نقوس المهدي
كاتب
في كتاب ألف ليلة وليلة تتمثل جميع مظاهر الحمام ووظائفه لتعكس بالتالي دوره في التقاليد والثقافة العربية عموماً . فالحمامات مفردة مهمة فى منظومة التراث العمراني المصري الثرى ولبنة فى صرحه الشامخ، كما أنها كانت أيضا دلالة على حياة التحضر والرقى المصري التى نعمت بها مصر والتي تعتبر من أكثر بلدان العالم الإسلامي والعربي اهتماما بإنشاء الحمامات ، فقد ذكر المؤرخ ابن دقماق فى كتابه " الانتصار بواسطة عقد الأمصار "أن أول من أنشأ الحمامات فى مصر الإسلامية هو عمرو بن العاص الذى فتح مصر سنة 22هـ/641م وأنشأ بالفسطاط حماما أطلق عليه الناس فى مصر اسم " حمام الفأر" وذلك لصغر مساحته قياسا بما كانت عليه الحمامات فى مصر فى العصر الرومانى.
و يرى المقريزي فى الجزء الثانى من خططه أن أول من بنى الحمامات بمصر هو الخليفة الفاطمي العزيز بالله الذي تولى حكم مصر خلفا لأبيه المعز لدين الله الفاطمي ، ومن أشهر الحمامات الفاطمية التى ورد الحديث عنها بكثرة حمام الذهب.
وقد استمر الحرص على إنشاء الحمامات متبعاً خلال العصور التالية فقد ذكر الرحالة التركي " أوليا جلبى" أن عدد الحمامات بالقاهرة سنة 1660م كان حوالي خمسة وخمسين حماماً وذكر الرحالة فورمان الذي زار القاهرة سنة 1775م أن عدد الحمامات بها ثمانين حماما ، بينما ذكر المؤرخ الفرنسى " جومار" فى كتاب وصف مصر أن عدد الحمامات بالقاهرة أثناء الحملة الفرنسية سنة 1798م كان يتجاوز المائة . ويعطينا هارف صورة صادقة عن مدينة القاهرة بقوله : " …. مدينة ضخمة تغلق شوارعها وحواريها بوابات كبيرة ليلا ولكل حارة قرن ومطبخ وحمام مياه".
وهكذا حفلت المدن المصرية بالحمامات وشاركتها فى ذلك أغلب مدن المشرق العربي وكانت الحمامات تنافس المساجد في كثرة عددها وكانت مثار إعجاب الرحالة والوافدين على مصر طوال التاريخ العربى وسائر بلدان الشرق العربى – وحسبنا هنا – ما أورده أسامه بن منقذ (488- 584هـ/ 1095-1188م) – عن الملاحظات الطريفة التى سجلها من داخل حمامات المشرق العربي والتي دلت عن انبهار الصليبيين الغربيين بالحمامات الشرقية في شرقنا العربي والتي تؤكد أن بلدان المشرق العربي تفردت بهذه المعالم العمرانية ذات الأصول الدينية التي تحمل دلالات هامة ذات صبغة ثقافية واجتماعية وحضارية تكشف لنا عن مدى التأخر الحضاري الأوربي مقارنة بما وصلت إليه الحضارة العربية الإسلامية آنذاك من تقدم ورقى.
والحمام فى اللغة – الحمام والحميم والحميمة حميما يعنى الماء الحار والجمع حمامات .والاستحمام هو الاغتسال بالماء المار والحميم العرق .وأما قولهم لداخل الحمام إذا خرج طاب حميمك يعنى به العرق أى طاب عرقك.
ويذكر لنا المقريزي أنه كان بالفسطاط ألف ومائة وسبعون حماما وكانت حمامات القاهرة فى عام 685هـ/ 1286م ثمانين حماما فقط وكان يقوم بخدمة الحمام خمسة نفر على الأقل : حمامي وقيم وزبال – لأن الوقود فى الحمامات كان فى الغالب من الزبل اليابس – ووقاد وسقاء.
ولم تقتصر أهمية الحمام فى العصور الوسطى على نواحي الاستحمام والنظافة والتطهر فقط وإنما تعددت منافعها وأغراضها وتداخلت حتى أصبحت من أهم المنشآت الضرورية للمجتمع فضلا عن دخوله ضمن نظام الإسلام منذ عهد مبكر لارتباطه على الخصوص بفريضة الوضوء بحيث أن الفقهاء اعتبروه من الأماكن الدينية وأكد الإسلام على النظافة واعتبرها من جوهر العقيدة.خاصة وأن الحمام يؤدي دوراً علاجيا مهما وهو ما نتلمسه في حكايات ألف ليلة وليلة في قول الراوي :" وعرف الحكيم رويان أن الدواء سرى في جسده فأمره بالرجوع إلى قصره وأن يدخل الحمام من ساعته، فرجع الملك يونان من وقته وأمر أن يخلو له الحمام فأخلوه له، وتسارعت الفراشون وتسابقت المماليك وأعدوا للملك قماشه ودخل الحمام واغتسل غسيلاً جيداً ولبس ثيابه داخل الحمام ثم خرج منه وركب إلى قصره ونام فيه"، ويتكرر في الليالي موتيفة ارتباط الشفاء بدخول الحمام فيقول الراوي :" ولما خرج الملك من الحمام نظر إلى جسده فلم يجد فيه شيئاً من البرص وصار جسده نقياً مثل الفضة البيضاء ففرح بذلك غاية الفرح واتسع صدره وانشرح"
وقد زخرت المدن المصرية في العصور الإسلامية بهذا النوع من الحمامات العامة التي قصدها الناس من مختلف الطبقات – للاستحمام، ومرجع ذلك أن الناس في ذلك الوقت لم يألفوا الاستحمام في منازلهم ولم توجد الحمامات إلا في قصور الأمراء. وقد علل سافارى وجود أعداد كبيرة من الحمامات العامة بسبب ارتفاع حرارة الجو فى مصر ، كذلك لان ديانة المصريين تحث على النظافة.
