نقوس المهدي
كاتب
"ليس كتاب ألف ليلة وليلة شيئا قد مات، بل له من الرحابة غير المتناهية بحيث لا يستوجب القراءة، إذ أنه جزء سابق من ذاكرتنا كما هو أيضا جزء من هذه الليلة"
خورخي لويس بورخس
1
كتاب ممتع ومغامرة مشوقة يقوم بها محمد مصطفي الجاروش داخل أكبر المدن العربية ألف ليلة وليلة، الباحث بجامعة ساو بولو البرازيلية يأخذ القارئ في رحلة عاصفة داخل أقاليم النص العربي الفريد.
الكتاب صدر عن منشورات الجمل، بعنوان "اليالي العربية المزورة (علاء الدين وعلي بابا)"، وهو نتاج بحث مضن للباحث محمد مصطفي الجاروش، الذي تجول داخل مجلدات محسن مهدي المعنونة ب"كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولي"، وكذلك النصوص الخاصة بالترجمات والأصول العربية لكتابنا الأشهر عربياً، حيث ينقب الباحث عن مصادر هاتين الحكايتين: علي بابا وعلاء الدين.
أولي محطات الكتاب هي محطة حنا دياب. حنا شامي ألتقي غالان، أول مترجم فرنسي لألف ليلة وليلة، في باريس. دياب روي لغالان حكايات نسبها للشرق، غالان تأثر بالحكاء الشامي، ووعده الأخير أن يدونها له.
غالان كان عائدا من بلاد شهرزاد، وكان قد بدأ بالفعل في عملية الترجمة الأشهر لنصنا الفريد. لنترك حنا الآن، ونعود لمشروع المترجم الفرنسي ل"ليالي". أولاً المخطوط الرئيسي الذي اعتمد المترجم الفرنسي عليه لم يحتو إلا علي 218 ليلة فقط، (المخطوط لا يزال موجودا بالمكتبة الوطنية بالعاصمة الفرنسية)، بعد الليلة 69 يورد الفرنسي حكاية السندباد البحري(الحكاية نفسها تم ضمها في التوقيت نفسه بنسخة مصرية جديدة لألف ليلة)، ثم بعد الليلة الأخيرة بالمخطوط تأتي -في ترجمة غالان- حكايات أخري منها واحدة بعنوان "غانم بن أبي أيوب المتيم المسلوب"، وغيرها!
البعض يشكك في نسبة حكاية السندباد نفسها لحكايات شهرزاد، ولكن توارد الحكاية وانتشارها عربيا يقوضان هذا التشكيك، لكن المؤكد أن حكايتي "علي بابا"، و"علاء الدين" لم تردا في أي طبعة عربية لألف ليلة، لكن غالان بالفعل ترجم ألف ليلة وليلة، حيث كان للرجل مصادر أخري غير المخطوط المقصود. يروي أن غالان سجل بيومياته، بتاريخ 27 مايو 1700 الآتي:
"براعات مرجانة، أو الأربعون حرامي الذين قضي عليهم بفضل حذق جارية. في إحدي مدن بلاد فارس علي حدود الهند كان ثمة شقيقان.." كانت هذه البذرة الأولي لحكاية علي بابا، وفي عام 1711، أي بعد سنتين وثلاثة أشهر، يكتب غالان حكاية علي بابا، ولكن اسم البطل كان "خوجة بابا". لم يعثر علي المخطوطات التي نقل عنها غالان، ولا يجد الباحثون المتهمون بالمترجم الأول لليالي إلا أسطر قليلة كتبها في يومياته، وتبقي حكاية حنا ووعده بالكتابة كحل للغز البوليسي.. من أين جاءت الحكاية!؟
لاحظ أننا قلنا "كتب"، وليس "ترجم" حيث يشكك الجاروش في كون المصادر الأخري لغالان هي حكايات "حنا"، الرجل الذي وعد المترجم الفرنسي الشهير بتسجيل وتدوين الحكايات.. هكذا دخلت حكاية "مرجانة" لأقاليم الليالي.
