نقوس المهدي
كاتب
تحاول هذه الدراسة أن تتبين بعض الملامح العريضة لمدن ألف ليلة وليلة منطلقة من بنية نص الليالي نفسه، باعتباره نصاً منفتحاً على عالم من التخيل السردي والإبداعي، إلا أنها لا تركز على النص باعتباره عملاً تخيلياً فقط، بل تعتبره عملاً يمكن أن يتحقق في كثير من جوانبه في بنية الزمان والمكان، فاعتبار مدن ألف ليلة وليلة مدناً وهمية لن يساعدنا على تبيان العلاقات القائمة سياسياً واجتماعياً بين المدينة وسكانها من جهة، وبين السلطة القائمة فيها، وبين أفراد الشعب من جهة أخرى.
فإذا كانت العلاقات التي تتحكم في مدن الليالي علاقات غرائبية سحرية لا تتحقق إلا في الحلم والتخيل والذاكرة، ووفقاً لنسق ميثولوجي خرافي وأسطوري، فإن كثيراً من مدن ألف ليلة وليلة حقائق قائمة بذاتها، فلقد قامت هذه المدن منذ القديم، وعُرِفت، ولا تزال معروفة حتى الآن كبغداد والبصرة والكوفة وخراسان ودمشق وحلب، وصنعاء والاسكندرية، وفاس ومكناس وغيرها، في حين أن مدناً أخرى ذكرتها الليالي كانت غاية في العمران والهندسة المعمارية الفائقة فناً وإبداعاً وتخطيطاً ورقياً، لكننا إذا حاولنا أن نحدد معالمها على الخريطة الجغرافية الحديثة- بعد أن تشكل العالم الجغرافي تشكيلاً جديداً ونهائياً من حيث معالمه وحدوده وبحاره ومحيطاته، وعواصمه ودوله ـ فإننا لن نجد اسماً لهذه المدن، فإما أن تكون قد اضمحلت واندثرت نتيجة لعدم توافر الشروط الطبيعية التي تؤول إلى استمرار هذه المدن، وقد يكون من هذه الشروط وجود المياه ووجود الريف، واعتلال الهواء والتربة، ووجود المراعي كما يرى الماوردي، ففي نظره أنه "إذا تكاملت هذه الشروط في إنشاء المصر استحكمت قواعد تأبيده، ولم يزل إلا بقضاء محتوم.."(1)
وإما أن تكون قد تغيرت أسماؤها بفعل المؤثرات الجغرافية والطبيعية التي تعرضت لها قارات العالم وفق تشكلاتها الجديدة، وإما أن تكون أصلاً مدناً تشكلت مورفولوجياً وجمالياً وفق رؤية السارد الجمالية، عبر عمليات التخيل والحلم، أو عبر المثاقفة الحضارية والفكرية، التي نشأت بين مدن ألف ليلة وليلة، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن شهرزاد امرأة فاقت زمانها ومكانها علماً ومعرفة وأدباً إذ اطلعت على ثقافات الشعوب وعاداتها وتاريخها وأشعارها، وعادات مدنها كما تقول الليالي:
"وكان الوزير لـه بنتان رائعتا الحسن والجمال والبهاء، الكبيرة اسمها شهرزاد والصغيرة اسمها دنيازاد، وكانت الكبيرة قد قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين"(2).
ويبدو أن تعدد مستويات السرد والقص من جهة، وتعدد رؤى السارد من جهة أخرى قدّمت سارداً متميزاً ومبدعاً، استطاع أن يشكل هذا العالم الغرائبي من مدن بعيدة منسية في الصين والسند والهند، وواق الواق وغيرها، فتشكل المدن بهذه السحرية الغرائبية، وفق خرق لبنية الزمان وتاريخيته، وتحطيم لحدود المكان الممكن، أو المكان الواقعي، وإحلال مكان غائب وسحري عصي على التحديد والضبط بدلاً منه، كان عائداً بالدرجة الأولى إلى اطلاع الراوي على كثير من معارف عصره باعتباره عصراً منفتحاً على الثقافة الفارسية والهندية واليونانية والسريانية والهلينية. وإما أن هذه المدن قد تكون تخربت وتهدمت بفعل صيرورة التاريخ نفسه، وحركات الاضطراب والفتن والثورات المعارضة والحروب، وتعرض هذه المدن لأعمال الهدم، وتأسيس مدن جديدة بدلاً منها، وإما أنها انتهت سياسياً بزوال سلطتها وقوة ملكها، لأن: "الأمصار التي تكون كراسي الملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها (وذلك) أن الدولة إذا اختلت وانتقضت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب"(3).
ومن هذه المدن والجزر تلك التي كان يصل إليها السندباد البحري : مدينة القرود، ومدينة الملك المهرجان، ومدينة السلاهطة ومدينة مرزرقان ومدينة شمعون، ومدينة الأبنوس، ومدن أخرى كجوهر تكني والطيرب وجزائر الكافور، ولبطة، وغيرها.
فهذه المدن، ربما يكون السارد قد تخيلها وأضاف إليها مزيداً من السحر والخرافة، والغرائبية، التي من شأنها أن تشد القارئ والمستمع، وتسهم أيضاً في نمو القصة، داخل بنية المكان، وأمكنة أخرى قد تتلاقى مع مكان القصة الذي تحدث عنه هذا السارد.
و"لقد وصل إلى قاص الليالي قصص عن الهند وفارس حاملاً الكثير من مميزات بيئته الأولى، ولكن القاص لم ير الهند ولم ير فارس ولئن رآهما هو، فإن غيره من سامعيه لم يرهما، ولئن رآهما هو فهو بعيد عن أن يلاحظ الفروق الجوهرية بين بيئته وبيئتهما"(4).
ويمكننا أن نقسم مدن ألف ليلة وليلة، بحسب معتقدات شعوبها على المستوى الديني، على الشكل الآتي:
1 - المدن الإسلامية.
2 - المدن المسيحية.
3 - المدن اليهودية.
4 - مدن الكفار والمجوس وعبدة النار وآكلي لحوم البشر.
5 - المدن السحرية المنسوجة من عالم الخيال، وهي مدن الجن وتقسم إلى قسمين:
أ - مدن الجن والعفاريت المؤمنين بالله وهم أتباع النبي سليمان، وهي مدن كثيرة جداً.
ب - مدن الجن الكفرة الخارجة عن طاعة النبي سليمان.
6 - مدن ذات طابع سحري خاص، وهي المدن البحرية، وسكانها يمشون على الماء، وملوكها يسمون ملوك البحار، ولهم قدرات تفوق قدرات البشر العاديين(5). بالإضافة إلى إيمانهم بالله، مع ملاحظة أن جميع هذه المدن باختلاف تشكيلاتها الاجتماعية، وتوجهاتها المذهبية هي مدن موشاة بالسحر والأسطورة والغرابة، لما للأسطورة من أهمية في الأدب والفن، والقصة. لأنها: "هي قوة الإعلام الرئيسة التي تضفي على الشعائر مغزى النموذج الأصلي، وعلى النبوءة صفة النموذج الأصلي للفن القصصي. لذا فإن الأسطورة هي النموذج الأصلي."(6).
وقلما نجد مدينة في ألف ليلة وليلة إلا ولها سحرتها الخاصون، وأساطيرها الخاصة، ومنجموها وفلكيوها، الذين يستشعرون الخطر قبل قدومه، ونساؤها الخبيرات بجميع فنون المكايد والحيل والخديعة، ورجالها الفانون أعمارهم في مجالس الشراب والطرب، وأجساد الجواري، والحروب الطاحنة لتعزيز بطشهم وسلطتهم بعيداً عن أية قوانين أو شرائع إنسانية أو أخلاقية.
مدن ألف ليلة وليلة مدن واقعية عبَر التاريخ منها فارضاً رؤيته وقسوته، وظلامه وضياءه في آن. ومدن وهمية شكّلها راوٍ متشعب الاتجاهات والثقافات، بل رواة من حضارات متعاقبة ومتجاورة زمنياً وتاريخياً.
