نقوس المهدي
كاتب
[ 1 ]
ليست نساء السلطة في ألف ليلة وليلة مستبدّات طاغيات فحسب، بل يوجد فيهنّ الزواني اللواتي يخنّ أزواجهنّ كلّما سنحت لهنّ الفرصة بذلك، فهنّ يخطّطن لهذه الخيانة ويحتلن علي أزواجهنّ ليذهبن إلي عشّاقهنّ، وبخاصّة إذا كانت هاته النسوة مُتَخَيلات، وغير معروفات في الواقع التاريخي، مع العلم أنّ هؤلاء الأزواج، كما يصوّرهم الرواة، أوفياء لهنّ، ومؤمنون تقاة في بعض الأحيان. ففي حكاية «الحشّاش مع زوجة أحد الأكابر»، يصوّر الراوي زوجة أحد الرجال المهمّين في حقل السلطة، بصورة المرأة الزانية التي تنتقم من زوجها شرّ انتقام، لأنّها ضبطته يزني بإحدي جواريها، إذ أقسمت يميناً بأنّها ستنتقم منه، وتزني مع أقذر الناس وأحطّهم منزلة. تقول المرأة: «اتّفق أنّني كنت أنا وإياه قاعدين في الجنينة داخل البيت، وإذا هو قد قام من جانبي وغاب عنّي ساعة طويلة، فاستبطأته، فقلت في نفسي لعلّه يكون في بيت الخلاء، فنهضت إلي بيت الخلاء، فلم أجده، فدخلت المطبخ فرأيت جارية فسألتها عنه فأرتني إياه وهو راقد مع جارية من جواري المطبخ، فعند ذلك حلفت يميناً مغلظة أنّني لا بدّ أن أزني مع أوسخ الناس وأقذرهم». عندها تخرج المرأة بصحبة خدمها وحرّاسها ليجوسوا خلال الشوارع والأزقّة باحثين عن طلب المرأة وما إن يشاهدها الناس حتّي يفرّوا مذعورين من بطشها. يقول الحشّاش: «فوجدت الناس هاربين، فقال واحد منهم: ادخل هذا الزقاق لئلاّ يقتلوك. فقلت: ما للنّاس هاربين؟ فقال لي واحد من الخدم: هذا حريم لبعض الأكابر. وصار الخدم ينحّون الناس من الطريق قدّامها، ويضربون جميع الناس ولا يبالون بأحد».
ويمكن أن يتساءل متلقّي الحكاية: طالما أنّ المرأة السلطوية تخرج باحثة عن رجل وسخ لتزني به، انتقاماً من زوجها الزاني، فما ذنب هذا القطاع العريض من الناس الذي يتجوّل في الشوارع باحثاً عن لقمة عيشه، حتّي يبتعد مذعوراً عن طريق هذه المرأة المستبدّة، وحتّي يهان ويضرب، من دون أن يرتكب أي ذنب؟. يبدو أنّ المستبدّين والطغاة في ألف ليلة وليلة، رجالاً ونساءً، كانوا يجدون لذّة في تعذيب الناس وقهرهم، وكان يحسّون بالرضي يملأ نفوسهم، وهم يشاهدون الناس البسطاء يفرّون مذعورين أمامهم، ويبدو أنّ هذا الفرار كان يعزّز لديهم هذا الغرور الأحمق بعظمتهم ومكانتهم السلطوية. فالاستبداد يضعف الأخلاق الحسنة أو يفسدها أو يمحوها. ومن هنا فإنّ المستبدّ الذي تضعف أخلاقه أو تفسد، لا يهمّه إن أُهين شعبه، أو قُهِر جرّاء أفعاله الاستبدادية. فالمرأة المستبدّة زوجة لأحد رجال السلطة المهمّين، وقد سمحت لخدمها بضرب جميع من يمشي في الشارع الذي تمشي فيه، وأمرت خدمها أن يهينوا الحشّاش، ويربطوه، ويأخذوه عنوة إلي منزلها: «وإذا بالطواشي جاء إلي وقبض علي، فتهاربت الناس. وإذا بطواشي آخر أخذ حماري ومضي به. ثمّ جاء الطواشي وربطني بحبله وجرّني خلفه، وأنا لم أعرف ما الخبر، والناس من خلفنا يصيحون ويقولون: ما يحلّ من الله، هذا رجل حشّاش فقير الحال ما سبب ربطه بالحبال؟».
وقد يكون راوي الحكاية السابقة أضفي علي سلوك المرأة نوعاً من الغرائبية والتخيل، قاصداً بذلك إثبات أيديولوجيته المعادية لاستبداد نساء السلطة في ألف ليلة وليلة، لكن كاتب هذه الدراسة يدرس فعل السلطة، لا باعتباره فعلاً سحرياً وأسطورياً، بل باعتباره فعلاً يمكن أن يتحقّق في بنية الزمان والمكان، التاريخي والواقعي، لأنّ الإشارات التاريخية الكثيرة لممارسات السلطة من اضطهاد وتعسّف وقهر لشعوبها في العصور، تثبت أنّ ما ورد في ألف ليلة وليلة من ممارسات سلطوية استبدادية يمكن أن يكون له خلفية تاريخية ذات علاقة بواقع معيش عاصره الراوي، بعلاقاته السياسية والاجتماعية، واستفاد منه في تشكيل حكايته. فـ «قصص ألف ليلة وليلة تنبع أحداثها من حاجات المجتمع وترسم وقائعها من خلال المتطلّبات التي حدّدتها الحاجات (...) وهذا يعني أنّ نشأة القصص هذه مرتبطة بنشأة الشعب العربي، وموصولة بأحداثه التي عاصرها (...) وبإنسانه الذي كان مدار هذه القصص وبطل تلك الحكايات والأمثال». علي حدّ تعبير الدكتور نوري حمود القيسي.
وحتّي لا تحنَث المرأة السلطوية باليمين التي قطعتها علي نفسها، فإنّها قادت الحشّاش مربوطاً، مجروراً إلي قصرها، وأدخلته الحمّام، وألبسته أجمل الملابس الفاخرة، وأمرت جواريها أن يرششنه بماء الورد تمهيداً لتحقيق فعل الزني، والانتقام من زوجها: «ثمّ بعد ذلك أشارت إلي بعض الجواري أن يفرشن لنا في مكان، ففرشن في المكان الذي أمرت به. ثمّ قامت وأخذت بيدي إلي ذلك المكان المفروش ونامت ونمت معها إلي الصباح، وكنت كلّما ضممتها إلي صدري أشمّ منها رائحة المسك والطيب، وما أعتقد إلاّ أنّي في الجنّة أو أنّي أحلم في المنام». فالمرأة السلطوية تزني بالحشّاش القذر تحدّياً لزوجها وانتقاماً منه، لأنّها تعي أنّ وضعها السلطوي يحميها، وأنّها قادرة علي أن تمارس هذا الفعل بكلّ جرأة، لأنّها واثقة من قدراتها علي إخفاء الحشّاش في مخابئ القصر، إذا ما داهمها زوجها، وهي واثقة من قدرة جواريها المقرّبات علي الاحتيال، والإسراع بنجدتها إذا ما حضر زوجها بشكل مفاجئ: «فبينما أنا نائم عندها ليلة ثامن يوم وإذا بجارية دخلت وهي تجري وقالت لي: قم اطلع إلي هذه الطبقة فطلعت في تلك الطبقة».
ويبدو أنّ المرأة السلطوية ـ التي لا يذكر الراوي اسماً لهاـ اعتقدت أنّها لا تنتقم من زوجها، أو تستردّ كرامتها إذا رقدت مع الحشّاش ليلة واحدة، بل إنّها أسرفت في الانتقام منه، واستمرأت النوم مع الحشّاش، ولثماني ليالٍ متواصلة كما يشير الراوي. وإذا كان زوجها السلطوي قد سلك مسلكاً فاسداً، ومارس فعل الزني فإنّها بزّته، وتمادت في طريق الفساد، ولم تكتف بذلك فحسب، بل أذلّته بسطوة جسدها الجميل، وجعلته يقبّل الأرض بين يديها، عندها صفحت عنه، وسمحت له ثانية بامتلاك هذا الجسد. يقول الراوي: «فتقدّم (الزوج) إلي الباب وترجّل ودخل القاعة، فرآها قاعدة علي السرير، فقبّل الأرض بين يديها ثمّ تقدّم وقبّل يدها فلم تكلّمه، فما برح يخضع لها حتّي صالحها ونام عندها تلك اللّيلة».
لم يشأ راوي الحكاية أن يجعل المرأة السلطوية والرجل زوجها، غارقين في الفساد علي قدم المساواة، وذلك بأن يرتكبا فعل الزني، ويناما مع الشريك الزاني، وبعدد الليالي نفسها التي تمّ بها هذا الفعل، بل جعل المرأة تفوق الرجل في هذا الفعل بسبع ليالٍ، لأنّ هذا الراوي محكوم بأيديولوجيا رجولية تعتقد أنّ المرأة أكثر فساداً وفسقاً من الرجل، وأنّها أكثر جرأة، وإقداماً علي ارتكاب المعاصي من الرجل، لأنّ شهوتها الجنسية تفوق شهوة الرجّال، وفق هذه الأيديولوجيا الرجولية، ولأنّ هذه الشهوة عند النساء متأجّجة، ولا تستطيع ضبطها، فإنّها تلجأ إلي إشباعها بطريقة شاذة مع الحيوانات الأليفة كالدّب والقرد، كما في حكايتي: «وردان الجزّار»، و«داء غلبة الشهوة عند النساء»، أو بطريقة سحاقية كما في حكاية «عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان»، إذ تبدو المرأة العجوز السلطوية، شواهي ذات الدّواهي ولعة بسحاق جواري ولدها الملك، فقد كانت تقيم «عند ولدها حردوب ملك الروم لأجل الجواري الأبكار، لأنّها كانت تحبّ السحاق، وإن تأخّر عنها تكون في انمحاق، وكلّ جارية أعجبتها تعلّمها الحكمة، وتسحق عليها الزعفران فيغشي عليها من فرط اللذّة مدة من الزمان، فمن طاوعتها أحسنت إليها ورغّبت ولدها فيها، ومن لا تطاوعها تتحايل علي هلاكها وكانت ترغّب من تساحقها بالجواهر والتعليم».
ووفق الأيديولوجيا الرجولية المعادية للمرأة، تبدو المرأة ـ سواء أكانت سلطوية أم غير سلطوية ـ جريئة ومقدامة، وقادرة علي ارتكاب المعاصي والفجور أكثر من الرجال، ومن هنا فإنّه لا عاصم يعصم هذه المرأة من ارتكاب الموبقات، إلاّ إيمانها وخوفها من الله سبحانه وتعالي، وإن انتفي هذا الإيمان، فإنّها ستفعل ما تريده علي الرغم من كلّ سلطات الذكور، ومن كلّ الحواجز المحصّنة التي يحاصرونها بها، ويسجنونها داخلها، وهذا ما تشير إليه الأيديولوجيا الرجولية في الحكاية الأولي من حكايات ألف ليلة وليلة: حكاية «الملك شهريار وأخيه شاه زمان».
ولقد عمد معظم رواة ألف ليلة وليلة، من خلال تصويرهم لمواقف نساء الليالي، وسلوكهنّ إلي تأكيد هذه الرؤية الأيديولوجية: «إنّ المرأة إذا أرادت أمراً لم يغلبها شيء». ويبدو أنّ هذه الرؤية مستمدّة من الخلفيات المرجعية التاريخية التي اطّلع عليها الرجال، ومن ثمّ آمنوا بها، وكرّسوها في مدنهم، وفي علاقاتهم الإنسانية مع نسائهم وأخواتهم وبناتهم ونساء عصرهم، والتي تؤكّد دونية المرأة، وعدم الثقة بها، وتهالكها علي ارتكاب المعاصي.
إنّ حياة الفسق التي ينغمس فيها مجتمع السلطة تجعل أفراد هذا المجتمع عاجزين عن ممارسة السيطرة الضرورية علي ذواتهم التي تنجرف في ملاحقة العلاقات الجنسية غير الشرعية وطلبها، وإذ يبحث المرء في الزني عن العلاقات الجنسية غير الزوجية التي هي أكثر ما تتنافي مع القانون، فإنّه يكون قد دخل ضمن علاقات جنسية تُعدّ بحدّ ذاتها مخزية وناشئة عن الفسق. ومن هنا، فإنّ زني المرأة السلطوية بالحشّاش في حكاية «الحشّاش مع حريم أحد الأكابر»، كان نتيجة علاقات الفسق والفساد التي سادت في قصور ألف ليلة وليلة، والتي انغمس فيها كبار القوم من جهة، وهو في بنيته العميقة يشير إلي فساد متأصّل في طوية هذه المرأة وسلوكها وقيمها التي تربّت عليها في مجتمع سلطوي ثري مستبدّ محاط بالأبّهة والخدم، لا يأبه بالمواضعات الأخلاقية، ولا يهمّه إن غرق أعيانه في حياة قوامها الانحلال والفساد، أو بثّ الرعب في نفوس مواطنيهم، وإجبارهم علي تحقيق نزواتهم من جهة ثانية. ولو كان فعل الزني مجرّد انتقامٍ من الزوج السلطوي فحسب، لاكتفت المرأة السلطوية بالمبيت مع الحشّاش مرّة واحدة بدلاً من ثماني ليالٍ، ولا سيما أنّ الزوج مارس فعل الزني مع جارية المطبخ مرّة واحدة. أمّا المرأة فقد استمرأت هذا الفعل مع الحشّاش، لأنّه لم يعد أقذر رجل في المدينة بعد أن أدخلته حمّام قصرها، وأمرت جواريها بتنظيفه وتدليكه، وتضميخه بماء الورد، وإلباسه أجمل الملابس.
