نقوس المهدي
كاتب
إن الإشكالية الأساسية التي تواجهنا منذ البداية، في (الليالي) تتمثل في علاقة (المرأة) ب (الرجل) اختلافاً، وتوافقاً، وحضوراً، وغياباً، وقسوة، وإلفة(1). ذلك لأن النسيج العام ل (الليالي) يدور حول هذه العلاقة الشائكة التي إن كانت علاقة ودّ ولطافة أنتجت حياة هانئة سعيدة، وإن كانت على خلاف ذلك ولّدت الهموم، والأسى، والقلق، والسلوك المرضي. وفي الحالين تظلُّ الإشكالية قائمة، ذلك لأن العلاقة الناجحة ما بين الطرفين مطموع فيها من أجل كشف أسبابها، وقد عُرفت نتائجها لاستعادتها أو استدامتها، تماماً مثلما هي العلاقة المخربة مطموع فيها أيضاً من أجل معرفة أسبابها ومجرياتها لكي يتمّ تلافيها.
ف (الليالي)، ومنذ استهلالها، تبرز لنا أسباب الخلافية بين الرجل والمرأة، وسوء الحال، والأمزجة، والهزّة التي أصابت قصر الملك (شهريار) بخيانة زوجته الملكة له. و(الخيانة) هي (الخلاف) و(القطيعة)، و(الموت) ليس لذات واحدة، وإنما للذات القادرة على فعله أيضاً. صحيح أن (شهريار) كان قادراً على تجسيد فعل الموت، وقد قتل حوالي ألف أنثى بكر، لكن الصحيح أيضاً أن ذات (شهريار) كانت تعاني من (موت) ما بدأ ينمو ويتطاول منذ مشاهدته لتلك المعاشرة المرعبة ما بين زوجته الملكة وعبدها الأسود (مسعود)، ولم يوقف هذا النمو المتصاعد للموت سوى الكلام المعادل للحياة؛ أي كلام (شهرزاد) الذي أثَّر كثيراً، وباستمرار، في الذات الشهريارية، فأطلقت روح الحب وطيوفه بدلاً من استمرارية الموت وطيوفه اليومية، وهنا كانت المغايرة، والبنائية الجديدة التي عدّلت من سلوك (شهريار) وتصرفاته تجاه النساء في مملكته.
إن إقلاع (شهريار) عن تجسيده الفعل/الموت ليس حياة ل(شهرزاد) وحدها، أو بنات جنسها وحدن، وإنما هو إقلاعٌ أو كفٌّ عند مدِّ روحه بأسباب الموت الشخصي قهراً أو كمداً، وقد حدث ذلك بفعل استجابته للعلاج عن طريق الكلام الذي زيّنته (شهرزاد) بالأمثلة، والحكايات، والروايات فبسطت بين يديه تجارب أفراد يمثلون مجتمعات.. وبذلك صدمت الحدث بالحدث وعصفت الأخبار بالأخبار.. ولم تبق سوى العبر والدروس التي تؤخذ منها. لقد مثلت (شهرزاد) دور (الوعي) أو (الأنا) مقابلة لل (العماء) أو (الهو) وقد انشغلت بتبصير الوعي الاجتماعي أو الشعوري الجمعي (للمجتمع) بدلاً من كتلة العماء التي كانت توجه (شهريار)!
و(شهرزاد) في (الليالي) تبدي بوضوح أن سوء العلاقة ما بين (الرجل) و(المرأة) لا يأتي من طرف واحد. بقولة أخرى، ليست المرأة لأنها امرأة هي سبب سوء العلاقة مع الرجل، وليس الرجل لأنه رجل هو سبب سوء العلاقة مع المرأة. أي أنه لا توجد (طبيعة) أو (خاصية) أو (علّة) في ذات كل منهما تسبب تدمير العلاقة مع الآخر. إن الأسباب المؤدية إلى التنافر نابعة من الطرفين.. بوجود الوسيط المجتمعي (الإكراه، الاغتصاب، الإذلال، الضرب، الهجر..)؛ تماماً كما هي أسباب اللحمة واللقيا والحب إلى حد التماهي نابعة من الطرفين معاً وبوجود الوسيط المجتمعي (الحب، المودة، الحنان، اللطف، العشرة، التقدير، الاحترام..).
إن (المثلية) التي عاشها (شهريار) بعيداً عن الزوجة الملكة (الواجهة الرسمية، أو قل القناع الاجتماعي الذي لابدّ منه للملك) كانت سبباً من أسباب خيانة زوجته له، وكأنها أحسّت أو اقتنعت بأن تلبية رغباتها الجسدية ليست من خاصية الملك، أو أنها فعل ليس من أفعاله تجاهها. لا بل إن الزوجة (الملكة) لم يدر بخلدها أن فعها (معاشرة العبد الأسود) فعل خيانة. أقول ذلك لأنه من البدهي جداً أن الزوجة مارست هذا الفعل طوال زمن قدره عشرون سنة، وما السرية التي لفّت فعل المعاشرة، سوى سرية اجتماعية غايتها إبقاء السرّ داخل مجتمع القصر وحده. وبالمقابل أقول إن عدم قدرة الزوجة على إعادة الملك (شهريار) إلى الحياة الزوجية الطبيعية (البعيدة عن المثلية) وعدم صبرها عليه ليعتادها (أي المعاشرة الجسدية ما بين ذكر وأنثى) كانا سبباً من أسباب خيانة الزوجة له أيضاً، لكن أليست (المثلية) وممارستها من قبل الملك (شهريار) بمنزلة الخيانة لزوجته الملكة أيضاً؟! ثم ألم تكن سريته في هذا الفعل الجنسي الذي استمر سنوات طوالاً.. هي سرية من قبيل الاحتفاظ بالأخبار داخل مجتمع القصر أيضاً. ترى ألم تكن زوجته (وهي الملكة) عارفة بما يفعله، لاسيما وأنه لا يقاربها جسدياً؟! إذاً، هل فعله هذا فعل خيانة؟! أجل إنه لكذلك، فهذه الأسباب مجموعة، والمتولّدة من الطرفين كانت المؤدية إلى النتيجة القاسية التي أودت بحياة الزوجة الملكة التي راحت ضحية شهوتها، وحقها في تلبية رغبات الجسد، كما أدّت إلى حال الغربة التي عاشها (شهريار) خارج نفسه وهو يقتل النساء واحدة بعد واحدة لسبب يعود إلى قناعته بأن كل النساء خائنات!! والعجيب أن سبب قتل (شهريار) للأنثى لا يعود هنا لخيانتها (سواء أتكررت أم لم تتكرر)، وإنما يعود إلى عدم إيمانه بعدم خيانة المرأة لآخرين مع آخرين، وكذلك عدم قناعته بأنها ستكون مخلصة له ولو لليلة ثانية!!.
من هذه الزاوية تحديداً عملت (شهرزاد) طويلاً في (الليالي) على جعل الذكورة في حيزها الطبيعي والاعتيادي، فالمرأة تخون زوجها إذا ابترد فخذها (كما تقول العامة) أي حين يغيب الرجل، غياباً طويلاً يعني تهميشها وإهمالها، أو حين يهجرها (لإذلالها) ومادام فخذها حاراً متوقداً (لأن رجلها حاضر وفعّال) تظلُّ الزوجة على إخلاصها ووفائها، لا بل إن المرأة في (الليالي) لا تبحث عن رجل لتلبية رغباتها الجنسية إن كان رجلها حاضراً ولا يلبيها لها (أي رغباتها) بسبب المرض، أو الضعف، أو الشيخوخة. إنها تكتفي بالرجولة المعنوية. لا بل إنها حين تُسأل عن قدراته الجنسية (من قبل صديقاتها ومقرباتها) تقول إنه قادر جنسياً، أي أنها تكذب كي لا تسوِّد صفحته اجتماعياً، كي لا تعييبه.. فتزيد تعبه الجسدي بتعب روحي يقضي عليه وهي لا تفعل ذلك إلا لأمرين، الأول: لأنها تحبّه وتعترف بماضيه الجميل معها. والثاني: لأن طبيعتها ليست معدة أساساً إلا للودّ والعاطفة. وإلا فلا سبيل لها ولا مقدرة على إضمار رغباتها ومواراتها طويلاً إلى ما شاء الله من أزمان.
ولأجل ذلك قدمت (شهرزاد) بفنية عالية، وصدق عالٍ، ووعي جنسي مدهش مجموعة من المشهديات، والحكايات، والحوادث التي تبدي (الذكورة المهمشة) أو (الذكورة المريضة) الذاهبة في الاتجاه الغلط، وهي بذلك كله، ومن طرف إشاري ومضمر، لكنه دال، تعلّم (شهريار) الحياة السعيدة وشروطها، وأسباب الإلفة والتآلف، والمودّات وإشراقاتها، ومعاني الكلام وألطافه، وضرورة حضور المرأة ودورها، وتمحو عنده ذلك البعد الغريزي في النظر إلى جسد المرأة على أنه شهوة ذات ديمومة قصيرة جداً، جسد لا يعرف أبعاده، أو حدوده، أو دلالاته، كما لا يعرف حساسيته ومباعث الجمر فيه؛ ذلك حين ينفي هذا الجسد الأنثوي بعيداً عن رغائبه وأشواقه، وهو بهذا، أي (شهريار)، ينفي نفسه عن عوالم روح الأنثى ورقتها، وملمسها، ورهافتها، وأنفاسها الحرَّى، وهمسها الناعم المذيب.
إن (شهرزاد) بقصّها، وحكاياتها، وحالما تبدأ الحديث، تأخذ (شهريار) على طبق من الخدر اللذيذ الناعم، ليحلق في عوالم المرأة والأنوثة التين لا يعرفهما، والتين لم يعرفهما، وقد نَفَر منهما، وطلَّقهما ليس منذ رؤيته لمشهد خيانة زوجته له، وإنما منذ رؤيته لأمه وهي تعاشر بعض عبيدها في قصر والده العجوز حين كان صغيراً؛ علاقتُهُ بالدنيا علاقة بصر ورؤية؛ وعلاقة دهشة وانفعال، وعلاقة فرح وسرور باذخين، أو علاقة حزن وانطواء جارفين أيضاً، علاقة خارجية، وقشرية تماماً، لكنها للأسف مؤثرة في أبعاد نفسه تأثيراً شديداً. وإلا بماذا يفسر ابتعاده الطويل (فتى، وشاباً، ورجلاً) عن عوالم المراة والأنوثة؟!
ومن المؤلم أن الحال التي وصل إليها (شهريار) كانت (حال) انسحاب من عالم المرأة وعالم الأنوثة، إلى أن قيّض له الزمان أنثى مثل (شهرزاد) أعادته إلى هذا العالم الأنثوي السحري الآسر الحالم إن كان رضياً، معافى؛ المحبة هواؤه!! ولعل هذا (الانسحاب) انسحاب (شهريار) من عالم الأنوثة، وعالم المرأة بعدما رأى ما رأى، (من معاشرة أمه لعبيدها، ثم استعادة المشهد ذاته مع زوجته وعبيدها) هو كارثة حقيقية بحق البنية الاجتماعية التي لا تؤثث حياتها إلا بالمرأة، إذ إنّ الحياة تغدو يباساً من دون المرأة (رهافة، وحضوراً، وظلاً، ومعنى..). ولكن هذا الانسحاب من عالم المرأة يعدّ انسحاباً استثنائياً في تاريخ البشرية، وله دلالة وظيفية مؤداها أنها أعادت (شهريار) إلى هذا العالم الأنثوي ليتذوق جماله، وليعرف مفاتنه، وليذوب بأنفاسه وحلاوة ريقه من جهة، ولأنه كان السبب الجوهري في تدوين (الليالي) وحفظها من جهة ثانية لتصير كتاب المرأة ونبعها المؤثل بالاجتماعية الصافية.
والباحث عن مواطن تشابك العلاقة ما بين (الرجل) و(المرأة) سواء أكان تشابكاً إيجابياً مثمراً أو تشابكاً سلبياً مدمراً، سيجد الكثير إلى الحد الذي يكاد يكون متوازناً من حيث خيانة (الرجل) للمرأة، أو خيانة (المرأة) للرجل، أو من حيث موفقية العلاقة الزوجية فيما بينهما. ف (الليالي) ومنذ غلافها الأول، وحتى غلافها الأخير تؤكد بإصرار أن النساء لسن سواء، وأن ثمة فروقاً هائلة ما بين النساء في نقاط السلب والإيجاب، ومواضع الحمد والذم. فالمرأة ليست (غواية)، ولا (شيطاناً) كما أنها ليست هي نسخة واحدة عن (حواء) أو (زليخة) وإن بدت كذلك في بعض النماذج، لأن أسباب الغواية ليست علوقة برقبتها وحدها، وإنما يقاسمها في (هذه الأسباب) اثنان، هما: الرجل والظروف. وشهوة المرأة تجاه الرجل لا تبدو في قحة إلا في ظروف استثنائية كأن يكون الزوج مسافراً سفراً منقطعاً عنها، فلا تعلم عنه شيئاً أو أنها تعلم عنه أخباراً تناقلها الركبان، أو الأصدقاء، تقول إنه يعيش في هناءة مع امرأة أخرى اتخذها زوجة أو سرية. وكذلك في حالات السفر التي تجعل الزوج يذهب باتجاه المال، والأمكنة، والمرأة الأخرى بكليته دون الالتفات أو الاهتمام بزوجته الأولى (جسداً، وروحاً، وعاطفةً) وقد تركها وراءه. أو كأن يحدّث الزوج زوجته عن صديق له، ناعتاً إياه بكل الأوصاف الجميلة والرائعة المرغّبة لها فيه دون أن يدري الزوج، تماماً مثلما حدث ل (عبيد الجوهري) وهو يصف لزوجته (حليمة) التاجر (قمر الزمان)، فيقول:
* »جميل الصورة، له عيون تجرح، وخدود تقدح، وله فم كخاتم سليمان، ووجنات كشقائق النعمان، وشفاه حمر كالمرجان، وله عنق مثل أعناق الغزلان، وهو أبيض مشرب بالحمرة، ظريف لطيف كريم.. الخ«(2).