وسأحاول في هذه الدراسة التركيز على علاقة السلطة بالمواطن في مدن الليالي على المستويين الاجتماعي والطبقي، وبالتالي على مستوى الملكية، ودور هذه الملكية في اغتراب المواطن وإحساسه بالاستلاب والقطيعة بينه وبين مدينته، ودورالسلطة في الليالي، في تهديم العلاقات البشرية الإنسانية، التي تحقق للمواطن توازناً وطمأنينة، وعلى بنية قصور السلطة، ودور المرأة في ترسيخ الحيلة والسحر في هذه القصور، باعتبار أن بنية القصر الداخلية تعكس وضعاً سياسياً وسوسيولوجياً وثقافياً تعيش فيه المدينة، معتمداً بالدرجة الأولى ما يفرزه النص الأدبي، والحكاية من أنظمة فكرية وعلاقات متناقضة تارة ومتداخلة ومعقدة ومنسجمة تارة أخرى، ومستفيداً أيضاً من بعض خلفيات المدينة الإسلامية كما تشير إليها الأدبيات التاريخية.
وإذا كان من المتعارف عليه أن للقراءة نظامين: "قراءة تذهب رأساً إلى مفاصل القصة وتأخذ بعين الاعتبار امتداد النص وتجهل ألاعيب اللغة(...) أما القراءة الأخرى فلا تغفل شيئاً، بل تزن النص وتلتصق به، وتنهمك في عملها بجد وحماس إن صح القول، وتدرك في كل نقطة من النص انقطاعات الوصل التي تقطع اللغات لا القصة"(7). فإني سأكتفي بالقراءة الأولى معتمداً على امتداد النص الأدبي داخل البنية السوسيولوجية والثقافية التي تحكم مدن الليالي، لأن القراءة الثانية تناسب نصاً من مميزاته أنه "النص الحديث، النص- الحد الأقصى"(8).
أما نصوص ألف ليلة وليلة فإن جماليتها تكمن في أنها نصوص خارج الزمان والمكان لكنها من صلبه، إنها ماضي الماضي، وحاضر الماضي(9)، والحاضر والمستقبل وما بعد المستقبل باعتبارها نصوصاً تحمل طاقة تخيلية قصوى.
وإذا كانت القراءة الإيديولوجية للنصوص الأدبية كثيراً ما تعتمد مفاهيم مسبقة ذات أطر إيديولوجية، تجعل النص "خطاب أطروحة" قبل أن يكون خطاباً إبداعياً، وتعمد إلى قسر هامة النص، بدلاً من أن تضيء مكوناته، فإن ثمة نصوصاً في الليالي تفرز بشكل أو بآخر بعض قسمات المنهج الأيديولوجي غير المرغوب فيه، وبالتالي يصعب التخلص نهائياً من إسقاطات "خطاب الأطروحة".
وإن بدا على هذه القراءة بعض ملامح خطاب الأطروحة، فإنه ليس مقصوداً بذاته، بل في قدرته على إضاءة بعض جوانب الليالي العربية والفارسية والهندية هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإيديولوجيا تشكل "نسقاً مترابطاً من المقولات التي تفسر الواقع المعيش وتنطوي في الوقت نفسه على صياغة رؤية مستقبلية لما ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع"(10).
تتحدد المدينة في ألف ليلة وليلة بفضائين سريين وحميمين، فضاء الرجال وفضاء النساء، مدينة الرجال ومدينة النساء، سلطة الرجال وسلطة النساء، ومن خلال بنية هذين الفضائين المكانيين تُفْرَز سياقات فكرية وثقافية تؤدي بدورها إلى سياقات سلطوية أخرى. حضور سلطوي طاغٍ في جميع بنى الحياة السياسية والثقافية والفكرية والدينية، والمدينة غارقة ببؤسها، ومذبوحة من الشريان إلى الوريد داخل هذه الفضاءات السلطوية، إنها تهجع داخل شبكة عنكبوتية من العلاقات السلطوية، والشرائح الاجتماعية المتباينة طبقياً: الخليفة والملك والأمير والجند وسادة القوم، وسيدات القصور، يسنون القوانين ويشرّعونها، ويسوسون بها الرعية، وعامة الناس، أي الطبقة الدنيا، وقلما تكون الطبقة الدنيا في مدن الليالي فاعلة في تشكيل الأنماط الحياتية، بل إن النمط الحياتي والسلطوي هو نمط مهيأ ومتشكل سابقاً. ومقابل طبقة السلطة نجد قطاعات عريضة من عمال وسقائين وحلاقين وبسطاء، ومسحوقين قلما يعرفون شيئاً عن عالم المدينة الداخلي المسحور، عالم شهريار وشهرزاد وقصور الحريم المزخرفة والمزينة بأجمل أنواع الزخارف وبقطيع الجواري.
ومن خلال دراسة بنية قصور الحريم والجواري، سنكتشف جميع أنواع المؤامرات والدسائس والمكايد والفضائح، يسهم في ذلك هذا التخطيط الهندسي المعماري والفني ذو المواصفات السرية والفضاءات المنفتحة على سراديب ودهاليز وستائر ومصاطب وزوايا، والمفتوحة في آن على فضاء خارجي شاسع، وذلك بوساطة باب سري، أو نافذة سرية تربط المرأة بعالم المدينة الخارجي، وبمدن الرجال وعالمهم وسراديبهم، وداخل هذه السراديب والممرات الضيقة تتم عملية التجسس وتحاك المؤامرات والدسائس ضد سلطة الرجال وضد أعرافهم وتقاليدهم وقوانينهم.
ومن داخل سراديب قصور مدن ألف ليلة وليلة تُقام الصلات والعلاقات السرية والمشبوهة بين رجال السلطة وبين الجواري، وبين فضاء الحريم بشكل عام، لأن بنية السلطة باعتبارها تعتمد التملك شعاراً ورؤية، فإنها تعمد إلى عزل النساء داخل قصورهن، ومراقبتهن مراقبة حذرة، ووضع الجواسيس عليهن من الخدم. أما السرداب بالنسبة لبعض رجال القصر، فإنه يشكل بنية جمالية، وفضاء نفسياً ممتعاً، لأنه وسيلة لتسلل الأمير أو قائد الجند، أو الرجال المهمين إلى القصر، وإلى حجرات الجواري بعيداً عن عيون زوجاتهم من الحرائر، وعن عيون السلطان الرجل الأول في القصر، وعموماً فإن تخطيط القصر الهندسي يضمن للأمراء المهمين غرفاً سرية تنفتح بشكل سري على عالم الجواري عن طريق ممرات سرية، وبوابات ضيقة تغطيها الستائر الكثيفة التي تمنع النور، وكثيراً ما تستطيع الجارية الحظيّة عند السلطان أن تُدْخِل عشيقها- حتى ولو كان من خارج سلطة رجال القصر- من هذه الممرات ليقضي ليلة عندها، وعندما تستشعر خطراً فإنها تخفيه في السراديب السرية كما فعلت إحدى جواري الخليفة الرشيد- شمس النهار- مع عشيقها علي بن بكار، وصاحبه- أبي الحسين علي بن طاهر- إذ أدخلتهما سراً " في مقصورة وأجلستهما وإذا بالموائد وُضِعَت قدامهما فأكلا وغسلا أيديهما ثم أحضرت لهما الشراب فشربا ثم أمرتهما بالقيام فقاما معها وأدخلتهما مقصورة أخرى مركبة على أربعة أعمدة وهي مفروشة بأفخر الفراش مزينة بأحسن الزينة"(11).
وفجأة يصل الخليفة أمير المؤمنين الرشيد، فترتعد جارية شمس النهار لمنظر عفيف ومسرور سياف النقمة، وبخبرة المرأة المجربة لدهاليز القصر وخباياه، العارفة كيف تتعامل مع رجال سلطة القصر، تُطمْئن شمس النهار ضيوفها، يقول الراوي: "فضحكت شمس النهار وقالت لا تخافوا ثم قالت ردي عليهم الجواب بقدر ما نتحول من هذا المكان ثم أنها أمرت بغلق باب القبة وإرخاء الستور على أبوابها وهم فيها وأغلقت باب القاعة ثم خرجت إلى البستان وجلست على سريرها"(12).
تنصرف شمس النهار إلى استقبال الخليفة ومنادمته، بينما تنهمك الجارية في إخراج علي بن بكار من دهاليز القصر يساعدها أبو الحسن- صديقه-: "ونزلا به من على الروشن ومشيا قليلاً ثم فتحت الجارية باباً صغيراً وأخرجت أبا الحسن هو و"علي بن بكار" على مصطبة ثم صفّقت الجارية بيدها فجاء زورق فيه إنسان يجدف فأطلعتهما الجارية في الزورق"(13).
