حاتم حافظ - مثّل لحظة طفولة استثنائية في تاريخ البشرية: ألف ليلة وليلة والحياء الذي تخدشه!

هذا المقال ليس دفاعا عن "ألف ليلة وليلة" فلست أهلا للدفاع عن المنجز الأدبي الأهم في تاريخ البشرية. هذا المقال محاولة لقراءة الخطاب الذي يقف وراء لعنة الحسبة والوصاية التي يطلقها بعض من أنصار الظلامية في العصر الحديث، والتي تُرجمت إلي دعوي قضائية لسحب "ألف ليلة وليلة" ومعاقبة المسئولين عن نشرها في وزارة الثقافة لما بها من ألفاظ وعبارات "تخدش الحياء"(!).
تقف عقلية المنع علي أرضية أن ثمة مقدس يتم المساس به، ويجري تدنيسه. وتأتي في أولوية المقدس بالطبع الأديان السماوية التي لم نعدم في السنوات العشر أو العشرين الأخيرة الاعتراض علي كتب بعينها بحجة أنها تسيء للأديان. أكتب هذا المقال ولم تبرأ بعد آلام رحيل نصر أبو زيد عن مصر مجبرا بسبب كتبه. ما لم ينتبه إليه البعض أن الكتب السماوية نفسها لن تبرأ من هذه التهمة إذا ما قرأناها في ضوء بعضها البعض. فإذا كان بعض الغربيين قد نادوا بحذف آيات من القرآن بحجة أنها تسيء للديانة المسيحية، فقد طرح البعض ممن ليس في رؤوسهم عقول فكرة تحريك دعوي لمنع تداول الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد بحجة أنه يسيء للديانة الإسلامية(!). فهل يتفق الذين حركوا الدعوي ضد "ألف ليلة وليلة" مع هذه التخاريف، أم أنهم لا يدركون قدر الإساءة التي قد يستشعرها البعض من أنصار هذه الديانة أو تلك من تداول كتب حتي ولو كانت مقدسة تسيئ لهم ولدينهم.

السؤال الأهم: لماذا يتم تحريك الدعاوي دائما ضد الكتب بينما لا يتم تحريك دعاوي مماثلة ضد الملاهي الليلية والديسكوهات والإعلانات المسفة وغيرها مما يخدش الحياء بالفعل إذا ما كان الحياء هو ما يخشي هؤلاء حد الموت من أن يُخدش؟ وأسأل: هل لهذا علاقة بما يمتهنه هؤلاء وأعني مهنة "الوعظ"؟. في ظني أن هؤلاء لا يستشعرون القدر الذي يمكن لحيائهم أن يُخدش بسبب هذه الأشياء لمجرد أن هذه الأشياء هي ما تبرر وجودهم أساسا. فإذا كان الوعظ في أساسه يستهدف صرف الناس عن إغواءات الشيطان، فإن الشيطان نفسه يُصبح مبرر وجود "الوعظية" بكافة صورها ومرجعياتها، لهذا فإن حماية الشيطان في بعض الأحيان قد تكون ضرورة في لعبة الأواني المستطرقة بين الخير الذي هم حماته وبين الشر الذي يلعب الشيطان الدور الأساسي في استمرار وجوده. في حين تكون مثل هذه النصوص التي يري هؤلاء ضرورة منعها وحجبها وإعدامها هي النصوص التي تفكك الأرضية التي يقفون عليها أساسا، والتي قد تنفي أي ضرورة لوجودهم بالأساس. لهذا كانت كتب نصر أبو زيد كمثال مركز هجوم النشاط الوعظي (وما يتصل به من نشاطات الإسلام السياسي بتفريعاته) لأنها أي كتب أبو زيد تمنح الإنسان القدرة علي المبادرة والقوة علي الفعل، مستبعدة أفكارا رتيبة ومكرورة بشكل عبثي في تاريخ الميثولوجيا من قبيل الغواية والقدرية. لهذا أقول إن هؤلاء يتصدون باستمرار للنصوص التي تفترض بداهة أن الإنسان مجبول علي الحرية، والحرية بالطبع لها باع طويل في خدش حياء هؤلاء!