وليست هذه المرأة ـ زوجة أحد الأكابر ـ في حكاية «الحشّاش مع حريم أحد الأكابر»، هي المرأة السلطوية الوحيدة في حكايات ألف ليلة وليلة، التي تمارس فعل الزني مع الرجال القذرين، والأدني منها طبقة اجتماعية، بل هناك نساء سلطويات ـ زوجات وبنات ملوك ـ أسوأ منها بكثير، ومنهنّ زوجة أحد الملوك الكبار التي تخون زوجها الملك يومياً علي الرغم من حبّه ووفائه الشديدين لها، وسلوكه العفيف مع نساء مجتمعه وجواري قصره، كما تشير حكاية «الشاب مع الملك والأسماك الملوّنة» الداخلة ضمن حكاية «الصياد والعفريت». فقد تزوّجت هذه المرأة ـ لا يذكر الراوي اسماً لها ـ ابن عمّها صاحب الجزائر السود، وكانت تحبّه محبّة عظيمة، بحيث إذا غاب عنها لا تأكل ولا تشرب حتّي تراه، لكنّها صارت فيما بعد تكرهه وتقع في حبّ جديد ـ مثلها مثل معظم نساء ألف ليلة وليلة ـ وعندما يأتي كلّ مساء تضع بنجاً في قدح شرابه، وترتدي أجمل ملابسها، وتخرج لملاقاة عشيقها. يقول الراوي: «وإذا بها تقول: نم ليلتك (....) والله كرهتك وكرهت صورتك وملّت نفسي من عشرتك، ثمّ قامت ولبست أفخر ثيابها وتبخّرت وتقلّدت سيفاً وفتحت باب القصر».
و ذات ليلة يتظاهر الملك بالنوم أمام جاريتين من جواريه اللّتين تدلّكانه، ويكتشف من حديث الجاريتين خيانة زوجته له: «فسمعت التي عند رأسي تقول للَّتي عند رجلي يا مسعودة إنّ سيدنا مسكين شبابه ويا خسارته مع سيدتنا الخبيثة الخاطئة. قالت الأخري: (....) ولكنّ مثل سيدنا وأخلاقه لا يصلح لهذه الزانية التي كلّ ليلة تبيت في غير فراشه.فقالت التي عند رأسي: إنّ سيدنا مغفّل حيث لم يسأل عنها. فقالت الأخري: ويلك وهل عند سيدنا علم بحالها أو هي تفعل ذلك باختياره؟ بل هي تعمل له عملاً في قدح الشراب الذي يشربه كلّ ليلة قبل المنام، فتضع فيه البنج فينام ولا يشعر بما يجري ولا يعلم أين تذهب ولا ماذا تصنع».
وعندما يكتشف الملك سرّ نومه الثقيل، يمتنع في إحدي الليالي عن شراب كأسه المخدِّر، ويراوغ زوجته، ثمّ يدلق كأسه أرضاً، ويتظاهر بالنوم، فتقوم الزوجة كعادتها بارتداء أفخر ملابسها والخروج قاصدة عشيقها العبد الأسود، فينهض مسرعاً ويتبعها شاقّاً أسواق المدينة، وعندما تصل زوجته إلي عشيقها تنكشف الحقيقة المؤلمة أمامه، فيغيب عن الوجود، ويصير الضياء في وجهه ظلاماً بمفردات رواة ألف ليلة وليلة. يقول الراوي:
« وإذا بها قد دخلت علي عبد أسود فقبّلت الأرض بين يديه، فرفع ذلك العبد رأسه وقال لها: ويلك ما سبب قعودك إلي هذه الساعة؟ كان عندنا السود وشربوا الشراب وسار كلّ واحد بعشيقته وأنا ما رضيت أن أشرب! فقالت: يا سيدي وحبيب قلبي أما تعلم أنّي متزوّجة بابن عمّي وأنا أكره النظر في صورته وأبغض نفسي في صحبته ولولا أنّي أخشي خاطرك لكنت قد جعلت المدينة خراباً يصيح فيها البوم والغراب. فقال العبد تكذبين يا عاهرة وأنا أحلف وحقّ فتوة السود (...) إن بقيت تقعدي إلي هذا الوقت مثل هذا اليوم، لا أصاحبك ولا أضع جسدي علي جسدك يا خائنة، تغيبين علي من أجل شهوتك يا منتنّة يا أخسّ البيض.
قال الشاب (زوجها الملك): فلمّا سمعت كلامها وأنا أنظر بعيني ما جري بينهما صارت الدنيا في وجهي ظلاماً وصارت بنت عمّي واقفة تبكي إليه وتتذلّل بين يديه وتقول يا حبيبي وثمرة فؤادي، يا حبيبي يا نور العين! ومازالت تبكي وتتضرّع له حتي رضي عليها ففرحت وقامت وخلعت ثيابها ولباسها، وقالت يا سيدي هل عندك ما تأكله جاريتك، فقال لها: قومي لهذه القوّارة تجدي فيها ما تبغين، فقامت وأكلت وشربت وغسلت يديها وجاءت فرقدت مع العبد علي قشّ القصب، وتعرّت ودخلت معه تحت الهدمة، فلمّا نظرت إلي هذه الفعال التي فعلتها بنت عمّي غبت عن الوجود».
آثرت أن أطيل الاقتباس حتّي تتّضح الأيديولوجيا الرجولية المعادية والمحتَقِرة لهذه النوعية من النساء السلطويات الفاسدات، وإلي أي مدي يمكن أن تكون نساء السلطة في اللّيالي ـ ووفق هذه الأيديولوجيا ـ مندفعات في فسادهنّ الأخلاقي ورغباتهنّ المسعورة المتهالكة علي الجنس ومع أحّط الرجال، مع ملاحظة أنّ هذه الأيديولوجيا الرجولية هذه لا تدين المرأة الأميرة العازبة، فيما إذا اندفعت متهالكة لتحقيق فعل الجنس مع الأمير أو الملك العازب، بل نجد أنّ الراوي يشجّع هذا التهالك، ويهيئ له جميع الظروف والعوامل المساعدة لتحقيق هذا الفعل، فها هو يشجع بطله تاج الملوك علي امتلاك الأميرة العازبة دنيا بنت الملك شهرمان امتلاكاً جنسياً ويشتهي له أن ينام بين نهديها لأنّه أهل لذلك، ويثبت هذا الاشتهاء علي لسان العجوز مربّيتها، حين تصف لها بطله تاج الملوك قائلة: «كأنّ رضوان فتح أبواب الجنان وسها فخرج منها (أي تاج الملوك) وأنا أشتهي في هذه اللّيلة أن يكون عندك وينام بين نهودك فإنّه فتنة لمن يراه». ثمّ سرعان ما يقذف بهذا البطل إلي مقصورة الأميرة دنيا، ليحقّق له حلمه بامتلاك هذه الأميرة الجميلة: «ثمّ إنّ تاج الملوك عدّ خمسة أبواب ودخل الباب السادس، فوجد السيدة دنيا واقفة في انتظاره. فلمّا رأته عرفته، فضمّته إلي صدرها وضمّها إلي صدره (...) ثمّ اختلت هي وتاج الملوك. ولم يزالا في ضمّ وعناق، والتفّت ساق علي ساق إلي وقت السحَر». ثمّ بعد ذلك ليجعله عاشقاً مليئاً بالهيام والوجد والغرام، لا يطيق الصبر علي جسد الأميرة دنيا.
تشير حكايات ألف ليلة وليلة، وفي بعض حالات الحبّ والعشق والجنس إلي أنّ إيديولوجيا الرواة الرجولية تؤكّد أنّ المرأة الأميرة أكثر تهتّكاً وفساداً ورغبة في الزني من عاشقها الأمير أو الملك، الذي يرغب أن يكون فعل الجنس ذا صبغة شرعية أخلاقية، وذلك من خلال الزواج علي سنّة الله ونبيه. فالراوي في حكاية «تاج الملوك ودنيا بنت الملك شهرمان»، دفع بطله تاج الملوك إلي حضن الأميرة دنيا، ليلفّ الساق علي الساق، وليشتغل في الهراش والضمّ والعناق لنصف سنة، من دون أن يجعله يفتضّ هذه الأميرة، لا لأنّه يري أنّ هذا الافتضاض فعل شائن قائم خارج حدود أخلاقيات الزواج المتعارف عليها، بل ليؤكّد أيديولوجيته الرجولية التي تري أنّ أخلاق المرأة ـ ومهما كانت رفيعة الشأن ـ سرعان ما تتهاوي عندما يحضر الرجل الجميل الممتلئ بالقدرات الجنسية والجمالية، فالأمير تاج الملوك يعلن للأميرة دنيا أنّه زاد شوقاً وهياماً وغراماً بها، إلاّ أنّ غرامه هذا لم يبلغ غايته الكلية، عندها تدعوه الأميرة لأن يتجاوز فعل الضمّ والعناق، وصولاً إلي الغاية الكلية (فعل الجنس)، لكنّه يرفض أن يصل إلي هذه الغاية، إلاّ بعد أن تأخذ منحي شرعياً لا حرام فيه. يقول الراوي: «وأمّا ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا فإنّهما أقاما علي حالهما نصف سنة، وهما كلّ يوم يزدادان محبّة في بعضهما. وزاد علي تاج الملوك العشق والهيام والوجد والغرام، حتّي أفصح لها عن الضمير، وقال لها: اعلمي يا حبيبة القلب والفؤاد أنّي كلّما أقمت عندك ازددت هياماً ووجداً وغراماً، لأنّي ما بلغت المرام بالكلية، فقالت له: وماذا تريد يا نور عيني؟ (...) إن شئت غير الضمّ والعناق والتفاف الساق علي الساق، فافعل الذي يرضيك وليس لله فينا شريك، فقال: ليس مرادي هكذا (...) ثمّ قال: وأريد الآن أن أتوجّه إلي أبي ليرسل رسولاً إلي أبيك ويخطبك منه ونستريح».
إنّ العودة إلي الحكاية السابقة: حكاية «الشاب مع الملك والأسماك الملوّنة»، تكشف بعض ملامح الأيديولوجيا الرجولية المعادية للمرأة السلطوية الزانية، وذلك من خلال التباين الحادّ بين أخلاقها وأخلاق زوجها الملك الشاب:
الزوج الملك
الزوجة الملكة
ـ شاب بأخلاق حسنة لا يصلح لهذه الزانية.
ـ يثق بها وينام ولا يشعر بما يجري ولا يعلم أين تذهب، وماذا تصنع.
ـ يقلق علي غيابها وتأخّرها عن منزلها، ويخاف عليها من شدّة محبّته لها.
ـ يحبّها زوجها محبّة عميقة، لكنّها تحتقره وتكرهه.
ـ سيدة خبيثة خاطئة زانية.
ـ تضع له البنج كلّ ليلة في كأس شرابه.
ـ تقول له: كرهتك وكرهت صورتك وملّت نفسي من عشرتك.
ـ تحبّ عبداً أسود بشعاً محبّة عميقة، لكنّ العبد يحتقرها.
ومن ملامح هذه الأيديولوجيا الرجولية المعادية لهذه المرأة السلطوية الزانية، اندفاعها الشديد نحو العبد وتعلّقها به، وتركيز الراوي علي مدي احتقار العبد لهذه المرأة العاشقة له، مقابل خضوعها له، واستجدائها لعطفه ومحبّته. والمقارنة الآتية توضّح ذلك:
العبـد
المرأة السلطوية (الملكة)
ـ رفع ذلك العبد رأسه وقال لها:
ويلك ما سبب قعودك إلي هذه الساعة.
ـ فقال العبد تكذبين يا عاهرة.
ـ دخلت علي عبد أسود فقبّلت الأرض بين يديه.
ـ فقالت يا سيدي وحبيب قلبي أما تعلم أنّي متزوّجة بابن عمّي وأنا أكره النظر في صورته، وأبغض نفسي في صحبته.
ـ قال العبد: إن بقيت إلي هذا الوقت مثل هذا اليوم، لا أصاحبك ولا أضع جسدي علي جسدك يا خائنة، تغيبين علي من أجل شهوتك يا منتنة يا أخسّ البيض.
ـ حتي رضي عليها.
ـ فقال لها: قومي لهذه القوارة تجدي فيها ما تبغين.
ـ رضي عليها.
ـ تبكي إليه وتتذلّل بين يديه وتقول له يا حبيبي وثمرة فؤادي، يا حبيبي يا نور العين.
ـ ما زالت تبكي وتتضرّع.
ـ قالت: يا سيدي هل عندك ما تأكل جاريتك؟.