وحين تعشقه سماعاً (والأذن تعشق قبل العين أحياناً) تقول له، »وهل يوجد فيه شيء من محاسني؟!« فيقول لها: »جميع محاسنك، كلها فيه، وهو شبيهك في الصفة، وربما كان عمره قدّ عمرك«(3) فهنا، أية حماقة يرتكبها الزوج بحق زوجته؟! ومن يبني الدرب الموصل إلى الخيانة؟! الزوج أم الزوجة؟!
وتظلّ أسباب خيانة الرجل للمرأة الزوجة متعلقة على بحثه الدائم عن الجمال ولطافة السلوك والتصرف والمعشر، أو المثلية؛ أما أسباب خيانة المرأة للرجل فتعود في أغلب حكايات (الليالي) إلى هجر الرجل للزوجة، واهتمامه بأخرى، أو اهتمامه بأمور كالتجارة، والحكم، ورحلات السفر الطويلة، أو دخول رجل آخر في حياتها، ومراودتها عن نفسها، وتحبيب (الحب الحرام) لها، أو اغتصابها اجتماعياً عنوة عن أهلها ومجتمعها، وجعلها تعيش حياته (أي الغاصب) مكرهةً.
وغالباً، ما تفعل المرأة العاشقة من أجل عشيقها المستحيلات من أجل الوصول إليه، أو فكّ أسره، أو إخراجه من السجن، أو إنقاذه من الورطات والمواقف الصعبة التي قد يتعرض لها. فالمرأة العاشقة، تصل في (الليالي) إلى السلطان من أجل إخراج عشيقها من السجن، وحين يوافقها السلطان على طلبها شريطة مواقعتها، تقول له: »حباً وكرامة، ولكن في بيتي!« فيوافقها، وتواعده، وكذلك تسعى إلى الوالي، والقاضي، والوزير، وتواعدهم جميعاً بعدما استحلوا جمالها، واستحلبوا أوقاتهم الجميلة للظفر بها، وفي الليلة الموعودة، تذهب المرأة إلى النجار وتطلب منه أن يصنع لها خزانة بأربع طبقات عريضة وطويلة، وأن يأتي بها في الحال إلى بيتها، وأنها ستعطيه الأجر الذي يريده، ولكن النجار لا يطلب منها إلا مواقعتها أيضاً فتوافق شريطة أن يجعل الخزانة من خمس طبقات. وفي أول جزء من الليلة تستقبل السلطان وهي برقيق الثياب، فتسمعه جميل الكلام وأعذبه، وتنادمه، وتسقيه الشراب، وتطعمه أحسن الطعام (وكل ذلك في غياب زوجها السجين) وعند لحظة التلاقي والمواقعة (وقد خلع السلطان ثيابه الرسمية ولبس لباس المهرجين المضحكة بعدما طلبت منه ذلك وأقنعته به) يُقرع الباب، فتسرع وتواريه في أولى طبقات الخزانة، وهكذا تفعل مع الجميع بعد أن تأخذ ورقة العفو عن عشيقها، والقاضية بإخراجه، وتذهب بها إلى السجن، وتصطحب عشيقها:
* »أما القوم، فإنهم ظلّوا في طبقات الخزانة ثلاثة أيام بلا أكل فانحصروا لأنهم لثلاثة أيام لم يبولوا، فبال النجار (ساكن الطبقة الخامسة) على رأس السلطان، وبال السلطان على رأس الوزير، وبال الوزير على رأس الوالي، وبال الوالي على رأس القاضي«(4).
ولا تتوانى (شهرزاد) عن إيقاع العقاب على المرأة التي تقدم شهوتها (انكشافاً) على كل شيء، والتي تجعل عملها وحياتها وسلوكها وقفاً على التمتع واستجرار الشهوة ليس مع الرجل العشيق فقط، وإنما أحياناً مع عبد من عبيد الدار، أو القصر (وواقعته للمرة الأولى دون أن تعشقه فتعلقت روحها به)، وأحياناً أخرى تتم المواقعة الجسدية مع بعض الحيوانات النشطة جنسياً؛ والسبب في ذلك يعود في قناعتي إلى عدم فهم طبيعة المرأة من قبل الرجل، أي أن السبب يعود إلى أنانية الرجل وقناعته بأنه (فاعل) فقط، وليس من المهم أن يصبح (متفاعلاً) معها، أي ليس من واجبه أن يسأل أو يدرك، أو يعرف بأن زوجته قد انفعلت أم لا!! إن عدم توليد الانفعال، عند المرأة، والانسحاب الذكوري دون أي اكتراث لطبيعتها الأنثوية، يولدان دائماً (التطلع) نحو الآخر الذي تتوسم فيه أن يكون قادراً على توليد ما عجز الزوج عن إنجازه حتى ولو كان عبداً أو حيواناً. والأمثلة الشاذة التي تسوقها (شهرزاد) في (الليالي) عن النساء الشبقات إنما هي أمثلة غايتها الجوهرية فصم هذا الاستثناء عن مشيمة الحياة الطبيعية الاعتيادية للنساء، وتصويرها (للممارسات الشاذة) على أنها حالات مرضية لا تمثل حال المرأة السوية.
إن اضطراب العلاقة الزوجية في أكثر حكايات (الليالي) يعود إلى عدم فهم الرجل لطبيعة المرأة، أو عدم تنازله عن منزلته (البطريركية) ليساوي نفسه بالمرأة في موقف صعب جداً بحاجة إلى تفاعل الطرفين وذوبان أحدهما بالآخر.
لقد أفسحت (شهرزاد) مجالاً واسعاً لتعبر بلغة النقد (من خلال حكاياتها) عن سيطرة الأبوية الممركزة في الذكورة على مقاليد الحياة الاجتماعية كسلطة اجتماعية، لا دور للمرأة فيها سوى الإذعان، ولكنها مع ذلك، تفسح المجال لتشرح أحوال المرأة الاجتماعية، وتعرض قصصها، وتبدي جروحها الذاتية والجمعية معاً. وهي جروحٌ نازفة، لا يشكل الجرحُ الذي أصاب (شهريار) أعني خيانة زوجته، أية ندية أو مناددة مع جروح المرأة الكثيرة المميتة! إن (شهرزاد) لا تسعى إلى نسف المجتمع الذكوري، ولا إلى إزاحته، وإنما تسعى في (الليالي) إلى خلخلة البنية (البطريركية) للمجتمع، والإشارة إلى نتائج أفعالها العدوانية الواقعة على المرأة التي تلعب أدواراً دفاعية عديدة غايتها الإفلات من سطوة هذه الأفعال التي تقودها إلى مربع التهميش والإذلال والإذعان والخضوع. فأدوار المرأة.. منجبةً، وماتعةً، ومسليةً، وفاضلةً.. الخ لا تخرج عن دائرة الإذعان للرجل أو الخضوع له، بقولة أخرى المرأة في (الليالي) لا تمارس أدوارها الاجتماعية من أجل تحقيق ذاتها وحسب، وإنما تمارسها من أجل إرضاء الرجل، أو استقطابه، أو الاستحواذ عليه. ومهارة (شهرزاد) الفائقة في (الليالي) تتبدى من خلال تلاعبها بأدوار الحواس ووظائفها، فهي التي وعت أن حاسة البصر عند (شهريار) هي التي شاهدت فعل خيانة زوجته، فشكّلت جرحه الغائر، لذلك سعت إلى محو مجتبيات هذه الحاسة أي عوائدها وغنائمها عبر حاسة السمع التي أصابتها غيبوبة الإنصات لقصص (شهرزاد) التي سحبت إلى ذهنية الملك (شهريار) مجتمعات أخرى، وتواريخ أخرى، وعوالم أخرى.. تبدي أفعالاً وممارسات هي أشدّ فظاعة مما فعلته زوجته (الخائنة) ومع ذلك لم يقترف أي من أزواج هؤلاء النساء فعلة القتل. وبصّرته لأنه ملك عادل، ونبيل، (عبر أمثلة عديدة) أن أفعاله ما كان لها أن تحيد عن سكة العدالة والنبل.
في حكاية وردان الجزار، نرى امرأة لها علاقة جنسية شهوانية مع دب، أسكنته تحت الأرض، تنزل إليه لتأكل وتشرب معه وتولّد لذتها أيضاً، ويصفها وردان، ويصف فعلها قائلاً:
* ».. فنزعت ثيابها، ونامت، فقام الدب وواقعها وهي تعاطيه أحسن ما يكون لبني آدم، حتى فرغ وجلس، ثم وثب إليها وواقعها، ولما فرغ جلس واستراح، ولم يزل كذلك حتى فعل عشر مرات، ثم وقع كل منهما مغشياً عليه«(5).
والمفارقة، تبدو حين يقتل وردان الدب، ويدعو المرأة إلى الزواج منه، لكنها لا توافق مشفقة عليه:
* »إن هذا بعيد. كيف أعيش بعده؟! والله إن لم تذبحني لأتلفنّ روحك يا وردان«(6).
وفي حكاية أخرى، نتعرف إلى ابنة أحد السلاطين التي قبلت مراودة عبد من عبيد قصر والده، »فافتضّ بكارتها، وأولعت بالنكاح فكانت لا تصبر عنه ساعة«(7)! إلى أن هجرها العبد، وما عاد يطيق إلحاحها، ولم تتخلَ عنه ترغيباً ووعيداً إلا بعد أن هدّدها بكشف أمرها لأبيها، وقد علمت بعدئذٍ، حين أصبحت وحيدة لا عشيق لها أن القرد ينكح أكثر من غيره من الحيوانات، فأخذت قرداً، واعتزلت به عن الناس، وراحت تواقعه على هواها إلى أن اكتُشف أمرها، فيقتل القرد بسببها، وعندئذٍ تطلب ابنة السلطان الموت لنفسها وقد راح عشيقها الثاني مولّد اللذة الدائمة لها. غير أن الشاب الذي ارتضاها على عيبها، وعدها أن يواقعها المرات التي تريدها، فتوافق على الزواج منه، لكن الشاب لا يقوى على إرضاء رغبتها (الشبقية) فيشكو أمرها وأمره لعجوز عارفة بأمور الشهوة والشبق، فتحلّ مشكلة المرأة بأن تُخرج منها دودتين إحداهما سوداء، (عائدة للعبد العشيق الأول) وثانيهما حمراء، (عائدة للقرد العشيق الثاني) وبعدئذٍ ما عادت المرأة تطلب النكاح إلا بمقدار معتدل.
والحق، إن أمراً كهذا تسوقه (شهرزاد) لكي تبدو شذوذيته عن الطبيعة السوية لقناعتها بأنه من المعيب، والمدمر (لعالم الأنوثة) أن تتحول المرأة إلى مجرد شهوة؛ تمركز الحياة وتجمّعها حول رغباتها، كما أنه من المدمر، اجتماعياً وإنسانياً أيضاً أن يتحول الرجل إلى (لاعب دور) فقط، غايته إشباع ذكورته، أو تلبية أهواء شهوته؛ ذلك لأن المرأة والرجل لا يتوجب النظر إليهما من زاوية الأنوثة والذكورة فقط، لأن كلاً منهما يعتبر فرداً اجتماعياً إنسانياً، والأنوثة والذكورة سمتان متضمنتان داخل هذا الاعتبار الاجتماعي الإنساني الشامل لكل منهما. بعبارة أخرى ليست الأنوثة إلا جزءاً خاصاً من المرأة الفرد، كما أن الرجولة ليست إلا جزءاً خاصاً من الرجل الفرد(8).
و(الليالي) لا تنظر إلى (المرأة) و(الرجل) إلا هذه النظرة، وما ذكرها لمثل هذه الحالات الشهوانية الشبقة وإفاضة الحديث حولها إلا من باب الإحاطة والشمولية بالشواذ لنصل إلى الاعتيادي والطبيعي، لأن الحكايات في (الليالي) لا تكتفي بتوصيف ما يتم من سلوكات شاذة، وإنما تمضي إلى توصيف النهايات المدمرة اجتماعياً لتلك العلاقات الإنسانية. فكل النساء الشبقات، في (الليالي) مضين إلى المصير المدمر والمخرّب لمعاني اجتماعيتهن (عدم بناء الأسرة) وإنسانيتهن (معاشرة الحيوانات)، بل والذي أدّى (أي فعلهن) إلى طيّ حياتهن نهائياً ب(الموت)!!.
