نقوس المهدي
كاتب
للمكان أهميّة كبيرة في بناء الحدث الحكائيّ، فهو البنية الأساسيّة من بنياته الفنيّة، و لا يمكن تصوّر أحداث قصصية إلاّ بوجود مكان تنمو فيه و تتشعّب، لأنّ المكان يحتوي على الأحداث و يبنيها و يشعّبها. و من داخل الفضاء المكانيّ تتم عمليات التخيّل و الاستذكار و الحلم، فلا يمكننا أن نتخيّل بطلاً أو شخصية قصصية تفكّر و تتفاعل مع أخرى، و تراقب و تحلّل الأوضاع الإيديولوجية و الاجتماعيّة، أو تثبت رؤاها إلاّ من داخل المكان ومن خلاله.
و يحدّد المكان في النصوص الحكائيّة مسار الشخصيات، و هو ضروري بالنسبة للسرد الحكائيّ، لأنّ السرد، و لكي ينمو و يتطوّر، فإنّه يحتاج إلى عناصر زمانيّة و مكانيّة، و الحدث » لا يُقدّم سوى مصحوب بجميع إحداثيّاته الزمانيّة و المكانيّة، و من دون وجود هذه المعطيات يستحيل على السرد أن يؤدّي رسالته الحكائيّة «(1).
إنّ الفضاء المكانيّ بامتداداته و مكوّناته يساعدنا على فهم الشّخوص التي تقطنه، و وضعها الاجتماعيّ، و تكوينها السياسيّ و الفكريّ و الإيديولوجيا المعرفيّة التي تتبناها، و بالتالي يمكّننا من أن نفهم مجمل الأوضاع السياسيّة و الثقافيّة و الاقتصاديّة لمجتمع من المجتمعات، أو مدينة من المدن، فالفضاء المكانيّ » لا يتشكّل إلاّ عبر رؤية ما، بل و يمكن القول بأنّ الحديث عن المكان (…) هو حديث محوّر عن رؤية ذلك المكان و زاوية النظر التي يتّخذها الرّاوي عند مباشرته له. فالرؤية التي ستقودنا نحو معرفة المكان و تملّكه من حيث هو صورة تنعكس في ذهن الرّاوي و يدركها وعيه قبل أن يعرضها علينا في خطابه «(2). و الفضاء المكانيّ في النصوص الحكائيّة يكشف عن عادات سكّانه، وتاريخهم الثقافيّ و المعرفيّ و السياسيّ، بتعبير آخر إنّه يقدّمهم في صيرورتهم التاريخيّة و الحضاريّة. و يرى أحد الباحثين » أنّ المكان هو الذي يؤسس الحكي لأنّه يجعل القصة المتخيَّلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة «(3).
فعلى سبيل المثال نجد أنّ الدخول في المكان في ألف ليلة وليلة، والخروج منه يعني مزيداً من تدفّق الوحدات السردية، واستحضار الأمكنة الجديدة، فخروج علاء الدين أبي الشامات من قصر والده شمس الدين، شهبندر التجار بمصر، إلى أمكنة جديدة ببغداد، جعل السرد يحفل بالأحداث الكثيرة المتشعّبة، وبالتالي تعددت صور المكان مع هذا الخروج، فهناك في بغداد التي وصلها علاء الدين فضاءات مكانيّة كثيرة يدخلها علاء الدين: فضاء المسجد، و فضاء منزل زبيدة العوديّة، وفضاء دار القاضي، وسوق الجواري، وقصر الخليفة الرشيد …الخ(4). ومن هنا، فإنّ تشكّل الأحداث وسيرورتها يفترض صوراّ جديدة للأمكنة، سواء أكانت واسعة أم ضيّقة(5). ويرى بول كلافال أنّ المكان بالنسبة لقاطنيه يشكّل رمزاً للأمان، ومصدراً للاعتزاز والتعلّق. يقول(6): "المكان هو أحد الدعائم المفضّلة للنشاط النموذجيّ، ينظر إليه من يسكنونه أو من يعطونه قيمة، وذلك بطرق مختلفة، يُضاف إلى الامتداد الذي يشغلونه، ويتجوّلون فيه ويستعملونه، في فكرهم، امتداد يعرفونه ويحبّونه والذي هو بالنسبة إليهم، رمز أمان، باعث عزّة، أو مصدر تعلّق «. ومن الفضاءات التي تبدو رمزاً للأمان، وصدراً للتعلّق، في نصوص ألف ليلة و ليلة: فضاء المسجد، وأحياناً فضاء الحمّام، ومقصورات الجواري، وفضاءات أسواق الجواري، وفضاءات البساتين.