ـ خلعت ثيابها ولباسها، ورقدت مع العبد علي قشّ القصب.
إن هذه المرأة السلطوية قد قلبت الأدوار في طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثي، فإذا كان من المتعارف عليه، أنّ الذكر هو الذي يطلب الأنثي ويطاردها، في حين أنّ الأنثي تمتنع عنه، أو تعامله بغنج ودلال حتي يزداد وجداً بها، فإنّ الأيديولوجيا الرجولية الرامية إلي احتقار المرأة، واعتبارها شرّاً علي المجتمع الرجولي، قد قلبت الدور، وجعلتها المتهالكة علي إشباع شهواتها، مقابل الرجل المزدري لها. وزيادة في احتقارها، وتشويه قيمها، والطعن بأخلاقها، فقد جعلتها تكره الملك الجميل والوفي والقريب ـ ابن عمّها ـ وتسفح ماء وجهها للعبد القبيح البعيد، الذي ينصّب نفسه سيداً عليها، وتترك مائدة الملك العامرة وفراشه الوثير، لترضي باليسير من الطعام، ولترقد علي قشّ القصب، وهذه الملكة تقلب أدوار السيادة والعبودية، وتتنازل عن دورها كملكة، وترضي بدور الجارية، وذلك لصالح العبد الذي يصبح سيداً لها، موبّخاً وآمراً: «يا عاهرة.. يا خائنة.. قومي لهذه القوّارة»، مقابل أن يطفئ سعارها الجنسي.
ويبدو أنّ رواة ألف ليلة وليلة يريدون أن يؤكّدوا لمتلقّي الحكايات، أنّ الغريزة الجنسية لدي النساء تشكّل قوّة شيطانية وحشية، وهذه القوة يجب أن تُحبس وتُقمع حتّي لا تشكّل خطراً يهدّد المجتمع القائم علي مبادئ النظام الأبوي، وحتّي لا تمثّل تحدّياً واضحاً للنظام الذكوري «الذي يقضي بانتقال اسم الرجل وملكيته ومكانته وسلطته من جيل إلي الجيل الذي يليه»، علي حدّ تعبير د. سمر العطار ود. جيراهارد فيشر، ولذا يجب قمع المرأة سواء أكانت سلطوية أم من الطبقات الأخري، حتي لا تعارض هذا النظام الرجولي الذي لا يريد له الرواة الرجال أن يتنازل عن مكانته وامتيازاته لصالح نساء فاجرات تقودهنّ شهواتهنّ المتأجّجة إلي تقويض بنيانه، وإفساد قيمه.
إنّ الرغبة الجنسية عند نساء السلطة في ألف ليلة وليلة تصبح قوّة تدميرية تفتك بكلّ من يقف ضدّ إشباعها بالتواصل الجنسي، فنساء السلطة لا يرحمن من يحبط رغباتهنّ الجنسية، أو من لا يشبعها، حتّي ولو كان من أقرب المقرّبين إليهنّ. وهذا ما تشير إليه حكاية: «الملك قمر الزمان والملكة بدور»، إذ يتزوّج الملك قمر الزمان امرأتين جميلتين، وهما: الملكة بدور والملكة حياة النفوس، فيرزقه الله بولدين منهما، وهما: الأمير الأمجد من زوجته بدور، والأمير الأسعد من زوجته حياة النفوس. ويكبر الولدان حتي يصيرا في غاية الكمال ونهاية الحسن والجمال، ويفتتن بهما النساء والرجال، بمفردات راوي الحكاية، وتُفْتن بهما زوجتا الملك. إذ «إنّ محبّة الأسعد الذي هو ابن حياة النفوس وقعت في قلب الملكة بدور زوجة أبيه، وإنّ محبّة الأمجد الذي هو ابن الملكة بدور وقعت في قلب الملكة حياة النفوس زوجة أبيه، فصارت كلّ واحدة من الضرّتين تلاعب ابن ضرّتها وتقبّله وتضمّه إلي صدرها (...) وتمكّن العشق من قلب المرأتين وافتتنتا بالولدين فصارت كلّ واحدة منهما إذا دخل عليها ابن ضرّتها تضمّه إلي صدرها وتودّ أنّه لا يفارقها».
ولا تستطيع هاتان المرأتان الصبر علي هذا العشق الذي ملأ عليهما حياتهما، فتمتنعان عن الشراب والطعام وتهجران لذيذ المنام، وتكتب كلّ منهما رسالة عشق إلي ابن ضرّتها، تبدي له ولهها، وتتضرّع إليه أن يرحمها ممّا تقاسيه من اللّهف والشغف والبكاء والأنين والكآبة والاحتراق، طالبة الوصال الجنسي. ثمّ ترسلانهما إلي عشيقيهما الأميرين الأمجد والأسعد مع خادم وخادمة لهما. يقول الراوي: «فتناول الملك الأمجد المنديل من الخادم وفتحه، فرأي الورقة ففتحها وقرأها. فلمّا فهم معناها علم أنّ امرأة أبيه في عينها الخيانة، وقد خانت أباه قمر الزمان في نفسها، فغضب غضباً شديداً وذمّ النساء علي فعلهنّ (...) ثم إنّه جرّد سيفه وقال للخادم ويلك يا عبد السوء أتحمل المراسلة المشتملة علي الخيانة من زوجة سيدك؟ والله إنّه لا خير فيك يا أسود اللون والصحيفة، يا قبيح المنظر والطبيعة السخيفة. ثمّ ضرب بالسيف في عنقه فعزل رأسه عن جثّته».
ويفعل الأمير الأسعد مثلما فعل أخوه الأمير الأمجد من قبله، ويرمي عنق العجوز التي نقلت رسالة العشق من زوجة أبيه الملكة بدور. عندها تُحبَط المرأتان في عشقهما، ويصيبهما المرض والضعف الشديد، وينقلب عشقهما إلي حقد وكراهية شديدة لهذين الأميرين، وتقرّران الانتقام منهما، وذلك بتدبير مكيدة تطيح بهما. وعندما يعود الملك قمر الزمان (أبوهما) بجيشه من الصيد ويشاهد زوجتيه مريضتين، يسألهما عن حالهما، عندها تقومان بتنفيذ المكيدة لهما. يقول الراوي: «فلمّا رآهما الملك علي تلك الحالة قال لهما: مالكما؟ فقامتا إليه وقبّلتا يديه وعكستا عليه المسألة وقالتا له: اعلم أيها الملك أنّ ولديك اللذين قد تربّيا في نعمتك قد خاناك في زوجتيك، وأركباك العار. فلمّا سمع قمر الزمان من نسائه هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتاظ غيظاً شديداً حتّي طار عقله من شدّة الغيظ».
إنّ الملكتين بدور وحياة النفوس مستعدّتان لأن تقودا ولديهما الوحيدين إلي حافة الموت، وتعيشان طوال حياتهما محرومتين من عاطفة الأمومة الكريمة، لأنّ هذين الولدين أذلاّهما في كبح جموح شهوتهما الجنسية، وهما غير مستعدّتين أن تعيشا ذليلتين في ظلّهما كحاكمين مع أبيهما، وبعد موته. ويعلّل الراوي سبب اندفاعهما لقتل ولديهما ـ ووفق أيديولوجيته الخاصة ـ لأنّهما خشيتا أن تصيرا تحت ذلّ هذين الأميرين، بعد أن فضحتا نفسيهما معهما، ويمكن القول: إنّ عدم إرواء الدافع الجنسي عند الملكتين هو الذي أشعل فيهما نزعتهما العدوانية، وحقدهما علي الأميرين، ورغبتهما العميقة بقتلهما، لأنّ ثمّة عنصراً شيطانيا من العداء يظهر في حالة الكبت، وهذا العنصر من شأنه أن يجعل من النزعة الجنسية شيئاً مميتاً هدّاماً إذا لم تجد طريقها إلي الإشباع، وفق رؤية جوزيف جاسترو.
ولا ينسي راوي الحكاية أن يثبت أيديولوجيته المعادية للملكتين الشهوانيتين؛ فعندما يغادر زوجهما الملك قمر الزمان، سرعان ما تبدأ علائم الخيانة لتظهر في سلوكهما، عندها يدفع بطله الرجل الأمير الأمجد، لأنّ يذمّ النساء، ويؤكّد أنّهنّ خائنات وناقصات في دينهنّ وعقولهنّ، ثمّ يسحب هذه الأيديولوجيا علي العجوز الخادمة، لأنّها من العجائز الماكرات، ولا ينسي أن يثبت أيديولوجيته التي تشيد بأخلاق أبطاله الذكور. فالأميران الأمجد والأسعد يظهران وفاءً لوالدتيهما ولوالدهما قمر الزمان، ويقرّران أن يحافظا علي سرّهما خوفاً علي حياتهما المهدّدة، فيما إذا ظهر سرّهما للملك قمر الزمان: «ثمّ تواصيا بكتمان هذا الأمر لئلاّ يسمع به أبوهما الملك قمر الزمان فيقتل المرأتين». في حين أنّ هاتين المرأتين تبديان مكراً ولؤماً وتصميماً علي تحريض أبيهما لقتلهما، اعتقاداً منهما بأنّهما ستبقيان ذليلتين أمام الأميرين ولديهما، طالما هما مقيمان علي رأس السلطة.
ولم ينس الراوي في هذه الحكاية: حكاية «الملك قمر الزمان والملكة بدور»، أن يعمّم أيديولوجيته الرجولية المعادية للمرأة ـ تأسيساً علي حالة خاصّة لملكتين خائنتين ـ التي اكتسبها من أخلاقيات ومفاهيم وأدبيات عصره، إذ جعل بطليه الأمجد والأسعد يقولان عن النساء بعامّة، بعد أن دبّرت لهما زوجتا أبيهما تلك المكيدة:
أعوذ بالله من كيد الشياطين + بين البَرِية في الدنيا وفي الدين.
إنّ النساء شياطين خُلقنَ لنا + فهـنّ أصـل البليـات التي ظهرت
وليست نساء السلطة في ألف ليلة وليلة هنّ المستبدّات والزواني الوحيدات، بل يتساوي في ذلك معظم نساء ألف ليلة وليلة، لكنّ الرواة اهتمّوا بالتركيز، بالدرجة الأولي، علي فساد النساء في طبقتين من طبقات مجتمع ألف ليلة وليلة، وهما طبقتا السلطة والتجار. ويبدو أنّ ظاهرة الثراء الفاحش التي انغمست بها هاتان الطبقتان، قد أسهمت في فساد نسائهما وفجورهنّ، وجرأتهنّ علي ارتكاب المعاصي، فمن المعروف أن الأثرياء في المجتمعات المدنية ونظراً « لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال علي الدنيا والعكوف علي شهواتهم منها، قد تلوّثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشرّ، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتّي لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم؛ فنجد الكثير منهم يقْذِعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدّهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً». كما يقول ابن خلدون في مقدمته.
إنّ الملكة بدور بنت الملك الغيور كانت تحبّ عشيقها قمر الزمان، قبل زواجها به، محبّة شديدة، ثمّ ما لبثت أن فكّرت بخيانته عندما صار زوجاً لها، لأنّها وجدت أنّ ابن ضرّتها حياة النفوس ـ الأمير الأسعد ـ أكثر شباباً وبهاءً منه. ومن شدّة محبّتها للعشيق قمر الزمان ـ وعندما يتاح لها ذات مرّة، وقبل أن تتزوّجه، أن ترقد بجواره، وتتأمّل مفاتنه وجسده المتفجّر بالقدرات الجنسية ـ فإنّ خلايا دمها تهتاج شهوة وعشقاً له. يقول الراوي: «ثمّ فتحت جيب قميصه ومالت عليه وقبّلت رقبته ورأته بغير سروال فمدّت يدها من تحت ذيل قميصه وجسّت سيقانه، فزلقت يدها من نعومة جسمه، فانصدع قلبها وارتجف فؤادها وقبّلته في ثغره وقبّلت كفّيه، ولم تترك فيه موضعاً إلاّ قبّلته، وبعد ذلك أخذته في حضنها وعانقته، ووضعت إحدي يديها تحت رقبته والأخري تحت إبطه، ونامت بجانبه». وعندما استيقظت وما وجدته بجوارها، ظنّت أنّ قهرمانتها ووالدها الملك قد تآمرا عليها، وحرماها من هذا العشيق، النموذج الطاغي جمالياً، الذي ظلّت تبحث عنه طيلة حياتها رافضة جميع عظماء مملكة أبيها والممالك المجاورة حتّي لا تتنازل عن سلطتها لأي رجل كان. فها هو هذا النموذج الجمالي المثير والمُشتهي يحضر مُزِيحاً جميع الرجال الآخرين، محقّقاً للأميرة جميع آمالها في إشباع اندفاعها الجنسي المحموم والمكبوت، وهاهي تستيقظ ولا تجده، عند ذلك تيقّنت أنّها حُرِمت منه. فما كان منها إلاّ أن أصيبت بنوبة هستيريا أفقدتها عقلها. يقول الراوي: «وطار عقلها علي رأسها، وصارت تلتفت يميناً وشمالاً، ثمّ شقّت ثوبها إلي ذيلها، فلمّا رأي أبوها تلك الفعال أمر الجواري والخدم أن يمسكوها، فقبضوا عليها وقيدوها وجعلوا في رقبتها سلسلة من حديد وربطوها في الشباك الذي في القصر».