ولاشك أن (شهرزاد) التي اطلعت كثيراً على العلوم والفلسفة، وحوادث التاريخ، وأخبار المجتمعات وقصصها، كانت محيطة بفلسفة اليونان خصوصاً ما يتعلق منها بنظرية (الإفراط والتفريط) باعتبارهما حدّين يقعان في الأقاصي، والاعتماد على الوسطية والاعتدال في السلوك، والتصرفات. لا بل إن الوسطية كانت معياراً إسلامياً تقاس به الأفعال في المجتمع الإسلامي.
ونرى أيضاً، بأن موضوع الجنس ما بين (الرجل) و(المرأة) إن مضى في هذا الاتجاه وحده (أي موضوع الجنس والمعاشرة الصرف) فإن نهاياته مدمرة ومميتة، فهذا هو (شهريار) الذي انصرف إلى تلبية رغبات ذكورته ثلاث سنوات، قبل وصول (شهرزاد) إليه، كان الموت من نصيب كل الفتيات الأبكار اللواتي عرفهن، كما كان نصيبه هو انغلاق نفسه على ذاتها وحيوانيتها، وغريزتها العمياء حين اختصر هذا المخلوق الجميل (المرأة) واعتصره إلى مجرد متعة إن كان قد عرف المتعة أصلاً قبل معرفته ب(شهرزاد)(9)!. ومثل هذا الفعل (قتل الآخر وهو هنا قتل المرأة) لا يفعله الرجال فقط وإنما تفعله النساء أيضاً. فالملكة (جانشاه) التي عاشت طويلاً، كانت تعاشر كل غريب يدخل مدينتها، وبعد استمتاعها به تقتله. فممارسة الجنس بالنسبة إليها هي كل شيء، و(الرجل) عندها ذكورة فقط، ما أن تعرفها حتى يتبعها الموت كخاتمة(10).
لقد قدمت (شهرزاد) في (الليالي) فهماً عالياً لطبيعة المرأة وأنوثتها، بكل اعتدالها، وانطفائها، وشططها وشبقها، لتعلّم (شهريار) أن المعرفة هي الكفيل الوحيد بفهم الآخر، والوصول إليه ليس إلا مقدمة لحياة ملأى بالمشتهى والمرغوب؛ فبالمعرفة ينتظم السلوك، وتنتظم الذات، وتضبط الانفعالات مهما كانت أمواجها عالية، وتختفي مشهديات الموت، فيطمئن المجتمع، وتذوب التهديدات الموجهة للبنية المعرفية الاجتماعية.. لذلك تبدو بيارق الفرح حين تسود معطيات العدالة والحكمة.
ولعلّ حذق (شهرزاد) وفطنتها قاداها إلى أن تسلط الضوء على الكثير من حالات الشذوذ عند الذكور تجاه المرأة، أي خيانتها، لأمرين اثنين، الأول: صرف ذهنية (شهريار) عن الاعتقاد الكامل المطمئن بأن الخيانة خاصية المرأة وحدها. والثاني: أن الشذوذ موجود في المجتمعين (الذكوري) و(الأنثوي)، وإن ظهورات (خيانة) الرجل للمرأة (الزوجة) أكثر بروزاً من (خيانة) المرأة للرجل، ذلك لأن الرجل يتباهى بأفعاله (وإن كانت خيانات) بسبب احتمائه بنفوذه الذكوري في المجتمع، بينما المرأة لا تجرؤ على البوح بأسرار علاقتها مع الرجل أو الحديث عنها ولو تلميحاً. وهي تعلم جيداً أن المباهاة بمثل تلك العلاقة (أو الكشف عنها وإن كانت علاقة مع أمير أو والٍ أو تاجر كبير، أو رجل صاحب نفوذ) ستؤدي (أي المباهاة أو المكاشفة) إلى موتها، وإن لم يكن الموت جسدياً (مادياً) فهو سيكون اجتماعياً (روحياً).
ففي حكاية عمر النعمان(11) الذي يمتلك ألف جارية أو سرية جميلة، نجده (ولنلحظ الشهوانية ونوازعها) يرغب بعشيقة ابنه التي يزمع الزواج منها، فيواقعها دون أي اعتبار لابنه ويفتضّ بكارتها. والأمثلة المشابهة كثيرة جداً، وإلا ما معنى أن بعض الولاة، والوزراء، والتجار يدفعون الكثير من أموالهم من أجل قضاء ليلة بصحبة جميلة، أو شراء جارية ذات صيت وجمال، أو الزواج مرات ومرات سراً وعلناً؟! أليست هي الشهوة الذكورية الباعثة على سلوكات كهذه؟! بلى، ولعلّ روح النزعة (البطريركية) في المجتمع تيسِّر ذلك للرجل، وتمنعه على المرأة.
وتؤكد (شهرزاد) في حكاياتها أن المرأة تكون أقرب إلى الضغينة والكره تجاه زوجها الذي يهجرها في فراشها، والذي يعتقد أنه بتقديمه الطعام والشراب والملبس لها قد وفّى بواجباته تجاهها. لكن الحقيقة ليست كذلك، لأنها حقيقة ناقصة، أو قل معرفة ناقصة بطبيعة المرأة، ففي حكاية (معروف الإسكافي) نرى زوجة (معروف الإسكافي) تحقد عليه وتعزم على قتله، وذلك حين »صار لا يعتني بزوجته من أجل النكاح، وإنما كان يطعمها احتساباً لوجه الله تعالى، فلما رأته ممتنعاً عن وصالها ومشتغلاً بغيرها (أي الجارية)، بغضته وغلبت عليها الغيرة، ووسوس لها إبليس أن تأخذ الخاتم منه وتقتله«(12).
وانتفاء العلاقة ما بين (الرجل) و(المرأة) في (الليالي) تعني القطيعة مع الحياة. ف (شهريار) الذي قطع علاقته مع الفتيات الأبكار اللواتي سبقن (شهرزاد) إلى فراشه نفى حياة هؤلاء الفتيات لأنه لم يقم علاقة إنسانية اجتماعية معهن، وقد أورث نفسه شيئاً من مأساوية فعله. تماماً مثلما هو الزاهد الذي ارتضى الحياة بعيداً عن النساء، فقد أقام قطيعة مع الدنيا كلها ومضى إلى الاتجاه (الأخروي) الذي اقتنع بوجوده.
والأمر الأساسي الذي أرادت (شهرزاد) أن تلقنه ل (شهريار)، هو أن كل النساء الخائنات لأزواجهن صرن إلى الزوال والموت، وأن كل الرجال الخونة لزوجاتهم ظلّوا على قيد الحياة ينتقلون بالمال حيناً، وبالجاه حيناً آخر من واحدة إلى أخرى وبعيداً عن معرفة زوجاتهم وقد كان المال والجاه ستارة ضافية حانية على الأسرار(13). بل حين تعلم زوجاتهم بتلك الخيانات لا يفعلن أكثر من تهييج الغيرة، والانفعال، والتقرب من الرجل لإعادته إلى حياته المعتادة والاستحواذ عليه مرة أخرى(14). قليلات هنّ النساء اللواتي انتقمن من رجالهن بالموت عندما شاهدن فعل الخيانة، وفي ذلك إشارة بالغة إلى النظام (البطريركي) وتسلط الرجل على المرأة، وقسوته البالغة عليها، أو قدرته على النفاذ من الخروق الاجتماعية التي أوجدها في البنية المعرفية للمجتمع. ولا تغفل (شهرزاد) عن التوكيد على هذا الفرق الشاسع ما بين نتائج تمتع المرأة بالرجل، وتمتع الرجل بالمرأة منذ بداية (الليالي) وحتى نهايتها والذي يعني (حياة) الرجل، و(موت) المرأة!. والغاية من وراء ذلك واضحة، ف (شهرزاد) تريد التأكيد على ضرورة مساواة المرأة بالرجل في مجتمع مدني متحضر؛ وضرورة إخراج المرأة من دائرة الأنوثة التي رسمت لها فقيّدتها.. إلى اعتبارها فرداً ليست الأنوثة إلا جزءاً من هذه الفردية، وليست هي كلها(15)!!.
وتحاول (شهرزاد) في حكاياتها التقليل من الأسباب المؤدية إلى تطلع المرأة نحو الآخر، وهي متزوجة، مثل الشهوانية، والفضولية، والانفعالية، وهجران الرجل لها، أو ترغيب الآخر لها من قبل الزوج أو الأخ أو الأب.. الخ، لكنها أسباب مخففة لهذا النزوع وليست جوهرية، ولا دائمة، كما أنها ليست مؤدية إلى الخيانة وإن توافرت أو وجدت في طبيعة المرأة، التي تعشق اللطف، والجمال، والرهافة، والمقارنة أيضاً بين ما تملك (والرجل تعدّه من أملاكها) وبين ما لا تملكه (الآخرون)! فمثل هذه الصفات إن وجهت باتجاه الحبيب الزوج صارت بناءً على بناء. بقولة أخرى، ما أرادته (شهرزاد) في هذا المجال من علاقة المرأة بالرجل، وصور الضدية فيما بينهما أو التوافقية، يتمثل في أن بذور التوجه نحو الآخر موجودة، ومهيأة للإنبات إن وجدت ما تريده أو تطمح إليه خارج قدرات زوجها وإمكاناته شريطة أن ينصرف (الزوج أو الرجل) عنها، أو يتجاهلها، أو يغيّبها عاطفياً. فالمرأة تبدي طاقات خارقة في العمل، والإخلاص، والودّ، والصبر تجاه الرجل إن أحبته، والحب لا يأتي إلا بالدفء الذكوري الذي يغمر المرأة ويسد المنافذ عليها نحو الآخرين، وقد يتجلّى الدفء بالنظرة، أو السؤال، أو اللمس، أو المجاسدة.. في لحظات كهذه تنسى المرأة تعبها، وبردها، وجوعها، وخوفها، وسوء حالتها الاجتماعية. والمرأة في (الليالي) تصبر على زوجها المريض، وتساعده على حالته الاجتماعية الرثّة، وتأخذ بيده مرات ومرات إن أخفق معها في الفراش. حتى إن (البغي) في (الليالي) تساعد طالبها والراغب فيها إن أخفق معها في المرة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، ولا تشعره بالنقص أو الدونية وإنما تدفعه بالتحريض إلى أن يمحو عثراته ويبني رغبته معها، وقد يأتي المحرض أحياناً شبيهاً بالعقوبة التي توقعها عليه حين تجعله يضاعف المبلغ إن أرادها لمرة ثانية، وإن أخفق في الثانية تضاعف المبلغ مرة أخرى وهكذا. إن (البغايا) اللواتي يتقاضين أجراً لسن كلهن على سواء، أي أن نقرّ بأن انحرافهن محتم وأن دوافع إصلاحهن والعودة بهن إلى الاجتماعية السوية غير ممكنة، فهذا ليس صحيحاً لأن بعضهنّ يتوب، ويتزوج، ويعيش حياة هانئة مع زوج واحد، تماماً كما حدث مع ابنة (طاهر علاء الدين) البغي التي أحبها الرجل العماني فتزوجها، وعاش بقية عمره معها(16).
ونرى موضوعة (الخوف) من خيانة الزوجة التي هي أكبر تأثيراً وأذى في نفس الرجل (لأن الرجل اعتاد على خياناته هو لا على خيانة زوجته تمثلاً لروح السلم الاجتماعي البطريركي)؛ إن موضوعة (الخوف) من خيانة المرأة هي الأكثر حضوراً في حكايات (شهرزاد) في (الليالي) بدءاً من خوف الملك (شهريار) المولّد من خيانة زوجته الملكة مع عبدها الأسود (مسعود) تجاه الفتيات الأبكار اللواتي افتضّ بكارتهن وقتلهن مع الصباح كي لا تخونه واحدة منهن مع آخر، كائنة ما كانت هواجسها، وتطلعاته، ورغباتها، ونياتها، وأحلامها بعدما وضع (شهريار) جميع النساء في خانة واحدة هي خانة (الخيانة) وعدم الوفاء لزوج واحد أو رجل واحد!.
وهذا (الخوف) نراه أيضاً في القصة الإطارية التي جاءت على شكل خبر طويل، والمتمثل في (خوف) العفريت الهائل الحجم من خيانة (فتاة الصندوق) له مع آخر، وقد حبسها في صندوق عليه سبعة أقفال، وعاش معها في قيعان البحار، وما كان يخرجها إلى اليابسة إلا وهو معها، وبعلمه، ومع ذلك خانته هذه الفتاة انتقاماً منه لأنه خطفها من حبيبها في ليلة عرسها، أي انتقاماً منه لأنه وقف قبالة (الحب) وقطّع حباله الواصلة ما بين العشيق وعشيقته، وهي بذلك قد أحالت قيعان البحار أولاً، والصندوق وأقفاله ثانياً، وقوة العفريت وجبروته ثالثاً إلى الجحيم انتقاماً من الجحيم الذي تعيشه؛ أي الجحيم الذي أبعدها عن (فردوس) حبيبها وعريسها في ليلة زفافها(17).
