نقوس المهدي
كاتب
تمثال جالان أول من ترجم ألف ليلة بالتأكيد، صلة حملة وثيقة بين نشأتي في القاهرة القديمة والف ليلة، ليس بسبب طباعتها في المكتبات المحيطة بالأزهر، خاصة مكتبة ومطبعة محمد صبيح التي تخصصت في طبع الليالي منذ بداية القرن العشرين، طبعة علي الحجر مزودة بصور توضيحية رسمها فنان - مصري مجهول، كانت هذه الطبعة تقع في اربعة مجلدات، انها نفس الطبعة التي استهدفها بلاغ أحد المصريين الذي قدم إلي شرطة الآداب (!) عام ستة وثمانين باعتبار الليالي عملا فاحشا يتساوي مع المومسات والاعمال الفاضحة التي تقع في اختصاص شرطة الآداب، وقدر لي أن أخصص الصفحة الادبية بجريدة الاخبار التي كنت مشرفا عليها وقتئذ للدفاع عن الليالي تحت عنوان »دفاعا عن شهرزاد« وانتهت المحاكمة امام محكمة الاستئناف التي أصدرت حكما تاريخيا ضد المصادرة وضد كل من يعتبر الف ليلة وليلة عملا إباحيا، ثمة صلة بين القاهرة القديمة والليالي، في درب الطبلاوي، الحارة العتيقة التي كان يوجد بها قصر المسافرخانة الاثري والذي أحترق عام سبعة وتسعين، تكاد تكون القاهرة القديمة هي الترجمة المكانية الموازية لاحداث الليالي، وفي تقديري أن بغداد المذكورة ليست الا القاهرة، ولكن استحضار مكان بعيد يرتبط بمجد الحضارة العربية الاسلامية وله موقع خاص في الخيال الشعبي المصري ومنه جاء لفظ »البغددة« المعبر عن الرفاهية والعز المبالغ فيهما، المكان في الليالي هو القاهرة حتي وإن اطلق عليه بغداد، لقد نشأت وتفتح وعيي علي واجهات البيوت القديمة ومقرنصات المساجد والمآذن السامقة والقباب، وعبرت تلك النواحي المثقلة بالعتاقة، ورأيت الوجوه التي تحيط بمسجد مولانا وسيدنا الحسين المركز الروحي لمصر، والازهر المسجد والجامعة، المركز العلمي والديني للعالم الاسلامي، في المقاهي القاهرية العتيقة قبل اختراع الراديو كان الرواة يقصون علي المستمعين الليالي شفاهة مع الموسيقي الصادرة عن الربابة، كان الشعراء الرواة يقصون علي الناس الملاحم الكبري، عنترة بن شداد، الظاهر ببيرس الاميرة ذات الهمة، سيف ابن ذي يزن، الهلالية ،وهي الملحمة الوحيدة الباقية حتي الآن شفاهة وتنشد كاملة في جنوب مصر. كانت الليالي من النصوص التي يحرص القاهريون علي الاستماع عليها في القاهرة التي تخصصت فيها، فلكل مقهي ملحمة تروي فيه، من هنا عرفت بعض المقاهي باسماء الملاحم التي تنشد فيها، كان الرواة الشعراء الشعبيون فقراء، يحفظون الليالي والملاحم ويتكسبون من العيش بها، وكان وضعهم في المجتمع متدنيا، ربما يفسّر لنا ذلك وضع الليالي في نظر الناس، خاصة المثقفين، كان الادب الشعبي خارج السباق، الاديب الجدير بالاحترام هو من يكتب بالفصحي، وينشد الشعر بالفصحي، وفي القرن التاسع عشر ظهرت المطبعة، وبدأت النصوص الشفهية تتحول إلي نصوص مكتوبة، مطبوعة، لكنها ظهرت بدون مؤلف معروف، لم تُنسب إلي كاتب بعينه، أي لقيطة بدون نسب، وللنسب في الثقافة العربية شأن عظيم، لذلك ظلت النظرة إليها دونية، بل اصبح بعضها مثل الليالي من النصوص المحرمة، تقرأ في البيوت سرا، صحيح انها محرمة خاصة في الطبقة الوسطي، ولكنها موجودة ايضا، في نفس الوقت لأن الليالي مبدعة خارج السياق الرسمي فقد عبرت عن المسكوت عنه في الادب الرسمي المعتمد، لا اقصد بذلك الجنس، فجميع النصوص الادبية العربية لكبار المبدعين تحوي من معالجة أمور الجنس ما لايجرؤ أي أديب عربي علي الاقدام عليه الآن، ولكن الليالي عبرت عن العقل الجمعي المكبوت. سواء فيما يتعلق برؤية الكون، أو الوجود، ولأن الراوي غير معروف، فقد تحققت في الليالي حرية قصوي، فمن يمكن محاسبته هنا؟