ونلاحظ أن فضاء القصر وبنية حجرات الجواري، وزخرفتها وتنميقها بشكل جمالي ومدهش، تساعد المرأة الحظية على ممارسة سلطتها وسيادتها على من دونها من العبيد والجواري الذين لا يملكون مثل هذه الحجرات- المقصورات- بالإضافة إلى أن هذه الحظية تستمد سلطتها من سلطة رجل قوي يتموضع بشكل مهم في نسق السلطة، وعندما تعي الجواري والعبيد أن السيدة الحظية لها علاقة متينة بالسلطة فإنهم يخضعون لها ويخشونها، ولا يتم التخلص من سطوتها إلا بمكيدة تطيح بها من قبل رجل مهم ذي سلطة نافذة تفوق سلطة الرجل- صاحب العلاقة معها- فيغضب الرجل الأول وينفي الثاني وجاريته، أو يقتل الثاني ويمتلك جاريته، كما في حكاية "علاء الدين أبو الشامات"(14). صراع سلطوي مرير حاقد، هدفه الأول المال والجواري والبساتين والمتاجر والأسواق، وتبقى الرعية تعايش مدناً مستلبة يعربد فيها القتل والفقر والجوع وذلّ الحاجة.
وتزداد سلطة نساء ألف ليلة وليلة في قصورهن بقدرتهن على إسعاد الأمراء وتغييبهم عن بنيات الزمان والمكان، وعن المدينة وهمومها ومآسيها.
إن جسد الجارية هو المعادل الموضوعي لهموم السلطة وخيباتها، وقطيعتها الإنسانية بينها وبين أفراد شعبها. ومن داخل مخبأ الجارية الضيق بجدرانه، الفسيح بطنافسه وزخارفه،وجماليات ألوانه وتخطيطها تخطيطاً زخرفياً جمالياً ومثيراً، تستمدّ هذه الجارية سلطتها الطاغية على علية القوم. ومن هنا سنلاحظ أن الجارية ستعتمد ظاهرياً الوقاروالحشمة والتعفف، والكبرياء الزائف، والرصانة والاستعلاء على العبيد والجواري دونها، وفرض علاقات تفتقر إلى أي شرط إنساني وأخلاقي بينها وبين عبيدها وجواريها، لأنها تعتقد أن هذه العلاقة السلطوية المشوهة هي التي تحميها من مكايد العبيد وحسد الجواري فتعمد ما أمكنها إلى تقليص العلاقة وإلغاء الحوار بينها وبين عبيدها وجواريها، إلا ما كان منه توجيه أمر أو سلطة أو توبيخ على تقصير أو ما شابه ذلك. إن اعتمادها على هذه الشرنقة وتقوقعها داخلها يعطيها- ظاهرياً- سلطة على من حولها من عبيد و جوار، في حين أنّ هؤلاء يظلّون يفكرون كيف تسقط سيدتهم في فخ المكيدة والحيلة. وحتى تتعزز سلطة الجارية الحظيّة لا بد أن تكون حذرة حين لقاءاتها السرية مع قادة القصر وأمرائه.
وإذا كانت القطيعة الإنسانية هي النسق السائد بين الحاكم والمحكوم في فضاء القصر العام الخارجي، باعتبار القطيعة بؤرة حقيقية لتجسيد سلوك السلطة وسيادتها وفرض هيبتها ووقارها، فإنه حينما يغيب هذا الفضاء الخارجي تفقد السلطة وقارها، ويبدأ ألق الفضاء الداخلي، فضاء المقصورات السري، القادر على إثارة الأمير أو القائد وإذلاله بفعل سلطة الجسد بروائحه وعطوره وتشكلاته.
ومن هذا الفضاء الداخلي الحميمي تُبنى مدن ألف ليلة وليلة، بتشكيلاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكم من جارية كانت سبباً في عزل قائد، وتنصيب آخر، أو إغلاق متجر أو إشادة قصر، أو هدم قصر، ومع ذلك وعلى الرغم من سرية الجارية وتحصينها نفسها بغرض العلاقة الاستلابية بينها وبين عبيدها، فإن العبيد والجواري يشكلون دائماً حالة رعب وقلق بالنسبة لسيداتهم، فهم يعرفون خبايا القصر، ويعرفون جميع ما يدور في هذه الدهاليز والممرات السرية والفجوات التي تنقل الجارية من فضائها الداخلي إلى فضاء القصر والسلطة والمدينة.
فعندما تخرج شمس النهار خارج القصر من الممرات السرية وتلتقي بعلي بن بكار في منزل صديقه- أبي الحسن علي بن طاهر- سرعان ما يصل الخبر إلى رجل مهم في القصر، بوساطة وصيفة شمس النهار، لأن شمس النهار ضربتها، ثم يصل الخبر إلى الخليفة وفق منطق التجسس السلطوي، فيأمر بنقل شمس النهار وجميع مالها إلى قلب دار الخلافة ويوكل عشرين خادماً لخدمتها وحراستها(15). ولأن شمس النهار أهم الحظايا عند الخليفة، فإنه يغفر لها ويعفو عنها. وكلما زادت سلطة الجارية فرضت عبيداً مشوهين لا هم لهم إلا التجسس وإشعال نار المؤامرة، والطاعة العمياء ظاهرياً، وتأكيد المكيدة والدسيسة سراً.
إن محاولة السلطة في مدن ألف ليلة وليلة لتعطيل العلاقات الإنسانية في جوهرها الأخلاقي خَلقَ ضمائر مهزومة قابلة لأن تُشرى وتباع لمن يدفع أكثر، وفرض مستويات طبقية متباينة وفقراً وبطالة، وتشويهاً داخل البنية الثقافية والسوسيولوجية لهذه المدن، بالإضافة إلى سلطة المال ودورها في تخريب القيم والنفوس، وتعطيل قوانين الدولة وأنظمتها. وإن بدا الخليفة قوياً ومتماسكاً باعتباره رمزاً للسلطتين الدينية والسياسية، ترفده في ذلك أملاكه وقصوره، وجلاوزته وموقعه المالي المتميز، فهو أغنى رجال المملكة - باستثناءات طفيفة جداً- على مستوى القطاعات التجارية والزراعية والاقتصادية، فإن وضعه هذا لم يحقق له الطمأنينة والانسجام مع نفسه ومع مدينته وشعبه، فابتعد عن الشعب وسلمه لمجموعة من القادة والأمراء العسكريين القساة والظلمة يعيثون فيه فساداً وترفاً، وسرقة للأموال والنساء التي يقدّمون بعضها هبات ورشاوى للخليفة، أو لمن هو أكثر سلطة منهم(16). ومن هنا نفهم سر حفلات السكر والعربدة التي يقيمها الملوك والأمراء من المساء إلى الصباح، حتى إن مجالس هؤلاء كانت تضم مئات الجواري والعبيد الذين عُطّلت طاقاتهم، وانحصرت في هزّ الأجساد، وتقديم كؤوس الشراب للأمير ولندمائه، ونفهم أيضاً سر ظهور طبقة مسحوقة باطلة جائعة لجأت إلى قوت يومها بالفتوة والسرقة وقطع الطرق، والقتل، ولجوء طبقة أخرى مالت إلى الزهد والتقشف والهروب من هذا الفساد المستشري، ولجوء طبقة أخرى إلى امتهان التسول وإتقان فنونه، وظهور طبقة الجواري العابثات في فنون اللذة وطرقها تمهيداً لكسب المال، والنفوذ إلى قصور السلطة.
لقد كانت العلاقة القائمة بين سلطة شهريار ومدينته علاقة نفور وحقد على شعبه ومدينته، دمرت بنيان روحه إنسانياً، و لقد صارت المدينة خيانة وظلاماً وكابوساً عندما شاهد زوجته وجواريه وعبيده في حفل عربيدي صاخب تُطاح فيه كل قوانين السلطة وشرائعها ومحرماتها، وهو المالك والآمر والناهي، ولا يملك سلطة على أعز المقربين منه- زوجته-، فما كان منه إلا أن أطاح بها. صار فضاء القصر الحميمي بالنسبة إليه فضاءً قاتماً، ولأول مرة يكتشف ما يجري في دهاليز قصره وممراته، وفسحاته. ومن فسحة الرؤية ظل مدهوشاً أمام البنيات الجديدة التي تكشفت له. لم يعد هناك فضاء محرم بين عبيد القصر ونسائه، كل ما كان يجري في السراديب والدهاليز صار مكشوفاً، وارتفعت الستائر، وانفتحت الأبواب السرية، فبدت الحقيقة فاجعة، وازداد الشرخ بين سلطته المنتهكة ومدينته، فصارت المدينة بؤرة مظلمة بفضاءاتها وقصورها ونسائها ورجالها، فما كان منه إلا أن بدأ ينتقم منها ببشاعة مريرة، وأبشع ما كان هذا التدمير كان بإحلال الرعب السلطوي فيها، واختياره كل ليلة فتاة عذراء، ثم اجتثاثه لروحها في الليلة نفسها.