ونرى (خوف) المرأة شديداً أيضاً، من أن يميل زوجها باتجاه امرأة أخرى (لجمالها أو مالها أو جاهها..) ولكنْ لهذا الخوف حتى يصير خوفاً عتبات عديدة منها: الحذر، والمراقبة، والممانعة، والعزل، والتنحية.. وهذه العتبات تبديها (الليالي) بقوة وذلك حين تُبعد الزوجات الجواري الجميلاتِ عن طريق أزواجهن، أو تكيد لهن، تماماً كما حدث مع زوجة الرشيد زبيدة التي حاولت كل جهدها أن تبعد الجواري الجميلات، مثل (قوت القلوب) عن زوجها، فتلجأ، وفي أثناء غيابه، إلى دفنها حيّة في صندوق خشبي، لا ينقذها من موتها المحتم، وقد صارت في القبر، إلا غانم بن أيوب الذي تواجد مصادفة في المقبرة، وقد جاءها ليبيت فيها(18).
وموضوعة (الخوف) قد تبدو مرعبة وقاسية عند المرأة وحدها في (الليالي) ولكن هذا ليس صحيحاً، ف (خوف) الرجل من المرأة أكبر وأشدّ قسوة، ذلك لأن المرأة ذات طبيعة سحرية قادرة على تغيير الهيئة، والمزاج، والسلوك، والواقع الذي يعيشه الرجل. فبدءاً من (شهريار) نجد حال (المغايرة) أصابته أولاً منذ اكتشافه لخيانة زوجته وممارسته لقتل الفتيات ليلة بعد ليلة، ومن ثم حال المغايرة الثانية التي عدّلت سلوكه تجاه المرأة بعد أن عايش (شهرزاد) وتعلم منها الكثير. وبعد كل ذلك مشهديات السحر الكثيرة التي أوردتها (شهرزاد) وقد استخدمتها النساء (الخائنات لأزواجهن على وجه التحديد والتخصيص) والتي قلبت هيئات أزواجهن (وقد اكتشفوا الخيانة) إلى حيوانات: ككلاب أو عجول أو تيوس. وغالباً ما استخدمت المرأة الجميلة الشابة السحر من أجل إنقاذ نفسها من ورطة ما (وهي دائماً ورطة خيانة مع آخر)(19) أو من أجل الوصول إلى حبيبها البعيد عنها.
أما (عجائز) الليالي فقد استخدمن السحر لشرور لا حدّ لها فيها من الفتن والدسائس الكثير الكثير، وفيها من تغيير الهيئات البشرية إلى أخرى حيوانية أيضاً. ففي قصة (نور الدين شاه)(20) و(ورد شاه)، نجد أن (نور) يحب (ورد) ويهيم بها، ولكن بعد أن أنجبت (الأميرة ورد) ابنها البكر وأولته بعض عنايتها تحوّل عنها نور الدين إلى غيرها وراح يبني العلاقات الغرامية والمغامرات مع حريمه وجواريه دون أن يقدر مشاعر زوجته الأميرة ورد، ودون أن يكون وفياً لمشاعر الحب التي جمعته بها، وراحت (ورد) تتابع أخبار نزواته، وشبقه، واستهتاره بها، وكانت كلما سمعت خبراً، أو رأت مشهداً يغصّ قلبها إلى أن بدأت تذبل وتذوي، وعندئذٍ أحسّت بأنها بدأت تموت ببطء(21)، لذلك عمدت إلى طلب الطلاق من الملك نور الدين شاه لأنها تريد حريتها. وما أن سمع الملك طلبها حتى جنّ جنونه (إذ كيف لها أن تتجرأ وتطلب الطلاق وهي في حضرة ملك عظيم له جاهه ونفوذه وقدراته)، وما كان منه إلا أن طلب العجوز الساحرة (ساشا) وأمرها بأن تحول الأميرة (ورد) أم ولده البكر الوحيد، وولي عهده، إلى قرد(22)!!.
وأعتقد أن موضوعة (الخوف) الكامنة في ذات الرجل والمرأة، كانت هي المهاد أو البساط الذي جلس عليه (شهريار) ليستمع، كما جلست عليه (شهرزاد)، ومعاً راح كل منهما يقوم بدوره؛ الأول: (شهرزاد) بالقص، والثاني: (شهريار) بالاستماع، وقد كان في ذات كل منهما (خوف) من الآخر. ف (شهرزاد) خائفة على حياتها من (شهريار) ولذلك مضت في عالم القص تعليقاً ليس للحكايات فقط (لأن حكايتها عطشى لا تصل إلى الخواتيم بسهولة) وإنما مضت في عالم القصّ تعليقاً للزمن أيضاً طلباً للنجاة، و(شهريار) خائف من (شهرزاد) التي استولت عليه بقصّها للحوادث والأخبار البعيدة والمدهشة التي أوردتها، كي لا تحوّله إلى هيئة حيوانية بسحرها، وقد اعتقدَ بأنها عارفة بالسحر وطقوسه، ذلك لأنها ولّدت الخوف في ذات (شهريار) من السحر منذ قصتها الأولى (التاجر والجني) وحكاية المسافرين الثلاثة التي دارت حول السحر وسخط الأخوين إلى كلبين، والزوجتين إلى غزالة وبغلة(23).
لقد ركّزت (الليالي) كثيراً على القدرات المضمرة التي تتحلى بها (المرأة) والسحر خصوصاً، وقرنت هذه القدرات بالأسرار والمجاهيل الكامنة عند المرأة، بحيث ظلّت هذه الأسرار مجالاً رحباً لبثّ المخاوف في نفس الرجل الذي لا يستطيع على المرأة إلا بقدراته البيّنة، الجسدية (كفرد) أحياناً، والسلطوية (بأعوانه) أحياناً، والجاهية (مكانته) أحياناً أخرى. وقد شكّلت تلك الأسرار الكامنة في الذات الأنثوية في (الليالي) خندقاً دفاعياً تجاه مال الرجل، ونزواته، ورغباته، وسلطته، وذكورته (الديكية) في مجتمع اعتاد على تربيته الذكورية وتنميتها وتسمينها بحيث غدت هي كل شيء في الحياة الاجتماعية، أما الأنوثة فهي من ملحقاتها الاعتيادية.
ومهما يكن الشأن، فإن (شهرزاد) لم تستخدم السحر تجاه (شهريار) لتحويله من هيئة إلى هيئة خوفاً منه سواء أكانت عارفة بفنون السحر أم لا، كما أنها لم تستعن بإحدى العجائز العارفات بهذا الأمر. لكن (شهرزاد) استخدمت سحراً آخر مع (شهريار) حوّله من دخيلة جوانية إلى دخيلة جوانية أخرى صارت كلٌّ منهما نقيضاً للأخرى، فهي بسحرها العالي المدهش (فن الكلام وجماليته) استطاعت أن تؤنسن (شهريار) وتعيده رويداً رويداً، وليلة بعد أخرى، إلى الاجتماعية المرغوبة، وإلى الإنسانية البانية؛ فهي بذلك كانت ساحرة لتبني، لا ساحرة لتنتقم. إنها بفعلها هذا لم تنجُ بنفسها، ولم تخلدها فقط، وإنما نجت ببنات جنسها، وبالمجتمع الذي دهمته العدوانية الدموية وخلّدت ذكر (شهريار) أيضاً، وأعطت للكلام أهميته الاجتماعية مرةً أخرى، وأبدت قدراته الخارقة على التحويل الاجتماعي، والمغايرة في البنية المعرفية للمجتمع(24) وقد سادت كعرف أو قانون مدة ثلاث سنوات كاملة، وهي بذلك أحاطت (لياليها) بهالة من القداسة الفنية الرائعة والباقية على الرغم من كرّ الأيام وتدافعها زمناً إثر زمن!!.
المراجع:
1. ألف ليلة وليلة من المبتدا إلى المنتهى، طبعة مصوّرة عن طبعة برسلاو، ألمانيا، 1826، تصحيح مكسيميليانوس بن هابخط، الطبعة الثانية، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1998. (سلسلة نوادر المطبوعات).
2. التوحيدي، أبو حيان، علي بن محمد: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق د.إبراهيم الكيلاني، دمشق، وزارة الثقافة، 1978.
3. سركيس، إحسان: الثنائية في ألف ليلة وليلة، بيروت، دار الطليعة، 1979.
4. السعداوي، نوال: الوجه العاري للمرأة العربية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1977.
5. شكري، رمسيس: ألف ليلة وليلة الهندية: من الأساطير الهندية القديمة، القاهرة، مطبوعات كتابي (بلا تاريخ).
6. الشويلي، داوود سلمان: ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2000.
7. القلماوي، سهير: ألف ليلة وليلة، شهادة دكتوراه، القاهرة، دار المعارف، 1966.
8. عبد الرحمن، عواطف: إشكاليات تحليل المضمون، القاهرة، بلا تاريخ.
9. المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت، دار المعرفة، 1983.
10. الموسوي، محسن جاسم: ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنكليزي، الوقوع في دائرة السحر، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1983.
11. مومسن، كاترينا: غوته وألف ليلة وليلة، ترجمة أحمد الحمو، دمشق، وزارة الثقافة، 1980.
(1) تقول العامة إن (الزواج شر لابدّ منه) وهو، أي الزواج، الوجه الرسمي المدرك للعلاقة الاجتماعية ما بين الرجل والمرأة.
(2) ألف ليلة وليلة، الجزء الرابع، الليلة الثامنة والستون بعد التسعمائة، ص849.
(3)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الرابع، الليلة الثامنة والستون بعد التسعمائة، ص849.
(4)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثالث، الليلة الخامسة والتسعون بعد الخمسمائة، ص114.
(5) ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثاني، الليلة الرابعة والخمسون بعد الثلاثمائة، ص796.
(6) ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثاني، الليلة الخامسة والخمسون بعد الثلاثمائة، ص797..
(7)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثاني، الليلة الخامسة والخمسون بعد الثلاثمائة، ص797.
(8) هذا الفهم يقودنا إلى مفهوم (الجندر) والنوع الاجتماعي.
(9) في ظني لو أن (شهريار) عرف المرأة وألطافها أو جزءاً من هذه الألطاف عبر ألف فتاة بكر (في ألف ليلة وليلة).. لما استمر في عدوانيته الغريزية تجاه (شهرزاد) في لياليها الأولى معه، فقد كان يقول في نهاية كل ليلة (والله لا أقتلها حتى أعرف بقية الحكاية) لكنه حين عرف جسد (شهرزاد) وألطافها، ما عاد يذكر مفردة القتل على لسانه!.
(10) التصور مطابق لما يحدث حقيقة لملكة النحل حين يطاردها الذكور، وما أن يتم التلقيح حتى يموت الذكور الذين أصابهم حظُّ الوصول إلى الملكة.
(11) ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثاني، الليلة، ص.
(12)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الرابع، الليلة الحادية بعد الألف وهي آخر الكتاب، ص940.
(13) يقول المثل الشعبي (موتة الفقير ونزوة الأمير) لا أحد يعلم بهما.
(14) تقول (شهرزاد) في (الليالي) على المرأة أن تبحث في سلوكها، وكلامها، وعشرتها.. الخ عن الأسباب التي جعلت زوجها يميل عنها إلى أخرى، وذلك ليس تسويغاً لأفعال الرجل (خياناته) وإنما من أجل حثّ بنات جنسها على عدم الغفلة عن الرجل لأن قدمه سرعان ما تدبّ في حقول أنثوية أخرى، دون أن تعنيه كثيراً عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه.
(15) لقد أصابت (شهرزاد) كبد الحقيقة حين عرضت في (لياليها) صوراً عديدة للمرأة العالمة، والقارئة، والشاعرة، والفلكية، واللغوية، والتاجرة..، ففي هذا نباهة هدفها الرئيس هو عدم تأطير المرأة في إطار الأنوثة (المتعة، والإنجاب) فقط.
(16)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الرابع، الليلة الثانية والخمسون بعد التسعمائة، ص811.
(17) أميل إلى الظن بأن العفريت كان فاقداً لحواسه، وأن فتاة الصندوق كانت تعي ذلك، وإلا ما كانت طمأنينتها وارفة إلى هذا الحد، مع قناعتي المطلقة أن المرأة تملك جرأة قلب لا يملكها الرجل عادة.
(18)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الأول، الليلة الحادية والأربعون، ص206.
(19) نذكر هنا المرأة التي وجدها زوجها في فراشه مع عشيقها، فبُهت، فقامت هي وأخذت طاسة ماء وعزمت عليها، ورشته بمائها، فتحول إلى كلب، ثم فُكّ سحره فعاد إلى شخصيته البشرية، وطلب من الفتاة التي فكت سحره أن تسحر زوجته بغلة لأنها ارتضت أن يركبها شخص آخر غير زوجها. الليالي: التاجر والجني.
(20)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الأول، الليلة التاسعة عشرة، ص84.
(21) أظن أنه بات معروفاً بأن الجسد البشري ليس سوى قشرة وجدت لكي تغلف (بذرة الحياة)، والتي هي تعني المرأة مثلما تعني الرجل. لذلك يعدّ الرجل ماء حياة المرأة، كما تعدّ المرأة ماء حياة الرجل.
(22) لقد ظنّ الملك أن ورداً (زوجته) أحبت آخر ففضلته عليه (وهو الملك)، وأنه ما أن يطلقها ستتزوجه (أو يتزوجها) وعندئذٍ سيعرف الناس القصة، فتلوكه الألسن، لذلك لم يسألها عن أسباب طلبها للطلاق، بل بادر إلى مسخها (عن طريق السحر) إلى قرد.