فكانت المدن المصرية بها أعداد من الحمامات العامة تقل وتكثر تبعا للكثافة السكانية في تلك المدن وتبعاً لأهميتها التجارية أو الثقافية. وقد أشار الرحالة ابن خلدون إلى أن كثرة الحمامات بالمدن ينم عن الترف والغنى وما يتبع ذلك من رغبة فى التنعم
وعرض المقريزي لكثرة عدد الحمامات بمصر فقال : "… وذكر الشريف أسعد الجوانى عن القاضى القضاعى أنه كان فى مصر ( الفسطاط) ألف ومائة وسبعون حماما وذكر ابن عبد الظاهر أن عدة حمامات القاهرة إلى أخر سنة خمس وثمانين وستمائة تقرب من ثمانين حماما وأقل ما كانت الحمامات ببغداد ف أيام الخليفة الناصر أحمد بن المستنصر نحو الألفي حمام …" وقد وجدنا أن بالقاهرة ومصر (الفسطاط) 141 حماماً وعرض المقريزي تفصيلاً لـ 41 حماماً , والباقي ذكرهم عدداً عن ابن المتوج
وترجع أهمية الحمامات ودورها الصحي للعامة إلى أن مساكنهم كانت خالية من الحمامات إما لافتقادهم المصدر الدائم للمياه. أو غالبا لعدم مقدرتهم على إنشائها ، ولذا اقتصرت هذه الحمامات على مساكن الأمراء وعلية القوم. . وتحفل قصص ألف ليلة وليلة بسرد أخبار الملوك وأبنائهم لدخول الحمام خاصة بعد السفر ولا يقتصر الأمر على ذلك فحتى الجواري كن يدخلن الحمام بعد السفر قبل تقديمهن للملوك :" وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة فقامت هناك ثلاثة أيام وبعد ذلك أقبل الملك أرمانوس على السيدة بدور وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام وأسفرت عن وجه كأنه البدر عند التمام فافتتن بها العالم وتهتكت بها الخلق عند رؤيتها"وكذلك في الليلة السابعة والتسعين بعد الثلاثمائة يقول الراوي ":ثم أمر الجواري والخدم أن يقوموا بخدمتها ويدخلوها الحمام ويجهزوا لها الحلي والحلل فدخلوا إليها وسلموا عليها فردت عليهم السلام بألطف منطق وأحسن كلام ثم ألبسوها حللاً منملابس الملوك ووضعوا في عنقها عقداً من الجواهر وساروا بها إلى الحمام وخدموها ثم أخرجوها من الحمام كأنها بدر التمام"
وما يشير لقلة الحمامات الخاصة في هذا القرن قيام زين الدين أبو الحسن على ابن نجاء الواعظ ببناء حمام فى داره من الأمور التي استحقت أن يسجلها الاصفهانى فنظم فيها شعرا ، وإفراد ابن دقماق للحمامات الخاصة التي بالدور عنوانا فى كتابة دليل آخر على ندرتها
فيقول ابن دقماق : "… حمام الصاحب فخر الدين بن الخليلي بداره وحمام ولده الصاحب عماد الدين التي بداره .." . ووصلت الحمامات فى زمن المقريزي (1364 – 1441م) بالقاهرة أربعة وأربعين وقال ابن المتوج أن عدد حمامات مصر فى زمنه بلغ أكثر من سبعين حماما.
وقد كثر إنشاء الحمامات العامة في المدن المصرية لخدمة العامة من سكان المدن المصرية ولحاجات وظيفة مرتبطة بدعوة الإسلام للنظافة والتطهر وبعدم قدرة العامة جميعا على تضمين منازلهم حمامات خاصة وبرغبة القادرين على إنشاء هذه الحمامات في استثمار أموالهم في إنشائها لما تدره من ريع وفير لشدة الطلب عليها ، ومن هنا كثرت الحمامات العامة في مصر كثرة واضحة وتكشف أقلام الرحالة إلى ازدياد أعدادها في مصر خلال القرنين السادس والسابع الهجريين ، وبالتالي يعد ذلك انعكاساً لزيادة المدن المصرية حجماً وعمراناً ، وبالرغم من ذلك تدل على أن الحمامات العامة كانت من المنشآت البارزة بين المكونات العمرانية المعمارية للمدن المصرية.
ومما ورد من أوصاف الرحالة للحمامات وأعدادها فى مصر يتضح أن هناك تنوعا فى أحجام الحمامات وتنوع استخداماتها وخصوصيتها ومن طريف ما يذكر أنه كان بالفسطاط حمام صغير جدا يدعى " حمام الفأر" . كناية عن صغر حجمه وذكر ابن جبير أن الدولة خصصت حمامات للغرباء من طلاب العلم ليستحموا فيها متى يحتاجوا إلى ذلك. فيقول : " … واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمرَ بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك".و أحيانا كان للملك أن يحجز الحمام له ولحاشيته وإذا أراد فلا يدخله أحد غيره ."أمر بإخلاء الحمام فأخلى ودخلا جميعاً ". مما يدل على أهمية زيارة الحمام حتى بالنسبة للملوك .