هذا هو العربي الأول المزور، حسب الكتاب، أما الثاني فكان القسيس السوري ديوسيوس شاويش، وقد نشر مع جاك كازوت كتابا بعنوان "تتمة ألف ليلة وليلة"، نشر بالفرنسية في جينيف 1788- 1789. في هذا الكتاب كان الذكر الأول لحكاية علاء الدين، وقد استند القس السوري علي مخطوطة جديدة، قال أنها تكمل ما غاب عن ترجمة غالان، هكذا كان دور المترجم السوري، تم الاحتفاء به واشتهر بباريس كأحد متقني العربية، وعمل تحت رعاية الوزير البارون "دي بريتوي".
اللافت أن القسيس أورد الاسم بالعربية هكذا"عليا الدين"، كما أن القسيس كان ناسخ مخطوطة من اثنين هما المخطوطتان العربيتان بالمكتبة الأهلية الفرنسية، الأخيرة كانت لميخائيل الصباغ.
يقال عن الأخير أنه نقل نسخته عن نسخة أحمد الطردي، التي نسخها في بغداد عام 1115 هجرية، وقد نقلها الصباغ كاملة، مصحوبة بفقرات من إشادة مجموعة من الأساتذة والناسخين والعلماء لما فيها من حكايات واصفين دقتها وأمانة ناسخها، حتي أن فقرات الإطراء داخل النسخة دفعت البعض للظن أن غالان نقل عنها.
قسم الصباغ الحكايات علي الليالي في نسخته حتي اكتملت لياليها إلي ألف ليلة وليلة.. هكذا يكون الصباغ أول من أكمل الليالي للفرنسيين. في نهايات القرن التاسع عشر عثر الباحث والعالم الألماني هرمان زوتنبرغ علي مخطوطة الصباغ، حيث عثر عليها لدي أحد باعة الكتب البارسيين، وقام بتحقيقها، ثم اودعها بالمكتبة الوطنية في فرنسا. لكن الباحث العراقي محسن مهدي كان له رأي مخالف حيث يري أن نسخة الصباغ، بعدما قارنها بالنسخ التي كانت متاحة بالمكتبة الملكية، التي كان يعمل بها ميخائيل، حيث يكتب:"لم يبق لدينا أدني شك في أنه نسخ نسخته عن هذه النسخ بعد أن جمع بينها وأجري بعض التعديل السطحي في أسلوبها وتركيبها". كما يشير محسن مهدي إلي أنها- أي نسخة الصباغ- لم تكن إلا نسخة معدلة من نسخة شاويش، التي ترجع هي الأخري للنسخة التي نقلت عن غالان.. أما الطبعة البغدادية، الوحيدة التي ترجع إلي بلاد هارون الرشيد فيحرقها مهدي مؤكداً أنها "خرافة"!
يكشف "الليالي العربية المزورة" أيضا معلومة أخيرة بشأن نسخة عثر عليها قبل عام 1888، النسخة يتردد أن ناسخها هو "يوحنا بن يوسف وارسي"، وهو ناسخ عربي غير معروف، ولكنه أول من قدم أبيات الشعر داخل النص، كما ينسب "الكتاب" لهذه النسخة الفضل الأول لكتابة حكاية "علي بابا"، ربما يكون مصدرا من مصادر شاويش، فالصباغ، حيث إن هذا المخطوط اكتشف لدي مكتبة فرنسية صغيرة، ثم انتقل لأكسفورد ليحققه باحث آخر هو ماكدونالد، والذي يري أن هذا المخطوط ربما يكون أحد مصادر غالان.