(23)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الأول، الليلة الأولى، الليلة الثانية، الليلة الثالثة، صص11-13-16.
(24) وبذلك يمكن عدّ (شهرزاد) داعية اجتماعية، خلّصت مجتمعها (إنقاذاً) من غول (الدموية)، فما أنجزته هو أشبه بما أنجزته الثورات الاجتماعية، أو المغايرات التاريخية الكبرى.
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 96 - السنة الرابعة والعشرون - كانون الأول 2004 - شوال 1425
* dahshacom
ف (الليالي)، ومنذ استهلالها، تبرز لنا أسباب الخلافية بين الرجل والمرأة، وسوء الحال، والأمزجة، والهزّة التي أصابت قصر الملك (شهريار) بخيانة زوجته الملكة له. و(الخيانة) هي (الخلاف) و(القطيعة)، و(الموت) ليس لذات واحدة، وإنما للذات القادرة على فعله أيضاً. صحيح أن (شهريار) كان قادراً على تجسيد فعل الموت، وقد قتل حوالي ألف أنثى بكر، لكن الصحيح أيضاً أن ذات (شهريار) كانت تعاني من (موت) ما بدأ ينمو ويتطاول منذ مشاهدته لتلك المعاشرة المرعبة ما بين زوجته الملكة وعبدها الأسود (مسعود)، ولم يوقف هذا النمو المتصاعد للموت سوى الكلام المعادل للحياة؛ أي كلام (شهرزاد) الذي أثَّر كثيراً، وباستمرار، في الذات الشهريارية، فأطلقت روح الحب وطيوفه بدلاً من استمرارية الموت وطيوفه اليومية، وهنا كانت المغايرة، والبنائية الجديدة التي عدّلت من سلوك (شهريار) وتصرفاته تجاه النساء في مملكته.
إن إقلاع (شهريار) عن تجسيده الفعل/الموت ليس حياة ل(شهرزاد) وحدها، أو بنات جنسها وحدن، وإنما هو إقلاعٌ أو كفٌّ عند مدِّ روحه بأسباب الموت الشخصي قهراً أو كمداً، وقد حدث ذلك بفعل استجابته للعلاج عن طريق الكلام الذي زيّنته (شهرزاد) بالأمثلة، والحكايات، والروايات فبسطت بين يديه تجارب أفراد يمثلون مجتمعات.. وبذلك صدمت الحدث بالحدث وعصفت الأخبار بالأخبار.. ولم تبق سوى العبر والدروس التي تؤخذ منها. لقد مثلت (شهرزاد) دور (الوعي) أو (الأنا) مقابلة لل (العماء) أو (الهو) وقد انشغلت بتبصير الوعي الاجتماعي أو الشعوري الجمعي (للمجتمع) بدلاً من كتلة العماء التي كانت توجه (شهريار)!
و(شهرزاد) في (الليالي) تبدي بوضوح أن سوء العلاقة ما بين (الرجل) و(المرأة) لا يأتي من طرف واحد. بقولة أخرى، ليست المرأة لأنها امرأة هي سبب سوء العلاقة مع الرجل، وليس الرجل لأنه رجل هو سبب سوء العلاقة مع المرأة. أي أنه لا توجد (طبيعة) أو (خاصية) أو (علّة) في ذات كل منهما تسبب تدمير العلاقة مع الآخر. إن الأسباب المؤدية إلى التنافر نابعة من الطرفين.. بوجود الوسيط المجتمعي (الإكراه، الاغتصاب، الإذلال، الضرب، الهجر..)؛ تماماً كما هي أسباب اللحمة واللقيا والحب إلى حد التماهي نابعة من الطرفين معاً وبوجود الوسيط المجتمعي (الحب، المودة، الحنان، اللطف، العشرة، التقدير، الاحترام..).
إن (المثلية) التي عاشها (شهريار) بعيداً عن الزوجة الملكة (الواجهة الرسمية، أو قل القناع الاجتماعي الذي لابدّ منه للملك) كانت سبباً من أسباب خيانة زوجته له، وكأنها أحسّت أو اقتنعت بأن تلبية رغباتها الجسدية ليست من خاصية الملك، أو أنها فعل ليس من أفعاله تجاهها. لا بل إن الزوجة (الملكة) لم يدر بخلدها أن فعها (معاشرة العبد الأسود) فعل خيانة. أقول ذلك لأنه من البدهي جداً أن الزوجة مارست هذا الفعل طوال زمن قدره عشرون سنة، وما السرية التي لفّت فعل المعاشرة، سوى سرية اجتماعية غايتها إبقاء السرّ داخل مجتمع القصر وحده. وبالمقابل أقول إن عدم قدرة الزوجة على إعادة الملك (شهريار) إلى الحياة الزوجية الطبيعية (البعيدة عن المثلية) وعدم صبرها عليه ليعتادها (أي المعاشرة الجسدية ما بين ذكر وأنثى) كانا سبباً من أسباب خيانة الزوجة له أيضاً، لكن أليست (المثلية) وممارستها من قبل الملك (شهريار) بمنزلة الخيانة لزوجته الملكة أيضاً؟! ثم ألم تكن سريته في هذا الفعل الجنسي الذي استمر سنوات طوالاً.. هي سرية من قبيل الاحتفاظ بالأخبار داخل مجتمع القصر أيضاً. ترى ألم تكن زوجته (وهي الملكة) عارفة بما يفعله، لاسيما وأنه لا يقاربها جسدياً؟! إذاً، هل فعله هذا فعل خيانة؟! أجل إنه لكذلك، فهذه الأسباب مجموعة، والمتولّدة من الطرفين كانت المؤدية إلى النتيجة القاسية التي أودت بحياة الزوجة الملكة التي راحت ضحية شهوتها، وحقها في تلبية رغبات الجسد، كما أدّت إلى حال الغربة التي عاشها (شهريار) خارج نفسه وهو يقتل النساء واحدة بعد واحدة لسبب يعود إلى قناعته بأن كل النساء خائنات!! والعجيب أن سبب قتل (شهريار) للأنثى لا يعود هنا لخيانتها (سواء أتكررت أم لم تتكرر)، وإنما يعود إلى عدم إيمانه بعدم خيانة المرأة لآخرين مع آخرين، وكذلك عدم قناعته بأنها ستكون مخلصة له ولو لليلة ثانية!!.
من هذه الزاوية تحديداً عملت (شهرزاد) طويلاً في (الليالي) على جعل الذكورة في حيزها الطبيعي والاعتيادي، فالمرأة تخون زوجها إذا ابترد فخذها (كما تقول العامة) أي حين يغيب الرجل، غياباً طويلاً يعني تهميشها وإهمالها، أو حين يهجرها (لإذلالها) ومادام فخذها حاراً متوقداً (لأن رجلها حاضر وفعّال) تظلُّ الزوجة على إخلاصها ووفائها، لا بل إن المرأة في (الليالي) لا تبحث عن رجل لتلبية رغباتها الجنسية إن كان رجلها حاضراً ولا يلبيها لها (أي رغباتها) بسبب المرض، أو الضعف، أو الشيخوخة. إنها تكتفي بالرجولة المعنوية. لا بل إنها حين تُسأل عن قدراته الجنسية (من قبل صديقاتها ومقرباتها) تقول إنه قادر جنسياً، أي أنها تكذب كي لا تسوِّد صفحته اجتماعياً، كي لا تعييبه.. فتزيد تعبه الجسدي بتعب روحي يقضي عليه وهي لا تفعل ذلك إلا لأمرين، الأول: لأنها تحبّه وتعترف بماضيه الجميل معها. والثاني: لأن طبيعتها ليست معدة أساساً إلا للودّ والعاطفة. وإلا فلا سبيل لها ولا مقدرة على إضمار رغباتها ومواراتها طويلاً إلى ما شاء الله من أزمان.
ولأجل ذلك قدمت (شهرزاد) بفنية عالية، وصدق عالٍ، ووعي جنسي مدهش مجموعة من المشهديات، والحكايات، والحوادث التي تبدي (الذكورة المهمشة) أو (الذكورة المريضة) الذاهبة في الاتجاه الغلط، وهي بذلك كله، ومن طرف إشاري ومضمر، لكنه دال، تعلّم (شهريار) الحياة السعيدة وشروطها، وأسباب الإلفة والتآلف، والمودّات وإشراقاتها، ومعاني الكلام وألطافه، وضرورة حضور المرأة ودورها، وتمحو عنده ذلك البعد الغريزي في النظر إلى جسد المرأة على أنه شهوة ذات ديمومة قصيرة جداً، جسد لا يعرف أبعاده، أو حدوده، أو دلالاته، كما لا يعرف حساسيته ومباعث الجمر فيه؛ ذلك حين ينفي هذا الجسد الأنثوي بعيداً عن رغائبه وأشواقه، وهو بهذا، أي (شهريار)، ينفي نفسه عن عوالم روح الأنثى ورقتها، وملمسها، ورهافتها، وأنفاسها الحرَّى، وهمسها الناعم المذيب.
إن (شهرزاد) بقصّها، وحكاياتها، وحالما تبدأ الحديث، تأخذ (شهريار) على طبق من الخدر اللذيذ الناعم، ليحلق في عوالم المرأة والأنوثة التين لا يعرفهما، والتين لم يعرفهما، وقد نَفَر منهما، وطلَّقهما ليس منذ رؤيته لمشهد خيانة زوجته له، وإنما منذ رؤيته لأمه وهي تعاشر بعض عبيدها في قصر والده العجوز حين كان صغيراً؛ علاقتُهُ بالدنيا علاقة بصر ورؤية؛ وعلاقة دهشة وانفعال، وعلاقة فرح وسرور باذخين، أو علاقة حزن وانطواء جارفين أيضاً، علاقة خارجية، وقشرية تماماً، لكنها للأسف مؤثرة في أبعاد نفسه تأثيراً شديداً. وإلا بماذا يفسر ابتعاده الطويل (فتى، وشاباً، ورجلاً) عن عوالم المراة والأنوثة؟!
ومن المؤلم أن الحال التي وصل إليها (شهريار) كانت (حال) انسحاب من عالم المرأة وعالم الأنوثة، إلى أن قيّض له الزمان أنثى مثل (شهرزاد) أعادته إلى هذا العالم الأنثوي السحري الآسر الحالم إن كان رضياً، معافى؛ المحبة هواؤه!! ولعل هذا (الانسحاب) انسحاب (شهريار) من عالم الأنوثة، وعالم المرأة بعدما رأى ما رأى، (من معاشرة أمه لعبيدها، ثم استعادة المشهد ذاته مع زوجته وعبيدها) هو كارثة حقيقية بحق البنية الاجتماعية التي لا تؤثث حياتها إلا بالمرأة، إذ إنّ الحياة تغدو يباساً من دون المرأة (رهافة، وحضوراً، وظلاً، ومعنى..). ولكن هذا الانسحاب من عالم المرأة يعدّ انسحاباً استثنائياً في تاريخ البشرية، وله دلالة وظيفية مؤداها أنها أعادت (شهريار) إلى هذا العالم الأنثوي ليتذوق جماله، وليعرف مفاتنه، وليذوب بأنفاسه وحلاوة ريقه من جهة، ولأنه كان السبب الجوهري في تدوين (الليالي) وحفظها من جهة ثانية لتصير كتاب المرأة ونبعها المؤثل بالاجتماعية الصافية.
والباحث عن مواطن تشابك العلاقة ما بين (الرجل) و(المرأة) سواء أكان تشابكاً إيجابياً مثمراً أو تشابكاً سلبياً مدمراً، سيجد الكثير إلى الحد الذي يكاد يكون متوازناً من حيث خيانة (الرجل) للمرأة، أو خيانة (المرأة) للرجل، أو من حيث موفقية العلاقة الزوجية فيما بينهما. ف (الليالي) ومنذ غلافها الأول، وحتى غلافها الأخير تؤكد بإصرار أن النساء لسن سواء، وأن ثمة فروقاً هائلة ما بين النساء في نقاط السلب والإيجاب، ومواضع الحمد والذم. فالمرأة ليست (غواية)، ولا (شيطاناً) كما أنها ليست هي نسخة واحدة عن (حواء) أو (زليخة) وإن بدت كذلك في بعض النماذج، لأن أسباب الغواية ليست علوقة برقبتها وحدها، وإنما يقاسمها في (هذه الأسباب) اثنان، هما: الرجل والظروف. وشهوة المرأة تجاه الرجل لا تبدو في قحة إلا في ظروف استثنائية كأن يكون الزوج مسافراً سفراً منقطعاً عنها، فلا تعلم عنه شيئاً أو أنها تعلم عنه أخباراً تناقلها الركبان، أو الأصدقاء، تقول إنه يعيش في هناءة مع امرأة أخرى اتخذها زوجة أو سرية. وكذلك في حالات السفر التي تجعل الزوج يذهب باتجاه المال، والأمكنة، والمرأة الأخرى بكليته دون الالتفات أو الاهتمام بزوجته الأولى (جسداً، وروحاً، وعاطفةً) وقد تركها وراءه. أو كأن يحدّث الزوج زوجته عن صديق له، ناعتاً إياه بكل الأوصاف الجميلة والرائعة المرغّبة لها فيه دون أن يدري الزوج، تماماً مثلما حدث ل (عبيد الجوهري) وهو يصف لزوجته (حليمة) التاجر (قمر الزمان)، فيقول:
* »جميل الصورة، له عيون تجرح، وخدود تقدح، وله فم كخاتم سليمان، ووجنات كشقائق النعمان، وشفاه حمر كالمرجان، وله عنق مثل أعناق الغزلان، وهو أبيض مشرب بالحمرة، ظريف لطيف كريم.. الخ«(2).