في كتابه لسان آدم يقول عبد الفتاح كليطو "يقال أحيانا علي سبيل المداعبة، إن الأغريق يتعرفون علي أنفسهم في الإلياذة، والإيطاليين في الكوميديا الإلهية، والإسبان في دون كيخوته، والإنجليز في هملت، والفرنسيين في المقالات لمونتين، والألمان في فاوست" ثم يمضي في طريقه لمحاولة اكتشاف أي من الكتب يمكن للعرب أن يتعرفوا فيه علي أنفسهم، ويخلص إلي نتيجة فحواها أن "ألف ليلة وليلة" هو هذا الكتاب. أذكر وقت أن قرأت هذا المقال لكليطو أني لم أوافقه في رأيه، لا لأن الليالي ليست الكتاب العمدة في الثقافة العربية فحسب ولا لأن هناك مئات الكتب التي أنجزتها العقلية العربية في تاريخها ولكن بالأساس لأني استشعرت أن فكرته عن الكتاب الخاص بكل ثقافة شرطه قبول أبناء هذه الثقافة أو تلك لهذا الكتاب باعتباره عنوانهم الحضاري. المضي في هذا الطريق يخلص إلي نتيجة بعيدة عن خيال كليطو، لقد كان القرآن وليس الليالي أو غيرها هو الكتاب الذي توافق عليه الجميع باعتباره دالا عليهم وعلي ثقافتهم، وفي ظني أن الارتباط الشرطي بين القرآن وبين اللغة العربية علي الرغم من أن القرآن نزل بلسان عربي دون ألسنة عربية أخري كانت متداولة في شبه الجزيرة وقت نزول القرآن، ورغم الألفاظ التي قيل أنها تنتمي لألسن خارج شبه الجزيرة، أقول إن هذه القناعة بأن القرآن هو اللغة وأن اللغة هي القرآن إشارة إلي هذا التوافق العام حول اعتبار النص القرآني الكتاب الدال علي ثقافة العرب.

الإشكالية هنا من وجهة النظر الحضارية أن العرب دون شعوب العالم ودون ثقافاته يختزلون تاريخهم في كتاب سماوي إلهي، أي في كتاب لم يكتبوه. فإذا كان الإغريق يتعرفون علي أنفسهم ويتعرف عليهم العالم من خلال الإلياذة فإن العرب يقللون من منجزهم الحضاري بهذا التجاهل الذي أحسبه ليس جهلا منهم وإنما خوفا من أن تكون عنايتهم بمنجز لغوي آخر جرحا لمعجزة لغوية عظيمة الشأن وأعني بها القرآن نفسه.

يمكن للعرب أن يفاخروا الشعوب والثقافات بمنجزهم الحضاري الفذ في سلسلة كبيرة من كتب التراث، من منا لم يقع في هوي رسائل بن عربي، ولا في رباعيات الخيام، ولا في الامتاع والمؤانسة ولا في منطق الطير ولا في بخلاء الجاحظ، ناهيك عن البيان والتبيين والأغاني وغيرها مما نُشر (للمفارقة) في سلسلة الذخائر التي يحاول الظلاميون النيل منها. ومع هذا فإن أي من هذه الكتب يمكن التضحية به لأنه موسوم بالبشرية التي هي خاطئة علي الدوام ومغوية علي الدوام وخارجة عن الملة في بعض الأحيان.

إذا ما صح تقديري في أن العرب قد اختاروا القرآن كتابا ليتعرفوا فيه علي أنفسهم فإن ذلك في ظني ليس علامة علي تدينهم بقدر ما هو علامة علي نزعة أخروية في خطابهم الثقافي الراهن، وتخلي عن روح المبادرة لصالح قدرية مبالغ فيها، قدرية تُبقي علي وجود هؤلاء الوعاظ الذين يستمرون في إعادة تدوير أسطورة الشيطان للإبقاء علي وجودهم، هؤلاء الوعاظ الذين يخدش حياءهم كتاب هو المنجز الأدبي الأكبر في تاريخ البشرية كلها وليس في تاريخ اللغة العربية فحسب، بدليل الافتتان الذي لم يخفت شرقا وغربا بسحر الليالي التي صاغتها ثقافات إنسانية متعددة رغم طابعه الإسلامي، والذي لا يعرف له مؤلف رغم مشاركة حكاياته كلها في خيال جموح لا راد له.

هذا الكتاب الذي خدش حياء هؤلاء وغيرهم ممن تلقفوا نسخه في أيام قليلة فور صدور طبعته التي حققها شيخ أزهري، جدير به أن يكون في كل بيت عربي وغير عربي لأننا مدينون له بفضل توهج خيالنا البشري طوال هذه القرون، لأنه الكتاب الوحيد في ظني (ربما بجانب كليلة ودمنة) الذي هو خيال محض، أنجزته إنسانية محضة، في لحظة طفولة استثنائية في تاريخ البشرية الموسوم بالدم والعنف والظلامية التي تحاصرنا بلا حياء.



* أخبار الأدب : 02 - 05 - 2010
 
أعلى