إنّ الاندفاع الجنسي غير المُشبَع، يسبب لصاحبه، سواء أكان امرأة أم رجلاً، حالة تشنّج دائم، تعترضها نوبات شديدة تقترب كثيراً من الصرع، علي حدّ تعبير ميشيل فوكو، وتتزامن هذه النوبات بتوتر مفرط للأعضاء الجنسية، أو ما يسمّي بالنعاظ، إذ تميل النساء المصابات بهذا المرض إلي الفعل الجنسي باندفاع قوي جدّاً، وتضمحلّ عندهنّ فكرة الحياء كلّها، علي حدّ تعبير سورانس.
وتأسيساً علي رأي ميشيل فوكو يمكن فهم حال الملكة بدور وهي تشقّ ثوبها، وتفقد قدرتها علي الاتزان العقلي، ويمكن فهم حالها بعد أن عادت إلي وعيها، وهدأت نوبتها الهستيرية الشديدة، فبعد أن شاهدت عشيقها قمر الزمان في قصر والدها، «قامت من وقتها وصلبت رجليها في الحائط، واتّكأت بقوّتها علي الغلّ الحديد، فقطعته من رقبتها، وقطعت السلاسل، وخرجت من خلف الستارة، ورمت روحها علي قمر الزمان وقبّلته في فمه وعانقته من شدّة ما بها من الغرام. وقالت له: يا سيدي هل هذا يقظة أو منام، وقد منّ الله علينا بجمع شملنا؟ ثمّ حمدت الله وشكرته علي جمع شملها بعد اليأس ودخل قمر الزمان علي الملكة بدور وفرح أبوها بعافيتها وزواجها وحمد الله(...) ونام قمر الزمان عندها تلك الليلة وبلغ أربه منها، وتمتّعت هي بحسنه وجماله، وتعانقا إلي الصباح».
إنّ تمتّع الملكة بدور بحسن عشيقها قمر الزمان وجماله، وإرواء دافعها الجنسي أسهما تماماً في شفائها من نوبات الصرع والغضب التي كانت قد أصابتها. وهنا يمكن القول: إنّ المجامعة تخفّف الغضب العنيف، ولهذا السبب لا يوجد دواءٌ مثلها نافع للغاية ضدّ الاكتئاب وكره المجتمع، فالفعل الجنسي يهيئ النفس للطمأنينة، وهو يعيد الإنسان الكئيب والغاضب إلي حالة أكثر اتزاناً، كما يري غاليان.
وتشير سيرة الملكة بدور زوجة قمر الزمان، بالإضافة إلي مكايدها ونزعتها صوب الخيانة الجنسية، إلي أنّها كانت مستبدّة، وقد نشأت نشأة استبدادية في مجتمع استبدادي، وفي كنف أبيها الملك الغيور المستبدّ الجائر والظالم والقاهر الغشوم، الذي قتل أربعين منجّما وحكيماً من منجّمي بلاده وحكمائها لأنّهم عجزوا عن شفاء ابنته بدور من نوبات مرضها العدواني، ومن شدّة استبدادها فقد قتلت قهرمانتها بالسيف، من دون أن ترتكب هذه القهرمانة أي ذنب. ويبدو أنّ عشيقها قمر الزمان، بعد أن تزوّجها، لم يستطع الحدّ من نزعاتها الاستبدادية وترويض وحش جوعها الجنسي الكاسر؛ ما دفعها لأن تتعلّق بولده الأمير الأسعد ابن الملكة حياة النفوس، ولم يستطع أن يخضعها لسلطته، وذلك لاستبدادها ورفضها منذ شبابها المبكر أن تتخلّي عن منزلتها السلطوية.
إنّ للنساء الجميلات في ألف ليلة وليلة، سواء أكنّ من طبقة السلطة أم من بقية الطبقات الاجتماعية الأخري، سطوة شديدة علي الرجال، باختلاف طبقاتهم ومراكزهم السياسية والاجتماعية. ومن الغريب أنّ الرجال الملوك والأثرياء في ألف ليلة وليلة ـ ومهما كان عدد زوجاتهم وجواريهم كثيراً ـ يطمحون دائماً إلي امتلاك المزيد من هاته النسوة الجميلات امتلاكاً جنسياً، ويبذلون كلّ ما بوسعهم لامتلاكهنّ، ويفتعلون الحروب، ويتطاحنون، ويبدّدون أنفسهم لأجل هاته النسوة. فعلي سبيل المثال: علي الرغم من كثرة نساء النبي سليمان بن داود، فإنّه كان يطمح إلي امتلاك أية امرأة جميلة ومغايرة لغيرها من النساء، عندما يسمع بخبرها من أعوانه عفاريت الجان، فعندما يصف له العفريت داهش بن الأعمش ابنة أحد الملوك ـ وهو من أولاد إبليس ـ بمحاسنها ومفاتنَها، حيث «كانت أحسن أهل زمانها ذات حسن وجمال وبهاء وكمال»، فإنّه سرعان ما يبدي رغبته في زواجها، ويرسل إلي أبيها الملك قائلاً: «زوّجني ابنتك واكسر صنمك (...) وإن أنت أبيت أتيت بجنود لا طاقة لك بها، فاستعدّ للسؤال جواباً والبس للموت جلباباً، فسوف أسير لك بجنود تملأ الفضاء». لكنّ والد الفتاة الجميلة يرفض طلبه، عندئذ يستنفر النبي مملكته وأعوانه من الإنس والجان والشياطين، ويأمر وزيره الدمرياط ملك الجان، ووزيره آصف بن برخيا بأن يزحفا بجنودهما إلي هذا الملك، ويهدما مدينته فوق رأسه. ويذهبون ويهدمون المدينة، ويتزوّج النبي سليمان هذه المرأة الجميلة ـ لا يذكر الراوي اسماً لها ـ اغتصاباً وقهراً.
إذا كان الراوي يسوّغ للنبي سليمان بن داود هدمه للمدينة، ووفق أيديولوجيا دينية تهدف إلي تحقيق رغبته في تأديب هذا الملك ـ ابن إبليس ـ وإجباره علي الإيمان برسالته النبوية، فإنّ متلقّي الحكاية سيقتنع أنّ الهدف الرئيس من هذا الهدم هوّ المرأة الجميلة الموجودة في هذه المدينة. ويذكر الراوي أنّه أرسل الرسالة التالية إلي والد الفتاة الجميلة: «أنا قد أتيت فاردد عن نفسك ما نزل، وإلاّ فادخل تحت طاعتي وأقرّ برسالتي واكسر صنمك واعبد الواحد وزوّجني ابنتك بالحلال، وقل أنت ومن معك أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ سليمان نبي الله، فإنّ قلت كان لك الأمان والسلامة، وإن أبيت فلا يمنعك تحصّنك منّي في هذه الجزيرة، فإنّ الله تبارك وتعالي أمر الريح بطاعتي، فأمرها أن تحملني إليك بالبساط وأجعلك عبرة لغيرك».
ويمكن أن يتساءل متلقّي الحكاية: لماذا لم يرجع النبي سليمان بن داود الملكَ الضالَّ ابن إبليس إلي طريق الإيمان والحقّ، إلاّ بعد أن سمع أنّ له ابنة جميلة؟ وهل غزوته مدينة الملك كانت تهدف إلي عودة هذا الملك الضالّ إلي الإيمان أم هي غزوة هدفها اختطاف المرأة الجميلة والزواج بها رغماً عنها، مع العلم أنّ هذه المرأة رافضة له عن قناعة تامّة، بناء علي قناعة أبيها الذي يكرهه. وقد يتساءل هذا المتلقّي: هل يجوز للنبي سليمان أن يتزوّج هذه المرأة قهراً، لأنّها اختارت طريق الشرك ورفضت طلبه؟ هذا إذا كان من المتعارف عليه أنّ الزواج عند كلّ الأمم والأقوام، وعبر تاريخ الحضارات المتعاقبة والمتزامنة، لا يكون إلاّ برضي الطرفين. وكيف يجوز له وهو العارف بأصول الزواج وأعرافه الاجتماعية والإنسانية، أن يجبر امرأة جميلة لا تحبّه علي الرضوخ له والزواج به كراهيةً وغصباً، وبخاصّة إذا كانت قصوره مليئة بالجواري والنساء الجميلات، ويستطيع الزواج بمن يشاء من نساء مملكته الكثيرات المؤمنات برسالته؟ وكيف يمكن فهم سرّ سطوته وإصراره علي اختطاف امرأة تبغضه، ثمّ تدمير مدينتها، وقتل أبيها. وسبي قومها؟.
إنّ المتلقّي يجد نفسه أمام احتمالين: إمّا أن يكون النصّ الحكائي نصّاً تخيلياً غرائبياً نسجته مخيلة راوٍ مبدع آثر أن يقدّم نصّاً قادراً علي إدهاش المتلقّي، وشدّه إلي الاستمتاع بهذا النصّ، والتحليق به إلي فضاءاته السحرية البعيدة. وهنا تبدو إجابته علي تساؤلاته السابقة مريحة مقنعة، فمادام فضاء الحكاية هو فضاء التخيل الغرائبي الإبداعي، فليس هناك ما يمنع الراوي من أن يقول ما يشاء، ويؤسطر ما يشاء حول حياة النبي سليمان بن داود، وطموحه لامتلاك النساء. وإمّا أن يكون النصّ الحكائي قريباً من الواقع، أو مؤسَّساً علي مجموعة من المصادر التاريخية التي تحدّثت عنه. وهنا سيعود هذا المتلقّي ويتساءل ثانية، بالإضافة إلي أسئلته السابقة: ما السرّ الخفي الكامن وراء اندفاعه للزواج بالمرأة غصباً؟ وهل أخلاقه أخلاق الأنبياء أم أخلاق الملوك؟. وقد يظلّ هذا المتلقّي عاجزاً عن إيجاد إجابات دقيقة عن أسئلته الكثيرة التي توقعه في مزيدٍ من الحيرة والشكّ والإبهام.
ويبدو أنّ النبي سليمان بن داود كان ولعاً بامتلاك النساء وحشرهنّ في قصوره، فقد كان له ألف بيت فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سُرِّية، كما يروي الطبري.
وليس غريباً علي راوي الحكاية أن يجعله يهدم مدينة، ويقتل ملكها، ويتزوّج ابنته غصباً، هذا إذا عرفنا أنّ معظم ملوك ألف ليلة وليلة وأمرائها وخلفائها، من الملك شهريار مروراً بعمر النعمان حتّي هارون الرشيد وغيرهم كثر، يتزوّجون المرأة التي يريدونها شاءت أم أبت.
ونظراً لأنّ نساء ألف ليلة وليلة فاتنات ومثيرات جنسياً، فإنّ هؤلاء الحكّام كانوا يتطامنون أمام هاته النسوة، ولذا يمكن لأية امرأة بجمال صوتها، ومفاتن جسدها، أن تكون ذات سطوة في قصرها وعلي جواريها وعلي زوجها، كدنيا البرمكية، وزوجة أحد الرجال السلطويين في حكاية: «الحشّاش مع حريم أحد الأكابر»، وجواري السيدة زبيدة. فالرواة الذين عاصروا طغاة أزمنتهم لا يستطيعون أن يتركوا أبطالهم من الملوك والأمراء في حال سعار جنسي، علي الرّغم من جبروت النساء المعشوقات وسطوتهنّ؛ فما علي النساء في نهاية المطاف إلاّ الاستسلام لرغبات رجال السلطة، وإطفاء سعارهم الجنسي. وقد كان كثير من النساء يجد لذّة في هذا الاستسلام، لأنّه يحقّق لهنّ إشباعاً جنسياً، وطموحاً للوصول إلي أعلي المراتب السياسية، وهذا الاستسلام في بنيته العميقة ليس هزيمة، بل إنّه يقود إلي المجد والسلطة، فبعد أن تستسلم المرأة لرغبات الرجل السلطوي تمارس بدورها سلطة جنسية عليه، وتمارس علي جواريها وعبيدها سلطة فعلية.
علي الرغم من سلطة النساء في ألف ليلة وليلة، وبطشهنّ واستبدادهنّ، فإنّ الرواة ـ بعد أن يبرزوا ملامح استبدادهنّ، ويبثّوا أيديولوجيتهم المعادية لهنّ ـ يحطّون من مكانتهنّ، فهنّ دائماً في وضعية تقبيل اليد لرجال السلطة، علي الرغم من مكانتهنّ الاجتماعية العليا. فالسيدة شمسة بنت الملك شهلان عشيقة الأمير جانشاه في حكاية «حاسب كريم الدين وملكة الحيات»، هي وجميع أخواتها الأميرات يقبّلن يد الأمير العاشق جانشاه عندما يصل إلي قصر والدهنّ الملك. في حين أنّ هؤلاء الرواة يعدّون الرجل السلطوي سيداً دائماً ـ في معظم حكاياتهم ـ ويعدّون المرأة بمنزلة الجارية الدونية. فمعظم النساء، مهما علا شأنهنّ، يبقين جواري لأزواجهنّ ولعشاقهنّ ولآبائهنّ، وحتّي الأميرات بنات الملوك يصبحن جواري عندما يتزوّجن أو يعشقن، لأنّ الرواة يجبرونهنّ علي التنازل عن مكانتهنّ السلطوية كأميرات. فابنة ملك صنعاء الأرستقراطية البهية التي تحاكي البدر الزاهر تصبح جارية عند الراوي، عندما يعشقها ابن أحد ملوك ألف ليلة وليلة، فهذه الأميرة «الجارية فرحت عندما سمعت من ابن الملك هذا الكلام».