و يبدو أنّ دراسة بنية المكان و أوصافه و محتوياته في النصوص الحكائية ستساعدنا على فهم البنية المعرفيّة، والوضع الاقتصاديّ و الطبقيّ للسكّان الذين ينتمون إلى هذا المكان، فـ "وصف الأثاث والأغراض [داخل المكان] هو نوع من وصف الأشخاص الذي لا غنى عنه. فهناك أشياء لا يمكن أن يفهمها القارئ ويحسّها إلاّ إذا وضعنا أمام ناظريه " الديكور "وتوابع العمل و لواحقه"(7). وبشكل عام يظلّ بيت الإنسان امتداداً له، فإذا وصفنا البيت فقد وصفنا الإنسان(8). فعلى سبيل المثال يُلاحظ أنّ محتويات منزل البنات الثلاث(9) في حكاية "الحمال والبنات"، تشير إلى الوضع الطبقي لهاته البنات، وتشير إلى أي مدى قطعته طبقة التّجار ـ في بغداد العباسيّة ـ في الثراء الفاحش و تثمين الأموال، كما أنّها تكشف عن البنية الذهنيّة والسلوكيّة لهاته البنات، التي تنحصر في العبث واللهو، ومعاقرة الخمرة، وتشير أيضاً إلى مدى عمق العلاقة التي تربط السياسيّ بالتجاريّ في بغداد، وإلى تقدير السياسيّ للتجاريّ واحترامه له، نظراً لأموال التجاري الكثيرة.
ـــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع
(1) - عن/ بحراوي، حسن: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1990م، ص 29. و أخذ بحراوي عن/
Grivel, Charles: Prodoction de l`interet romansque, E.D Mouton, Paris, 1973, P. 101.
(2) - م ن، ص 100 – 101.
(3) - du roman, P. O. F, 1980, P. 164. Mitterand, Henri: Le Discoures
مستشهد به عند: لحمداني، د. حميد: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء. الطبعة الأولى، آب 1991م، ص 65.
(4) - لمزيد من الاطلاع تنظر الحكاية في المجلد الثاني، ص 347.
(5) - لحمداني، د. حميد: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ص 63.
(6) - المكان و السلطة، ترجمة د. عبد الأمير إبراهيم شمس الدين، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، الطبعة الأولى 1410هـ/1990م، ص 24.
(7) - بونور، ميشال: بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت/ باريس، الطبعة الثانية 1982م، ص53.
(8) - وارين، اوستن؛ ويليك، رينيه: نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، منشورات المجلس الأعلى لرعاية الفنون و الأدب، دمشق، الطبعة الأولى 1972م، ص 288.
(9) - لمزيد من الاطلاع يُنظر: ألف ليلة و ليلة، 1/47.
* د. محمد عبد الرحمن يونس
مدخل في مفهوم المكان في النصّ الحكائيّ
و يحدّد المكان في النصوص الحكائيّة مسار الشخصيات، و هو ضروري بالنسبة للسرد الحكائيّ، لأنّ السرد، و لكي ينمو و يتطوّر، فإنّه يحتاج إلى عناصر زمانيّة و مكانيّة، و الحدث » لا يُقدّم سوى مصحوب بجميع إحداثيّاته الزمانيّة و المكانيّة، و من دون وجود هذه المعطيات يستحيل على السرد أن يؤدّي رسالته الحكائيّة «(1).
إنّ الفضاء المكانيّ بامتداداته و مكوّناته يساعدنا على فهم الشّخوص التي تقطنه، و وضعها الاجتماعيّ، و تكوينها السياسيّ و الفكريّ و الإيديولوجيا المعرفيّة التي تتبناها، و بالتالي يمكّننا من أن نفهم مجمل الأوضاع السياسيّة و الثقافيّة و الاقتصاديّة لمجتمع من المجتمعات، أو مدينة من المدن، فالفضاء المكانيّ » لا يتشكّل إلاّ عبر رؤية ما، بل و يمكن القول بأنّ الحديث عن المكان (…) هو حديث محوّر عن رؤية ذلك المكان و زاوية النظر التي يتّخذها الرّاوي عند مباشرته له. فالرؤية التي ستقودنا نحو معرفة المكان و تملّكه من حيث هو صورة تنعكس في ذهن الرّاوي و يدركها وعيه قبل أن يعرضها علينا في خطابه «(2). و الفضاء المكانيّ في النصوص الحكائيّة يكشف عن عادات سكّانه، وتاريخهم الثقافيّ و المعرفيّ و السياسيّ، بتعبير آخر إنّه يقدّمهم في صيرورتهم التاريخيّة و الحضاريّة. و يرى أحد الباحثين » أنّ المكان هو الذي يؤسس الحكي لأنّه يجعل القصة المتخيَّلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة «(3).