لهذا لم يكن غريباً أن ترتبط بعض مواضع الحمامات بالمدارس والمساجد فى مصر لخدمة طلاب العلم فيذكر الرحالة ابن جبير قوله : "…مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء.. بإزائها الحمام إلى غير ذلك من مرافقها…".
وارتبطت معظم إشارات الرحالة للمدن بوجود الحمامات بها كأحد العناصر العمرانية أثناء وصفهم للمدن الإسلامية وقد ألقت أقلام الرحالة الضوء على مثل هذا المعنى ومنهم ابن جبير في قوله : " .. منية ابن الخصيب وهو بلد على شط النيل … كبير فيه الأسواق والحمامات وسائر مرافق المدن …" ونجد فى الربع الأخير من القرن السابع الهجري بداية عصر المجموعات العمرانية في مجموعة السلطان قلاوون حيث بنى مجموعة معمارية مكونة من مدرسة ذات إيوانين على صحن مكشوف وقبة لدفنه وبيمارستان لعلاج المرضى وحوض لسقى الدواب حوله ابنه الناصر محمد بعد ذلك إلى سبيل السقى المارة على واجهة المدرسة وضم إليها حمامين لخدمة البيمارستان.
وأشار صاحب آكام المرجان لوجود زخارف وتماثيل ببعض الحمامات بقوله : " … وفى بعض حماماتها – مصر – جارية من رخام يجرى الماء على قلبها يقال أنها جارية من جوار فرعون .." .ويبدو أن صاحب كتاب آكام المرجان يشير إلى التصوير الذي ظل شائعاً على حيطان الحمامات منذ عهد الرومان إلى الفتح العربي , فلم يلبث أن تحول تدريجياً . إزاء المعارضة التي كان يلقاها ـ إلى نوع من الرسوم الشعبية , وقل طابعه الرسمي , وازداد أسلوبه قرباً من الأسلوب الشعبي الفطري الساذج , وازداد أسلوبه قرباً من الأسلوب الشعبي الفطري الساذج , بل صار الذين يقومون بنقشه من عامة الشعب. وكان من أسباب تلاشي الصور من الحمامات حملة علماء الدين ضدها , وحثهم الناس على إزالتها ,فقد قال الإمام أحمد ابن حنبل :"إذا دخل الإنسان الحمام , ورأى فيه صورة , فينبغي أن يحكمها , فإن لم يقدر خرج ".
وفي كتاب العزيزي المحلى لابن المخلطة عن المهتدي بالله العباسي وزهده وتعلله من الدنيا ومخالفة من قبله من الخلفاء فمحاها :"أنه عمد إلى الصور التي كانت في مجالس الخلفاء فمحاها و وأزال تلك الشخوص المشوهة في الحيطان وغيرها "
وقال الغزالي في هذا الشأن في كتاب إحياء علوم الدين ,عند ذكر منكرات الحمام ما نصه :"منها الصور على باب الحمام أو داخل الحمام فذلك منكر يجب إزالته على كل من يدخله إن قدر عليها , فإن كان الموضوع مرتفعاً لاتصل يده إليه فلا يجوز له الدخول إلا للضرورة , وليعدل إلى حمام آخر , فإن مشاهدة المنكر غير جائزة , ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها.ولا يمنع من تصوير الأشجار وسائر النقوش سوى صور الحيوان."
وتميز الحمام بهندسته المريحة ، وألوانه الزاهية من الداخل ونقوشه البديعة ، وبنيت أرضيته من الرخام أو السيراميك وجدرانه من الموازييك وقببه التي تذكر بالسماء ، وأبوابه الصغيرة مما يتلائم مع حفظ الحرارة ، ويتسق مع الأجواء المريحة التي تفرح المستحم ، إضافة لهندسته التي تسمح بالاحتفاظ بالحرارة والنظافة والسلامة . وهو ما نتلمسه في حكايات ألف ليلة وليلة في قوله :
:" فلما فرغ تاج الملوك من شعره قال عزيز وأنا أحفظ في الحمام شيئاً، فقال شيخ السوق أسمعني إياه فأنشد هذين البيتين:
وبيت له من جامد الصخر أزهار = أنيق إذا أضرمت حوله الـنـار
تراه جحيماً وهو في الحق جـنة = وأكثر ما فيها شموس وأقمـار
ثم أطرب بالنغمات وأنشد الأبيات:
يا حسن نار والنعيم عذابـهـا = تحيا بهـا الأرواح والأبـدان
فأعجبت لبيت لا يزال نعيمـه = غضاً وتوقد تحته الـنـيران
عيش السرور إن ألم به وقـد = سفحت عليه دموعها الغدران
فلما سمعوا ذلك تعجبوا من هذه الأبيات، ثم إن شيخ السوق عزم عليهم فامتنعوا ومضوا إلى منزلهم ليستريحوا من تعب الحمام".
وأمدنا الرحالة العربي عبد اللطيف البغدادي الذي انطلق في رحلته من قلب العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري بملاحظات طريفة عن حمامات مصر مسهباً فى الوصف بقوله : " … وأما حماماتهم فلم أشاهد في البلاد أتقن منها وصفا ولا أتم حكمة ولا أحسن منظرا ومخبراً أما أولا فإن أحواضها يسع الواحد منها ما بين روايتين إلى أربع روايا وأكثر من ذلك يصب فيه ميزابان ثجاجان حار وبارد وقبل ذلك يصبان فى حوض صغير جدا مرتفع …".