2
يفتتح العلامة المسعودي كتابه "مروج الذهب" بفقرة طويلة من الوعيد والتهديد، بل وإسقاط اللعنات علي المحرفين المتوقعين لسفره الهام، حيث يكتب: "فمن حرف شيئا من معناه أو أزال ركنا من مبناه أو طمس واضحة من معالمه أو لبس شاهدة من تراجمه أو غيره أو بدله أو أشأنه أو اختصره أو نسبه إلي غيرنا أو أضافه إلي سوانا فوافاه من غضب الله وسرعة نقمه وفوادح بلاياه ما يعجز عنه.." الفقرة طويلة، وتتنوع فيها اللعنات وعبارت التهديد لكل من ستسول له نفسه بتحريف ما خطه بيده، لكنه ضمن سفره الجيد هذا كان قد وضع البذرة الأولي لحكايات ألف ليلة وليلة حيث يصف كتابا للحكايات عن ملك ينتقم من زوجته الخائنة بقتل فتاة كل ليلة، ولكن آخر الزوجات كانت تحكي له الحكايات اتقاء لشر قطع رقبتها المنتظر. كما قدم المسعودي اسم الكتاب الفارسي "هزار أفسان" أي "ألف خرافة"، هكذا ولد النص الأبرز للعرب بهذه الفقرة، ومنها ولدت الحكايات، ليصنع العرب حكاياتهم التي خُلِدّت.
هكذا لم ينسب النص الأمثل، ألف ليلة، لأحد، النص نفسه كتاب مفتوح بما تعنيه الكلمة، لا يحمل أحد فضله، بينما سيحمل ذنبه، أي الذي جري بخطوط ناسخينا بباريس، الاسماء المعلنة لهم في كتاب الليالي العربية المزورة.
ألف ليلة لا تنسب إلا لناسخيها، وكان من المعتاد الوثوق في سمعة الناسخين، حيث كان تداول النص الشفاهي الحكائي قائما طوال الوقت علي عمليات النسخ، وأمانة الناسخين، لهذا كانت أهمية كتاب "الليالي العربية المزورة".
اللافت أن قراءة الكتاب ممتعة خاصة وأنت تتأمل "التزوير الفني" الذي مارسه العرب باسم إكمال مشروع ألف ليلة وليلة، محررين النص العربي، من سطوة الطبعات المتداولة، مما جعلها نصا آخر، ربما يكون ذلك ما جعلها "الليالي" وليست ألف ليلة!
الناسخون العرب تماهوا تماما مع النص الأصلي، أقصد روح النص الأصلي.. إنها لعبة رواية الحكايات إتقاءً للموت، التي لعبتها شهرزاد، ولكن الناسخين العرب مارسوها بحثا عن المال. لكن غواية الحكي ربما تكون هي التي ورطت الأول حنا دياب، ربما يكون غالان تأثر بحكايات الدمشقي، شعر أنه يعيش أجواء "الليالي"، ربما، فرغم حكايات التزوير إلا أن الكتاب يهدف للإمتاع فقد أورد الباحث نص حكاية علاء الدين كاملة التي نسخها ميخائيل الصباغ، وهو ما يكشف جانباً آخر من حكاية التزوير، فرغم ارتباط كلمة التزوير بالجرم بالزور، إلا أن الباحث لا ينسي أن المزور، رغم كل شئ، قدم عملاً فنياً بديعا. كذلك قدم أجزاءً من حكاية علي بابا، هذا ليس جرماً، بل استمرار لسيرة ألف ليلة، وإن كان يخص امتدادها خارج العالم العربي، لهذا ينشر الباحث دراستين قيمتين لعاشق ألف ليلة خورخي لويس بورخس. الدراستان عن مترجمي النص العربي الأشهر تظهر أسباب ما جري.. أقصد حالة الهوس بالنص الشرقي، حيث يقدم اللورد بايرون ترجمته الشعرية لألف ليلة بأنها رسالة للنبلاء عن العرب حتي يحكموهم بشكل أفضل مثلا، أو حذف النصوص الأيروسية من الكتاب، حيث تكاد تكون ترجمات قليلة جدا هي التي نجت من التنقيح والحذف، لأن أوروبا المحافظة وقتها لم تكن تحتمل سحر الشرق الصريح حسب مبررات المترجمين الخائنين.