وتشير حكاية «حسن الصائغ البصري» إلي أنّ الأميرة منار السنا زوجة حسن الصائغ البصري من أهمّ أميرات ألف ليلة وليلة، وأنّ والدها من أثري ملوك زمانه، وأشدّهم سطوة، ويملك أقاليم وبلاداً شاسعة، ومع ذلك فإنّ الراوي لا يراها إلاّ جارية أمام زوجها، علي الرغم من أنّ زوجها من طبقة اجتماعية دونية ـ طبقة الصاغة ـ. وحتّي يحطّ الراوي من منزلة الأميرة منار السنا، هذه المرأة التي كانت أميرة ثمّ صارت جارية بعد زواجها من حسن البصري، فإنّه يتجاهل اسمها منذ بداية خيوط سرد الحكاية، ولا يفصح عن هذا الاسم إلاّ بعد أن تكون الحكاية قد شارفت من نهايتها.
وهنا يمكن القول: إنّ البنية الثقافية لرواة الليالي، بمفاهيمها ومعتقداتها، هي انعكاس للبنية الثقافية العامّة والتجميعية لحضارة عصرهم والعصور التي سبقتهم، هذه البنية التي تعتقد جازمةً أنّ النساء لسن إلاّ جواري، علي الرغم من علوّ مكانتهنّ الاجتماعية والسياسية، ولسن في نهاية المطاف إلاّ ملكاً للرجال، و«ما خُلقت النساء إلاّ للرجال». وأنّه مطلوب منهنّ أن يطعن الرجال طاعة مطلقة، وأن لا يغادرن منازلهنّ إلاّ بأمر أزواجهنّ، لأنّ الخروج علي طاعة هؤلاء الأزواج يعني ارتكاباً للآثام، ودخول أبواب المعاصي والهلاك. وهذه الرؤي الأيديولوجية المبثوثة في حكايات ألف ليلة وليلة تشير إلي بنية الرواة المعرفية التي يكمن وراءها عقل استبدادي معادٍ لاستبداد النساء وجبروتهنّ، ويري أنّ أولي مهمّات المرأة في الحياة أن تكون وعاءً للإنجاب واللذّة وخادمة للرجل، ترضخ لأوامره، ولا تفكّر أبداً بالانفلات من حظيرة سطوته، وإلاّ فإنّ المصائب الهالكة ستحيق بها. وهاهو أحد الرواة يكشف عن رؤيته الاستبدادية، بحمولاتها المعرفية التي تدعو المرأة إلي حمل لواء طاعة الرجل، ومهما كانت رفيعة القدر، ويجعل بطلته منار السنا تعزّز ذلك. وهاهي تعتذر لزوجها حسن البصري عن خروجها من منزله ببغداد من دون أمره، مؤكّدة له أنّ كل ما حلّ بها من مصائب كان نتيجة لخروجها علي طاعته: «هيهات يا روحي هيهات أن يخلّصني أحد، ممّا أنا فيه إلاّ الله تعالي، ففز بنفسك وارحل ولا ترم روحك في الهلاك فما حلّ بي هذا إلاّ لكوني عصيتك وخالفت أمرك، وخرجت من غير إذنك، فبالله عليك يا حسن لا تؤاخذني بذنبي واعلم أنّ المرأة ما تعرف قيمة الرجل حتّي تفارقه وأنا أذنبت وأخطأت، ولكن أستغفر الله العظيم ممّا وقع منّي وإن جمعَ الله شملنا لا أعصي لك أمراً بعد ذلك أبداً».
علي الرغم من سلطة النساء في ألف ليلة وليلة، وبطشهنّ واستبدادهنّ، فإنّ الرواة ـ بعد أن يبرزوا ملامح استبدادهنّ، ويبثّوا أيديولوجيتهم المعادية لهنّ ـ يحطّون من مكانتهنّ، فهنّ دائماً في وضعية تقبيل اليد لرجال السلطة، علي الرغم من مكانتهنّ الاجتماعية العليا. فالسيدة شمسة بنت الملك شهلان عشيقة الأمير جانشاه في حكاية «حاسب كريم الدين وملكة الحيات»، هي وجميع أخواتها الأميرات يقبّلن يد الأمير العاشق جانشاه عندما يصل إلي قصر والدهنّ الملك. في حين أنّ هؤلاء الرواة يعدّون الرجل السلطوي سيداً دائماً ـ في معظم حكاياتهم ـ ويعدّون المرأة بمنزلة الجارية الدونية. فمعظم النساء، مهما علا شأنهنّ، يبقين جواري لأزواجهنّ ولعشاقهنّ ولآبائهنّ، وحتّي الأميرات بنات الملوك يصبحن جواري عندما يتزوّجن أو يعشقن، لأنّ الرواة يجبرونهنّ علي التنازل عن مكانتهنّ السلطوية كأميرات. فابنة ملك صنعاء الأرستقراطية البهية التي تحاكي البدر الزاهر تصبح جارية عند الراوي، عندما يعشقها ابن أحد ملوك ألف ليلة وليلة، فهذه الأميرة «الجارية فرحت عندما سمعت من ابن الملك هذا الكلام».
وتشير حكاية «حسن الصائغ البصري» إلي أنّ الأميرة منار السنا زوجة حسن الصائغ البصري من أهمّ أميرات ألف ليلة وليلة، وأنّ والدها من أثري ملوك زمانه، وأشدّهم سطوة، ويملك أقاليم وبلاداً شاسعة، ومع ذلك فإنّ الراوي لا يراها إلاّ جارية أمام زوجها، علي الرغم من أنّ زوجها من طبقة اجتماعية دونية ـ طبقة الصاغة ـ. وحتّي يحطّ الراوي من منزلة الأميرة منار السنا، هذه المرأة التي كانت أميرة ثمّ صارت جارية بعد زواجها من حسن البصري، فإنّه يتجاهل اسمها منذ بداية خيوط سرد الحكاية، ولا يفصح عن هذا الاسم إلاّ بعد أن تكون الحكاية قد شارفت من نهايتها.
وهنا يمكن القول: إنّ البنية الثقافية لرواة الليالي، بمفاهيمها ومعتقداتها، هي انعكاس للبنية الثقافية العامّة والتجميعية لحضارة عصرهم والعصور التي سبقتهم، هذه البنية التي تعتقد جازمةً أنّ النساء لسن إلاّ جواري، علي الرغم من علوّ مكانتهنّ الاجتماعية والسياسية، ولسن في نهاية المطاف إلاّ ملكاً للرجال، و«ما خُلقت النساء إلاّ للرجال». وأنّه مطلوب منهنّ أن يطعن الرجال طاعة مطلقة، وأن لا يغادرن منازلهنّ إلاّ بأمر أزواجهنّ، لأنّ الخروج علي طاعة هؤلاء الأزواج يعني ارتكاباً للآثام، ودخول أبواب المعاصي والهلاك. وهذه الرؤي الأيديولوجية المبثوثة في حكايات ألف ليلة وليلة تشير إلي بنية الرواة المعرفية التي يكمن وراءها عقل استبدادي معادٍ لاستبداد النساء وجبروتهنّ، ويري أنّ أولي مهمّات المرأة في الحياة أن تكون وعاءً للإنجاب واللذّة وخادمة للرجل، ترضخ لأوامره، ولا تفكّر أبداً بالانفلات من حظيرة سطوته، وإلاّ فإنّ المصائب الهالكة ستحيق بها. وهاهو أحد الرواة يكشف عن رؤيته الاستبدادية، بحمولاتها المعرفية التي تدعو المرأة إلي حمل لواء طاعة الرجل، ومهما كانت رفيعة القدر، ويجعل بطلته منار السنا تعزّز ذلك. وهاهي تعتذر لزوجها حسن البصري عن خروجها من منزله ببغداد من دون أمره، مؤكّدة له أنّ كل ما حلّ بها من مصائب كان نتيجة لخروجها علي طاعته: «هيهات يا روحي هيهات أن يخلّصني أحد، ممّا أنا فيه إلاّ الله تعالي، ففز بنفسك وارحل ولا ترم روحك في الهلاك فما حلّ بي هذا إلاّ لكوني عصيتك وخالفت أمرك، وخرجت من غير إذنك، فبالله عليك يا حسن لا تؤاخذني بذنبي واعلم أنّ المرأة ما تعرف قيمة الرجل حتّي تفارقه وأنا أذنبت وأخطأت، ولكن أستغفر الله العظيم ممّا وقع منّي وإن جمعَ الله شملنا لا أعصي لك أمراً بعد ذلك أبداً».
إنّ رؤية الرواة الأيديولوجية المأخوذة بوهم الرجولة والسيادة والتفوّق، أسهمت إلي حدّ بعيد في تشكيل نساء ألف ليلة وليلة المستبدّات اللواتي يشكّلن خطراً علي مجتمع الرجال ومجتمع النساء في آن. ومن هنا فإنّه وجب علي الرجال ـ وفق أيديولوجيا هؤلاء الرواة ـ في المدن الإسلامية وغير الإسلامية، حتّي يمنعوا مدّ شرور النساء وبطشهنّ، وحتّي يعمّ الأمان والطمأنينة، أن يكبحوا جموح النساء، وأن يقلّصوا أدوارهنّ في الحياة السياسية والاجتماعية، ووجب علي النساء أن تعمل علي دوام مرضاتهم وسعادتهم، ولذائذهم في المأكل والمشرب والجسد، وخدمة أولادهم، وتربيتهم التربية التي يرونها مناسبة.
أنّ المسـتبدّين والطغاة في ألف ليلة وليلة، رجالاً ونساءً، كانوا يجدون لذّة في تعذيب الناس وقهرهم، وكان يحسّون بالرضي يملأ نفوسهم، وهم يشاهدون الناس البسطاء يفرّون مذعورين أمامهم .
إنّ حياة الفسق التي ينغمس فيها مجتمع السلطة تجعل أفراد هذا المجتمع
عاجزين عن ممارسة السيطرة الضرورية علي ذواتهم التي تنجرف في ملاحقة العلاقات الجنسية غير الشرعية وطلبها .
ويبدو أنّ رواة ألف ليلة وليلة يريدون أن يؤكّدوا لمتلقّي الحكايات، أنّ الغريزة الجنسية لدى النساء تشكّل قوّة شيطانية وحشية .
وليست نساء السلطة في ألف ليلة وليلة هنّ المستبدّات والزواني الوحيدات، بل يتساوي في ذلك معظم نساء ألف ليلة وليلة ..
.
ليست نساء السلطة في ألف ليلة وليلة مستبدّات طاغيات فحسب، بل يوجد فيهنّ الزواني اللواتي يخنّ أزواجهنّ كلّما سنحت لهنّ الفرصة بذلك، فهنّ يخطّطن لهذه الخيانة ويحتلن علي أزواجهنّ ليذهبن إلي عشّاقهنّ، وبخاصّة إذا كانت هاته النسوة مُتَخَيلات، وغير معروفات في الواقع التاريخي، مع العلم أنّ هؤلاء الأزواج، كما يصوّرهم الرواة، أوفياء لهنّ، ومؤمنون تقاة في بعض الأحيان. ففي حكاية «الحشّاش مع زوجة أحد الأكابر»، يصوّر الراوي زوجة أحد الرجال المهمّين في حقل السلطة، بصورة المرأة الزانية التي تنتقم من زوجها شرّ انتقام، لأنّها ضبطته يزني بإحدي جواريها، إذ أقسمت يميناً بأنّها ستنتقم منه، وتزني مع أقذر الناس وأحطّهم منزلة. تقول المرأة: «اتّفق أنّني كنت أنا وإياه قاعدين في الجنينة داخل البيت، وإذا هو قد قام من جانبي وغاب عنّي ساعة طويلة، فاستبطأته، فقلت في نفسي لعلّه يكون في بيت الخلاء، فنهضت إلي بيت الخلاء، فلم أجده، فدخلت المطبخ فرأيت جارية فسألتها عنه فأرتني إياه وهو راقد مع جارية من جواري المطبخ، فعند ذلك حلفت يميناً مغلظة أنّني لا بدّ أن أزني مع أوسخ الناس وأقذرهم». عندها تخرج المرأة بصحبة خدمها وحرّاسها ليجوسوا خلال الشوارع والأزقّة باحثين عن طلب المرأة وما إن يشاهدها الناس حتّي يفرّوا مذعورين من بطشها. يقول الحشّاش: «فوجدت الناس هاربين، فقال واحد منهم: ادخل هذا الزقاق لئلاّ يقتلوك. فقلت: ما للنّاس هاربين؟ فقال لي واحد من الخدم: هذا حريم لبعض الأكابر. وصار الخدم ينحّون الناس من الطريق قدّامها، ويضربون جميع الناس ولا يبالون بأحد».
