نقوس المهدي
كاتب
لقد حلت بواكير شهر نيسان لكن البرد ما زال متشبثا بالأرض وأبى الثلج أن يذوب تحت
أشعة شمس الشتاء الواهنة . وخرج الناس من بيوتهم وقد اعترتهم الكآبة وراحوا
يتبادلون التعليقات الحزينة حول نزوات الجو . وكان كل شيء جاهزا للبذار منذ مدة
طويلة . وكان الجميع ينتظرون الجو الدافئ إلا أنه لم يأتِ بعد . فانتظروا تراودهم
الآمال . ولو لم يمنح الإنسان نعمة الأمل لاختفى من على وجه الأرض منذ أمد بعيد .
وأخيرا حلّ الجو الرائع وعمّ الدفء وأشرقت الشمس البراقة وهبت الريح رخاء من الجنوب
فقد قدم الربيع حقا . ولم يعد يعقوب شور قابعا بين جدران بيته الأربعة فكان الفجر
يلاقيه في الحقول التي يبقى فيها حتى أفول الشمس دون أن يتوانى جراره عن العمل لحظة
واحدة . وعاد يعقوب متأخرا من الحقول ، وكان يسكن في أقصى القرية . وعندما سار عبر
شارع القرية الرئيس الطويل أمضى الوقت بالنظر حواليه والتوقف للحديث مع النساء وهن
منشغلات في حدائقهن وسألهن عما كن يزرعن . واندهش عندما عرف أنهن يزرعن المزيد من
الأزهار هذا الربيع أكثر من أي وقت مضى . ربما لكي ينافسن جيرانهن أو أن بذورا
جديدة قد جلبت إلى القرية أو ابتهاجا بعودة الحياة إلى التربة مرة أخرى.وعلى أية
حال فقد حاولن كلهن أن يجعلن حدائقهن جذابة قدر المستطاع .
هكذا تراءى الأمر ليعقوب لكنه لم يلاحظ من قبل ماذا كانت تفعل النساء دائما في مثل
هذا الوقت من السنة . فخلال أشهر الصيف كان يعقوب منشغلا فلم يفكر بالزهور في
حدائق الآخرين . ولم تكن في باحة منزله أية أزهار . وذات مرة عندما كان شابا طلب من
زوجته ` فيرا ` أن تزرع الزهور لكنها رأت من الأفضل لهما أن يزرعا البطاطا بدلا من
ذلك . وعلى الرغم من عدم حاجتهما للبطاطا إلا أن يعقوب لم يواصل إلحاحه . كان ذلك
منذ أمد بعيد ولكن منذ ذلك الحين لم تكن ثمة زهور أمام بيته .
وسار في الشارع وقد استولت عليه الدهشة عندما قالت النساء ردا على سؤاله بأنهن
يزرعن الورود لأن الربيع قد حل هنا !
وأنت يا ` دوريكا ` هل تزرعين الزهور هنا كذلك ؟
فعدلت المرأة من قامتها ونظرت إليه مبتسمة .
- حسنا لقد آن الأوان ، أليس كذلك ؟
كانت عيناها سوداوين واسعتين بل أشد سوادا من الأرض تحت قدميها التي أخذت تنثر
البذور فيها . أجل لقد كانت دوريكا كما كانت فتاة شابة . وتوقف يعقوب رغما عنه .