من ناحية أخري كشف بورخس الغرض الخفي للترجمة، وكذلك خيانة الحكايات بالتنقيح والحذف، ورغم ذلك يتبني وجهة نظر جمالية، حيث يجعل التزوير إبداعا، حيث يكتب عن أصالة حكاية علاء الدين: "هناك من يرتاب في أن غالان قد يكون لفق هذه الحكاية، ولكني واثق أن كلمة "تلفيق" مجحفة وشريرة، فقد كان لغالان الحق، بقدر ما كان لمحدثي الليل سالفي الذكر، بأن يبدع حكاية، لماذا لا يظن أنه، بعد ترجمته لعدد كبير من الحكايات رغب بأن يبدع حكاية فقام بتحقيق هذا الإبداع؟" ويختتم بورخس، بما يجب تأمله فيما يخص الليالي المزورة: "سيكون لليالي مترجمون آخرون وكل واحد منهم سيعطي ترجمة مختلفة للكتاب لدرجة أننا نكاد نتمكن من التحدث عن كتب عديدة معنونة بألف ليلة وليلة، اثنان بالفرنسية بقلمي غالان وماردلاو، وثلاثة بالإنكليزية بأقلام برتون وباين ولاين وثلاثة بالألمانية بأقلام هينينغ وليتمان وفيل واوحد بالقشطالية بقلم كانسينوس آسينس. كل واحدة من هذه الترجمات مختلفة عن الأخري لأن ألف ليلة وليلة ومازالت تنمو أو يعاد انشاؤها..". ختاما الكتاب يشكك القارئ في علاقة الحكايتان بلألف ليلة وليلة، خاصة أن الطبعات العربية التي احتوت عليها مشكوك في صحتها، لكنهما ستظلان حكايتان عربيتان عبرتا عن هوس عربي غربي بحكايات شهرزاد، التي ستظل أصالتها محل تفكير وبحث دائمين من ناحية التوثيق، ولكننا إذا تأملنا الحكاية كلها بشكل فني سنجد أن البذرة التي نقلها المسعودي لم تمت أبداً، وستظل مثمرة.
* احمد وائل
الليالي العربية المزورة: حكايات لم تروها شهرزاد
أخبار الأدب : 14 - 01 - 2012
خورخي لويس بورخس
1
كتاب ممتع ومغامرة مشوقة يقوم بها محمد مصطفي الجاروش داخل أكبر المدن العربية ألف ليلة وليلة، الباحث بجامعة ساو بولو البرازيلية يأخذ القارئ في رحلة عاصفة داخل أقاليم النص العربي الفريد.
الكتاب صدر عن منشورات الجمل، بعنوان "اليالي العربية المزورة (علاء الدين وعلي بابا)"، وهو نتاج بحث مضن للباحث محمد مصطفي الجاروش، الذي تجول داخل مجلدات محسن مهدي المعنونة ب"كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولي"، وكذلك النصوص الخاصة بالترجمات والأصول العربية لكتابنا الأشهر عربياً، حيث ينقب الباحث عن مصادر هاتين الحكايتين: علي بابا وعلاء الدين.
أولي محطات الكتاب هي محطة حنا دياب. حنا شامي ألتقي غالان، أول مترجم فرنسي لألف ليلة وليلة، في باريس. دياب روي لغالان حكايات نسبها للشرق، غالان تأثر بالحكاء الشامي، ووعده الأخير أن يدونها له.
غالان كان عائدا من بلاد شهرزاد، وكان قد بدأ بالفعل في عملية الترجمة الأشهر لنصنا الفريد. لنترك حنا الآن، ونعود لمشروع المترجم الفرنسي ل"ليالي". أولاً المخطوط الرئيسي الذي اعتمد المترجم الفرنسي عليه لم يحتو إلا علي 218 ليلة فقط، (المخطوط لا يزال موجودا بالمكتبة الوطنية بالعاصمة الفرنسية)، بعد الليلة 69 يورد الفرنسي حكاية السندباد البحري(الحكاية نفسها تم ضمها في التوقيت نفسه بنسخة مصرية جديدة لألف ليلة)، ثم بعد الليلة الأخيرة بالمخطوط تأتي -في ترجمة غالان- حكايات أخري منها واحدة بعنوان "غانم بن أبي أيوب المتيم المسلوب"، وغيرها!