وعنى رحالة فرنسا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي بوصف الحمامات فذكروا أنها كانت من الرخام يتوسط الحمام نافورة وتمتاز أرضيه الحمامات بالجمال وهى مغطاة بالسجاجيد وتوجد موائد من الرخام يستلقى عليها المستحم للتدليك والحمامات مزودة بالماء البارد والساخن ويقصد الحمامات المغاربة والأتراك والمصريون.
وأشار صاحب الرسالة المصرية بتعجب إلى حرص العمالة فى الحمامات على النظافة العامة لأجسادهم فيقول : " .. لقد شهدت يوما رجلا من الوقادين فى أتون الحمام يسأل رزق الله المذكور عن ساعة حميدة لقص أظفاره فتعجبت من سمو همته على خساسة قدرة ووضاعة مهنته…".فالعمال في الحمام هم أصحاب الخبرة في التدليك والتكبيس والحلاقة والحجامة ، وعلى عاتقهم تقوم راحة المستحمين فيقول ؤاوي ألف ليلة وليلة :
"ومازال تاج الملوك يحميه وعزيز يصب عليه الماء وهو يظن روحه في الجنة حتى أتما خدمته فدعا لهما وجلس جنب الوزير على أنه يتحدث معه ولكن معظم قصده النظر إلى تاج الملوك وعزيز، ثم بعد ذلك جاء لهم الغلمان بالمناشف فتنشفوا ولبسوا حوائجهم ثم خرجوا من الحمام فأقبل الوزير على شيخ السوق وقال له يا سيدي إن الحمام نعيم الدنيا فقال شيخ السوق: جعله الله لك ولأولادك عافية وكفاهما الله شر العين، فهل تحفظون شيئاً مما قاله البلغاء في الحمام فقال تاج الملوك: أنا أنشد لك بيتين وهما:
إن عيش الحمام أطيب عيش = غير أن المقام فيه قـلـيل
جنة تكره الإقـامة فـيهـا = وجحيم يهيب فيها الدخـول".
وفي سياق تلمسنا للجذور الأسطورية لبناء الحمامات المصرية نجد شغف الناس بتتبع أصول الأشياء وأسباب مسمياتها, والتأصيل لها. فنجد رواية شعبية دارت حول (حمام الكلب بالقاهرة) تقول: "لما شرعوا في حفر أساسه للبناء في الزمن القديم، ظهر تمثال نحاسي لكلبين متعاركين، تبين بعد ذلك أنه طلسم الكلب، فغير صاحب الخيرات أساس الحمام حفظاً للتمثال سليما، ولوجوده سليما ليس بالقاهرة مرض الكلب، ولا يصيب أحد ضرر منه، وهذا هو سبب تسمية الحمام بهذا الاسم".
هذه القصة الخيالية ربما كانت تحمل ظلاً من الحقيقة مثل العثور على دفائن وكنوز المصريين القدماء بالمصادفة أثناء الحفر، والذاكرة الشعبية لم تنس بعد الحكايات الكثيرة عن القدور التي يعثر عليها فجاءة وفيها العديد من الذهب والفضة.
وإجمالاً للقول : فإن مكانة الحمام في العمران المصري تتبع مباشرة مكانة الدار فإن عادة الاستحمام كانت من العادات المتأصلة في الإسلام بغرض التطهر مما أوجد لنا الحمام كعنصر عمراني مهم من مكونات المدن المصرية أضف لهذا أن الحمام في مصر لم يكن مجرد مكاناً للاستحمام والنظافة والتطهير بل أخذ بعداً اجتماعيًا آخر حيث كان منتدى ومكانا ترفيهياً للرجال يلتقون فيه فيقضون وقتا من المرح وتدخين النارجيلة ويتجاذبون أطراف الحديث كل حسب اتجاهاته وميوله فالتجار يتحدثون في شئون تجارتهم ويعقدون الصفقات التجارية فيما بينهم كما كان المناوئون لنظام الحكم يجدون في الحمام مكاناً مناسبا للاتفاق على الانقلابات السياسية وحياكة الدسائس والمؤامرات ورافقت الحمامات العامة المجتمع المصري ردحاً طويلاً من الزمن، وقد نجم عن التعايش معها مجموعة من الممارسات والسلوكيات لجموع الشعب المصري (المزنوق!) حيث لم يكن أمام مثليي الجنس فيه سوى الإعلان عن أنفسهم أو عن رغباتهم في الممارسة الجنسية على جدران الحمامات العامة المنتشرة في بعض مناطق المدن المصرية أو حمامات بعض المطاعم وأحياناً الفنادق الفخمة أو المتواضعة وكثيرا في حمامات صالات العرض السينمائية وخاصة الصالات المتواضعة في وسط القاهرة أو الإسكندرية أو ما بات معرف بـ"وسط البلد" أو "الأبواب الخلفية".كما أنها تحولت إلى صحيفة تستطيع أن تتصفحها مجاناً وبدون رقابة لتجدها تحتوي على كتابات تمثل كل الرغبات والاتجاهات الفكرية والسياسية والرياضية وربما الإجرامية وأحيانا الفنية! ويشرف على تحريرها وإصدارها جموع الشعب المصري الذي يقاوم ولا يزال كل عوامل الفناء.
فأبواب دورات المياه والحمامات العامة أو حمامات المساجد في مصر ليست مجرد حاجزاً يستر من يجلس خلفه ! ولكنها متنفسا تستطيع من خلاله الناس المطحونة والمكبوتة أو المهمشة أو الجماعات الهامشية المنحرفة أن تعبر عن بعض ما يجيش بصدرها دون خوف من أن يكون هناك قانون للطوارئ أو مخبر يقف لهم خلف الباب.....بكل عمق وبساطة هذا الشعب ...وبكل مايتعرض له من ظلم وطحن وسحق وموت ما قبل الموت إلا انه يرفض أن يصمت ....سيتكلم حتى ولو من خلف الأبواب في الحمامات العامة ودورات المياه .. وتستمر الكتابة...وتستمر القراءة.!!