توقف وأحنى مرفقيه على السياج ونظر إليها بصمت وارتباك . ولكي يسمعها تتكلم بادرها
بالسؤال :
` هل لك أن تعطيني بعض البذور ؟ إنني أريد أن أزرع شيئا منها أيضا `
- لقد أعطيتك بعض البذور ذات مرة ، هل تتذكر ؟`
وتحرك شيء ما في أعماق ذاكرته وتساءل : ماذا فعلت بتلك البذور ؟
وفي البيت فتش في كل مكان وبحث في كل زاوية . وتذكر أنها كانت مخبأة في منديل . فكم
سنة مضت وهي راقدة هناك تنتظر التربة ؟ وأخيرا وجدها في الـدُّرْج حيث كان يحتفظ
بحاجياته المتناثرة كلها وحل وثاق المنديل الذي يعلوه الغبار وحدق في البذور
الكتانية الصغيرة البُنـّية وقد انتابته الهواجس والذعر . أي نوع من الزهور يكمن
فيها ؟ أمِنَ الممكن أنها لم تجف بعد وتفقد خصوبتها في هذه السنين كلها ؟ كان يجب
أن تزف إلى التربة منذ مدة طويلة ن في ذلك الربيع ... لكن ذلك الربيع حل فجأة
وبسرعة وتاقت أرض يعقوب شور لمحراثه . ثم هطل مطر الربيع الدافئ واكتشف يعقوب ثقبا
صغيرا أسود في سقف بيته كأنه عين تراءت وهي تغمِز إليه فكان عليه أن يخرج ويقطع بعض
القصب لإصلاح السقف ... ثم حل وقت إعداد التبن وبعده موسم حصاد الذرة والحراثة مرة
أخرى . وكان عليه أن يفكر بأشياء عديدة لأنه الرجل الوحيد في بيت أمه . ووجد نفسه
دون أن يدري في منتصف الشتاء ليس وحده ولكن مع ` فيرا `الفتاة التي أحبته منذ مدة
طويلة . وانتظرت البذور بصمت واستقر الغبار على المنديل المشدود وكان على دوريكا أن
تذكـّره لكنهما اختلفا على بعض الأمور التافهة وافترقا كل في طريقه . وتزوج يعقوب
من فيرا التي لم تـُبدِ اهتماما بالزهور وكانت تود أن تزرع الحديقة كلها بالبطاطا
لو سنحت لها الفرصة .
ولهذا ظل منديل ` دوريكا ` وقد طواه النسيان . ما أكثر السنين التي مرت منذ ذلك
الحين ! ولكن لا تزال عيناها سوداوين كما كانتا . ومثل عيني فتاة شابة كانت البذور
رمادية صغيرة ، فهل ظلت فيها حياة ؟
وغرس البذور على امتداد الممر المؤدي إلى بوابته . وكلما عاد إلى البيت من العمل
كان يقف ويحدق في البذور والتربة التي نثرها فيها . لكنها ظلت سوداء ولم تتشقق في
حين نمت درنات البطاطا على مقربة منها فغمغمت زوجته قائلة:
` كان من الأفضل أن تزرع البطاطا .` ولم يجب يعقوب .
لماذا لم تنبت البذور ؟ ولم تنبت البذور لأنه أراد الأزهار ذات مرة في حياته .
لكنها نمت ، ففي الصيف الباكر وبعد أن هطل المطر الغزير ظهرت على حافة الممر مجموعة
من الأعشاب البيض ذات الخطوط الخضر الباهتة وبدت كأنها ` لحية الملك ` أو عشب ريشي
لكنها لم تكن كذلك . ولم يتذكر يعقوب أنه رأى شيئا كهذا . وكان كل من يمر هناك
يتوقف لينظر إلى حشائش يعقوب . ولم يتأكد الناس فيما إذا كان عليهم أن يحترموا أو
يضحكوا على هذا الشريط الأبيض الذي شق طريقه إلى الأعلى بوقاحة صوب الشمس . وتعجب
يعقوب منها أيضا . وكان يظن في كل مرة انه يرى عبر خميلة الحشائش عينين سوداوين بل
أشد سوادا من الأرض وهما تبتسمان له وتوبخانه وتسخران منه . وغالبا ما كانتا تبعثان
البهجة والإثارة بدرجة تفوق الوصف فضايقه الأمر وأقض مضجعه في الليل والنهار . وغضب
يعقوب وبدأ يسحق الحشائش ويطأ أوراقها الرقيقة الشاحبة تحت قدميه . وإذا ما رأى
حشائش الشيطان كما بدأ يسميها وهي هامدة على الأرض فإنه يتنفس الصعداء ويشعر
بالراحة لأنه انتقم منها أخيرا لكنها كانت تنتصب عند الصباح مرة أخرى وقد ازدادت
طولا وجمالا عما كانت عليه من قبل . وكان يرى عبر سيقانها عينين سوداوين براقتين
أشد سوادا من الأرض التي استمدت تلك الأعشاب حيويتها منها ومن أعماقها وهي تتألق
بيضاء في الشمس وتجذب نظرات الناس الفضوليين .
واستشاط يعقوب غضبا . وفي أوج الصيف حفر الحشائش كلها من الجذور ورماها في النار
ولكن شيئا ما كان قد بقي في التربة وربما حصلت معجزة النهوض من الرماد لأنه عندما
جاء الربيع كونت حشائش الشيطان حدا كثيفا لممر الحديقة وحدقت خلالها كالسابق عينان
سوداوان كسواد الأرض في عيني يعقوب وسخرتا منه حتى ظن أن هذه الحشائش ستكون سببا
لموته .