البعض يشكك في نسبة حكاية السندباد نفسها لحكايات شهرزاد، ولكن توارد الحكاية وانتشارها عربيا يقوضان هذا التشكيك، لكن المؤكد أن حكايتي "علي بابا"، و"علاء الدين" لم تردا في أي طبعة عربية لألف ليلة، لكن غالان بالفعل ترجم ألف ليلة وليلة، حيث كان للرجل مصادر أخري غير المخطوط المقصود. يروي أن غالان سجل بيومياته، بتاريخ 27 مايو 1700 الآتي:
"براعات مرجانة، أو الأربعون حرامي الذين قضي عليهم بفضل حذق جارية. في إحدي مدن بلاد فارس علي حدود الهند كان ثمة شقيقان.." كانت هذه البذرة الأولي لحكاية علي بابا، وفي عام 1711، أي بعد سنتين وثلاثة أشهر، يكتب غالان حكاية علي بابا، ولكن اسم البطل كان "خوجة بابا". لم يعثر علي المخطوطات التي نقل عنها غالان، ولا يجد الباحثون المتهمون بالمترجم الأول لليالي إلا أسطر قليلة كتبها في يومياته، وتبقي حكاية حنا ووعده بالكتابة كحل للغز البوليسي.. من أين جاءت الحكاية!؟
لاحظ أننا قلنا "كتب"، وليس "ترجم" حيث يشكك الجاروش في كون المصادر الأخري لغالان هي حكايات "حنا"، الرجل الذي وعد المترجم الفرنسي الشهير بتسجيل وتدوين الحكايات.. هكذا دخلت حكاية "مرجانة" لأقاليم الليالي.
هذا هو العربي الأول المزور، حسب الكتاب، أما الثاني فكان القسيس السوري ديوسيوس شاويش، وقد نشر مع جاك كازوت كتابا بعنوان "تتمة ألف ليلة وليلة"، نشر بالفرنسية في جينيف 1788- 1789. في هذا الكتاب كان الذكر الأول لحكاية علاء الدين، وقد استند القس السوري علي مخطوطة جديدة، قال أنها تكمل ما غاب عن ترجمة غالان، هكذا كان دور المترجم السوري، تم الاحتفاء به واشتهر بباريس كأحد متقني العربية، وعمل تحت رعاية الوزير البارون "دي بريتوي".
اللافت أن القسيس أورد الاسم بالعربية هكذا"عليا الدين"، كما أن القسيس كان ناسخ مخطوطة من اثنين هما المخطوطتان العربيتان بالمكتبة الأهلية الفرنسية، الأخيرة كانت لميخائيل الصباغ.
يقال عن الأخير أنه نقل نسخته عن نسخة أحمد الطردي، التي نسخها في بغداد عام 1115 هجرية، وقد نقلها الصباغ كاملة، مصحوبة بفقرات من إشادة مجموعة من الأساتذة والناسخين والعلماء لما فيها من حكايات واصفين دقتها وأمانة ناسخها، حتي أن فقرات الإطراء داخل النسخة دفعت البعض للظن أن غالان نقل عنها.
قسم الصباغ الحكايات علي الليالي في نسخته حتي اكتملت لياليها إلي ألف ليلة وليلة.. هكذا يكون الصباغ أول من أكمل الليالي للفرنسيين. في نهايات القرن التاسع عشر عثر الباحث والعالم الألماني هرمان زوتنبرغ علي مخطوطة الصباغ، حيث عثر عليها لدي أحد باعة الكتب البارسيين، وقام بتحقيقها، ثم اودعها بالمكتبة الوطنية في فرنسا. لكن الباحث العراقي محسن مهدي كان له رأي مخالف حيث يري أن نسخة الصباغ، بعدما قارنها بالنسخ التي كانت متاحة بالمكتبة الملكية، التي كان يعمل بها ميخائيل، حيث يكتب:"لم يبق لدينا أدني شك في أنه نسخ نسخته عن هذه النسخ بعد أن جمع بينها وأجري بعض التعديل السطحي في أسلوبها وتركيبها". كما يشير محسن مهدي إلي أنها- أي نسخة الصباغ- لم تكن إلا نسخة معدلة من نسخة شاويش، التي ترجع هي الأخري للنسخة التي نقلت عن غالان.. أما الطبعة البغدادية، الوحيدة التي ترجع إلي بلاد هارون الرشيد فيحرقها مهدي مؤكداً أنها "خرافة"!