كان تعرفي إلي الليالي حدثا هاما في حياتي، فقد قرأتها وانا دون العاشرة، كانت البكارة في القراءة تدفعني إلي معايشة ما اقرأ وليس الاطلاع عليه فقط، لذلك كنت أكاد المس شهرزاد واختها دنيازاد، واكاد اشهق مع طيران الرخ والسندباد متعلق به، كانت قراءة الدهشة والاكتشاف لعوالم سحرية غير قائمة في الواقع لكنها تجسد واقعا موازيا يتداخل مع القائم بالفعل فتتسع الآفاق وينطلق الخيال ويتجدد باستمرار، قدمت الف ليلة عبر وسائط اخري، اهمها كان مجلة تصدر عن دار المعارف، اسمها سندباد، وكانت تتخذ أحد أشهر الاسماء من الليالي، السندباد الرحالة، مخترق الافاق، كان يكتب السيناريو المصاحب للرسوم محمد سعيد العريان، اما الفنان الذي جسد الليالي بريشته فكان بيكار وهو أحد اكبر الفنانين المصريين في القرن العشرين، لايرد اسم السندباد علي ذاكرتي أو سمعي، الا ويتجسد عبر ريشة بيكار كما رأيتها طفلا، ولايرد اسم شهرزاد إلا وأصغي إلي صوت الفنانة زوزو نبيل التي كانت تؤدي دورها في المسلسل الاذاعي الشهير الف ليلة وليلة، والذي بثته الاذاعة المصرية في الخمسينيات خلال شهر رمضان، وكتبه الشاعر والاديب طاهر ابوفاشا، وكانت المقدمة الموسيقية من المتتالية الشهيرة للموسيقار الروسي ريمسكي كورساكوف، لقد جري تحول في الموقف من الف ليلة منذ الثلاثينيات في القرن العشرين عندما أقدم الدكتور طه حسين أحد أعظم المثقفين المصريين علي تشجيع تلميذته سهير القلماوي علي اعداد رسالتها لنيل درجة الدكتوراه حول الليالي، وكانت الرسالة الرائدة أول مثول اكاديمي رفيع المستوي لالف ليلة في الجامعة المصرية، وبرغم ذلك ظلت رؤية المثقفين - في تقديري - لها متدنية، لم يعتبرها معظمهم عملا جليلا، شامخا، معبرا عن روح انسانية عميقة، ورؤية كونية منطلقة من خصوصية اسلامية مستوعبة لتراث الشرق كله.
تعددت قراءاتي لالف ليلة، وفي كل مرة أكتشف جديدا، يتضح لي عمقا ومستوي لم أكن أعرفه، لقد وضعت امامي الليالي باعتبارها النص الذي يجب أن أحاول تجاوزه، ورغم ادراكي استحالة ذلك الا أنني بعد اكثر من نصف قرن من الكتابة لم أتراجع عن هذا الطموح، لعل وعسي، أما القراءة واكتشاف المستويات المتعددة الخفية داخل النص فما تزال متعددة، مستمرة، ما استوقفني خلال التأمل علاقة الليالي بالفن العربي الاسلامي، وقد فصلت هذا في تأملي للصلة بين النص وفن الزخرفة (الارابيسك) وكذلك تخطيط المدن، في رأيي أن المرجعية هنا قديمة ترجع إلي خصوصية الرؤية الشرقية إلي الوجود والكون، خاصة فيما يتعلق بالصلة بين الجزء والكل، هذه الرؤية تتجسد في القرآن الكريم الذي أصبح النص المرجعي لكافة الابداعات في العصور الاسلامية، كل آية يمكن قراءتها بذاتها، واذ تتصل ببعضها تتكون السورة، ومن مجموع السور يتكون القرآن الكريم، هذه الرؤية نجدها في الزخرفة، في العمارة، في النصوص الادبية الكبري ومنها الليالي، الليالي التي تتوالي فيها الحكايات واحدة وراء الأخري للتعلق بالحياة، الحكي هو الحياة، والتوقف عنه يعني الموت، الفناء، ليست الحياة الا حكيا مستمرا، بتوقفه يكف التدفق وتمتنع الحياة.