وفي الخريف ، وبعد جَنـْي البطاطا غطى يعقوب الممر بالطابوق المهشم وصب عليه
الإسمنت فأحس عندئذ بالراحة .
دع تلك الحشائش تبصر ضوء النهار الآن!
وظل الممر نظيفا في الربيع القادم والصيف وخلال الخريف . ولم تظهر للعيان ورقة
واحدة من الحشائش. وأحس يعقوب الآن بالاطمئنان .
ولكن عندما كانت دوريكا تأتي لتستعير شيئا ما كما يفعل الجيران يحس كأنه أخطأ بحقها
ويشعر بالخجل كأنه اقترف ذنبا.
ومرت سنين عدة . وفي أحد الأيام ، وبينما كان يعقوب منشغلا بأعماله الزراعية في
ساحة داره لاحظ فجأة بعض البراعم البيض المتألقة ترفع رؤوسها خلال الإسمنت . وجاء
الناس وحدقوا مندهشين ثم مضوا وقد ران عليهم الصمت والتأمل .
وغالبا ما كانت امرأة تنحني مقابل السياج وتقف بصمت وهي تحدق في الحشائش الفضية
المجاورة للمر . كانت تحدق كأنها تنظر إلى حلم أثير ضيعته . ونظر إليها يعقوب بقلب
يعتصره الألم واستولى عليه الرعب ولم يستطع أن ينطق كلمة واحدة . وذات مرة رفعت
المرأة عينيها إلى عينيه ورأى أن الغضون قد أذبلت وجهها . وغمغمت قائلة :
` يعقوب ! يعقوب ! لماذا تريد تدميرها ؟ `
فوقف يعقوب شور صامتا وقد اهتز كيانه ولم يستطع أن يرفع عينيه عن المرأة التي وقفت
جنب السياج . وأراد أن يتذكرها كما كانت قبل أن تحفر الأعوام أخاديدها لكنه لم
يستطع .
لقد ذوى جمالها وبدا رأسها وقد توجه إكليل فضي منسوج من تلك الأعشاب . ولم تبق َ
سوى عينيها السوداوين كما كانتا وقد اغرورقتا بالدموع في تلك اللحظة لسبب ما .
أشعة شمس الشتاء الواهنة . وخرج الناس من بيوتهم وقد اعترتهم الكآبة وراحوا
يتبادلون التعليقات الحزينة حول نزوات الجو . وكان كل شيء جاهزا للبذار منذ مدة
طويلة . وكان الجميع ينتظرون الجو الدافئ إلا أنه لم يأتِ بعد . فانتظروا تراودهم
الآمال . ولو لم يمنح الإنسان نعمة الأمل لاختفى من على وجه الأرض منذ أمد بعيد .
وأخيرا حلّ الجو الرائع وعمّ الدفء وأشرقت الشمس البراقة وهبت الريح رخاء من الجنوب
فقد قدم الربيع حقا . ولم يعد يعقوب شور قابعا بين جدران بيته الأربعة فكان الفجر
يلاقيه في الحقول التي يبقى فيها حتى أفول الشمس دون أن يتوانى جراره عن العمل لحظة
واحدة . وعاد يعقوب متأخرا من الحقول ، وكان يسكن في أقصى القرية . وعندما سار عبر
شارع القرية الرئيس الطويل أمضى الوقت بالنظر حواليه والتوقف للحديث مع النساء وهن
منشغلات في حدائقهن وسألهن عما كن يزرعن . واندهش عندما عرف أنهن يزرعن المزيد من
الأزهار هذا الربيع أكثر من أي وقت مضى . ربما لكي ينافسن جيرانهن أو أن بذورا
جديدة قد جلبت إلى القرية أو ابتهاجا بعودة الحياة إلى التربة مرة أخرى.وعلى أية
حال فقد حاولن كلهن أن يجعلن حدائقهن جذابة قدر المستطاع .
هكذا تراءى الأمر ليعقوب لكنه لم يلاحظ من قبل ماذا كانت تفعل النساء دائما في مثل
هذا الوقت من السنة . فخلال أشهر الصيف كان يعقوب منشغلا فلم يفكر بالزهور في
حدائق الآخرين . ولم تكن في باحة منزله أية أزهار . وذات مرة عندما كان شابا طلب من
زوجته ` فيرا ` أن تزرع الزهور لكنها رأت من الأفضل لهما أن يزرعا البطاطا بدلا من
ذلك . وعلى الرغم من عدم حاجتهما للبطاطا إلا أن يعقوب لم يواصل إلحاحه . كان ذلك
منذ أمد بعيد ولكن منذ ذلك الحين لم تكن ثمة زهور أمام بيته .