وحين تعشقه سماعاً (والأذن تعشق قبل العين أحياناً) تقول له، »وهل يوجد فيه شيء من محاسني؟!« فيقول لها: »جميع محاسنك، كلها فيه، وهو شبيهك في الصفة، وربما كان عمره قدّ عمرك«(3) فهنا، أية حماقة يرتكبها الزوج بحق زوجته؟! ومن يبني الدرب الموصل إلى الخيانة؟! الزوج أم الزوجة؟!
وتظلّ أسباب خيانة الرجل للمرأة الزوجة متعلقة على بحثه الدائم عن الجمال ولطافة السلوك والتصرف والمعشر، أو المثلية؛ أما أسباب خيانة المرأة للرجل فتعود في أغلب حكايات (الليالي) إلى هجر الرجل للزوجة، واهتمامه بأخرى، أو اهتمامه بأمور كالتجارة، والحكم، ورحلات السفر الطويلة، أو دخول رجل آخر في حياتها، ومراودتها عن نفسها، وتحبيب (الحب الحرام) لها، أو اغتصابها اجتماعياً عنوة عن أهلها ومجتمعها، وجعلها تعيش حياته (أي الغاصب) مكرهةً.
وغالباً، ما تفعل المرأة العاشقة من أجل عشيقها المستحيلات من أجل الوصول إليه، أو فكّ أسره، أو إخراجه من السجن، أو إنقاذه من الورطات والمواقف الصعبة التي قد يتعرض لها. فالمرأة العاشقة، تصل في (الليالي) إلى السلطان من أجل إخراج عشيقها من السجن، وحين يوافقها السلطان على طلبها شريطة مواقعتها، تقول له: »حباً وكرامة، ولكن في بيتي!« فيوافقها، وتواعده، وكذلك تسعى إلى الوالي، والقاضي، والوزير، وتواعدهم جميعاً بعدما استحلوا جمالها، واستحلبوا أوقاتهم الجميلة للظفر بها، وفي الليلة الموعودة، تذهب المرأة إلى النجار وتطلب منه أن يصنع لها خزانة بأربع طبقات عريضة وطويلة، وأن يأتي بها في الحال إلى بيتها، وأنها ستعطيه الأجر الذي يريده، ولكن النجار لا يطلب منها إلا مواقعتها أيضاً فتوافق شريطة أن يجعل الخزانة من خمس طبقات. وفي أول جزء من الليلة تستقبل السلطان وهي برقيق الثياب، فتسمعه جميل الكلام وأعذبه، وتنادمه، وتسقيه الشراب، وتطعمه أحسن الطعام (وكل ذلك في غياب زوجها السجين) وعند لحظة التلاقي والمواقعة (وقد خلع السلطان ثيابه الرسمية ولبس لباس المهرجين المضحكة بعدما طلبت منه ذلك وأقنعته به) يُقرع الباب، فتسرع وتواريه في أولى طبقات الخزانة، وهكذا تفعل مع الجميع بعد أن تأخذ ورقة العفو عن عشيقها، والقاضية بإخراجه، وتذهب بها إلى السجن، وتصطحب عشيقها:
* »أما القوم، فإنهم ظلّوا في طبقات الخزانة ثلاثة أيام بلا أكل فانحصروا لأنهم لثلاثة أيام لم يبولوا، فبال النجار (ساكن الطبقة الخامسة) على رأس السلطان، وبال السلطان على رأس الوزير، وبال الوزير على رأس الوالي، وبال الوالي على رأس القاضي«(4).
ولا تتوانى (شهرزاد) عن إيقاع العقاب على المرأة التي تقدم شهوتها (انكشافاً) على كل شيء، والتي تجعل عملها وحياتها وسلوكها وقفاً على التمتع واستجرار الشهوة ليس مع الرجل العشيق فقط، وإنما أحياناً مع عبد من عبيد الدار، أو القصر (وواقعته للمرة الأولى دون أن تعشقه فتعلقت روحها به)، وأحياناً أخرى تتم المواقعة الجسدية مع بعض الحيوانات النشطة جنسياً؛ والسبب في ذلك يعود في قناعتي إلى عدم فهم طبيعة المرأة من قبل الرجل، أي أن السبب يعود إلى أنانية الرجل وقناعته بأنه (فاعل) فقط، وليس من المهم أن يصبح (متفاعلاً) معها، أي ليس من واجبه أن يسأل أو يدرك، أو يعرف بأن زوجته قد انفعلت أم لا!! إن عدم توليد الانفعال، عند المرأة، والانسحاب الذكوري دون أي اكتراث لطبيعتها الأنثوية، يولدان دائماً (التطلع) نحو الآخر الذي تتوسم فيه أن يكون قادراً على توليد ما عجز الزوج عن إنجازه حتى ولو كان عبداً أو حيواناً. والأمثلة الشاذة التي تسوقها (شهرزاد) في (الليالي) عن النساء الشبقات إنما هي أمثلة غايتها الجوهرية فصم هذا الاستثناء عن مشيمة الحياة الطبيعية الاعتيادية للنساء، وتصويرها (للممارسات الشاذة) على أنها حالات مرضية لا تمثل حال المرأة السوية.
إن اضطراب العلاقة الزوجية في أكثر حكايات (الليالي) يعود إلى عدم فهم الرجل لطبيعة المرأة، أو عدم تنازله عن منزلته (البطريركية) ليساوي نفسه بالمرأة في موقف صعب جداً بحاجة إلى تفاعل الطرفين وذوبان أحدهما بالآخر.
لقد أفسحت (شهرزاد) مجالاً واسعاً لتعبر بلغة النقد (من خلال حكاياتها) عن سيطرة الأبوية الممركزة في الذكورة على مقاليد الحياة الاجتماعية كسلطة اجتماعية، لا دور للمرأة فيها سوى الإذعان، ولكنها مع ذلك، تفسح المجال لتشرح أحوال المرأة الاجتماعية، وتعرض قصصها، وتبدي جروحها الذاتية والجمعية معاً. وهي جروحٌ نازفة، لا يشكل الجرحُ الذي أصاب (شهريار) أعني خيانة زوجته، أية ندية أو مناددة مع جروح المرأة الكثيرة المميتة! إن (شهرزاد) لا تسعى إلى نسف المجتمع الذكوري، ولا إلى إزاحته، وإنما تسعى في (الليالي) إلى خلخلة البنية (البطريركية) للمجتمع، والإشارة إلى نتائج أفعالها العدوانية الواقعة على المرأة التي تلعب أدواراً دفاعية عديدة غايتها الإفلات من سطوة هذه الأفعال التي تقودها إلى مربع التهميش والإذلال والإذعان والخضوع. فأدوار المرأة.. منجبةً، وماتعةً، ومسليةً، وفاضلةً.. الخ لا تخرج عن دائرة الإذعان للرجل أو الخضوع له، بقولة أخرى المرأة في (الليالي) لا تمارس أدوارها الاجتماعية من أجل تحقيق ذاتها وحسب، وإنما تمارسها من أجل إرضاء الرجل، أو استقطابه، أو الاستحواذ عليه. ومهارة (شهرزاد) الفائقة في (الليالي) تتبدى من خلال تلاعبها بأدوار الحواس ووظائفها، فهي التي وعت أن حاسة البصر عند (شهريار) هي التي شاهدت فعل خيانة زوجته، فشكّلت جرحه الغائر، لذلك سعت إلى محو مجتبيات هذه الحاسة أي عوائدها وغنائمها عبر حاسة السمع التي أصابتها غيبوبة الإنصات لقصص (شهرزاد) التي سحبت إلى ذهنية الملك (شهريار) مجتمعات أخرى، وتواريخ أخرى، وعوالم أخرى.. تبدي أفعالاً وممارسات هي أشدّ فظاعة مما فعلته زوجته (الخائنة) ومع ذلك لم يقترف أي من أزواج هؤلاء النساء فعلة القتل. وبصّرته لأنه ملك عادل، ونبيل، (عبر أمثلة عديدة) أن أفعاله ما كان لها أن تحيد عن سكة العدالة والنبل.
في حكاية وردان الجزار، نرى امرأة لها علاقة جنسية شهوانية مع دب، أسكنته تحت الأرض، تنزل إليه لتأكل وتشرب معه وتولّد لذتها أيضاً، ويصفها وردان، ويصف فعلها قائلاً:
* ».. فنزعت ثيابها، ونامت، فقام الدب وواقعها وهي تعاطيه أحسن ما يكون لبني آدم، حتى فرغ وجلس، ثم وثب إليها وواقعها، ولما فرغ جلس واستراح، ولم يزل كذلك حتى فعل عشر مرات، ثم وقع كل منهما مغشياً عليه«(5).
والمفارقة، تبدو حين يقتل وردان الدب، ويدعو المرأة إلى الزواج منه، لكنها لا توافق مشفقة عليه:
* »إن هذا بعيد. كيف أعيش بعده؟! والله إن لم تذبحني لأتلفنّ روحك يا وردان«(6).
وفي حكاية أخرى، نتعرف إلى ابنة أحد السلاطين التي قبلت مراودة عبد من عبيد قصر والده، »فافتضّ بكارتها، وأولعت بالنكاح فكانت لا تصبر عنه ساعة«(7)! إلى أن هجرها العبد، وما عاد يطيق إلحاحها، ولم تتخلَ عنه ترغيباً ووعيداً إلا بعد أن هدّدها بكشف أمرها لأبيها، وقد علمت بعدئذٍ، حين أصبحت وحيدة لا عشيق لها أن القرد ينكح أكثر من غيره من الحيوانات، فأخذت قرداً، واعتزلت به عن الناس، وراحت تواقعه على هواها إلى أن اكتُشف أمرها، فيقتل القرد بسببها، وعندئذٍ تطلب ابنة السلطان الموت لنفسها وقد راح عشيقها الثاني مولّد اللذة الدائمة لها. غير أن الشاب الذي ارتضاها على عيبها، وعدها أن يواقعها المرات التي تريدها، فتوافق على الزواج منه، لكن الشاب لا يقوى على إرضاء رغبتها (الشبقية) فيشكو أمرها وأمره لعجوز عارفة بأمور الشهوة والشبق، فتحلّ مشكلة المرأة بأن تُخرج منها دودتين إحداهما سوداء، (عائدة للعبد العشيق الأول) وثانيهما حمراء، (عائدة للقرد العشيق الثاني) وبعدئذٍ ما عادت المرأة تطلب النكاح إلا بمقدار معتدل.
والحق، إن أمراً كهذا تسوقه (شهرزاد) لكي تبدو شذوذيته عن الطبيعة السوية لقناعتها بأنه من المعيب، والمدمر (لعالم الأنوثة) أن تتحول المرأة إلى مجرد شهوة؛ تمركز الحياة وتجمّعها حول رغباتها، كما أنه من المدمر، اجتماعياً وإنسانياً أيضاً أن يتحول الرجل إلى (لاعب دور) فقط، غايته إشباع ذكورته، أو تلبية أهواء شهوته؛ ذلك لأن المرأة والرجل لا يتوجب النظر إليهما من زاوية الأنوثة والذكورة فقط، لأن كلاً منهما يعتبر فرداً اجتماعياً إنسانياً، والأنوثة والذكورة سمتان متضمنتان داخل هذا الاعتبار الاجتماعي الإنساني الشامل لكل منهما. بعبارة أخرى ليست الأنوثة إلا جزءاً خاصاً من المرأة الفرد، كما أن الرجولة ليست إلا جزءاً خاصاً من الرجل الفرد(8).
و(الليالي) لا تنظر إلى (المرأة) و(الرجل) إلا هذه النظرة، وما ذكرها لمثل هذه الحالات الشهوانية الشبقة وإفاضة الحديث حولها إلا من باب الإحاطة والشمولية بالشواذ لنصل إلى الاعتيادي والطبيعي، لأن الحكايات في (الليالي) لا تكتفي بتوصيف ما يتم من سلوكات شاذة، وإنما تمضي إلى توصيف النهايات المدمرة اجتماعياً لتلك العلاقات الإنسانية. فكل النساء الشبقات، في (الليالي) مضين إلى المصير المدمر والمخرّب لمعاني اجتماعيتهن (عدم بناء الأسرة) وإنسانيتهن (معاشرة الحيوانات)، بل والذي أدّى (أي فعلهن) إلى طيّ حياتهن نهائياً ب(الموت)!!.
ولاشك أن (شهرزاد) التي اطلعت كثيراً على العلوم والفلسفة، وحوادث التاريخ، وأخبار المجتمعات وقصصها، كانت محيطة بفلسفة اليونان خصوصاً ما يتعلق منها بنظرية (الإفراط والتفريط) باعتبارهما حدّين يقعان في الأقاصي، والاعتماد على الوسطية والاعتدال في السلوك، والتصرفات. لا بل إن الوسطية كانت معياراً إسلامياً تقاس به الأفعال في المجتمع الإسلامي.