وبالرغم من فضاء القصر المحدود(17) في الليالي، إلا أنه يمكن أن يتسع ليصبح فضاء جميع الأمكنة السياسية والاجتماعية في مدن الليالي، ومن أهم مميزات هذا الفضاء أنه فضاء للنساء والجواري، وتمارس فيه المرأة سلطة لا حدود لها على الأمير أو الملك من خلال جسدها، وكثيراً ما يؤرق هذا الجسد الأمير فيصيح بالزمان والتاريخ والمملكة: أن هاتوا لي الجارية الفلانية وإلا هدمت المدينة على رؤوسكم. للجارية هذا التأثير السحري العجيب على قرارات الملك، فكثيراً ما تكون سبباً لطمأنينة المدينة كشهرزاد، التي أضفت حالة سلام مؤقتة على مدينتها وعلى نسائها، وكثيراً ما تكون سبباً لشقائها وبلائها، وبسلطتها ومكيدتها يتم عزل الأمراء أو تقريبهم، وقتل الأبناء أو نفيهم.(18)
في فضاء القصر ثمة سلطتان: للملوك والسلاطين والأمراء وللنساء والجواري والسراري. فسلطة النساء والجواري "مستقلة عن وظيفة السلطة "سلطة الملك" الكبيرة ومتداخلة فيها، مستقلة داخل "حيِّز الحريم" لا يتدخل بها أحد من الخارج ومتداخلة مع السلطة التي هي خارج "حيّز الحريم" ما دام "حيّز الحريم" محجوباً مغلقاً، وليس مكشوفاً أمام عين السلطة "سلطة الملك أو الخليفة". إن المسافة كانت كبيرة فيما بين الحريم والرجال في القصر من حيث الدور الذي كان يؤديه كل فريق . "حيّز "الحريم" مقصود دائماً من قبل الرجال، من هذا المنطلق، فإنه لا ينتقل من مكانه في القصة، كون "الحريم" لا يأتين بل يُؤتى إليهن، ولا يقصدن أحداً، بل يقصدهن الآخرون، هنا يمارس "حيّز الحريم" سلطته وحيث دوره الفعلي يبقى في "الكواليس"، وسلطته هي وراء الستائر، ولا سلطة له في "المكان المكشوف".
ونرى في المقابل أن قصر الخليفة مثلاً له بعد أكبر من كونه بعداً لقناطر كبيرة لها شكلها الجمالي والزخرفي. وفي ديوانه ليس له فقط هيبة "السلطة الذكرية" و"حضرة السلطان"، بل إنه يتعدى ذلك ليصل "مقصورة الحريم"، أو "حيّز الحريم"، ومن فعالية سلطة "حيز الحريم" عندما يكون محجوباً، أن للزينة والعطور والملابس الحريرية المزركشة، بعداً آخر غير مرئي في القصة، لأن رائحة أجساد الجواري تبتلع روائح عطورهن وتخترق الأثواب والجدران. تمزق الحجب، فتصل أنف الخليفة وأنوف أهل الديوان"(19).
وبالرغم من سلطة الرجال في الليالي وقوة بطشها، فإن الجارية كثيراً ما كانت تخرج من فضاء القصر لتلتقي بعشاق لها خارج أسواره، في سوق التجار، وفيلاتهم الفخمة، و في البساتين البعيدة عن المدينة المركز. وكثيراً ما كانت تجلب عشاقها إلى مقصورتها داخل القصر نفسه عن طريق الممرات السرية والسراديب التي ذكرناها سابقاً. إن وظيفة السراديب السرية التي تربط القصر بالمدينة جد مهمة، فتخطيطها الهندسي يقوم وفق وظيفة اجتماعية ونفسية حددتها بنية المدينة نفسها، وعلاقاتها وقيمها.
ويبدو أن السرداب الضيق يعطي سكان القصر طمأنينة وأماناً باعتباره غير مكشوف تماماً. ويبقى فضاء القصر أو المسكن في بنيته "على علاقة مستمرة مع واقعه الاجتماعي والسياسي والجغرافي"(20).
ونرى أن ثمة علاقة واضحة تربط بين هندسة المدينة وتخطيطها وترتيب قصورها، وبين النظم الاجتماعية السائدة في هذه المدينة.
--------------
الهوامش والمراجع
(1) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب: تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة المُلك. المركز الإسلامي للبحوث، بيروت، ص 210.
(2) ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ، 1/15.
(3) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، "مقدمة ابن خلدون"، تحقيق د.علي عبد الواحد وافي، طبع لجنة البيان العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1960م، 3/881.
(4) القلماوي، د.سهير: ألف ليلة وليلة، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، دون تاريخ، ص 223-224.
(5) للاطلاع على نماذج هذه المدن وعادات شعوبها، ينظر: ألف ليلة وليلة، المكتبة الشعبية للطباعة والنشر، بيروت، دون تاريخ، الجزء الثالث من ص 299 إلى ص 328.
(6) فراي، نورثروب: الماهية والخرافة، ترجمة هيفاء هاشم، مراجعة عبد الكريم ناصيف، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، الطبعة الأولى 1992م، ص 26.
(7) بارت، رولان: لذة النص، ترجمة فؤاد صفا، والحسين سبحان، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988م، ص 20-21.
(8) م ن، ص 21.
(9) ماضي الماضي وحاضر الماضي، مصطلحات من استخدام ت-س- اليوت، في كتاباته النقدية.
(10) إبراهيم، د.سعد الدين: مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد الخامس، العدد الرابع، سبتمبر 1985م، ص 13.
(11) ألف وليلة، طبعة: المكتبة الشعبية، 2/60.
(12) م ن، ص 63.
(13) م ن، ص 65.
(14) المزيد من الاطلاع، تُراجع الحكاية في الجزء الثاني من ص 181 إلى ص 221.
(15) ألف ليلة وليلة، 2/83-84.
(16) ينظر التفاصيل في الجزء الثاني، ص 165.
(17) نستعير مصطلح الفضاء من لغة النقد الروائي، لأن ألف ليلة وليلة يمكن أن تشكل عالماً روائياً خصباً، وعميق الدلالات.
18) ينظر المكيدة التي أعدتها الملكتان بدور وحياة النفوس، لكل من ولدي زوجهما الملك قمر الزمان، الأميرين: الأمجد والأسعد، في المجلد الثاني، من ص 142 إلى ص 145.
(19) مصطفى، د.مشهور: "المسرح وحيز الحريم في ألف ليلة وليلة"، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت/ الهيئة القومية للبحث العلمي، طرابلس (ليبيا)، العددان 17/18، أيلول (سبتمبر)/ كانون الأول (ديسمبر)، 1980م، ص 217.
(20) فيربليو، بول: "حول أزمة المجال"، مجلة العرب والفكر العالمي، ترجمة د.رجاء مكي، مركز الإنماء القومي، بيروت/ باريس، العدد الثاني، ربيع 1988م، ص 115.
المصادر والمراجع
المصادر القديمة
(1) ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ، المجلد الأول والثاني والثالث.
(2) (11) ألف ليلة وليلة، طبعة: المكتبة الشعبية، بيروت، لبنان، دون تاريخ، المجلد الثاني.
(3) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، "مقدمة ابن خلدون"، تحقيق د.علي عبد الواحد وافي، طبع لجنة البيان العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1960م، الجزء الثالث.
(4) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب: تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة المُلك. المركز الإسلامي للبحوث، بيروت، دون تاريخ.
الكتب العربية
(1) القلماوي، د.سهير: ألف ليلة وليلة، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، دون تاريخ.
الكتب الأجنبية المترجمة
(1) بارت، رولان: لذة النص، ترجمة فؤاد صفا، والحسين سبحان، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988م،.
(2) فراي، نورثروب: الماهية والخرافة، ترجمة هيفاء هاشم، مراجعة عبد الكريم ناصيف، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، الطبعة الأولى 1992م.
المجلات والدوريات
(1) إبراهيم، د.سعد الدين: مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد الخامس، العدد الرابع، سبتمبر 1985م.
(2) فيربليو، بول: "حول أزمة المجال"، مجلة العرب والفكر العالمي، ترجمة د.رجاء مكي، مركز الإنماء القومي، بيروت/ باريس، العدد الثاني، ربيع 1988م.
