نجيب محفوظ وأعماله بين يديه.
لقد كان الراوي محبًا، بل متعصبًا للشعر، أما النثر فلا يمثل له أية قيمة، ويتساءل: "أي كتابة يمكن أن تعلو فوق الشعر في الجاذبية والسحر؟".
فيقول له عبد الكريم: لا تحكم قبل أن تقرأ.
ويعطيه رواية "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ، ليقرأها، فتسحره الرواية، ويقول: "اختليت في حجرتي بالطابق العلوي بدارنا وعكفت على مطالعة الرواية منذ ساعة الغروب إلى وقت قريب من الفجر. ولما أشرق ضوء الشمس كنت قد تحولت إلى كائن جديد، كأني أولد لأول مرة".
ويتساءل المرء بعد اعتراف السارد: ألهذا الحد يؤثر العمل الروائي في قارئه؟
إذن فالعلاقة بين الساحلي وعبدالكريم لم تكن مجرد زمالة أو صداقة سطحية، ولكنها أكبر من ذلك بكثير. ولعمق هذه العلاقة وخصوصيتها، يتوهم السارد أو الراو أنه سيموت مثل صديقه، أي بعد تقاعده أو بلوغه سن الستين بأسبوع واحد، فيعد العدة لينتهي من كتابة عمله خلال هدا الأسبوع.
وتمر الأيام دون أن يتمكن السارد من كتابة العمل المنشود. ولكن في حقيقة الأمر، فإن كل لحظة كتابة تمر ما هي إلا حديث عن مدينته، وكل وصف أو سطر يخطه السارد مند استقباله خبر وفاة صديقه عبد الكريم (في بداية الرواية)، والتلاعب بالفلاش باك، وحتى آخر سطر فيها، ما هو إلا حديث ووصف وسرد وكتابة عن تطوان وناسها وعاداتها وتقاليدها وأجوائها، واقتحام فني لأسرارها، وفضح للعلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، مثل علاقة نجيب بكريمة التي ترفض الأم رقية زاوج ابنها منها، لوجود عداوة بين العائلتين، أو لتواضع نسب كريمة، وما حدث بين السارد نفسه وبائع السمك، الذي كان يراقبه السارد لمجرد الكتابة عنه داخل العمل الروائي المنشود.
حتى عندما يتحدث الساحلي عن نجيب محفوظ وأعماله، فإنه إسقاط على مهمة الكاتب إزاء المدينة التي يعيش فيها، فذكر القاهرة، وحضورها الطاغي عند محفوظ، تمثل الرغبة الحقيقية في حضور تطوان لدى الساحلي، أو إن شئنا الدقة لدى الكاتب محمد أنقار نفسه.
تمر الأيام السبعة ولا يتوفى السارد، وفي الوقت نفسه يوهمنا أنه لم يستطع الكتابة عن تطوان، في حين أنه انتهى من الكتابة عنها بالفعل.