[SIZE=6]* عمرو عبدالعزيز منير - حمامات القاهرة في ألف ليلة وليلة[/SIZE]
و يرى المقريزي فى الجزء الثانى من خططه أن أول من بنى الحمامات بمصر هو الخليفة الفاطمي العزيز بالله الذي تولى حكم مصر خلفا لأبيه المعز لدين الله الفاطمي ، ومن أشهر الحمامات الفاطمية التى ورد الحديث عنها بكثرة حمام الذهب.
وقد استمر الحرص على إنشاء الحمامات متبعاً خلال العصور التالية فقد ذكر الرحالة التركي " أوليا جلبى" أن عدد الحمامات بالقاهرة سنة 1660م كان حوالي خمسة وخمسين حماماً وذكر الرحالة فورمان الذي زار القاهرة سنة 1775م أن عدد الحمامات بها ثمانين حماما ، بينما ذكر المؤرخ الفرنسى " جومار" فى كتاب وصف مصر أن عدد الحمامات بالقاهرة أثناء الحملة الفرنسية سنة 1798م كان يتجاوز المائة . ويعطينا هارف صورة صادقة عن مدينة القاهرة بقوله : " …. مدينة ضخمة تغلق شوارعها وحواريها بوابات كبيرة ليلا ولكل حارة قرن ومطبخ وحمام مياه".
وهكذا حفلت المدن المصرية بالحمامات وشاركتها فى ذلك أغلب مدن المشرق العربي وكانت الحمامات تنافس المساجد في كثرة عددها وكانت مثار إعجاب الرحالة والوافدين على مصر طوال التاريخ العربى وسائر بلدان الشرق العربى – وحسبنا هنا – ما أورده أسامه بن منقذ (488- 584هـ/ 1095-1188م) – عن الملاحظات الطريفة التى سجلها من داخل حمامات المشرق العربي والتي دلت عن انبهار الصليبيين الغربيين بالحمامات الشرقية في شرقنا العربي والتي تؤكد أن بلدان المشرق العربي تفردت بهذه المعالم العمرانية ذات الأصول الدينية التي تحمل دلالات هامة ذات صبغة ثقافية واجتماعية وحضارية تكشف لنا عن مدى التأخر الحضاري الأوربي مقارنة بما وصلت إليه الحضارة العربية الإسلامية آنذاك من تقدم ورقى.
والحمام فى اللغة – الحمام والحميم والحميمة حميما يعنى الماء الحار والجمع حمامات .والاستحمام هو الاغتسال بالماء المار والحميم العرق .وأما قولهم لداخل الحمام إذا خرج طاب حميمك يعنى به العرق أى طاب عرقك.
ويذكر لنا المقريزي أنه كان بالفسطاط ألف ومائة وسبعون حماما وكانت حمامات القاهرة فى عام 685هـ/ 1286م ثمانين حماما فقط وكان يقوم بخدمة الحمام خمسة نفر على الأقل : حمامي وقيم وزبال – لأن الوقود فى الحمامات كان فى الغالب من الزبل اليابس – ووقاد وسقاء.
ولم تقتصر أهمية الحمام فى العصور الوسطى على نواحي الاستحمام والنظافة والتطهر فقط وإنما تعددت منافعها وأغراضها وتداخلت حتى أصبحت من أهم المنشآت الضرورية للمجتمع فضلا عن دخوله ضمن نظام الإسلام منذ عهد مبكر لارتباطه على الخصوص بفريضة الوضوء بحيث أن الفقهاء اعتبروه من الأماكن الدينية وأكد الإسلام على النظافة واعتبرها من جوهر العقيدة.خاصة وأن الحمام يؤدي دوراً علاجيا مهما وهو ما نتلمسه في حكايات ألف ليلة وليلة في قول الراوي :" وعرف الحكيم رويان أن الدواء سرى في جسده فأمره بالرجوع إلى قصره وأن يدخل الحمام من ساعته، فرجع الملك يونان من وقته وأمر أن يخلو له الحمام فأخلوه له، وتسارعت الفراشون وتسابقت المماليك وأعدوا للملك قماشه ودخل الحمام واغتسل غسيلاً جيداً ولبس ثيابه داخل الحمام ثم خرج منه وركب إلى قصره ونام فيه"، ويتكرر في الليالي موتيفة ارتباط الشفاء بدخول الحمام فيقول الراوي :" ولما خرج الملك من الحمام نظر إلى جسده فلم يجد فيه شيئاً من البرص وصار جسده نقياً مثل الفضة البيضاء ففرح بذلك غاية الفرح واتسع صدره وانشرح"
وقد زخرت المدن المصرية في العصور الإسلامية بهذا النوع من الحمامات العامة التي قصدها الناس من مختلف الطبقات – للاستحمام، ومرجع ذلك أن الناس في ذلك الوقت لم يألفوا الاستحمام في منازلهم ولم توجد الحمامات إلا في قصور الأمراء. وقد علل سافارى وجود أعداد كبيرة من الحمامات العامة بسبب ارتفاع حرارة الجو فى مصر ، كذلك لان ديانة المصريين تحث على النظافة.