تعلقي بالليالي دفعني إلي خدمة الكتاب، خاصة في السنوات الاربعين الاخيرة منذ السبعينات التي شهدت صعودا للتطرف الديني المعادي للابداع وللثقافة عموما، وايضا تزايد التأثير الوهابي الذي غير منظور التعامل مع التراث العربي وحد من انتشار المصادر الكبري للفلسفة الاسلامية والتصوف والنصوص الادبية ومنها الليالي.
في منتصف التسعينيات طبعت بالتصوير طبعة كلكتا، وكان القراء المعنيون يسمعون عنها ولم يروها، ولحسن الحظ عثرت علي نسخة اصلية في دار الكتب المصرية، وظلت طبعة بولاق غير متاحة الا لمن لديه الامكانية المادية، وكان قراري عندما استأنفت الاشراف علي سلسلة الذخائر التي اسستها في التسعينات وتصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، التابعة لوزارة الثقافة إصدار طبعة منها بالتصوير حتي لاتتحول الليالي إلي أثر خفي ولتظل فاعلة في حياتنا الثقافية، ان الضجة التي اثارها بعض المتطرفين، المعادين للثقافة حول الليالي لن ترهبني في الدفاع عن أحد أهم الابداعات الانسانية، وأكرر مرة أخري ان ابلغ اساءة إلي ديننا الاسلامي هو الهجوم علي النصوص الثقافية والادبية باسم الدين.
ان خدمة الف ليلة والنصوص الادبية الكبري التي باتت الآن محجوبة بسبب تصاعد التشدد والمذاهب الداعية إلي الانغلاق والتي جلبت علي الاسلام والمسلمين ابلغ الاضرار، خدمة هذه النصوص واتاحتها واجب ثقافي وانساني، ليست الف ليلة الا تجليا للابداع العربي والليالي اعظم ما أبدعته الثقافة العربية.
* أخبار الأدب : 08 - 05 - 2010
كان تعرفي إلي الليالي حدثا هاما في حياتي، فقد قرأتها وانا دون العاشرة، كانت البكارة في القراءة تدفعني إلي معايشة ما اقرأ وليس الاطلاع عليه فقط، لذلك كنت أكاد المس شهرزاد واختها دنيازاد، واكاد اشهق مع طيران الرخ والسندباد متعلق به، كانت قراءة الدهشة والاكتشاف لعوالم سحرية غير قائمة في الواقع لكنها تجسد واقعا موازيا يتداخل مع القائم بالفعل فتتسع الآفاق وينطلق الخيال ويتجدد باستمرار، قدمت الف ليلة عبر وسائط اخري، اهمها كان مجلة تصدر عن دار المعارف، اسمها سندباد، وكانت تتخذ أحد أشهر الاسماء من الليالي، السندباد الرحالة، مخترق الافاق، كان يكتب السيناريو المصاحب للرسوم محمد سعيد العريان، اما الفنان الذي جسد الليالي بريشته فكان بيكار وهو أحد اكبر الفنانين المصريين في القرن العشرين، لايرد اسم السندباد علي ذاكرتي أو سمعي، الا ويتجسد عبر ريشة بيكار كما رأيتها طفلا، ولايرد اسم شهرزاد إلا وأصغي إلي صوت الفنانة زوزو نبيل التي كانت تؤدي دورها في المسلسل الاذاعي الشهير الف ليلة وليلة، والذي بثته الاذاعة المصرية في الخمسينيات خلال شهر رمضان، وكتبه الشاعر والاديب طاهر ابوفاشا، وكانت المقدمة الموسيقية من المتتالية الشهيرة للموسيقار الروسي ريمسكي كورساكوف، لقد جري تحول في الموقف من الف ليلة منذ الثلاثينيات في القرن العشرين عندما أقدم الدكتور طه حسين أحد أعظم المثقفين المصريين علي تشجيع تلميذته سهير القلماوي علي اعداد رسالتها لنيل درجة الدكتوراه حول الليالي، وكانت الرسالة الرائدة أول مثول اكاديمي رفيع المستوي لالف ليلة في الجامعة المصرية، وبرغم ذلك ظلت رؤية المثقفين - في تقديري - لها متدنية، لم يعتبرها معظمهم عملا جليلا، شامخا، معبرا عن روح انسانية عميقة، ورؤية كونية منطلقة من خصوصية اسلامية مستوعبة لتراث الشرق كله.