(3) مصطفى، د.مشهور: "المسرح وحيز الحريم في ألف ليلة وليلة"، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت/ الهيئة القومية للبحث العلمي، طرابلس (ليبيا)، العددان 17/18، أيلول (سبتمبر)/ كانون الأول (ديسمبر)، 1980م.
* د. محمد عبد الرحمن يونس
معالم المدينة العربية في ألف ليلة وليلة
فإذا كانت العلاقات التي تتحكم في مدن الليالي علاقات غرائبية سحرية لا تتحقق إلا في الحلم والتخيل والذاكرة، ووفقاً لنسق ميثولوجي خرافي وأسطوري، فإن كثيراً من مدن ألف ليلة وليلة حقائق قائمة بذاتها، فلقد قامت هذه المدن منذ القديم، وعُرِفت، ولا تزال معروفة حتى الآن كبغداد والبصرة والكوفة وخراسان ودمشق وحلب، وصنعاء والاسكندرية، وفاس ومكناس وغيرها، في حين أن مدناً أخرى ذكرتها الليالي كانت غاية في العمران والهندسة المعمارية الفائقة فناً وإبداعاً وتخطيطاً ورقياً، لكننا إذا حاولنا أن نحدد معالمها على الخريطة الجغرافية الحديثة- بعد أن تشكل العالم الجغرافي تشكيلاً جديداً ونهائياً من حيث معالمه وحدوده وبحاره ومحيطاته، وعواصمه ودوله ـ فإننا لن نجد اسماً لهذه المدن، فإما أن تكون قد اضمحلت واندثرت نتيجة لعدم توافر الشروط الطبيعية التي تؤول إلى استمرار هذه المدن، وقد يكون من هذه الشروط وجود المياه ووجود الريف، واعتلال الهواء والتربة، ووجود المراعي كما يرى الماوردي، ففي نظره أنه "إذا تكاملت هذه الشروط في إنشاء المصر استحكمت قواعد تأبيده، ولم يزل إلا بقضاء محتوم.."(1)
وإما أن تكون قد تغيرت أسماؤها بفعل المؤثرات الجغرافية والطبيعية التي تعرضت لها قارات العالم وفق تشكلاتها الجديدة، وإما أن تكون أصلاً مدناً تشكلت مورفولوجياً وجمالياً وفق رؤية السارد الجمالية، عبر عمليات التخيل والحلم، أو عبر المثاقفة الحضارية والفكرية، التي نشأت بين مدن ألف ليلة وليلة، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن شهرزاد امرأة فاقت زمانها ومكانها علماً ومعرفة وأدباً إذ اطلعت على ثقافات الشعوب وعاداتها وتاريخها وأشعارها، وعادات مدنها كما تقول الليالي:
"وكان الوزير لـه بنتان رائعتا الحسن والجمال والبهاء، الكبيرة اسمها شهرزاد والصغيرة اسمها دنيازاد، وكانت الكبيرة قد قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين"(2).
ويبدو أن تعدد مستويات السرد والقص من جهة، وتعدد رؤى السارد من جهة أخرى قدّمت سارداً متميزاً ومبدعاً، استطاع أن يشكل هذا العالم الغرائبي من مدن بعيدة منسية في الصين والسند والهند، وواق الواق وغيرها، فتشكل المدن بهذه السحرية الغرائبية، وفق خرق لبنية الزمان وتاريخيته، وتحطيم لحدود المكان الممكن، أو المكان الواقعي، وإحلال مكان غائب وسحري عصي على التحديد والضبط بدلاً منه، كان عائداً بالدرجة الأولى إلى اطلاع الراوي على كثير من معارف عصره باعتباره عصراً منفتحاً على الثقافة الفارسية والهندية واليونانية والسريانية والهلينية. وإما أن هذه المدن قد تكون تخربت وتهدمت بفعل صيرورة التاريخ نفسه، وحركات الاضطراب والفتن والثورات المعارضة والحروب، وتعرض هذه المدن لأعمال الهدم، وتأسيس مدن جديدة بدلاً منها، وإما أنها انتهت سياسياً بزوال سلطتها وقوة ملكها، لأن: "الأمصار التي تكون كراسي الملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها (وذلك) أن الدولة إذا اختلت وانتقضت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب"(3).
ومن هذه المدن والجزر تلك التي كان يصل إليها السندباد البحري : مدينة القرود، ومدينة الملك المهرجان، ومدينة السلاهطة ومدينة مرزرقان ومدينة شمعون، ومدينة الأبنوس، ومدن أخرى كجوهر تكني والطيرب وجزائر الكافور، ولبطة، وغيرها.
فهذه المدن، ربما يكون السارد قد تخيلها وأضاف إليها مزيداً من السحر والخرافة، والغرائبية، التي من شأنها أن تشد القارئ والمستمع، وتسهم أيضاً في نمو القصة، داخل بنية المكان، وأمكنة أخرى قد تتلاقى مع مكان القصة الذي تحدث عنه هذا السارد.
و"لقد وصل إلى قاص الليالي قصص عن الهند وفارس حاملاً الكثير من مميزات بيئته الأولى، ولكن القاص لم ير الهند ولم ير فارس ولئن رآهما هو، فإن غيره من سامعيه لم يرهما، ولئن رآهما هو فهو بعيد عن أن يلاحظ الفروق الجوهرية بين بيئته وبيئتهما"(4).
ويمكننا أن نقسم مدن ألف ليلة وليلة، بحسب معتقدات شعوبها على المستوى الديني، على الشكل الآتي:
1 - المدن الإسلامية.
2 - المدن المسيحية.
3 - المدن اليهودية.
4 - مدن الكفار والمجوس وعبدة النار وآكلي لحوم البشر.
5 - المدن السحرية المنسوجة من عالم الخيال، وهي مدن الجن وتقسم إلى قسمين:
أ - مدن الجن والعفاريت المؤمنين بالله وهم أتباع النبي سليمان، وهي مدن كثيرة جداً.
ب - مدن الجن الكفرة الخارجة عن طاعة النبي سليمان.
6 - مدن ذات طابع سحري خاص، وهي المدن البحرية، وسكانها يمشون على الماء، وملوكها يسمون ملوك البحار، ولهم قدرات تفوق قدرات البشر العاديين(5). بالإضافة إلى إيمانهم بالله، مع ملاحظة أن جميع هذه المدن باختلاف تشكيلاتها الاجتماعية، وتوجهاتها المذهبية هي مدن موشاة بالسحر والأسطورة والغرابة، لما للأسطورة من أهمية في الأدب والفن، والقصة. لأنها: "هي قوة الإعلام الرئيسة التي تضفي على الشعائر مغزى النموذج الأصلي، وعلى النبوءة صفة النموذج الأصلي للفن القصصي. لذا فإن الأسطورة هي النموذج الأصلي."(6).
وقلما نجد مدينة في ألف ليلة وليلة إلا ولها سحرتها الخاصون، وأساطيرها الخاصة، ومنجموها وفلكيوها، الذين يستشعرون الخطر قبل قدومه، ونساؤها الخبيرات بجميع فنون المكايد والحيل والخديعة، ورجالها الفانون أعمارهم في مجالس الشراب والطرب، وأجساد الجواري، والحروب الطاحنة لتعزيز بطشهم وسلطتهم بعيداً عن أية قوانين أو شرائع إنسانية أو أخلاقية.
مدن ألف ليلة وليلة مدن واقعية عبَر التاريخ منها فارضاً رؤيته وقسوته، وظلامه وضياءه في آن. ومدن وهمية شكّلها راوٍ متشعب الاتجاهات والثقافات، بل رواة من حضارات متعاقبة ومتجاورة زمنياً وتاريخياً.
وسأحاول في هذه الدراسة التركيز على علاقة السلطة بالمواطن في مدن الليالي على المستويين الاجتماعي والطبقي، وبالتالي على مستوى الملكية، ودور هذه الملكية في اغتراب المواطن وإحساسه بالاستلاب والقطيعة بينه وبين مدينته، ودورالسلطة في الليالي، في تهديم العلاقات البشرية الإنسانية، التي تحقق للمواطن توازناً وطمأنينة، وعلى بنية قصور السلطة، ودور المرأة في ترسيخ الحيلة والسحر في هذه القصور، باعتبار أن بنية القصر الداخلية تعكس وضعاً سياسياً وسوسيولوجياً وثقافياً تعيش فيه المدينة، معتمداً بالدرجة الأولى ما يفرزه النص الأدبي، والحكاية من أنظمة فكرية وعلاقات متناقضة تارة ومتداخلة ومعقدة ومنسجمة تارة أخرى، ومستفيداً أيضاً من بعض خلفيات المدينة الإسلامية كما تشير إليها الأدبيات التاريخية.