فكانت المدن المصرية بها أعداد من الحمامات العامة تقل وتكثر تبعا للكثافة السكانية في تلك المدن وتبعاً لأهميتها التجارية أو الثقافية. وقد أشار الرحالة ابن خلدون إلى أن كثرة الحمامات بالمدن ينم عن الترف والغنى وما يتبع ذلك من رغبة فى التنعم
وعرض المقريزي لكثرة عدد الحمامات بمصر فقال : "… وذكر الشريف أسعد الجوانى عن القاضى القضاعى أنه كان فى مصر ( الفسطاط) ألف ومائة وسبعون حماما وذكر ابن عبد الظاهر أن عدة حمامات القاهرة إلى أخر سنة خمس وثمانين وستمائة تقرب من ثمانين حماما وأقل ما كانت الحمامات ببغداد ف أيام الخليفة الناصر أحمد بن المستنصر نحو الألفي حمام …" وقد وجدنا أن بالقاهرة ومصر (الفسطاط) 141 حماماً وعرض المقريزي تفصيلاً لـ 41 حماماً , والباقي ذكرهم عدداً عن ابن المتوج
وترجع أهمية الحمامات ودورها الصحي للعامة إلى أن مساكنهم كانت خالية من الحمامات إما لافتقادهم المصدر الدائم للمياه. أو غالبا لعدم مقدرتهم على إنشائها ، ولذا اقتصرت هذه الحمامات على مساكن الأمراء وعلية القوم. . وتحفل قصص ألف ليلة وليلة بسرد أخبار الملوك وأبنائهم لدخول الحمام خاصة بعد السفر ولا يقتصر الأمر على ذلك فحتى الجواري كن يدخلن الحمام بعد السفر قبل تقديمهن للملوك :" وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة فقامت هناك ثلاثة أيام وبعد ذلك أقبل الملك أرمانوس على السيدة بدور وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام وأسفرت عن وجه كأنه البدر عند التمام فافتتن بها العالم وتهتكت بها الخلق عند رؤيتها"وكذلك في الليلة السابعة والتسعين بعد الثلاثمائة يقول الراوي ":ثم أمر الجواري والخدم أن يقوموا بخدمتها ويدخلوها الحمام ويجهزوا لها الحلي والحلل فدخلوا إليها وسلموا عليها فردت عليهم السلام بألطف منطق وأحسن كلام ثم ألبسوها حللاً منملابس الملوك ووضعوا في عنقها عقداً من الجواهر وساروا بها إلى الحمام وخدموها ثم أخرجوها من الحمام كأنها بدر التمام"
وما يشير لقلة الحمامات الخاصة في هذا القرن قيام زين الدين أبو الحسن على ابن نجاء الواعظ ببناء حمام فى داره من الأمور التي استحقت أن يسجلها الاصفهانى فنظم فيها شعرا ، وإفراد ابن دقماق للحمامات الخاصة التي بالدور عنوانا فى كتابة دليل آخر على ندرتها
فيقول ابن دقماق : "… حمام الصاحب فخر الدين بن الخليلي بداره وحمام ولده الصاحب عماد الدين التي بداره .." . ووصلت الحمامات فى زمن المقريزي (1364 – 1441م) بالقاهرة أربعة وأربعين وقال ابن المتوج أن عدد حمامات مصر فى زمنه بلغ أكثر من سبعين حماما.
وقد كثر إنشاء الحمامات العامة في المدن المصرية لخدمة العامة من سكان المدن المصرية ولحاجات وظيفة مرتبطة بدعوة الإسلام للنظافة والتطهر وبعدم قدرة العامة جميعا على تضمين منازلهم حمامات خاصة وبرغبة القادرين على إنشاء هذه الحمامات في استثمار أموالهم في إنشائها لما تدره من ريع وفير لشدة الطلب عليها ، ومن هنا كثرت الحمامات العامة في مصر كثرة واضحة وتكشف أقلام الرحالة إلى ازدياد أعدادها في مصر خلال القرنين السادس والسابع الهجريين ، وبالتالي يعد ذلك انعكاساً لزيادة المدن المصرية حجماً وعمراناً ، وبالرغم من ذلك تدل على أن الحمامات العامة كانت من المنشآت البارزة بين المكونات العمرانية المعمارية للمدن المصرية.
ومما ورد من أوصاف الرحالة للحمامات وأعدادها فى مصر يتضح أن هناك تنوعا فى أحجام الحمامات وتنوع استخداماتها وخصوصيتها ومن طريف ما يذكر أنه كان بالفسطاط حمام صغير جدا يدعى " حمام الفأر" . كناية عن صغر حجمه وذكر ابن جبير أن الدولة خصصت حمامات للغرباء من طلاب العلم ليستحموا فيها متى يحتاجوا إلى ذلك. فيقول : " … واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمرَ بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك".و أحيانا كان للملك أن يحجز الحمام له ولحاشيته وإذا أراد فلا يدخله أحد غيره ."أمر بإخلاء الحمام فأخلى ودخلا جميعاً ". مما يدل على أهمية زيارة الحمام حتى بالنسبة للملوك .
لهذا لم يكن غريباً أن ترتبط بعض مواضع الحمامات بالمدارس والمساجد فى مصر لخدمة طلاب العلم فيذكر الرحالة ابن جبير قوله : "…مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء.. بإزائها الحمام إلى غير ذلك من مرافقها…".