وسار في الشارع وقد استولت عليه الدهشة عندما قالت النساء ردا على سؤاله بأنهن
يزرعن الورود لأن الربيع قد حل هنا !
وأنت يا ` دوريكا ` هل تزرعين الزهور هنا كذلك ؟
فعدلت المرأة من قامتها ونظرت إليه مبتسمة .
- حسنا لقد آن الأوان ، أليس كذلك ؟
كانت عيناها سوداوين واسعتين بل أشد سوادا من الأرض تحت قدميها التي أخذت تنثر
البذور فيها . أجل لقد كانت دوريكا كما كانت فتاة شابة . وتوقف يعقوب رغما عنه .
توقف وأحنى مرفقيه على السياج ونظر إليها بصمت وارتباك . ولكي يسمعها تتكلم بادرها
بالسؤال :
` هل لك أن تعطيني بعض البذور ؟ إنني أريد أن أزرع شيئا منها أيضا `
- لقد أعطيتك بعض البذور ذات مرة ، هل تتذكر ؟`
وتحرك شيء ما في أعماق ذاكرته وتساءل : ماذا فعلت بتلك البذور ؟
وفي البيت فتش في كل مكان وبحث في كل زاوية . وتذكر أنها كانت مخبأة في منديل . فكم
سنة مضت وهي راقدة هناك تنتظر التربة ؟ وأخيرا وجدها في الـدُّرْج حيث كان يحتفظ
بحاجياته المتناثرة كلها وحل وثاق المنديل الذي يعلوه الغبار وحدق في البذور
الكتانية الصغيرة البُنـّية وقد انتابته الهواجس والذعر . أي نوع من الزهور يكمن
فيها ؟ أمِنَ الممكن أنها لم تجف بعد وتفقد خصوبتها في هذه السنين كلها ؟ كان يجب
أن تزف إلى التربة منذ مدة طويلة ن في ذلك الربيع ... لكن ذلك الربيع حل فجأة
وبسرعة وتاقت أرض يعقوب شور لمحراثه . ثم هطل مطر الربيع الدافئ واكتشف يعقوب ثقبا
صغيرا أسود في سقف بيته كأنه عين تراءت وهي تغمِز إليه فكان عليه أن يخرج ويقطع بعض
القصب لإصلاح السقف ... ثم حل وقت إعداد التبن وبعده موسم حصاد الذرة والحراثة مرة
أخرى . وكان عليه أن يفكر بأشياء عديدة لأنه الرجل الوحيد في بيت أمه . ووجد نفسه
دون أن يدري في منتصف الشتاء ليس وحده ولكن مع ` فيرا `الفتاة التي أحبته منذ مدة
طويلة . وانتظرت البذور بصمت واستقر الغبار على المنديل المشدود وكان على دوريكا أن
تذكـّره لكنهما اختلفا على بعض الأمور التافهة وافترقا كل في طريقه . وتزوج يعقوب
من فيرا التي لم تـُبدِ اهتماما بالزهور وكانت تود أن تزرع الحديقة كلها بالبطاطا
لو سنحت لها الفرصة .
ولهذا ظل منديل ` دوريكا ` وقد طواه النسيان . ما أكثر السنين التي مرت منذ ذلك
الحين ! ولكن لا تزال عيناها سوداوين كما كانتا . ومثل عيني فتاة شابة كانت البذور
رمادية صغيرة ، فهل ظلت فيها حياة ؟
وغرس البذور على امتداد الممر المؤدي إلى بوابته . وكلما عاد إلى البيت من العمل
كان يقف ويحدق في البذور والتربة التي نثرها فيها . لكنها ظلت سوداء ولم تتشقق في
حين نمت درنات البطاطا على مقربة منها فغمغمت زوجته قائلة:
` كان من الأفضل أن تزرع البطاطا .` ولم يجب يعقوب .
لماذا لم تنبت البذور ؟ ولم تنبت البذور لأنه أراد الأزهار ذات مرة في حياته .