ويمكن أن يتساءل متلقّي الحكاية: طالما أنّ المرأة السلطوية تخرج باحثة عن رجل وسخ لتزني به، انتقاماً من زوجها الزاني، فما ذنب هذا القطاع العريض من الناس الذي يتجوّل في الشوارع باحثاً عن لقمة عيشه، حتّي يبتعد مذعوراً عن طريق هذه المرأة المستبدّة، وحتّي يهان ويضرب، من دون أن يرتكب أي ذنب؟. يبدو أنّ المستبدّين والطغاة في ألف ليلة وليلة، رجالاً ونساءً، كانوا يجدون لذّة في تعذيب الناس وقهرهم، وكان يحسّون بالرضي يملأ نفوسهم، وهم يشاهدون الناس البسطاء يفرّون مذعورين أمامهم، ويبدو أنّ هذا الفرار كان يعزّز لديهم هذا الغرور الأحمق بعظمتهم ومكانتهم السلطوية. فالاستبداد يضعف الأخلاق الحسنة أو يفسدها أو يمحوها. ومن هنا فإنّ المستبدّ الذي تضعف أخلاقه أو تفسد، لا يهمّه إن أُهين شعبه، أو قُهِر جرّاء أفعاله الاستبدادية. فالمرأة المستبدّة زوجة لأحد رجال السلطة المهمّين، وقد سمحت لخدمها بضرب جميع من يمشي في الشارع الذي تمشي فيه، وأمرت خدمها أن يهينوا الحشّاش، ويربطوه، ويأخذوه عنوة إلي منزلها: «وإذا بالطواشي جاء إلي وقبض علي، فتهاربت الناس. وإذا بطواشي آخر أخذ حماري ومضي به. ثمّ جاء الطواشي وربطني بحبله وجرّني خلفه، وأنا لم أعرف ما الخبر، والناس من خلفنا يصيحون ويقولون: ما يحلّ من الله، هذا رجل حشّاش فقير الحال ما سبب ربطه بالحبال؟».
وقد يكون راوي الحكاية السابقة أضفي علي سلوك المرأة نوعاً من الغرائبية والتخيل، قاصداً بذلك إثبات أيديولوجيته المعادية لاستبداد نساء السلطة في ألف ليلة وليلة، لكن كاتب هذه الدراسة يدرس فعل السلطة، لا باعتباره فعلاً سحرياً وأسطورياً، بل باعتباره فعلاً يمكن أن يتحقّق في بنية الزمان والمكان، التاريخي والواقعي، لأنّ الإشارات التاريخية الكثيرة لممارسات السلطة من اضطهاد وتعسّف وقهر لشعوبها في العصور، تثبت أنّ ما ورد في ألف ليلة وليلة من ممارسات سلطوية استبدادية يمكن أن يكون له خلفية تاريخية ذات علاقة بواقع معيش عاصره الراوي، بعلاقاته السياسية والاجتماعية، واستفاد منه في تشكيل حكايته. فـ «قصص ألف ليلة وليلة تنبع أحداثها من حاجات المجتمع وترسم وقائعها من خلال المتطلّبات التي حدّدتها الحاجات (...) وهذا يعني أنّ نشأة القصص هذه مرتبطة بنشأة الشعب العربي، وموصولة بأحداثه التي عاصرها (...) وبإنسانه الذي كان مدار هذه القصص وبطل تلك الحكايات والأمثال». علي حدّ تعبير الدكتور نوري حمود القيسي.
وحتّي لا تحنَث المرأة السلطوية باليمين التي قطعتها علي نفسها، فإنّها قادت الحشّاش مربوطاً، مجروراً إلي قصرها، وأدخلته الحمّام، وألبسته أجمل الملابس الفاخرة، وأمرت جواريها أن يرششنه بماء الورد تمهيداً لتحقيق فعل الزني، والانتقام من زوجها: «ثمّ بعد ذلك أشارت إلي بعض الجواري أن يفرشن لنا في مكان، ففرشن في المكان الذي أمرت به. ثمّ قامت وأخذت بيدي إلي ذلك المكان المفروش ونامت ونمت معها إلي الصباح، وكنت كلّما ضممتها إلي صدري أشمّ منها رائحة المسك والطيب، وما أعتقد إلاّ أنّي في الجنّة أو أنّي أحلم في المنام». فالمرأة السلطوية تزني بالحشّاش القذر تحدّياً لزوجها وانتقاماً منه، لأنّها تعي أنّ وضعها السلطوي يحميها، وأنّها قادرة علي أن تمارس هذا الفعل بكلّ جرأة، لأنّها واثقة من قدراتها علي إخفاء الحشّاش في مخابئ القصر، إذا ما داهمها زوجها، وهي واثقة من قدرة جواريها المقرّبات علي الاحتيال، والإسراع بنجدتها إذا ما حضر زوجها بشكل مفاجئ: «فبينما أنا نائم عندها ليلة ثامن يوم وإذا بجارية دخلت وهي تجري وقالت لي: قم اطلع إلي هذه الطبقة فطلعت في تلك الطبقة».
ويبدو أنّ المرأة السلطوية ـ التي لا يذكر الراوي اسماً لهاـ اعتقدت أنّها لا تنتقم من زوجها، أو تستردّ كرامتها إذا رقدت مع الحشّاش ليلة واحدة، بل إنّها أسرفت في الانتقام منه، واستمرأت النوم مع الحشّاش، ولثماني ليالٍ متواصلة كما يشير الراوي. وإذا كان زوجها السلطوي قد سلك مسلكاً فاسداً، ومارس فعل الزني فإنّها بزّته، وتمادت في طريق الفساد، ولم تكتف بذلك فحسب، بل أذلّته بسطوة جسدها الجميل، وجعلته يقبّل الأرض بين يديها، عندها صفحت عنه، وسمحت له ثانية بامتلاك هذا الجسد. يقول الراوي: «فتقدّم (الزوج) إلي الباب وترجّل ودخل القاعة، فرآها قاعدة علي السرير، فقبّل الأرض بين يديها ثمّ تقدّم وقبّل يدها فلم تكلّمه، فما برح يخضع لها حتّي صالحها ونام عندها تلك اللّيلة».
لم يشأ راوي الحكاية أن يجعل المرأة السلطوية والرجل زوجها، غارقين في الفساد علي قدم المساواة، وذلك بأن يرتكبا فعل الزني، ويناما مع الشريك الزاني، وبعدد الليالي نفسها التي تمّ بها هذا الفعل، بل جعل المرأة تفوق الرجل في هذا الفعل بسبع ليالٍ، لأنّ هذا الراوي محكوم بأيديولوجيا رجولية تعتقد أنّ المرأة أكثر فساداً وفسقاً من الرجل، وأنّها أكثر جرأة، وإقداماً علي ارتكاب المعاصي من الرجل، لأنّ شهوتها الجنسية تفوق شهوة الرجّال، وفق هذه الأيديولوجيا الرجولية، ولأنّ هذه الشهوة عند النساء متأجّجة، ولا تستطيع ضبطها، فإنّها تلجأ إلي إشباعها بطريقة شاذة مع الحيوانات الأليفة كالدّب والقرد، كما في حكايتي: «وردان الجزّار»، و«داء غلبة الشهوة عند النساء»، أو بطريقة سحاقية كما في حكاية «عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان»، إذ تبدو المرأة العجوز السلطوية، شواهي ذات الدّواهي ولعة بسحاق جواري ولدها الملك، فقد كانت تقيم «عند ولدها حردوب ملك الروم لأجل الجواري الأبكار، لأنّها كانت تحبّ السحاق، وإن تأخّر عنها تكون في انمحاق، وكلّ جارية أعجبتها تعلّمها الحكمة، وتسحق عليها الزعفران فيغشي عليها من فرط اللذّة مدة من الزمان، فمن طاوعتها أحسنت إليها ورغّبت ولدها فيها، ومن لا تطاوعها تتحايل علي هلاكها وكانت ترغّب من تساحقها بالجواهر والتعليم».
ووفق الأيديولوجيا الرجولية المعادية للمرأة، تبدو المرأة ـ سواء أكانت سلطوية أم غير سلطوية ـ جريئة ومقدامة، وقادرة علي ارتكاب المعاصي والفجور أكثر من الرجال، ومن هنا فإنّه لا عاصم يعصم هذه المرأة من ارتكاب الموبقات، إلاّ إيمانها وخوفها من الله سبحانه وتعالي، وإن انتفي هذا الإيمان، فإنّها ستفعل ما تريده علي الرغم من كلّ سلطات الذكور، ومن كلّ الحواجز المحصّنة التي يحاصرونها بها، ويسجنونها داخلها، وهذا ما تشير إليه الأيديولوجيا الرجولية في الحكاية الأولي من حكايات ألف ليلة وليلة: حكاية «الملك شهريار وأخيه شاه زمان».
ولقد عمد معظم رواة ألف ليلة وليلة، من خلال تصويرهم لمواقف نساء الليالي، وسلوكهنّ إلي تأكيد هذه الرؤية الأيديولوجية: «إنّ المرأة إذا أرادت أمراً لم يغلبها شيء». ويبدو أنّ هذه الرؤية مستمدّة من الخلفيات المرجعية التاريخية التي اطّلع عليها الرجال، ومن ثمّ آمنوا بها، وكرّسوها في مدنهم، وفي علاقاتهم الإنسانية مع نسائهم وأخواتهم وبناتهم ونساء عصرهم، والتي تؤكّد دونية المرأة، وعدم الثقة بها، وتهالكها علي ارتكاب المعاصي.
إنّ حياة الفسق التي ينغمس فيها مجتمع السلطة تجعل أفراد هذا المجتمع عاجزين عن ممارسة السيطرة الضرورية علي ذواتهم التي تنجرف في ملاحقة العلاقات الجنسية غير الشرعية وطلبها، وإذ يبحث المرء في الزني عن العلاقات الجنسية غير الزوجية التي هي أكثر ما تتنافي مع القانون، فإنّه يكون قد دخل ضمن علاقات جنسية تُعدّ بحدّ ذاتها مخزية وناشئة عن الفسق. ومن هنا، فإنّ زني المرأة السلطوية بالحشّاش في حكاية «الحشّاش مع حريم أحد الأكابر»، كان نتيجة علاقات الفسق والفساد التي سادت في قصور ألف ليلة وليلة، والتي انغمس فيها كبار القوم من جهة، وهو في بنيته العميقة يشير إلي فساد متأصّل في طوية هذه المرأة وسلوكها وقيمها التي تربّت عليها في مجتمع سلطوي ثري مستبدّ محاط بالأبّهة والخدم، لا يأبه بالمواضعات الأخلاقية، ولا يهمّه إن غرق أعيانه في حياة قوامها الانحلال والفساد، أو بثّ الرعب في نفوس مواطنيهم، وإجبارهم علي تحقيق نزواتهم من جهة ثانية. ولو كان فعل الزني مجرّد انتقامٍ من الزوج السلطوي فحسب، لاكتفت المرأة السلطوية بالمبيت مع الحشّاش مرّة واحدة بدلاً من ثماني ليالٍ، ولا سيما أنّ الزوج مارس فعل الزني مع جارية المطبخ مرّة واحدة. أمّا المرأة فقد استمرأت هذا الفعل مع الحشّاش، لأنّه لم يعد أقذر رجل في المدينة بعد أن أدخلته حمّام قصرها، وأمرت جواريها بتنظيفه وتدليكه، وتضميخه بماء الورد، وإلباسه أجمل الملابس.
وليست هذه المرأة ـ زوجة أحد الأكابر ـ في حكاية «الحشّاش مع حريم أحد الأكابر»، هي المرأة السلطوية الوحيدة في حكايات ألف ليلة وليلة، التي تمارس فعل الزني مع الرجال القذرين، والأدني منها طبقة اجتماعية، بل هناك نساء سلطويات ـ زوجات وبنات ملوك ـ أسوأ منها بكثير، ومنهنّ زوجة أحد الملوك الكبار التي تخون زوجها الملك يومياً علي الرغم من حبّه ووفائه الشديدين لها، وسلوكه العفيف مع نساء مجتمعه وجواري قصره، كما تشير حكاية «الشاب مع الملك والأسماك الملوّنة» الداخلة ضمن حكاية «الصياد والعفريت». فقد تزوّجت هذه المرأة ـ لا يذكر الراوي اسماً لها ـ ابن عمّها صاحب الجزائر السود، وكانت تحبّه محبّة عظيمة، بحيث إذا غاب عنها لا تأكل ولا تشرب حتّي تراه، لكنّها صارت فيما بعد تكرهه وتقع في حبّ جديد ـ مثلها مثل معظم نساء ألف ليلة وليلة ـ وعندما يأتي كلّ مساء تضع بنجاً في قدح شرابه، وترتدي أجمل ملابسها، وتخرج لملاقاة عشيقها. يقول الراوي: «وإذا بها تقول: نم ليلتك (....) والله كرهتك وكرهت صورتك وملّت نفسي من عشرتك، ثمّ قامت ولبست أفخر ثيابها وتبخّرت وتقلّدت سيفاً وفتحت باب القصر».