وإذا كان من المتعارف عليه أن للقراءة نظامين: "قراءة تذهب رأساً إلى مفاصل القصة وتأخذ بعين الاعتبار امتداد النص وتجهل ألاعيب اللغة(...) أما القراءة الأخرى فلا تغفل شيئاً، بل تزن النص وتلتصق به، وتنهمك في عملها بجد وحماس إن صح القول، وتدرك في كل نقطة من النص انقطاعات الوصل التي تقطع اللغات لا القصة"(7). فإني سأكتفي بالقراءة الأولى معتمداً على امتداد النص الأدبي داخل البنية السوسيولوجية والثقافية التي تحكم مدن الليالي، لأن القراءة الثانية تناسب نصاً من مميزاته أنه "النص الحديث، النص- الحد الأقصى"(8).
أما نصوص ألف ليلة وليلة فإن جماليتها تكمن في أنها نصوص خارج الزمان والمكان لكنها من صلبه، إنها ماضي الماضي، وحاضر الماضي(9)، والحاضر والمستقبل وما بعد المستقبل باعتبارها نصوصاً تحمل طاقة تخيلية قصوى.
وإذا كانت القراءة الإيديولوجية للنصوص الأدبية كثيراً ما تعتمد مفاهيم مسبقة ذات أطر إيديولوجية، تجعل النص "خطاب أطروحة" قبل أن يكون خطاباً إبداعياً، وتعمد إلى قسر هامة النص، بدلاً من أن تضيء مكوناته، فإن ثمة نصوصاً في الليالي تفرز بشكل أو بآخر بعض قسمات المنهج الأيديولوجي غير المرغوب فيه، وبالتالي يصعب التخلص نهائياً من إسقاطات "خطاب الأطروحة".
وإن بدا على هذه القراءة بعض ملامح خطاب الأطروحة، فإنه ليس مقصوداً بذاته، بل في قدرته على إضاءة بعض جوانب الليالي العربية والفارسية والهندية هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإيديولوجيا تشكل "نسقاً مترابطاً من المقولات التي تفسر الواقع المعيش وتنطوي في الوقت نفسه على صياغة رؤية مستقبلية لما ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع"(10).
تتحدد المدينة في ألف ليلة وليلة بفضائين سريين وحميمين، فضاء الرجال وفضاء النساء، مدينة الرجال ومدينة النساء، سلطة الرجال وسلطة النساء، ومن خلال بنية هذين الفضائين المكانيين تُفْرَز سياقات فكرية وثقافية تؤدي بدورها إلى سياقات سلطوية أخرى. حضور سلطوي طاغٍ في جميع بنى الحياة السياسية والثقافية والفكرية والدينية، والمدينة غارقة ببؤسها، ومذبوحة من الشريان إلى الوريد داخل هذه الفضاءات السلطوية، إنها تهجع داخل شبكة عنكبوتية من العلاقات السلطوية، والشرائح الاجتماعية المتباينة طبقياً: الخليفة والملك والأمير والجند وسادة القوم، وسيدات القصور، يسنون القوانين ويشرّعونها، ويسوسون بها الرعية، وعامة الناس، أي الطبقة الدنيا، وقلما تكون الطبقة الدنيا في مدن الليالي فاعلة في تشكيل الأنماط الحياتية، بل إن النمط الحياتي والسلطوي هو نمط مهيأ ومتشكل سابقاً. ومقابل طبقة السلطة نجد قطاعات عريضة من عمال وسقائين وحلاقين وبسطاء، ومسحوقين قلما يعرفون شيئاً عن عالم المدينة الداخلي المسحور، عالم شهريار وشهرزاد وقصور الحريم المزخرفة والمزينة بأجمل أنواع الزخارف وبقطيع الجواري.
ومن خلال دراسة بنية قصور الحريم والجواري، سنكتشف جميع أنواع المؤامرات والدسائس والمكايد والفضائح، يسهم في ذلك هذا التخطيط الهندسي المعماري والفني ذو المواصفات السرية والفضاءات المنفتحة على سراديب ودهاليز وستائر ومصاطب وزوايا، والمفتوحة في آن على فضاء خارجي شاسع، وذلك بوساطة باب سري، أو نافذة سرية تربط المرأة بعالم المدينة الخارجي، وبمدن الرجال وعالمهم وسراديبهم، وداخل هذه السراديب والممرات الضيقة تتم عملية التجسس وتحاك المؤامرات والدسائس ضد سلطة الرجال وضد أعرافهم وتقاليدهم وقوانينهم.
ومن داخل سراديب قصور مدن ألف ليلة وليلة تُقام الصلات والعلاقات السرية والمشبوهة بين رجال السلطة وبين الجواري، وبين فضاء الحريم بشكل عام، لأن بنية السلطة باعتبارها تعتمد التملك شعاراً ورؤية، فإنها تعمد إلى عزل النساء داخل قصورهن، ومراقبتهن مراقبة حذرة، ووضع الجواسيس عليهن من الخدم. أما السرداب بالنسبة لبعض رجال القصر، فإنه يشكل بنية جمالية، وفضاء نفسياً ممتعاً، لأنه وسيلة لتسلل الأمير أو قائد الجند، أو الرجال المهمين إلى القصر، وإلى حجرات الجواري بعيداً عن عيون زوجاتهم من الحرائر، وعن عيون السلطان الرجل الأول في القصر، وعموماً فإن تخطيط القصر الهندسي يضمن للأمراء المهمين غرفاً سرية تنفتح بشكل سري على عالم الجواري عن طريق ممرات سرية، وبوابات ضيقة تغطيها الستائر الكثيفة التي تمنع النور، وكثيراً ما تستطيع الجارية الحظيّة عند السلطان أن تُدْخِل عشيقها- حتى ولو كان من خارج سلطة رجال القصر- من هذه الممرات ليقضي ليلة عندها، وعندما تستشعر خطراً فإنها تخفيه في السراديب السرية كما فعلت إحدى جواري الخليفة الرشيد- شمس النهار- مع عشيقها علي بن بكار، وصاحبه- أبي الحسين علي بن طاهر- إذ أدخلتهما سراً " في مقصورة وأجلستهما وإذا بالموائد وُضِعَت قدامهما فأكلا وغسلا أيديهما ثم أحضرت لهما الشراب فشربا ثم أمرتهما بالقيام فقاما معها وأدخلتهما مقصورة أخرى مركبة على أربعة أعمدة وهي مفروشة بأفخر الفراش مزينة بأحسن الزينة"(11).
وفجأة يصل الخليفة أمير المؤمنين الرشيد، فترتعد جارية شمس النهار لمنظر عفيف ومسرور سياف النقمة، وبخبرة المرأة المجربة لدهاليز القصر وخباياه، العارفة كيف تتعامل مع رجال سلطة القصر، تُطمْئن شمس النهار ضيوفها، يقول الراوي: "فضحكت شمس النهار وقالت لا تخافوا ثم قالت ردي عليهم الجواب بقدر ما نتحول من هذا المكان ثم أنها أمرت بغلق باب القبة وإرخاء الستور على أبوابها وهم فيها وأغلقت باب القاعة ثم خرجت إلى البستان وجلست على سريرها"(12).
تنصرف شمس النهار إلى استقبال الخليفة ومنادمته، بينما تنهمك الجارية في إخراج علي بن بكار من دهاليز القصر يساعدها أبو الحسن- صديقه-: "ونزلا به من على الروشن ومشيا قليلاً ثم فتحت الجارية باباً صغيراً وأخرجت أبا الحسن هو و"علي بن بكار" على مصطبة ثم صفّقت الجارية بيدها فجاء زورق فيه إنسان يجدف فأطلعتهما الجارية في الزورق"(13).
ونلاحظ أن فضاء القصر وبنية حجرات الجواري، وزخرفتها وتنميقها بشكل جمالي ومدهش، تساعد المرأة الحظية على ممارسة سلطتها وسيادتها على من دونها من العبيد والجواري الذين لا يملكون مثل هذه الحجرات- المقصورات- بالإضافة إلى أن هذه الحظية تستمد سلطتها من سلطة رجل قوي يتموضع بشكل مهم في نسق السلطة، وعندما تعي الجواري والعبيد أن السيدة الحظية لها علاقة متينة بالسلطة فإنهم يخضعون لها ويخشونها، ولا يتم التخلص من سطوتها إلا بمكيدة تطيح بها من قبل رجل مهم ذي سلطة نافذة تفوق سلطة الرجل- صاحب العلاقة معها- فيغضب الرجل الأول وينفي الثاني وجاريته، أو يقتل الثاني ويمتلك جاريته، كما في حكاية "علاء الدين أبو الشامات"(14). صراع سلطوي مرير حاقد، هدفه الأول المال والجواري والبساتين والمتاجر والأسواق، وتبقى الرعية تعايش مدناً مستلبة يعربد فيها القتل والفقر والجوع وذلّ الحاجة.