يكشف "الليالي العربية المزورة" أيضا معلومة أخيرة بشأن نسخة عثر عليها قبل عام 1888، النسخة يتردد أن ناسخها هو "يوحنا بن يوسف وارسي"، وهو ناسخ عربي غير معروف، ولكنه أول من قدم أبيات الشعر داخل النص، كما ينسب "الكتاب" لهذه النسخة الفضل الأول لكتابة حكاية "علي بابا"، ربما يكون مصدرا من مصادر شاويش، فالصباغ، حيث إن هذا المخطوط اكتشف لدي مكتبة فرنسية صغيرة، ثم انتقل لأكسفورد ليحققه باحث آخر هو ماكدونالد، والذي يري أن هذا المخطوط ربما يكون أحد مصادر غالان.
2
يفتتح العلامة المسعودي كتابه "مروج الذهب" بفقرة طويلة من الوعيد والتهديد، بل وإسقاط اللعنات علي المحرفين المتوقعين لسفره الهام، حيث يكتب: "فمن حرف شيئا من معناه أو أزال ركنا من مبناه أو طمس واضحة من معالمه أو لبس شاهدة من تراجمه أو غيره أو بدله أو أشأنه أو اختصره أو نسبه إلي غيرنا أو أضافه إلي سوانا فوافاه من غضب الله وسرعة نقمه وفوادح بلاياه ما يعجز عنه.." الفقرة طويلة، وتتنوع فيها اللعنات وعبارت التهديد لكل من ستسول له نفسه بتحريف ما خطه بيده، لكنه ضمن سفره الجيد هذا كان قد وضع البذرة الأولي لحكايات ألف ليلة وليلة حيث يصف كتابا للحكايات عن ملك ينتقم من زوجته الخائنة بقتل فتاة كل ليلة، ولكن آخر الزوجات كانت تحكي له الحكايات اتقاء لشر قطع رقبتها المنتظر. كما قدم المسعودي اسم الكتاب الفارسي "هزار أفسان" أي "ألف خرافة"، هكذا ولد النص الأبرز للعرب بهذه الفقرة، ومنها ولدت الحكايات، ليصنع العرب حكاياتهم التي خُلِدّت.
هكذا لم ينسب النص الأمثل، ألف ليلة، لأحد، النص نفسه كتاب مفتوح بما تعنيه الكلمة، لا يحمل أحد فضله، بينما سيحمل ذنبه، أي الذي جري بخطوط ناسخينا بباريس، الاسماء المعلنة لهم في كتاب الليالي العربية المزورة.
ألف ليلة لا تنسب إلا لناسخيها، وكان من المعتاد الوثوق في سمعة الناسخين، حيث كان تداول النص الشفاهي الحكائي قائما طوال الوقت علي عمليات النسخ، وأمانة الناسخين، لهذا كانت أهمية كتاب "الليالي العربية المزورة".
اللافت أن قراءة الكتاب ممتعة خاصة وأنت تتأمل "التزوير الفني" الذي مارسه العرب باسم إكمال مشروع ألف ليلة وليلة، محررين النص العربي، من سطوة الطبعات المتداولة، مما جعلها نصا آخر، ربما يكون ذلك ما جعلها "الليالي" وليست ألف ليلة!