تعددت قراءاتي لالف ليلة، وفي كل مرة أكتشف جديدا، يتضح لي عمقا ومستوي لم أكن أعرفه، لقد وضعت امامي الليالي باعتبارها النص الذي يجب أن أحاول تجاوزه، ورغم ادراكي استحالة ذلك الا أنني بعد اكثر من نصف قرن من الكتابة لم أتراجع عن هذا الطموح، لعل وعسي، أما القراءة واكتشاف المستويات المتعددة الخفية داخل النص فما تزال متعددة، مستمرة، ما استوقفني خلال التأمل علاقة الليالي بالفن العربي الاسلامي، وقد فصلت هذا في تأملي للصلة بين النص وفن الزخرفة (الارابيسك) وكذلك تخطيط المدن، في رأيي أن المرجعية هنا قديمة ترجع إلي خصوصية الرؤية الشرقية إلي الوجود والكون، خاصة فيما يتعلق بالصلة بين الجزء والكل، هذه الرؤية تتجسد في القرآن الكريم الذي أصبح النص المرجعي لكافة الابداعات في العصور الاسلامية، كل آية يمكن قراءتها بذاتها، واذ تتصل ببعضها تتكون السورة، ومن مجموع السور يتكون القرآن الكريم، هذه الرؤية نجدها في الزخرفة، في العمارة، في النصوص الادبية الكبري ومنها الليالي، الليالي التي تتوالي فيها الحكايات واحدة وراء الأخري للتعلق بالحياة، الحكي هو الحياة، والتوقف عنه يعني الموت، الفناء، ليست الحياة الا حكيا مستمرا، بتوقفه يكف التدفق وتمتنع الحياة.
تعلقي بالليالي دفعني إلي خدمة الكتاب، خاصة في السنوات الاربعين الاخيرة منذ السبعينات التي شهدت صعودا للتطرف الديني المعادي للابداع وللثقافة عموما، وايضا تزايد التأثير الوهابي الذي غير منظور التعامل مع التراث العربي وحد من انتشار المصادر الكبري للفلسفة الاسلامية والتصوف والنصوص الادبية ومنها الليالي.
في منتصف التسعينيات طبعت بالتصوير طبعة كلكتا، وكان القراء المعنيون يسمعون عنها ولم يروها، ولحسن الحظ عثرت علي نسخة اصلية في دار الكتب المصرية، وظلت طبعة بولاق غير متاحة الا لمن لديه الامكانية المادية، وكان قراري عندما استأنفت الاشراف علي سلسلة الذخائر التي اسستها في التسعينات وتصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، التابعة لوزارة الثقافة إصدار طبعة منها بالتصوير حتي لاتتحول الليالي إلي أثر خفي ولتظل فاعلة في حياتنا الثقافية، ان الضجة التي اثارها بعض المتطرفين، المعادين للثقافة حول الليالي لن ترهبني في الدفاع عن أحد أهم الابداعات الانسانية، وأكرر مرة أخري ان ابلغ اساءة إلي ديننا الاسلامي هو الهجوم علي النصوص الثقافية والادبية باسم الدين.
ان خدمة الف ليلة والنصوص الادبية الكبري التي باتت الآن محجوبة بسبب تصاعد التشدد والمذاهب الداعية إلي الانغلاق والتي جلبت علي الاسلام والمسلمين ابلغ الاضرار، خدمة هذه النصوص واتاحتها واجب ثقافي وانساني، ليست الف ليلة الا تجليا للابداع العربي والليالي اعظم ما أبدعته الثقافة العربية.
* أخبار الأدب : 08 - 05 - 2010