ونرى أيضاً، بأن موضوع الجنس ما بين (الرجل) و(المرأة) إن مضى في هذا الاتجاه وحده (أي موضوع الجنس والمعاشرة الصرف) فإن نهاياته مدمرة ومميتة، فهذا هو (شهريار) الذي انصرف إلى تلبية رغبات ذكورته ثلاث سنوات، قبل وصول (شهرزاد) إليه، كان الموت من نصيب كل الفتيات الأبكار اللواتي عرفهن، كما كان نصيبه هو انغلاق نفسه على ذاتها وحيوانيتها، وغريزتها العمياء حين اختصر هذا المخلوق الجميل (المرأة) واعتصره إلى مجرد متعة إن كان قد عرف المتعة أصلاً قبل معرفته ب(شهرزاد)(9)!. ومثل هذا الفعل (قتل الآخر وهو هنا قتل المرأة) لا يفعله الرجال فقط وإنما تفعله النساء أيضاً. فالملكة (جانشاه) التي عاشت طويلاً، كانت تعاشر كل غريب يدخل مدينتها، وبعد استمتاعها به تقتله. فممارسة الجنس بالنسبة إليها هي كل شيء، و(الرجل) عندها ذكورة فقط، ما أن تعرفها حتى يتبعها الموت كخاتمة(10).
لقد قدمت (شهرزاد) في (الليالي) فهماً عالياً لطبيعة المرأة وأنوثتها، بكل اعتدالها، وانطفائها، وشططها وشبقها، لتعلّم (شهريار) أن المعرفة هي الكفيل الوحيد بفهم الآخر، والوصول إليه ليس إلا مقدمة لحياة ملأى بالمشتهى والمرغوب؛ فبالمعرفة ينتظم السلوك، وتنتظم الذات، وتضبط الانفعالات مهما كانت أمواجها عالية، وتختفي مشهديات الموت، فيطمئن المجتمع، وتذوب التهديدات الموجهة للبنية المعرفية الاجتماعية.. لذلك تبدو بيارق الفرح حين تسود معطيات العدالة والحكمة.
ولعلّ حذق (شهرزاد) وفطنتها قاداها إلى أن تسلط الضوء على الكثير من حالات الشذوذ عند الذكور تجاه المرأة، أي خيانتها، لأمرين اثنين، الأول: صرف ذهنية (شهريار) عن الاعتقاد الكامل المطمئن بأن الخيانة خاصية المرأة وحدها. والثاني: أن الشذوذ موجود في المجتمعين (الذكوري) و(الأنثوي)، وإن ظهورات (خيانة) الرجل للمرأة (الزوجة) أكثر بروزاً من (خيانة) المرأة للرجل، ذلك لأن الرجل يتباهى بأفعاله (وإن كانت خيانات) بسبب احتمائه بنفوذه الذكوري في المجتمع، بينما المرأة لا تجرؤ على البوح بأسرار علاقتها مع الرجل أو الحديث عنها ولو تلميحاً. وهي تعلم جيداً أن المباهاة بمثل تلك العلاقة (أو الكشف عنها وإن كانت علاقة مع أمير أو والٍ أو تاجر كبير، أو رجل صاحب نفوذ) ستؤدي (أي المباهاة أو المكاشفة) إلى موتها، وإن لم يكن الموت جسدياً (مادياً) فهو سيكون اجتماعياً (روحياً).
ففي حكاية عمر النعمان(11) الذي يمتلك ألف جارية أو سرية جميلة، نجده (ولنلحظ الشهوانية ونوازعها) يرغب بعشيقة ابنه التي يزمع الزواج منها، فيواقعها دون أي اعتبار لابنه ويفتضّ بكارتها. والأمثلة المشابهة كثيرة جداً، وإلا ما معنى أن بعض الولاة، والوزراء، والتجار يدفعون الكثير من أموالهم من أجل قضاء ليلة بصحبة جميلة، أو شراء جارية ذات صيت وجمال، أو الزواج مرات ومرات سراً وعلناً؟! أليست هي الشهوة الذكورية الباعثة على سلوكات كهذه؟! بلى، ولعلّ روح النزعة (البطريركية) في المجتمع تيسِّر ذلك للرجل، وتمنعه على المرأة.
وتؤكد (شهرزاد) في حكاياتها أن المرأة تكون أقرب إلى الضغينة والكره تجاه زوجها الذي يهجرها في فراشها، والذي يعتقد أنه بتقديمه الطعام والشراب والملبس لها قد وفّى بواجباته تجاهها. لكن الحقيقة ليست كذلك، لأنها حقيقة ناقصة، أو قل معرفة ناقصة بطبيعة المرأة، ففي حكاية (معروف الإسكافي) نرى زوجة (معروف الإسكافي) تحقد عليه وتعزم على قتله، وذلك حين »صار لا يعتني بزوجته من أجل النكاح، وإنما كان يطعمها احتساباً لوجه الله تعالى، فلما رأته ممتنعاً عن وصالها ومشتغلاً بغيرها (أي الجارية)، بغضته وغلبت عليها الغيرة، ووسوس لها إبليس أن تأخذ الخاتم منه وتقتله«(12).
وانتفاء العلاقة ما بين (الرجل) و(المرأة) في (الليالي) تعني القطيعة مع الحياة. ف (شهريار) الذي قطع علاقته مع الفتيات الأبكار اللواتي سبقن (شهرزاد) إلى فراشه نفى حياة هؤلاء الفتيات لأنه لم يقم علاقة إنسانية اجتماعية معهن، وقد أورث نفسه شيئاً من مأساوية فعله. تماماً مثلما هو الزاهد الذي ارتضى الحياة بعيداً عن النساء، فقد أقام قطيعة مع الدنيا كلها ومضى إلى الاتجاه (الأخروي) الذي اقتنع بوجوده.
والأمر الأساسي الذي أرادت (شهرزاد) أن تلقنه ل (شهريار)، هو أن كل النساء الخائنات لأزواجهن صرن إلى الزوال والموت، وأن كل الرجال الخونة لزوجاتهم ظلّوا على قيد الحياة ينتقلون بالمال حيناً، وبالجاه حيناً آخر من واحدة إلى أخرى وبعيداً عن معرفة زوجاتهم وقد كان المال والجاه ستارة ضافية حانية على الأسرار(13). بل حين تعلم زوجاتهم بتلك الخيانات لا يفعلن أكثر من تهييج الغيرة، والانفعال، والتقرب من الرجل لإعادته إلى حياته المعتادة والاستحواذ عليه مرة أخرى(14). قليلات هنّ النساء اللواتي انتقمن من رجالهن بالموت عندما شاهدن فعل الخيانة، وفي ذلك إشارة بالغة إلى النظام (البطريركي) وتسلط الرجل على المرأة، وقسوته البالغة عليها، أو قدرته على النفاذ من الخروق الاجتماعية التي أوجدها في البنية المعرفية للمجتمع. ولا تغفل (شهرزاد) عن التوكيد على هذا الفرق الشاسع ما بين نتائج تمتع المرأة بالرجل، وتمتع الرجل بالمرأة منذ بداية (الليالي) وحتى نهايتها والذي يعني (حياة) الرجل، و(موت) المرأة!. والغاية من وراء ذلك واضحة، ف (شهرزاد) تريد التأكيد على ضرورة مساواة المرأة بالرجل في مجتمع مدني متحضر؛ وضرورة إخراج المرأة من دائرة الأنوثة التي رسمت لها فقيّدتها.. إلى اعتبارها فرداً ليست الأنوثة إلا جزءاً من هذه الفردية، وليست هي كلها(15)!!.
وتحاول (شهرزاد) في حكاياتها التقليل من الأسباب المؤدية إلى تطلع المرأة نحو الآخر، وهي متزوجة، مثل الشهوانية، والفضولية، والانفعالية، وهجران الرجل لها، أو ترغيب الآخر لها من قبل الزوج أو الأخ أو الأب.. الخ، لكنها أسباب مخففة لهذا النزوع وليست جوهرية، ولا دائمة، كما أنها ليست مؤدية إلى الخيانة وإن توافرت أو وجدت في طبيعة المرأة، التي تعشق اللطف، والجمال، والرهافة، والمقارنة أيضاً بين ما تملك (والرجل تعدّه من أملاكها) وبين ما لا تملكه (الآخرون)! فمثل هذه الصفات إن وجهت باتجاه الحبيب الزوج صارت بناءً على بناء. بقولة أخرى، ما أرادته (شهرزاد) في هذا المجال من علاقة المرأة بالرجل، وصور الضدية فيما بينهما أو التوافقية، يتمثل في أن بذور التوجه نحو الآخر موجودة، ومهيأة للإنبات إن وجدت ما تريده أو تطمح إليه خارج قدرات زوجها وإمكاناته شريطة أن ينصرف (الزوج أو الرجل) عنها، أو يتجاهلها، أو يغيّبها عاطفياً. فالمرأة تبدي طاقات خارقة في العمل، والإخلاص، والودّ، والصبر تجاه الرجل إن أحبته، والحب لا يأتي إلا بالدفء الذكوري الذي يغمر المرأة ويسد المنافذ عليها نحو الآخرين، وقد يتجلّى الدفء بالنظرة، أو السؤال، أو اللمس، أو المجاسدة.. في لحظات كهذه تنسى المرأة تعبها، وبردها، وجوعها، وخوفها، وسوء حالتها الاجتماعية. والمرأة في (الليالي) تصبر على زوجها المريض، وتساعده على حالته الاجتماعية الرثّة، وتأخذ بيده مرات ومرات إن أخفق معها في الفراش. حتى إن (البغي) في (الليالي) تساعد طالبها والراغب فيها إن أخفق معها في المرة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، ولا تشعره بالنقص أو الدونية وإنما تدفعه بالتحريض إلى أن يمحو عثراته ويبني رغبته معها، وقد يأتي المحرض أحياناً شبيهاً بالعقوبة التي توقعها عليه حين تجعله يضاعف المبلغ إن أرادها لمرة ثانية، وإن أخفق في الثانية تضاعف المبلغ مرة أخرى وهكذا. إن (البغايا) اللواتي يتقاضين أجراً لسن كلهن على سواء، أي أن نقرّ بأن انحرافهن محتم وأن دوافع إصلاحهن والعودة بهن إلى الاجتماعية السوية غير ممكنة، فهذا ليس صحيحاً لأن بعضهنّ يتوب، ويتزوج، ويعيش حياة هانئة مع زوج واحد، تماماً كما حدث مع ابنة (طاهر علاء الدين) البغي التي أحبها الرجل العماني فتزوجها، وعاش بقية عمره معها(16).
ونرى موضوعة (الخوف) من خيانة الزوجة التي هي أكبر تأثيراً وأذى في نفس الرجل (لأن الرجل اعتاد على خياناته هو لا على خيانة زوجته تمثلاً لروح السلم الاجتماعي البطريركي)؛ إن موضوعة (الخوف) من خيانة المرأة هي الأكثر حضوراً في حكايات (شهرزاد) في (الليالي) بدءاً من خوف الملك (شهريار) المولّد من خيانة زوجته الملكة مع عبدها الأسود (مسعود) تجاه الفتيات الأبكار اللواتي افتضّ بكارتهن وقتلهن مع الصباح كي لا تخونه واحدة منهن مع آخر، كائنة ما كانت هواجسها، وتطلعاته، ورغباتها، ونياتها، وأحلامها بعدما وضع (شهريار) جميع النساء في خانة واحدة هي خانة (الخيانة) وعدم الوفاء لزوج واحد أو رجل واحد!.
وهذا (الخوف) نراه أيضاً في القصة الإطارية التي جاءت على شكل خبر طويل، والمتمثل في (خوف) العفريت الهائل الحجم من خيانة (فتاة الصندوق) له مع آخر، وقد حبسها في صندوق عليه سبعة أقفال، وعاش معها في قيعان البحار، وما كان يخرجها إلى اليابسة إلا وهو معها، وبعلمه، ومع ذلك خانته هذه الفتاة انتقاماً منه لأنه خطفها من حبيبها في ليلة عرسها، أي انتقاماً منه لأنه وقف قبالة (الحب) وقطّع حباله الواصلة ما بين العشيق وعشيقته، وهي بذلك قد أحالت قيعان البحار أولاً، والصندوق وأقفاله ثانياً، وقوة العفريت وجبروته ثالثاً إلى الجحيم انتقاماً من الجحيم الذي تعيشه؛ أي الجحيم الذي أبعدها عن (فردوس) حبيبها وعريسها في ليلة زفافها(17).
ونرى (خوف) المرأة شديداً أيضاً، من أن يميل زوجها باتجاه امرأة أخرى (لجمالها أو مالها أو جاهها..) ولكنْ لهذا الخوف حتى يصير خوفاً عتبات عديدة منها: الحذر، والمراقبة، والممانعة، والعزل، والتنحية.. وهذه العتبات تبديها (الليالي) بقوة وذلك حين تُبعد الزوجات الجواري الجميلاتِ عن طريق أزواجهن، أو تكيد لهن، تماماً كما حدث مع زوجة الرشيد زبيدة التي حاولت كل جهدها أن تبعد الجواري الجميلات، مثل (قوت القلوب) عن زوجها، فتلجأ، وفي أثناء غيابه، إلى دفنها حيّة في صندوق خشبي، لا ينقذها من موتها المحتم، وقد صارت في القبر، إلا غانم بن أيوب الذي تواجد مصادفة في المقبرة، وقد جاءها ليبيت فيها(18).