وتزداد سلطة نساء ألف ليلة وليلة في قصورهن بقدرتهن على إسعاد الأمراء وتغييبهم عن بنيات الزمان والمكان، وعن المدينة وهمومها ومآسيها.
إن جسد الجارية هو المعادل الموضوعي لهموم السلطة وخيباتها، وقطيعتها الإنسانية بينها وبين أفراد شعبها. ومن داخل مخبأ الجارية الضيق بجدرانه، الفسيح بطنافسه وزخارفه،وجماليات ألوانه وتخطيطها تخطيطاً زخرفياً جمالياً ومثيراً، تستمدّ هذه الجارية سلطتها الطاغية على علية القوم. ومن هنا سنلاحظ أن الجارية ستعتمد ظاهرياً الوقاروالحشمة والتعفف، والكبرياء الزائف، والرصانة والاستعلاء على العبيد والجواري دونها، وفرض علاقات تفتقر إلى أي شرط إنساني وأخلاقي بينها وبين عبيدها وجواريها، لأنها تعتقد أن هذه العلاقة السلطوية المشوهة هي التي تحميها من مكايد العبيد وحسد الجواري فتعمد ما أمكنها إلى تقليص العلاقة وإلغاء الحوار بينها وبين عبيدها وجواريها، إلا ما كان منه توجيه أمر أو سلطة أو توبيخ على تقصير أو ما شابه ذلك. إن اعتمادها على هذه الشرنقة وتقوقعها داخلها يعطيها- ظاهرياً- سلطة على من حولها من عبيد و جوار، في حين أنّ هؤلاء يظلّون يفكرون كيف تسقط سيدتهم في فخ المكيدة والحيلة. وحتى تتعزز سلطة الجارية الحظيّة لا بد أن تكون حذرة حين لقاءاتها السرية مع قادة القصر وأمرائه.
وإذا كانت القطيعة الإنسانية هي النسق السائد بين الحاكم والمحكوم في فضاء القصر العام الخارجي، باعتبار القطيعة بؤرة حقيقية لتجسيد سلوك السلطة وسيادتها وفرض هيبتها ووقارها، فإنه حينما يغيب هذا الفضاء الخارجي تفقد السلطة وقارها، ويبدأ ألق الفضاء الداخلي، فضاء المقصورات السري، القادر على إثارة الأمير أو القائد وإذلاله بفعل سلطة الجسد بروائحه وعطوره وتشكلاته.
ومن هذا الفضاء الداخلي الحميمي تُبنى مدن ألف ليلة وليلة، بتشكيلاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكم من جارية كانت سبباً في عزل قائد، وتنصيب آخر، أو إغلاق متجر أو إشادة قصر، أو هدم قصر، ومع ذلك وعلى الرغم من سرية الجارية وتحصينها نفسها بغرض العلاقة الاستلابية بينها وبين عبيدها، فإن العبيد والجواري يشكلون دائماً حالة رعب وقلق بالنسبة لسيداتهم، فهم يعرفون خبايا القصر، ويعرفون جميع ما يدور في هذه الدهاليز والممرات السرية والفجوات التي تنقل الجارية من فضائها الداخلي إلى فضاء القصر والسلطة والمدينة.
فعندما تخرج شمس النهار خارج القصر من الممرات السرية وتلتقي بعلي بن بكار في منزل صديقه- أبي الحسن علي بن طاهر- سرعان ما يصل الخبر إلى رجل مهم في القصر، بوساطة وصيفة شمس النهار، لأن شمس النهار ضربتها، ثم يصل الخبر إلى الخليفة وفق منطق التجسس السلطوي، فيأمر بنقل شمس النهار وجميع مالها إلى قلب دار الخلافة ويوكل عشرين خادماً لخدمتها وحراستها(15). ولأن شمس النهار أهم الحظايا عند الخليفة، فإنه يغفر لها ويعفو عنها. وكلما زادت سلطة الجارية فرضت عبيداً مشوهين لا هم لهم إلا التجسس وإشعال نار المؤامرة، والطاعة العمياء ظاهرياً، وتأكيد المكيدة والدسيسة سراً.
إن محاولة السلطة في مدن ألف ليلة وليلة لتعطيل العلاقات الإنسانية في جوهرها الأخلاقي خَلقَ ضمائر مهزومة قابلة لأن تُشرى وتباع لمن يدفع أكثر، وفرض مستويات طبقية متباينة وفقراً وبطالة، وتشويهاً داخل البنية الثقافية والسوسيولوجية لهذه المدن، بالإضافة إلى سلطة المال ودورها في تخريب القيم والنفوس، وتعطيل قوانين الدولة وأنظمتها. وإن بدا الخليفة قوياً ومتماسكاً باعتباره رمزاً للسلطتين الدينية والسياسية، ترفده في ذلك أملاكه وقصوره، وجلاوزته وموقعه المالي المتميز، فهو أغنى رجال المملكة - باستثناءات طفيفة جداً- على مستوى القطاعات التجارية والزراعية والاقتصادية، فإن وضعه هذا لم يحقق له الطمأنينة والانسجام مع نفسه ومع مدينته وشعبه، فابتعد عن الشعب وسلمه لمجموعة من القادة والأمراء العسكريين القساة والظلمة يعيثون فيه فساداً وترفاً، وسرقة للأموال والنساء التي يقدّمون بعضها هبات ورشاوى للخليفة، أو لمن هو أكثر سلطة منهم(16). ومن هنا نفهم سر حفلات السكر والعربدة التي يقيمها الملوك والأمراء من المساء إلى الصباح، حتى إن مجالس هؤلاء كانت تضم مئات الجواري والعبيد الذين عُطّلت طاقاتهم، وانحصرت في هزّ الأجساد، وتقديم كؤوس الشراب للأمير ولندمائه، ونفهم أيضاً سر ظهور طبقة مسحوقة باطلة جائعة لجأت إلى قوت يومها بالفتوة والسرقة وقطع الطرق، والقتل، ولجوء طبقة أخرى مالت إلى الزهد والتقشف والهروب من هذا الفساد المستشري، ولجوء طبقة أخرى إلى امتهان التسول وإتقان فنونه، وظهور طبقة الجواري العابثات في فنون اللذة وطرقها تمهيداً لكسب المال، والنفوذ إلى قصور السلطة.
لقد كانت العلاقة القائمة بين سلطة شهريار ومدينته علاقة نفور وحقد على شعبه ومدينته، دمرت بنيان روحه إنسانياً، و لقد صارت المدينة خيانة وظلاماً وكابوساً عندما شاهد زوجته وجواريه وعبيده في حفل عربيدي صاخب تُطاح فيه كل قوانين السلطة وشرائعها ومحرماتها، وهو المالك والآمر والناهي، ولا يملك سلطة على أعز المقربين منه- زوجته-، فما كان منه إلا أن أطاح بها. صار فضاء القصر الحميمي بالنسبة إليه فضاءً قاتماً، ولأول مرة يكتشف ما يجري في دهاليز قصره وممراته، وفسحاته. ومن فسحة الرؤية ظل مدهوشاً أمام البنيات الجديدة التي تكشفت له. لم يعد هناك فضاء محرم بين عبيد القصر ونسائه، كل ما كان يجري في السراديب والدهاليز صار مكشوفاً، وارتفعت الستائر، وانفتحت الأبواب السرية، فبدت الحقيقة فاجعة، وازداد الشرخ بين سلطته المنتهكة ومدينته، فصارت المدينة بؤرة مظلمة بفضاءاتها وقصورها ونسائها ورجالها، فما كان منه إلا أن بدأ ينتقم منها ببشاعة مريرة، وأبشع ما كان هذا التدمير كان بإحلال الرعب السلطوي فيها، واختياره كل ليلة فتاة عذراء، ثم اجتثاثه لروحها في الليلة نفسها.