وارتبطت معظم إشارات الرحالة للمدن بوجود الحمامات بها كأحد العناصر العمرانية أثناء وصفهم للمدن الإسلامية وقد ألقت أقلام الرحالة الضوء على مثل هذا المعنى ومنهم ابن جبير في قوله : " .. منية ابن الخصيب وهو بلد على شط النيل … كبير فيه الأسواق والحمامات وسائر مرافق المدن …" ونجد فى الربع الأخير من القرن السابع الهجري بداية عصر المجموعات العمرانية في مجموعة السلطان قلاوون حيث بنى مجموعة معمارية مكونة من مدرسة ذات إيوانين على صحن مكشوف وقبة لدفنه وبيمارستان لعلاج المرضى وحوض لسقى الدواب حوله ابنه الناصر محمد بعد ذلك إلى سبيل السقى المارة على واجهة المدرسة وضم إليها حمامين لخدمة البيمارستان.
وأشار صاحب آكام المرجان لوجود زخارف وتماثيل ببعض الحمامات بقوله : " … وفى بعض حماماتها – مصر – جارية من رخام يجرى الماء على قلبها يقال أنها جارية من جوار فرعون .." .ويبدو أن صاحب كتاب آكام المرجان يشير إلى التصوير الذي ظل شائعاً على حيطان الحمامات منذ عهد الرومان إلى الفتح العربي , فلم يلبث أن تحول تدريجياً . إزاء المعارضة التي كان يلقاها ـ إلى نوع من الرسوم الشعبية , وقل طابعه الرسمي , وازداد أسلوبه قرباً من الأسلوب الشعبي الفطري الساذج , وازداد أسلوبه قرباً من الأسلوب الشعبي الفطري الساذج , بل صار الذين يقومون بنقشه من عامة الشعب. وكان من أسباب تلاشي الصور من الحمامات حملة علماء الدين ضدها , وحثهم الناس على إزالتها ,فقد قال الإمام أحمد ابن حنبل :"إذا دخل الإنسان الحمام , ورأى فيه صورة , فينبغي أن يحكمها , فإن لم يقدر خرج ".
وفي كتاب العزيزي المحلى لابن المخلطة عن المهتدي بالله العباسي وزهده وتعلله من الدنيا ومخالفة من قبله من الخلفاء فمحاها :"أنه عمد إلى الصور التي كانت في مجالس الخلفاء فمحاها و وأزال تلك الشخوص المشوهة في الحيطان وغيرها "
وقال الغزالي في هذا الشأن في كتاب إحياء علوم الدين ,عند ذكر منكرات الحمام ما نصه :"منها الصور على باب الحمام أو داخل الحمام فذلك منكر يجب إزالته على كل من يدخله إن قدر عليها , فإن كان الموضوع مرتفعاً لاتصل يده إليه فلا يجوز له الدخول إلا للضرورة , وليعدل إلى حمام آخر , فإن مشاهدة المنكر غير جائزة , ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها.ولا يمنع من تصوير الأشجار وسائر النقوش سوى صور الحيوان."
وتميز الحمام بهندسته المريحة ، وألوانه الزاهية من الداخل ونقوشه البديعة ، وبنيت أرضيته من الرخام أو السيراميك وجدرانه من الموازييك وقببه التي تذكر بالسماء ، وأبوابه الصغيرة مما يتلائم مع حفظ الحرارة ، ويتسق مع الأجواء المريحة التي تفرح المستحم ، إضافة لهندسته التي تسمح بالاحتفاظ بالحرارة والنظافة والسلامة . وهو ما نتلمسه في حكايات ألف ليلة وليلة في قوله :
:" فلما فرغ تاج الملوك من شعره قال عزيز وأنا أحفظ في الحمام شيئاً، فقال شيخ السوق أسمعني إياه فأنشد هذين البيتين:
وبيت له من جامد الصخر أزهار = أنيق إذا أضرمت حوله الـنـار
تراه جحيماً وهو في الحق جـنة = وأكثر ما فيها شموس وأقمـار
ثم أطرب بالنغمات وأنشد الأبيات:
يا حسن نار والنعيم عذابـهـا = تحيا بهـا الأرواح والأبـدان
فأعجبت لبيت لا يزال نعيمـه = غضاً وتوقد تحته الـنـيران
عيش السرور إن ألم به وقـد = سفحت عليه دموعها الغدران
فلما سمعوا ذلك تعجبوا من هذه الأبيات، ثم إن شيخ السوق عزم عليهم فامتنعوا ومضوا إلى منزلهم ليستريحوا من تعب الحمام".
وأمدنا الرحالة العربي عبد اللطيف البغدادي الذي انطلق في رحلته من قلب العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري بملاحظات طريفة عن حمامات مصر مسهباً فى الوصف بقوله : " … وأما حماماتهم فلم أشاهد في البلاد أتقن منها وصفا ولا أتم حكمة ولا أحسن منظرا ومخبراً أما أولا فإن أحواضها يسع الواحد منها ما بين روايتين إلى أربع روايا وأكثر من ذلك يصب فيه ميزابان ثجاجان حار وبارد وقبل ذلك يصبان فى حوض صغير جدا مرتفع …".
وعنى رحالة فرنسا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي بوصف الحمامات فذكروا أنها كانت من الرخام يتوسط الحمام نافورة وتمتاز أرضيه الحمامات بالجمال وهى مغطاة بالسجاجيد وتوجد موائد من الرخام يستلقى عليها المستحم للتدليك والحمامات مزودة بالماء البارد والساخن ويقصد الحمامات المغاربة والأتراك والمصريون.