و ذات ليلة يتظاهر الملك بالنوم أمام جاريتين من جواريه اللّتين تدلّكانه، ويكتشف من حديث الجاريتين خيانة زوجته له: «فسمعت التي عند رأسي تقول للَّتي عند رجلي يا مسعودة إنّ سيدنا مسكين شبابه ويا خسارته مع سيدتنا الخبيثة الخاطئة. قالت الأخري: (....) ولكنّ مثل سيدنا وأخلاقه لا يصلح لهذه الزانية التي كلّ ليلة تبيت في غير فراشه.فقالت التي عند رأسي: إنّ سيدنا مغفّل حيث لم يسأل عنها. فقالت الأخري: ويلك وهل عند سيدنا علم بحالها أو هي تفعل ذلك باختياره؟ بل هي تعمل له عملاً في قدح الشراب الذي يشربه كلّ ليلة قبل المنام، فتضع فيه البنج فينام ولا يشعر بما يجري ولا يعلم أين تذهب ولا ماذا تصنع».
وعندما يكتشف الملك سرّ نومه الثقيل، يمتنع في إحدي الليالي عن شراب كأسه المخدِّر، ويراوغ زوجته، ثمّ يدلق كأسه أرضاً، ويتظاهر بالنوم، فتقوم الزوجة كعادتها بارتداء أفخر ملابسها والخروج قاصدة عشيقها العبد الأسود، فينهض مسرعاً ويتبعها شاقّاً أسواق المدينة، وعندما تصل زوجته إلي عشيقها تنكشف الحقيقة المؤلمة أمامه، فيغيب عن الوجود، ويصير الضياء في وجهه ظلاماً بمفردات رواة ألف ليلة وليلة. يقول الراوي:
« وإذا بها قد دخلت علي عبد أسود فقبّلت الأرض بين يديه، فرفع ذلك العبد رأسه وقال لها: ويلك ما سبب قعودك إلي هذه الساعة؟ كان عندنا السود وشربوا الشراب وسار كلّ واحد بعشيقته وأنا ما رضيت أن أشرب! فقالت: يا سيدي وحبيب قلبي أما تعلم أنّي متزوّجة بابن عمّي وأنا أكره النظر في صورته وأبغض نفسي في صحبته ولولا أنّي أخشي خاطرك لكنت قد جعلت المدينة خراباً يصيح فيها البوم والغراب. فقال العبد تكذبين يا عاهرة وأنا أحلف وحقّ فتوة السود (...) إن بقيت تقعدي إلي هذا الوقت مثل هذا اليوم، لا أصاحبك ولا أضع جسدي علي جسدك يا خائنة، تغيبين علي من أجل شهوتك يا منتنّة يا أخسّ البيض.
قال الشاب (زوجها الملك): فلمّا سمعت كلامها وأنا أنظر بعيني ما جري بينهما صارت الدنيا في وجهي ظلاماً وصارت بنت عمّي واقفة تبكي إليه وتتذلّل بين يديه وتقول يا حبيبي وثمرة فؤادي، يا حبيبي يا نور العين! ومازالت تبكي وتتضرّع له حتي رضي عليها ففرحت وقامت وخلعت ثيابها ولباسها، وقالت يا سيدي هل عندك ما تأكله جاريتك، فقال لها: قومي لهذه القوّارة تجدي فيها ما تبغين، فقامت وأكلت وشربت وغسلت يديها وجاءت فرقدت مع العبد علي قشّ القصب، وتعرّت ودخلت معه تحت الهدمة، فلمّا نظرت إلي هذه الفعال التي فعلتها بنت عمّي غبت عن الوجود».
آثرت أن أطيل الاقتباس حتّي تتّضح الأيديولوجيا الرجولية المعادية والمحتَقِرة لهذه النوعية من النساء السلطويات الفاسدات، وإلي أي مدي يمكن أن تكون نساء السلطة في اللّيالي ـ ووفق هذه الأيديولوجيا ـ مندفعات في فسادهنّ الأخلاقي ورغباتهنّ المسعورة المتهالكة علي الجنس ومع أحّط الرجال، مع ملاحظة أنّ هذه الأيديولوجيا الرجولية هذه لا تدين المرأة الأميرة العازبة، فيما إذا اندفعت متهالكة لتحقيق فعل الجنس مع الأمير أو الملك العازب، بل نجد أنّ الراوي يشجّع هذا التهالك، ويهيئ له جميع الظروف والعوامل المساعدة لتحقيق هذا الفعل، فها هو يشجع بطله تاج الملوك علي امتلاك الأميرة العازبة دنيا بنت الملك شهرمان امتلاكاً جنسياً ويشتهي له أن ينام بين نهديها لأنّه أهل لذلك، ويثبت هذا الاشتهاء علي لسان العجوز مربّيتها، حين تصف لها بطله تاج الملوك قائلة: «كأنّ رضوان فتح أبواب الجنان وسها فخرج منها (أي تاج الملوك) وأنا أشتهي في هذه اللّيلة أن يكون عندك وينام بين نهودك فإنّه فتنة لمن يراه». ثمّ سرعان ما يقذف بهذا البطل إلي مقصورة الأميرة دنيا، ليحقّق له حلمه بامتلاك هذه الأميرة الجميلة: «ثمّ إنّ تاج الملوك عدّ خمسة أبواب ودخل الباب السادس، فوجد السيدة دنيا واقفة في انتظاره. فلمّا رأته عرفته، فضمّته إلي صدرها وضمّها إلي صدره (...) ثمّ اختلت هي وتاج الملوك. ولم يزالا في ضمّ وعناق، والتفّت ساق علي ساق إلي وقت السحَر». ثمّ بعد ذلك ليجعله عاشقاً مليئاً بالهيام والوجد والغرام، لا يطيق الصبر علي جسد الأميرة دنيا.
تشير حكايات ألف ليلة وليلة، وفي بعض حالات الحبّ والعشق والجنس إلي أنّ إيديولوجيا الرواة الرجولية تؤكّد أنّ المرأة الأميرة أكثر تهتّكاً وفساداً ورغبة في الزني من عاشقها الأمير أو الملك، الذي يرغب أن يكون فعل الجنس ذا صبغة شرعية أخلاقية، وذلك من خلال الزواج علي سنّة الله ونبيه. فالراوي في حكاية «تاج الملوك ودنيا بنت الملك شهرمان»، دفع بطله تاج الملوك إلي حضن الأميرة دنيا، ليلفّ الساق علي الساق، وليشتغل في الهراش والضمّ والعناق لنصف سنة، من دون أن يجعله يفتضّ هذه الأميرة، لا لأنّه يري أنّ هذا الافتضاض فعل شائن قائم خارج حدود أخلاقيات الزواج المتعارف عليها، بل ليؤكّد أيديولوجيته الرجولية التي تري أنّ أخلاق المرأة ـ ومهما كانت رفيعة الشأن ـ سرعان ما تتهاوي عندما يحضر الرجل الجميل الممتلئ بالقدرات الجنسية والجمالية، فالأمير تاج الملوك يعلن للأميرة دنيا أنّه زاد شوقاً وهياماً وغراماً بها، إلاّ أنّ غرامه هذا لم يبلغ غايته الكلية، عندها تدعوه الأميرة لأن يتجاوز فعل الضمّ والعناق، وصولاً إلي الغاية الكلية (فعل الجنس)، لكنّه يرفض أن يصل إلي هذه الغاية، إلاّ بعد أن تأخذ منحي شرعياً لا حرام فيه. يقول الراوي: «وأمّا ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا فإنّهما أقاما علي حالهما نصف سنة، وهما كلّ يوم يزدادان محبّة في بعضهما. وزاد علي تاج الملوك العشق والهيام والوجد والغرام، حتّي أفصح لها عن الضمير، وقال لها: اعلمي يا حبيبة القلب والفؤاد أنّي كلّما أقمت عندك ازددت هياماً ووجداً وغراماً، لأنّي ما بلغت المرام بالكلية، فقالت له: وماذا تريد يا نور عيني؟ (...) إن شئت غير الضمّ والعناق والتفاف الساق علي الساق، فافعل الذي يرضيك وليس لله فينا شريك، فقال: ليس مرادي هكذا (...) ثمّ قال: وأريد الآن أن أتوجّه إلي أبي ليرسل رسولاً إلي أبيك ويخطبك منه ونستريح».
إنّ العودة إلي الحكاية السابقة: حكاية «الشاب مع الملك والأسماك الملوّنة»، تكشف بعض ملامح الأيديولوجيا الرجولية المعادية للمرأة السلطوية الزانية، وذلك من خلال التباين الحادّ بين أخلاقها وأخلاق زوجها الملك الشاب:
الزوج الملك
الزوجة الملكة
ـ شاب بأخلاق حسنة لا يصلح لهذه الزانية.
ـ يثق بها وينام ولا يشعر بما يجري ولا يعلم أين تذهب، وماذا تصنع.
ـ يقلق علي غيابها وتأخّرها عن منزلها، ويخاف عليها من شدّة محبّته لها.
ـ يحبّها زوجها محبّة عميقة، لكنّها تحتقره وتكرهه.
ـ سيدة خبيثة خاطئة زانية.
ـ تضع له البنج كلّ ليلة في كأس شرابه.
ـ تقول له: كرهتك وكرهت صورتك وملّت نفسي من عشرتك.
ـ تحبّ عبداً أسود بشعاً محبّة عميقة، لكنّ العبد يحتقرها.
ومن ملامح هذه الأيديولوجيا الرجولية المعادية لهذه المرأة السلطوية الزانية، اندفاعها الشديد نحو العبد وتعلّقها به، وتركيز الراوي علي مدي احتقار العبد لهذه المرأة العاشقة له، مقابل خضوعها له، واستجدائها لعطفه ومحبّته. والمقارنة الآتية توضّح ذلك:
العبـد
المرأة السلطوية (الملكة)
ـ رفع ذلك العبد رأسه وقال لها:
ويلك ما سبب قعودك إلي هذه الساعة.
ـ فقال العبد تكذبين يا عاهرة.
ـ دخلت علي عبد أسود فقبّلت الأرض بين يديه.
ـ فقالت يا سيدي وحبيب قلبي أما تعلم أنّي متزوّجة بابن عمّي وأنا أكره النظر في صورته، وأبغض نفسي في صحبته.
ـ قال العبد: إن بقيت إلي هذا الوقت مثل هذا اليوم، لا أصاحبك ولا أضع جسدي علي جسدك يا خائنة، تغيبين علي من أجل شهوتك يا منتنة يا أخسّ البيض.
ـ حتي رضي عليها.
ـ فقال لها: قومي لهذه القوارة تجدي فيها ما تبغين.
ـ رضي عليها.
ـ تبكي إليه وتتذلّل بين يديه وتقول له يا حبيبي وثمرة فؤادي، يا حبيبي يا نور العين.
ـ ما زالت تبكي وتتضرّع.
ـ قالت: يا سيدي هل عندك ما تأكل جاريتك؟.
ـ خلعت ثيابها ولباسها، ورقدت مع العبد علي قشّ القصب.
إن هذه المرأة السلطوية قد قلبت الأدوار في طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثي، فإذا كان من المتعارف عليه، أنّ الذكر هو الذي يطلب الأنثي ويطاردها، في حين أنّ الأنثي تمتنع عنه، أو تعامله بغنج ودلال حتي يزداد وجداً بها، فإنّ الأيديولوجيا الرجولية الرامية إلي احتقار المرأة، واعتبارها شرّاً علي المجتمع الرجولي، قد قلبت الدور، وجعلتها المتهالكة علي إشباع شهواتها، مقابل الرجل المزدري لها. وزيادة في احتقارها، وتشويه قيمها، والطعن بأخلاقها، فقد جعلتها تكره الملك الجميل والوفي والقريب ـ ابن عمّها ـ وتسفح ماء وجهها للعبد القبيح البعيد، الذي ينصّب نفسه سيداً عليها، وتترك مائدة الملك العامرة وفراشه الوثير، لترضي باليسير من الطعام، ولترقد علي قشّ القصب، وهذه الملكة تقلب أدوار السيادة والعبودية، وتتنازل عن دورها كملكة، وترضي بدور الجارية، وذلك لصالح العبد الذي يصبح سيداً لها، موبّخاً وآمراً: «يا عاهرة.. يا خائنة.. قومي لهذه القوّارة»، مقابل أن يطفئ سعارها الجنسي.
ويبدو أنّ رواة ألف ليلة وليلة يريدون أن يؤكّدوا لمتلقّي الحكايات، أنّ الغريزة الجنسية لدي النساء تشكّل قوّة شيطانية وحشية، وهذه القوة يجب أن تُحبس وتُقمع حتّي لا تشكّل خطراً يهدّد المجتمع القائم علي مبادئ النظام الأبوي، وحتّي لا تمثّل تحدّياً واضحاً للنظام الذكوري «الذي يقضي بانتقال اسم الرجل وملكيته ومكانته وسلطته من جيل إلي الجيل الذي يليه»، علي حدّ تعبير د. سمر العطار ود. جيراهارد فيشر، ولذا يجب قمع المرأة سواء أكانت سلطوية أم من الطبقات الأخري، حتي لا تعارض هذا النظام الرجولي الذي لا يريد له الرواة الرجال أن يتنازل عن مكانته وامتيازاته لصالح نساء فاجرات تقودهنّ شهواتهنّ المتأجّجة إلي تقويض بنيانه، وإفساد قيمه.