الناسخون العرب تماهوا تماما مع النص الأصلي، أقصد روح النص الأصلي.. إنها لعبة رواية الحكايات إتقاءً للموت، التي لعبتها شهرزاد، ولكن الناسخين العرب مارسوها بحثا عن المال. لكن غواية الحكي ربما تكون هي التي ورطت الأول حنا دياب، ربما يكون غالان تأثر بحكايات الدمشقي، شعر أنه يعيش أجواء "الليالي"، ربما، فرغم حكايات التزوير إلا أن الكتاب يهدف للإمتاع فقد أورد الباحث نص حكاية علاء الدين كاملة التي نسخها ميخائيل الصباغ، وهو ما يكشف جانباً آخر من حكاية التزوير، فرغم ارتباط كلمة التزوير بالجرم بالزور، إلا أن الباحث لا ينسي أن المزور، رغم كل شئ، قدم عملاً فنياً بديعا. كذلك قدم أجزاءً من حكاية علي بابا، هذا ليس جرماً، بل استمرار لسيرة ألف ليلة، وإن كان يخص امتدادها خارج العالم العربي، لهذا ينشر الباحث دراستين قيمتين لعاشق ألف ليلة خورخي لويس بورخس. الدراستان عن مترجمي النص العربي الأشهر تظهر أسباب ما جري.. أقصد حالة الهوس بالنص الشرقي، حيث يقدم اللورد بايرون ترجمته الشعرية لألف ليلة بأنها رسالة للنبلاء عن العرب حتي يحكموهم بشكل أفضل مثلا، أو حذف النصوص الأيروسية من الكتاب، حيث تكاد تكون ترجمات قليلة جدا هي التي نجت من التنقيح والحذف، لأن أوروبا المحافظة وقتها لم تكن تحتمل سحر الشرق الصريح حسب مبررات المترجمين الخائنين.
من ناحية أخري كشف بورخس الغرض الخفي للترجمة، وكذلك خيانة الحكايات بالتنقيح والحذف، ورغم ذلك يتبني وجهة نظر جمالية، حيث يجعل التزوير إبداعا، حيث يكتب عن أصالة حكاية علاء الدين: "هناك من يرتاب في أن غالان قد يكون لفق هذه الحكاية، ولكني واثق أن كلمة "تلفيق" مجحفة وشريرة، فقد كان لغالان الحق، بقدر ما كان لمحدثي الليل سالفي الذكر، بأن يبدع حكاية، لماذا لا يظن أنه، بعد ترجمته لعدد كبير من الحكايات رغب بأن يبدع حكاية فقام بتحقيق هذا الإبداع؟" ويختتم بورخس، بما يجب تأمله فيما يخص الليالي المزورة: "سيكون لليالي مترجمون آخرون وكل واحد منهم سيعطي ترجمة مختلفة للكتاب لدرجة أننا نكاد نتمكن من التحدث عن كتب عديدة معنونة بألف ليلة وليلة، اثنان بالفرنسية بقلمي غالان وماردلاو، وثلاثة بالإنكليزية بأقلام برتون وباين ولاين وثلاثة بالألمانية بأقلام هينينغ وليتمان وفيل واوحد بالقشطالية بقلم كانسينوس آسينس. كل واحدة من هذه الترجمات مختلفة عن الأخري لأن ألف ليلة وليلة ومازالت تنمو أو يعاد انشاؤها..". ختاما الكتاب يشكك القارئ في علاقة الحكايتان بلألف ليلة وليلة، خاصة أن الطبعات العربية التي احتوت عليها مشكوك في صحتها، لكنهما ستظلان حكايتان عربيتان عبرتا عن هوس عربي غربي بحكايات شهرزاد، التي ستظل أصالتها محل تفكير وبحث دائمين من ناحية التوثيق، ولكننا إذا تأملنا الحكاية كلها بشكل فني سنجد أن البذرة التي نقلها المسعودي لم تمت أبداً، وستظل مثمرة.
* احمد وائل
الليالي العربية المزورة: حكايات لم تروها شهرزاد
أخبار الأدب : 14 - 01 - 2012