وأشار صاحب الرسالة المصرية بتعجب إلى حرص العمالة فى الحمامات على النظافة العامة لأجسادهم فيقول : " .. لقد شهدت يوما رجلا من الوقادين فى أتون الحمام يسأل رزق الله المذكور عن ساعة حميدة لقص أظفاره فتعجبت من سمو همته على خساسة قدرة ووضاعة مهنته…".فالعمال في الحمام هم أصحاب الخبرة في التدليك والتكبيس والحلاقة والحجامة ، وعلى عاتقهم تقوم راحة المستحمين فيقول ؤاوي ألف ليلة وليلة :
"ومازال تاج الملوك يحميه وعزيز يصب عليه الماء وهو يظن روحه في الجنة حتى أتما خدمته فدعا لهما وجلس جنب الوزير على أنه يتحدث معه ولكن معظم قصده النظر إلى تاج الملوك وعزيز، ثم بعد ذلك جاء لهم الغلمان بالمناشف فتنشفوا ولبسوا حوائجهم ثم خرجوا من الحمام فأقبل الوزير على شيخ السوق وقال له يا سيدي إن الحمام نعيم الدنيا فقال شيخ السوق: جعله الله لك ولأولادك عافية وكفاهما الله شر العين، فهل تحفظون شيئاً مما قاله البلغاء في الحمام فقال تاج الملوك: أنا أنشد لك بيتين وهما:
إن عيش الحمام أطيب عيش = غير أن المقام فيه قـلـيل
جنة تكره الإقـامة فـيهـا = وجحيم يهيب فيها الدخـول".
وفي سياق تلمسنا للجذور الأسطورية لبناء الحمامات المصرية نجد شغف الناس بتتبع أصول الأشياء وأسباب مسمياتها, والتأصيل لها. فنجد رواية شعبية دارت حول (حمام الكلب بالقاهرة) تقول: "لما شرعوا في حفر أساسه للبناء في الزمن القديم، ظهر تمثال نحاسي لكلبين متعاركين، تبين بعد ذلك أنه طلسم الكلب، فغير صاحب الخيرات أساس الحمام حفظاً للتمثال سليما، ولوجوده سليما ليس بالقاهرة مرض الكلب، ولا يصيب أحد ضرر منه، وهذا هو سبب تسمية الحمام بهذا الاسم".
هذه القصة الخيالية ربما كانت تحمل ظلاً من الحقيقة مثل العثور على دفائن وكنوز المصريين القدماء بالمصادفة أثناء الحفر، والذاكرة الشعبية لم تنس بعد الحكايات الكثيرة عن القدور التي يعثر عليها فجاءة وفيها العديد من الذهب والفضة.
وإجمالاً للقول : فإن مكانة الحمام في العمران المصري تتبع مباشرة مكانة الدار فإن عادة الاستحمام كانت من العادات المتأصلة في الإسلام بغرض التطهر مما أوجد لنا الحمام كعنصر عمراني مهم من مكونات المدن المصرية أضف لهذا أن الحمام في مصر لم يكن مجرد مكاناً للاستحمام والنظافة والتطهير بل أخذ بعداً اجتماعيًا آخر حيث كان منتدى ومكانا ترفيهياً للرجال يلتقون فيه فيقضون وقتا من المرح وتدخين النارجيلة ويتجاذبون أطراف الحديث كل حسب اتجاهاته وميوله فالتجار يتحدثون في شئون تجارتهم ويعقدون الصفقات التجارية فيما بينهم كما كان المناوئون لنظام الحكم يجدون في الحمام مكاناً مناسبا للاتفاق على الانقلابات السياسية وحياكة الدسائس والمؤامرات ورافقت الحمامات العامة المجتمع المصري ردحاً طويلاً من الزمن، وقد نجم عن التعايش معها مجموعة من الممارسات والسلوكيات لجموع الشعب المصري (المزنوق!) حيث لم يكن أمام مثليي الجنس فيه سوى الإعلان عن أنفسهم أو عن رغباتهم في الممارسة الجنسية على جدران الحمامات العامة المنتشرة في بعض مناطق المدن المصرية أو حمامات بعض المطاعم وأحياناً الفنادق الفخمة أو المتواضعة وكثيرا في حمامات صالات العرض السينمائية وخاصة الصالات المتواضعة في وسط القاهرة أو الإسكندرية أو ما بات معرف بـ"وسط البلد" أو "الأبواب الخلفية".كما أنها تحولت إلى صحيفة تستطيع أن تتصفحها مجاناً وبدون رقابة لتجدها تحتوي على كتابات تمثل كل الرغبات والاتجاهات الفكرية والسياسية والرياضية وربما الإجرامية وأحيانا الفنية! ويشرف على تحريرها وإصدارها جموع الشعب المصري الذي يقاوم ولا يزال كل عوامل الفناء.
فأبواب دورات المياه والحمامات العامة أو حمامات المساجد في مصر ليست مجرد حاجزاً يستر من يجلس خلفه ! ولكنها متنفسا تستطيع من خلاله الناس المطحونة والمكبوتة أو المهمشة أو الجماعات الهامشية المنحرفة أن تعبر عن بعض ما يجيش بصدرها دون خوف من أن يكون هناك قانون للطوارئ أو مخبر يقف لهم خلف الباب.....بكل عمق وبساطة هذا الشعب ...وبكل مايتعرض له من ظلم وطحن وسحق وموت ما قبل الموت إلا انه يرفض أن يصمت ....سيتكلم حتى ولو من خلف الأبواب في الحمامات العامة ودورات المياه .. وتستمر الكتابة...وتستمر القراءة.!!
[SIZE=6]* عمرو عبدالعزيز منير - حمامات القاهرة في ألف ليلة وليلة[/SIZE]