فعلى سبيل المثال نجد أنّ الدخول في المكان في ألف ليلة وليلة، والخروج منه يعني مزيداً من تدفّق الوحدات السردية، واستحضار الأمكنة الجديدة، فخروج علاء الدين أبي الشامات من قصر والده شمس الدين، شهبندر التجار بمصر، إلى أمكنة جديدة ببغداد، جعل السرد يحفل بالأحداث الكثيرة المتشعّبة، وبالتالي تعددت صور المكان مع هذا الخروج، فهناك في بغداد التي وصلها علاء الدين فضاءات مكانيّة كثيرة يدخلها علاء الدين: فضاء المسجد، و فضاء منزل زبيدة العوديّة، وفضاء دار القاضي، وسوق الجواري، وقصر الخليفة الرشيد …الخ(4). ومن هنا، فإنّ تشكّل الأحداث وسيرورتها يفترض صوراّ جديدة للأمكنة، سواء أكانت واسعة أم ضيّقة(5). ويرى بول كلافال أنّ المكان بالنسبة لقاطنيه يشكّل رمزاً للأمان، ومصدراً للاعتزاز والتعلّق. يقول(6): "المكان هو أحد الدعائم المفضّلة للنشاط النموذجيّ، ينظر إليه من يسكنونه أو من يعطونه قيمة، وذلك بطرق مختلفة، يُضاف إلى الامتداد الذي يشغلونه، ويتجوّلون فيه ويستعملونه، في فكرهم، امتداد يعرفونه ويحبّونه والذي هو بالنسبة إليهم، رمز أمان، باعث عزّة، أو مصدر تعلّق «. ومن الفضاءات التي تبدو رمزاً للأمان، وصدراً للتعلّق، في نصوص ألف ليلة و ليلة: فضاء المسجد، وأحياناً فضاء الحمّام، ومقصورات الجواري، وفضاءات أسواق الجواري، وفضاءات البساتين.
و يبدو أنّ دراسة بنية المكان و أوصافه و محتوياته في النصوص الحكائية ستساعدنا على فهم البنية المعرفيّة، والوضع الاقتصاديّ و الطبقيّ للسكّان الذين ينتمون إلى هذا المكان، فـ "وصف الأثاث والأغراض [داخل المكان] هو نوع من وصف الأشخاص الذي لا غنى عنه. فهناك أشياء لا يمكن أن يفهمها القارئ ويحسّها إلاّ إذا وضعنا أمام ناظريه " الديكور "وتوابع العمل و لواحقه"(7). وبشكل عام يظلّ بيت الإنسان امتداداً له، فإذا وصفنا البيت فقد وصفنا الإنسان(8). فعلى سبيل المثال يُلاحظ أنّ محتويات منزل البنات الثلاث(9) في حكاية "الحمال والبنات"، تشير إلى الوضع الطبقي لهاته البنات، وتشير إلى أي مدى قطعته طبقة التّجار ـ في بغداد العباسيّة ـ في الثراء الفاحش و تثمين الأموال، كما أنّها تكشف عن البنية الذهنيّة والسلوكيّة لهاته البنات، التي تنحصر في العبث واللهو، ومعاقرة الخمرة، وتشير أيضاً إلى مدى عمق العلاقة التي تربط السياسيّ بالتجاريّ في بغداد، وإلى تقدير السياسيّ للتجاريّ واحترامه له، نظراً لأموال التجاري الكثيرة.
ـــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع
(1) - عن/ بحراوي، حسن: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1990م، ص 29. و أخذ بحراوي عن/
Grivel, Charles: Prodoction de l`interet romansque, E.D Mouton, Paris, 1973, P. 101.
(2) - م ن، ص 100 – 101.
(3) - du roman, P. O. F, 1980, P. 164. Mitterand, Henri: Le Discoures
مستشهد به عند: لحمداني، د. حميد: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء. الطبعة الأولى، آب 1991م، ص 65.
(4) - لمزيد من الاطلاع تنظر الحكاية في المجلد الثاني، ص 347.
(5) - لحمداني، د. حميد: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ص 63.
(6) - المكان و السلطة، ترجمة د. عبد الأمير إبراهيم شمس الدين، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، الطبعة الأولى 1410هـ/1990م، ص 24.
(7) - بونور، ميشال: بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت/ باريس، الطبعة الثانية 1982م، ص53.
(8) - وارين، اوستن؛ ويليك، رينيه: نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، منشورات المجلس الأعلى لرعاية الفنون و الأدب، دمشق، الطبعة الأولى 1972م، ص 288.
(9) - لمزيد من الاطلاع يُنظر: ألف ليلة و ليلة، 1/47.
* د. محمد عبد الرحمن يونس
مدخل في مفهوم المكان في النصّ الحكائيّ