وموضوعة (الخوف) قد تبدو مرعبة وقاسية عند المرأة وحدها في (الليالي) ولكن هذا ليس صحيحاً، ف (خوف) الرجل من المرأة أكبر وأشدّ قسوة، ذلك لأن المرأة ذات طبيعة سحرية قادرة على تغيير الهيئة، والمزاج، والسلوك، والواقع الذي يعيشه الرجل. فبدءاً من (شهريار) نجد حال (المغايرة) أصابته أولاً منذ اكتشافه لخيانة زوجته وممارسته لقتل الفتيات ليلة بعد ليلة، ومن ثم حال المغايرة الثانية التي عدّلت سلوكه تجاه المرأة بعد أن عايش (شهرزاد) وتعلم منها الكثير. وبعد كل ذلك مشهديات السحر الكثيرة التي أوردتها (شهرزاد) وقد استخدمتها النساء (الخائنات لأزواجهن على وجه التحديد والتخصيص) والتي قلبت هيئات أزواجهن (وقد اكتشفوا الخيانة) إلى حيوانات: ككلاب أو عجول أو تيوس. وغالباً ما استخدمت المرأة الجميلة الشابة السحر من أجل إنقاذ نفسها من ورطة ما (وهي دائماً ورطة خيانة مع آخر)(19) أو من أجل الوصول إلى حبيبها البعيد عنها.
أما (عجائز) الليالي فقد استخدمن السحر لشرور لا حدّ لها فيها من الفتن والدسائس الكثير الكثير، وفيها من تغيير الهيئات البشرية إلى أخرى حيوانية أيضاً. ففي قصة (نور الدين شاه)(20) و(ورد شاه)، نجد أن (نور) يحب (ورد) ويهيم بها، ولكن بعد أن أنجبت (الأميرة ورد) ابنها البكر وأولته بعض عنايتها تحوّل عنها نور الدين إلى غيرها وراح يبني العلاقات الغرامية والمغامرات مع حريمه وجواريه دون أن يقدر مشاعر زوجته الأميرة ورد، ودون أن يكون وفياً لمشاعر الحب التي جمعته بها، وراحت (ورد) تتابع أخبار نزواته، وشبقه، واستهتاره بها، وكانت كلما سمعت خبراً، أو رأت مشهداً يغصّ قلبها إلى أن بدأت تذبل وتذوي، وعندئذٍ أحسّت بأنها بدأت تموت ببطء(21)، لذلك عمدت إلى طلب الطلاق من الملك نور الدين شاه لأنها تريد حريتها. وما أن سمع الملك طلبها حتى جنّ جنونه (إذ كيف لها أن تتجرأ وتطلب الطلاق وهي في حضرة ملك عظيم له جاهه ونفوذه وقدراته)، وما كان منه إلا أن طلب العجوز الساحرة (ساشا) وأمرها بأن تحول الأميرة (ورد) أم ولده البكر الوحيد، وولي عهده، إلى قرد(22)!!.
وأعتقد أن موضوعة (الخوف) الكامنة في ذات الرجل والمرأة، كانت هي المهاد أو البساط الذي جلس عليه (شهريار) ليستمع، كما جلست عليه (شهرزاد)، ومعاً راح كل منهما يقوم بدوره؛ الأول: (شهرزاد) بالقص، والثاني: (شهريار) بالاستماع، وقد كان في ذات كل منهما (خوف) من الآخر. ف (شهرزاد) خائفة على حياتها من (شهريار) ولذلك مضت في عالم القص تعليقاً ليس للحكايات فقط (لأن حكايتها عطشى لا تصل إلى الخواتيم بسهولة) وإنما مضت في عالم القصّ تعليقاً للزمن أيضاً طلباً للنجاة، و(شهريار) خائف من (شهرزاد) التي استولت عليه بقصّها للحوادث والأخبار البعيدة والمدهشة التي أوردتها، كي لا تحوّله إلى هيئة حيوانية بسحرها، وقد اعتقدَ بأنها عارفة بالسحر وطقوسه، ذلك لأنها ولّدت الخوف في ذات (شهريار) من السحر منذ قصتها الأولى (التاجر والجني) وحكاية المسافرين الثلاثة التي دارت حول السحر وسخط الأخوين إلى كلبين، والزوجتين إلى غزالة وبغلة(23).
لقد ركّزت (الليالي) كثيراً على القدرات المضمرة التي تتحلى بها (المرأة) والسحر خصوصاً، وقرنت هذه القدرات بالأسرار والمجاهيل الكامنة عند المرأة، بحيث ظلّت هذه الأسرار مجالاً رحباً لبثّ المخاوف في نفس الرجل الذي لا يستطيع على المرأة إلا بقدراته البيّنة، الجسدية (كفرد) أحياناً، والسلطوية (بأعوانه) أحياناً، والجاهية (مكانته) أحياناً أخرى. وقد شكّلت تلك الأسرار الكامنة في الذات الأنثوية في (الليالي) خندقاً دفاعياً تجاه مال الرجل، ونزواته، ورغباته، وسلطته، وذكورته (الديكية) في مجتمع اعتاد على تربيته الذكورية وتنميتها وتسمينها بحيث غدت هي كل شيء في الحياة الاجتماعية، أما الأنوثة فهي من ملحقاتها الاعتيادية.
ومهما يكن الشأن، فإن (شهرزاد) لم تستخدم السحر تجاه (شهريار) لتحويله من هيئة إلى هيئة خوفاً منه سواء أكانت عارفة بفنون السحر أم لا، كما أنها لم تستعن بإحدى العجائز العارفات بهذا الأمر. لكن (شهرزاد) استخدمت سحراً آخر مع (شهريار) حوّله من دخيلة جوانية إلى دخيلة جوانية أخرى صارت كلٌّ منهما نقيضاً للأخرى، فهي بسحرها العالي المدهش (فن الكلام وجماليته) استطاعت أن تؤنسن (شهريار) وتعيده رويداً رويداً، وليلة بعد أخرى، إلى الاجتماعية المرغوبة، وإلى الإنسانية البانية؛ فهي بذلك كانت ساحرة لتبني، لا ساحرة لتنتقم. إنها بفعلها هذا لم تنجُ بنفسها، ولم تخلدها فقط، وإنما نجت ببنات جنسها، وبالمجتمع الذي دهمته العدوانية الدموية وخلّدت ذكر (شهريار) أيضاً، وأعطت للكلام أهميته الاجتماعية مرةً أخرى، وأبدت قدراته الخارقة على التحويل الاجتماعي، والمغايرة في البنية المعرفية للمجتمع(24) وقد سادت كعرف أو قانون مدة ثلاث سنوات كاملة، وهي بذلك أحاطت (لياليها) بهالة من القداسة الفنية الرائعة والباقية على الرغم من كرّ الأيام وتدافعها زمناً إثر زمن!!.
المراجع:
1. ألف ليلة وليلة من المبتدا إلى المنتهى، طبعة مصوّرة عن طبعة برسلاو، ألمانيا، 1826، تصحيح مكسيميليانوس بن هابخط، الطبعة الثانية، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1998. (سلسلة نوادر المطبوعات).
2. التوحيدي، أبو حيان، علي بن محمد: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق د.إبراهيم الكيلاني، دمشق، وزارة الثقافة، 1978.
3. سركيس، إحسان: الثنائية في ألف ليلة وليلة، بيروت، دار الطليعة، 1979.
4. السعداوي، نوال: الوجه العاري للمرأة العربية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1977.
5. شكري، رمسيس: ألف ليلة وليلة الهندية: من الأساطير الهندية القديمة، القاهرة، مطبوعات كتابي (بلا تاريخ).
6. الشويلي، داوود سلمان: ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2000.
7. القلماوي، سهير: ألف ليلة وليلة، شهادة دكتوراه، القاهرة، دار المعارف، 1966.
8. عبد الرحمن، عواطف: إشكاليات تحليل المضمون، القاهرة، بلا تاريخ.
9. المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت، دار المعرفة، 1983.
10. الموسوي، محسن جاسم: ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنكليزي، الوقوع في دائرة السحر، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1983.
11. مومسن، كاترينا: غوته وألف ليلة وليلة، ترجمة أحمد الحمو، دمشق، وزارة الثقافة، 1980.
(1) تقول العامة إن (الزواج شر لابدّ منه) وهو، أي الزواج، الوجه الرسمي المدرك للعلاقة الاجتماعية ما بين الرجل والمرأة.
(2) ألف ليلة وليلة، الجزء الرابع، الليلة الثامنة والستون بعد التسعمائة، ص849.
(3)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الرابع، الليلة الثامنة والستون بعد التسعمائة، ص849.
(4)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثالث، الليلة الخامسة والتسعون بعد الخمسمائة، ص114.
(5) ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثاني، الليلة الرابعة والخمسون بعد الثلاثمائة، ص796.
(6) ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثاني، الليلة الخامسة والخمسون بعد الثلاثمائة، ص797..
(7)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثاني، الليلة الخامسة والخمسون بعد الثلاثمائة، ص797.
(8) هذا الفهم يقودنا إلى مفهوم (الجندر) والنوع الاجتماعي.
(9) في ظني لو أن (شهريار) عرف المرأة وألطافها أو جزءاً من هذه الألطاف عبر ألف فتاة بكر (في ألف ليلة وليلة).. لما استمر في عدوانيته الغريزية تجاه (شهرزاد) في لياليها الأولى معه، فقد كان يقول في نهاية كل ليلة (والله لا أقتلها حتى أعرف بقية الحكاية) لكنه حين عرف جسد (شهرزاد) وألطافها، ما عاد يذكر مفردة القتل على لسانه!.
(10) التصور مطابق لما يحدث حقيقة لملكة النحل حين يطاردها الذكور، وما أن يتم التلقيح حتى يموت الذكور الذين أصابهم حظُّ الوصول إلى الملكة.
(11) ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الثاني، الليلة، ص.
(12)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الرابع، الليلة الحادية بعد الألف وهي آخر الكتاب، ص940.
(13) يقول المثل الشعبي (موتة الفقير ونزوة الأمير) لا أحد يعلم بهما.
(14) تقول (شهرزاد) في (الليالي) على المرأة أن تبحث في سلوكها، وكلامها، وعشرتها.. الخ عن الأسباب التي جعلت زوجها يميل عنها إلى أخرى، وذلك ليس تسويغاً لأفعال الرجل (خياناته) وإنما من أجل حثّ بنات جنسها على عدم الغفلة عن الرجل لأن قدمه سرعان ما تدبّ في حقول أنثوية أخرى، دون أن تعنيه كثيراً عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه.
(15) لقد أصابت (شهرزاد) كبد الحقيقة حين عرضت في (لياليها) صوراً عديدة للمرأة العالمة، والقارئة، والشاعرة، والفلكية، واللغوية، والتاجرة..، ففي هذا نباهة هدفها الرئيس هو عدم تأطير المرأة في إطار الأنوثة (المتعة، والإنجاب) فقط.
(16)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الرابع، الليلة الثانية والخمسون بعد التسعمائة، ص811.
(17) أميل إلى الظن بأن العفريت كان فاقداً لحواسه، وأن فتاة الصندوق كانت تعي ذلك، وإلا ما كانت طمأنينتها وارفة إلى هذا الحد، مع قناعتي المطلقة أن المرأة تملك جرأة قلب لا يملكها الرجل عادة.
(18)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الأول، الليلة الحادية والأربعون، ص206.
(19) نذكر هنا المرأة التي وجدها زوجها في فراشه مع عشيقها، فبُهت، فقامت هي وأخذت طاسة ماء وعزمت عليها، ورشته بمائها، فتحول إلى كلب، ثم فُكّ سحره فعاد إلى شخصيته البشرية، وطلب من الفتاة التي فكت سحره أن تسحر زوجته بغلة لأنها ارتضت أن يركبها شخص آخر غير زوجها. الليالي: التاجر والجني.
(20)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الأول، الليلة التاسعة عشرة، ص84.
(21) أظن أنه بات معروفاً بأن الجسد البشري ليس سوى قشرة وجدت لكي تغلف (بذرة الحياة)، والتي هي تعني المرأة مثلما تعني الرجل. لذلك يعدّ الرجل ماء حياة المرأة، كما تعدّ المرأة ماء حياة الرجل.
(22) لقد ظنّ الملك أن ورداً (زوجته) أحبت آخر ففضلته عليه (وهو الملك)، وأنه ما أن يطلقها ستتزوجه (أو يتزوجها) وعندئذٍ سيعرف الناس القصة، فتلوكه الألسن، لذلك لم يسألها عن أسباب طلبها للطلاق، بل بادر إلى مسخها (عن طريق السحر) إلى قرد.
(23)ألف ليلة وليلة، م.س، الجزء الأول، الليلة الأولى، الليلة الثانية، الليلة الثالثة، صص11-13-16.
(24) وبذلك يمكن عدّ (شهرزاد) داعية اجتماعية، خلّصت مجتمعها (إنقاذاً) من غول (الدموية)، فما أنجزته هو أشبه بما أنجزته الثورات الاجتماعية، أو المغايرات التاريخية الكبرى.
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 96 - السنة الرابعة والعشرون - كانون الأول 2004 - شوال 1425
* dahshacom