لكنها نمت ، ففي الصيف الباكر وبعد أن هطل المطر الغزير ظهرت على حافة الممر مجموعة
من الأعشاب البيض ذات الخطوط الخضر الباهتة وبدت كأنها ` لحية الملك ` أو عشب ريشي
لكنها لم تكن كذلك . ولم يتذكر يعقوب أنه رأى شيئا كهذا . وكان كل من يمر هناك
يتوقف لينظر إلى حشائش يعقوب . ولم يتأكد الناس فيما إذا كان عليهم أن يحترموا أو
يضحكوا على هذا الشريط الأبيض الذي شق طريقه إلى الأعلى بوقاحة صوب الشمس . وتعجب
يعقوب منها أيضا . وكان يظن في كل مرة انه يرى عبر خميلة الحشائش عينين سوداوين بل
أشد سوادا من الأرض وهما تبتسمان له وتوبخانه وتسخران منه . وغالبا ما كانتا تبعثان
البهجة والإثارة بدرجة تفوق الوصف فضايقه الأمر وأقض مضجعه في الليل والنهار . وغضب
يعقوب وبدأ يسحق الحشائش ويطأ أوراقها الرقيقة الشاحبة تحت قدميه . وإذا ما رأى
حشائش الشيطان كما بدأ يسميها وهي هامدة على الأرض فإنه يتنفس الصعداء ويشعر
بالراحة لأنه انتقم منها أخيرا لكنها كانت تنتصب عند الصباح مرة أخرى وقد ازدادت
طولا وجمالا عما كانت عليه من قبل . وكان يرى عبر سيقانها عينين سوداوين براقتين
أشد سوادا من الأرض التي استمدت تلك الأعشاب حيويتها منها ومن أعماقها وهي تتألق
بيضاء في الشمس وتجذب نظرات الناس الفضوليين .
واستشاط يعقوب غضبا . وفي أوج الصيف حفر الحشائش كلها من الجذور ورماها في النار
ولكن شيئا ما كان قد بقي في التربة وربما حصلت معجزة النهوض من الرماد لأنه عندما
جاء الربيع كونت حشائش الشيطان حدا كثيفا لممر الحديقة وحدقت خلالها كالسابق عينان
سوداوان كسواد الأرض في عيني يعقوب وسخرتا منه حتى ظن أن هذه الحشائش ستكون سببا
لموته .
وفي الخريف ، وبعد جَنـْي البطاطا غطى يعقوب الممر بالطابوق المهشم وصب عليه
الإسمنت فأحس عندئذ بالراحة .
دع تلك الحشائش تبصر ضوء النهار الآن!
وظل الممر نظيفا في الربيع القادم والصيف وخلال الخريف . ولم تظهر للعيان ورقة
واحدة من الحشائش. وأحس يعقوب الآن بالاطمئنان .
ولكن عندما كانت دوريكا تأتي لتستعير شيئا ما كما يفعل الجيران يحس كأنه أخطأ بحقها
ويشعر بالخجل كأنه اقترف ذنبا.
ومرت سنين عدة . وفي أحد الأيام ، وبينما كان يعقوب منشغلا بأعماله الزراعية في
ساحة داره لاحظ فجأة بعض البراعم البيض المتألقة ترفع رؤوسها خلال الإسمنت . وجاء
الناس وحدقوا مندهشين ثم مضوا وقد ران عليهم الصمت والتأمل .
وغالبا ما كانت امرأة تنحني مقابل السياج وتقف بصمت وهي تحدق في الحشائش الفضية
المجاورة للمر . كانت تحدق كأنها تنظر إلى حلم أثير ضيعته . ونظر إليها يعقوب بقلب
يعتصره الألم واستولى عليه الرعب ولم يستطع أن ينطق كلمة واحدة . وذات مرة رفعت
المرأة عينيها إلى عينيه ورأى أن الغضون قد أذبلت وجهها . وغمغمت قائلة :
` يعقوب ! يعقوب ! لماذا تريد تدميرها ؟ `
فوقف يعقوب شور صامتا وقد اهتز كيانه ولم يستطع أن يرفع عينيه عن المرأة التي وقفت
جنب السياج . وأراد أن يتذكرها كما كانت قبل أن تحفر الأعوام أخاديدها لكنه لم
يستطع .
لقد ذوى جمالها وبدا رأسها وقد توجه إكليل فضي منسوج من تلك الأعشاب . ولم تبق َ
سوى عينيها السوداوين كما كانتا وقد اغرورقتا بالدموع في تلك اللحظة لسبب ما .