وبالرغم من فضاء القصر المحدود(17) في الليالي، إلا أنه يمكن أن يتسع ليصبح فضاء جميع الأمكنة السياسية والاجتماعية في مدن الليالي، ومن أهم مميزات هذا الفضاء أنه فضاء للنساء والجواري، وتمارس فيه المرأة سلطة لا حدود لها على الأمير أو الملك من خلال جسدها، وكثيراً ما يؤرق هذا الجسد الأمير فيصيح بالزمان والتاريخ والمملكة: أن هاتوا لي الجارية الفلانية وإلا هدمت المدينة على رؤوسكم. للجارية هذا التأثير السحري العجيب على قرارات الملك، فكثيراً ما تكون سبباً لطمأنينة المدينة كشهرزاد، التي أضفت حالة سلام مؤقتة على مدينتها وعلى نسائها، وكثيراً ما تكون سبباً لشقائها وبلائها، وبسلطتها ومكيدتها يتم عزل الأمراء أو تقريبهم، وقتل الأبناء أو نفيهم.(18)
في فضاء القصر ثمة سلطتان: للملوك والسلاطين والأمراء وللنساء والجواري والسراري. فسلطة النساء والجواري "مستقلة عن وظيفة السلطة "سلطة الملك" الكبيرة ومتداخلة فيها، مستقلة داخل "حيِّز الحريم" لا يتدخل بها أحد من الخارج ومتداخلة مع السلطة التي هي خارج "حيّز الحريم" ما دام "حيّز الحريم" محجوباً مغلقاً، وليس مكشوفاً أمام عين السلطة "سلطة الملك أو الخليفة". إن المسافة كانت كبيرة فيما بين الحريم والرجال في القصر من حيث الدور الذي كان يؤديه كل فريق . "حيّز "الحريم" مقصود دائماً من قبل الرجال، من هذا المنطلق، فإنه لا ينتقل من مكانه في القصة، كون "الحريم" لا يأتين بل يُؤتى إليهن، ولا يقصدن أحداً، بل يقصدهن الآخرون، هنا يمارس "حيّز الحريم" سلطته وحيث دوره الفعلي يبقى في "الكواليس"، وسلطته هي وراء الستائر، ولا سلطة له في "المكان المكشوف".
ونرى في المقابل أن قصر الخليفة مثلاً له بعد أكبر من كونه بعداً لقناطر كبيرة لها شكلها الجمالي والزخرفي. وفي ديوانه ليس له فقط هيبة "السلطة الذكرية" و"حضرة السلطان"، بل إنه يتعدى ذلك ليصل "مقصورة الحريم"، أو "حيّز الحريم"، ومن فعالية سلطة "حيز الحريم" عندما يكون محجوباً، أن للزينة والعطور والملابس الحريرية المزركشة، بعداً آخر غير مرئي في القصة، لأن رائحة أجساد الجواري تبتلع روائح عطورهن وتخترق الأثواب والجدران. تمزق الحجب، فتصل أنف الخليفة وأنوف أهل الديوان"(19).
وبالرغم من سلطة الرجال في الليالي وقوة بطشها، فإن الجارية كثيراً ما كانت تخرج من فضاء القصر لتلتقي بعشاق لها خارج أسواره، في سوق التجار، وفيلاتهم الفخمة، و في البساتين البعيدة عن المدينة المركز. وكثيراً ما كانت تجلب عشاقها إلى مقصورتها داخل القصر نفسه عن طريق الممرات السرية والسراديب التي ذكرناها سابقاً. إن وظيفة السراديب السرية التي تربط القصر بالمدينة جد مهمة، فتخطيطها الهندسي يقوم وفق وظيفة اجتماعية ونفسية حددتها بنية المدينة نفسها، وعلاقاتها وقيمها.
ويبدو أن السرداب الضيق يعطي سكان القصر طمأنينة وأماناً باعتباره غير مكشوف تماماً. ويبقى فضاء القصر أو المسكن في بنيته "على علاقة مستمرة مع واقعه الاجتماعي والسياسي والجغرافي"(20).
ونرى أن ثمة علاقة واضحة تربط بين هندسة المدينة وتخطيطها وترتيب قصورها، وبين النظم الاجتماعية السائدة في هذه المدينة.
--------------
الهوامش والمراجع
(1) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب: تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة المُلك. المركز الإسلامي للبحوث، بيروت، ص 210.
(2) ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ، 1/15.
(3) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، "مقدمة ابن خلدون"، تحقيق د.علي عبد الواحد وافي، طبع لجنة البيان العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1960م، 3/881.
(4) القلماوي، د.سهير: ألف ليلة وليلة، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، دون تاريخ، ص 223-224.
(5) للاطلاع على نماذج هذه المدن وعادات شعوبها، ينظر: ألف ليلة وليلة، المكتبة الشعبية للطباعة والنشر، بيروت، دون تاريخ، الجزء الثالث من ص 299 إلى ص 328.
(6) فراي، نورثروب: الماهية والخرافة، ترجمة هيفاء هاشم، مراجعة عبد الكريم ناصيف، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، الطبعة الأولى 1992م، ص 26.
(7) بارت، رولان: لذة النص، ترجمة فؤاد صفا، والحسين سبحان، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988م، ص 20-21.
(8) م ن، ص 21.
(9) ماضي الماضي وحاضر الماضي، مصطلحات من استخدام ت-س- اليوت، في كتاباته النقدية.
(10) إبراهيم، د.سعد الدين: مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد الخامس، العدد الرابع، سبتمبر 1985م، ص 13.
(11) ألف وليلة، طبعة: المكتبة الشعبية، 2/60.
(12) م ن، ص 63.
(13) م ن، ص 65.
(14) المزيد من الاطلاع، تُراجع الحكاية في الجزء الثاني من ص 181 إلى ص 221.
(15) ألف ليلة وليلة، 2/83-84.
(16) ينظر التفاصيل في الجزء الثاني، ص 165.
(17) نستعير مصطلح الفضاء من لغة النقد الروائي، لأن ألف ليلة وليلة يمكن أن تشكل عالماً روائياً خصباً، وعميق الدلالات.
18) ينظر المكيدة التي أعدتها الملكتان بدور وحياة النفوس، لكل من ولدي زوجهما الملك قمر الزمان، الأميرين: الأمجد والأسعد، في المجلد الثاني، من ص 142 إلى ص 145.
(19) مصطفى، د.مشهور: "المسرح وحيز الحريم في ألف ليلة وليلة"، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت/ الهيئة القومية للبحث العلمي، طرابلس (ليبيا)، العددان 17/18، أيلول (سبتمبر)/ كانون الأول (ديسمبر)، 1980م، ص 217.
(20) فيربليو، بول: "حول أزمة المجال"، مجلة العرب والفكر العالمي، ترجمة د.رجاء مكي، مركز الإنماء القومي، بيروت/ باريس، العدد الثاني، ربيع 1988م، ص 115.
المصادر والمراجع
المصادر القديمة
(1) ألف ليلة وليلة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ، المجلد الأول والثاني والثالث.
(2) (11) ألف ليلة وليلة، طبعة: المكتبة الشعبية، بيروت، لبنان، دون تاريخ، المجلد الثاني.
(3) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، "مقدمة ابن خلدون"، تحقيق د.علي عبد الواحد وافي، طبع لجنة البيان العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1960م، الجزء الثالث.
(4) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب: تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة المُلك. المركز الإسلامي للبحوث، بيروت، دون تاريخ.
الكتب العربية
(1) القلماوي، د.سهير: ألف ليلة وليلة، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، دون تاريخ.
الكتب الأجنبية المترجمة
(1) بارت، رولان: لذة النص، ترجمة فؤاد صفا، والحسين سبحان، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988م،.
(2) فراي، نورثروب: الماهية والخرافة، ترجمة هيفاء هاشم، مراجعة عبد الكريم ناصيف، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، الطبعة الأولى 1992م.
المجلات والدوريات
(1) إبراهيم، د.سعد الدين: مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد الخامس، العدد الرابع، سبتمبر 1985م.
(2) فيربليو، بول: "حول أزمة المجال"، مجلة العرب والفكر العالمي، ترجمة د.رجاء مكي، مركز الإنماء القومي، بيروت/ باريس، العدد الثاني، ربيع 1988م.
(3) مصطفى، د.مشهور: "المسرح وحيز الحريم في ألف ليلة وليلة"، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت/ الهيئة القومية للبحث العلمي، طرابلس (ليبيا)، العددان 17/18، أيلول (سبتمبر)/ كانون الأول (ديسمبر)، 1980م.
* د. محمد عبد الرحمن يونس
معالم المدينة العربية في ألف ليلة وليلة