إنّ الرغبة الجنسية عند نساء السلطة في ألف ليلة وليلة تصبح قوّة تدميرية تفتك بكلّ من يقف ضدّ إشباعها بالتواصل الجنسي، فنساء السلطة لا يرحمن من يحبط رغباتهنّ الجنسية، أو من لا يشبعها، حتّي ولو كان من أقرب المقرّبين إليهنّ. وهذا ما تشير إليه حكاية: «الملك قمر الزمان والملكة بدور»، إذ يتزوّج الملك قمر الزمان امرأتين جميلتين، وهما: الملكة بدور والملكة حياة النفوس، فيرزقه الله بولدين منهما، وهما: الأمير الأمجد من زوجته بدور، والأمير الأسعد من زوجته حياة النفوس. ويكبر الولدان حتي يصيرا في غاية الكمال ونهاية الحسن والجمال، ويفتتن بهما النساء والرجال، بمفردات راوي الحكاية، وتُفْتن بهما زوجتا الملك. إذ «إنّ محبّة الأسعد الذي هو ابن حياة النفوس وقعت في قلب الملكة بدور زوجة أبيه، وإنّ محبّة الأمجد الذي هو ابن الملكة بدور وقعت في قلب الملكة حياة النفوس زوجة أبيه، فصارت كلّ واحدة من الضرّتين تلاعب ابن ضرّتها وتقبّله وتضمّه إلي صدرها (...) وتمكّن العشق من قلب المرأتين وافتتنتا بالولدين فصارت كلّ واحدة منهما إذا دخل عليها ابن ضرّتها تضمّه إلي صدرها وتودّ أنّه لا يفارقها».
ولا تستطيع هاتان المرأتان الصبر علي هذا العشق الذي ملأ عليهما حياتهما، فتمتنعان عن الشراب والطعام وتهجران لذيذ المنام، وتكتب كلّ منهما رسالة عشق إلي ابن ضرّتها، تبدي له ولهها، وتتضرّع إليه أن يرحمها ممّا تقاسيه من اللّهف والشغف والبكاء والأنين والكآبة والاحتراق، طالبة الوصال الجنسي. ثمّ ترسلانهما إلي عشيقيهما الأميرين الأمجد والأسعد مع خادم وخادمة لهما. يقول الراوي: «فتناول الملك الأمجد المنديل من الخادم وفتحه، فرأي الورقة ففتحها وقرأها. فلمّا فهم معناها علم أنّ امرأة أبيه في عينها الخيانة، وقد خانت أباه قمر الزمان في نفسها، فغضب غضباً شديداً وذمّ النساء علي فعلهنّ (...) ثم إنّه جرّد سيفه وقال للخادم ويلك يا عبد السوء أتحمل المراسلة المشتملة علي الخيانة من زوجة سيدك؟ والله إنّه لا خير فيك يا أسود اللون والصحيفة، يا قبيح المنظر والطبيعة السخيفة. ثمّ ضرب بالسيف في عنقه فعزل رأسه عن جثّته».
ويفعل الأمير الأسعد مثلما فعل أخوه الأمير الأمجد من قبله، ويرمي عنق العجوز التي نقلت رسالة العشق من زوجة أبيه الملكة بدور. عندها تُحبَط المرأتان في عشقهما، ويصيبهما المرض والضعف الشديد، وينقلب عشقهما إلي حقد وكراهية شديدة لهذين الأميرين، وتقرّران الانتقام منهما، وذلك بتدبير مكيدة تطيح بهما. وعندما يعود الملك قمر الزمان (أبوهما) بجيشه من الصيد ويشاهد زوجتيه مريضتين، يسألهما عن حالهما، عندها تقومان بتنفيذ المكيدة لهما. يقول الراوي: «فلمّا رآهما الملك علي تلك الحالة قال لهما: مالكما؟ فقامتا إليه وقبّلتا يديه وعكستا عليه المسألة وقالتا له: اعلم أيها الملك أنّ ولديك اللذين قد تربّيا في نعمتك قد خاناك في زوجتيك، وأركباك العار. فلمّا سمع قمر الزمان من نسائه هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتاظ غيظاً شديداً حتّي طار عقله من شدّة الغيظ».
إنّ الملكتين بدور وحياة النفوس مستعدّتان لأن تقودا ولديهما الوحيدين إلي حافة الموت، وتعيشان طوال حياتهما محرومتين من عاطفة الأمومة الكريمة، لأنّ هذين الولدين أذلاّهما في كبح جموح شهوتهما الجنسية، وهما غير مستعدّتين أن تعيشا ذليلتين في ظلّهما كحاكمين مع أبيهما، وبعد موته. ويعلّل الراوي سبب اندفاعهما لقتل ولديهما ـ ووفق أيديولوجيته الخاصة ـ لأنّهما خشيتا أن تصيرا تحت ذلّ هذين الأميرين، بعد أن فضحتا نفسيهما معهما، ويمكن القول: إنّ عدم إرواء الدافع الجنسي عند الملكتين هو الذي أشعل فيهما نزعتهما العدوانية، وحقدهما علي الأميرين، ورغبتهما العميقة بقتلهما، لأنّ ثمّة عنصراً شيطانيا من العداء يظهر في حالة الكبت، وهذا العنصر من شأنه أن يجعل من النزعة الجنسية شيئاً مميتاً هدّاماً إذا لم تجد طريقها إلي الإشباع، وفق رؤية جوزيف جاسترو.
ولا ينسي راوي الحكاية أن يثبت أيديولوجيته المعادية للملكتين الشهوانيتين؛ فعندما يغادر زوجهما الملك قمر الزمان، سرعان ما تبدأ علائم الخيانة لتظهر في سلوكهما، عندها يدفع بطله الرجل الأمير الأمجد، لأنّ يذمّ النساء، ويؤكّد أنّهنّ خائنات وناقصات في دينهنّ وعقولهنّ، ثمّ يسحب هذه الأيديولوجيا علي العجوز الخادمة، لأنّها من العجائز الماكرات، ولا ينسي أن يثبت أيديولوجيته التي تشيد بأخلاق أبطاله الذكور. فالأميران الأمجد والأسعد يظهران وفاءً لوالدتيهما ولوالدهما قمر الزمان، ويقرّران أن يحافظا علي سرّهما خوفاً علي حياتهما المهدّدة، فيما إذا ظهر سرّهما للملك قمر الزمان: «ثمّ تواصيا بكتمان هذا الأمر لئلاّ يسمع به أبوهما الملك قمر الزمان فيقتل المرأتين». في حين أنّ هاتين المرأتين تبديان مكراً ولؤماً وتصميماً علي تحريض أبيهما لقتلهما، اعتقاداً منهما بأنّهما ستبقيان ذليلتين أمام الأميرين ولديهما، طالما هما مقيمان علي رأس السلطة.
ولم ينس الراوي في هذه الحكاية: حكاية «الملك قمر الزمان والملكة بدور»، أن يعمّم أيديولوجيته الرجولية المعادية للمرأة ـ تأسيساً علي حالة خاصّة لملكتين خائنتين ـ التي اكتسبها من أخلاقيات ومفاهيم وأدبيات عصره، إذ جعل بطليه الأمجد والأسعد يقولان عن النساء بعامّة، بعد أن دبّرت لهما زوجتا أبيهما تلك المكيدة:
أعوذ بالله من كيد الشياطين + بين البَرِية في الدنيا وفي الدين.
إنّ النساء شياطين خُلقنَ لنا + فهـنّ أصـل البليـات التي ظهرت
وليست نساء السلطة في ألف ليلة وليلة هنّ المستبدّات والزواني الوحيدات، بل يتساوي في ذلك معظم نساء ألف ليلة وليلة، لكنّ الرواة اهتمّوا بالتركيز، بالدرجة الأولي، علي فساد النساء في طبقتين من طبقات مجتمع ألف ليلة وليلة، وهما طبقتا السلطة والتجار. ويبدو أنّ ظاهرة الثراء الفاحش التي انغمست بها هاتان الطبقتان، قد أسهمت في فساد نسائهما وفجورهنّ، وجرأتهنّ علي ارتكاب المعاصي، فمن المعروف أن الأثرياء في المجتمعات المدنية ونظراً « لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال علي الدنيا والعكوف علي شهواتهم منها، قد تلوّثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشرّ، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتّي لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم؛ فنجد الكثير منهم يقْذِعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدّهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً». كما يقول ابن خلدون في مقدمته.
إنّ الملكة بدور بنت الملك الغيور كانت تحبّ عشيقها قمر الزمان، قبل زواجها به، محبّة شديدة، ثمّ ما لبثت أن فكّرت بخيانته عندما صار زوجاً لها، لأنّها وجدت أنّ ابن ضرّتها حياة النفوس ـ الأمير الأسعد ـ أكثر شباباً وبهاءً منه. ومن شدّة محبّتها للعشيق قمر الزمان ـ وعندما يتاح لها ذات مرّة، وقبل أن تتزوّجه، أن ترقد بجواره، وتتأمّل مفاتنه وجسده المتفجّر بالقدرات الجنسية ـ فإنّ خلايا دمها تهتاج شهوة وعشقاً له. يقول الراوي: «ثمّ فتحت جيب قميصه ومالت عليه وقبّلت رقبته ورأته بغير سروال فمدّت يدها من تحت ذيل قميصه وجسّت سيقانه، فزلقت يدها من نعومة جسمه، فانصدع قلبها وارتجف فؤادها وقبّلته في ثغره وقبّلت كفّيه، ولم تترك فيه موضعاً إلاّ قبّلته، وبعد ذلك أخذته في حضنها وعانقته، ووضعت إحدي يديها تحت رقبته والأخري تحت إبطه، ونامت بجانبه». وعندما استيقظت وما وجدته بجوارها، ظنّت أنّ قهرمانتها ووالدها الملك قد تآمرا عليها، وحرماها من هذا العشيق، النموذج الطاغي جمالياً، الذي ظلّت تبحث عنه طيلة حياتها رافضة جميع عظماء مملكة أبيها والممالك المجاورة حتّي لا تتنازل عن سلطتها لأي رجل كان. فها هو هذا النموذج الجمالي المثير والمُشتهي يحضر مُزِيحاً جميع الرجال الآخرين، محقّقاً للأميرة جميع آمالها في إشباع اندفاعها الجنسي المحموم والمكبوت، وهاهي تستيقظ ولا تجده، عند ذلك تيقّنت أنّها حُرِمت منه. فما كان منها إلاّ أن أصيبت بنوبة هستيريا أفقدتها عقلها. يقول الراوي: «وطار عقلها علي رأسها، وصارت تلتفت يميناً وشمالاً، ثمّ شقّت ثوبها إلي ذيلها، فلمّا رأي أبوها تلك الفعال أمر الجواري والخدم أن يمسكوها، فقبضوا عليها وقيدوها وجعلوا في رقبتها سلسلة من حديد وربطوها في الشباك الذي في القصر».
إنّ الاندفاع الجنسي غير المُشبَع، يسبب لصاحبه، سواء أكان امرأة أم رجلاً، حالة تشنّج دائم، تعترضها نوبات شديدة تقترب كثيراً من الصرع، علي حدّ تعبير ميشيل فوكو، وتتزامن هذه النوبات بتوتر مفرط للأعضاء الجنسية، أو ما يسمّي بالنعاظ، إذ تميل النساء المصابات بهذا المرض إلي الفعل الجنسي باندفاع قوي جدّاً، وتضمحلّ عندهنّ فكرة الحياء كلّها، علي حدّ تعبير سورانس.
وتأسيساً علي رأي ميشيل فوكو يمكن فهم حال الملكة بدور وهي تشقّ ثوبها، وتفقد قدرتها علي الاتزان العقلي، ويمكن فهم حالها بعد أن عادت إلي وعيها، وهدأت نوبتها الهستيرية الشديدة، فبعد أن شاهدت عشيقها قمر الزمان في قصر والدها، «قامت من وقتها وصلبت رجليها في الحائط، واتّكأت بقوّتها علي الغلّ الحديد، فقطعته من رقبتها، وقطعت السلاسل، وخرجت من خلف الستارة، ورمت روحها علي قمر الزمان وقبّلته في فمه وعانقته من شدّة ما بها من الغرام. وقالت له: يا سيدي هل هذا يقظة أو منام، وقد منّ الله علينا بجمع شملنا؟ ثمّ حمدت الله وشكرته علي جمع شملها بعد اليأس ودخل قمر الزمان علي الملكة بدور وفرح أبوها بعافيتها وزواجها وحمد الله(...) ونام قمر الزمان عندها تلك الليلة وبلغ أربه منها، وتمتّعت هي بحسنه وجماله، وتعانقا إلي الصباح».
إنّ تمتّع الملكة بدور بحسن عشيقها قمر الزمان وجماله، وإرواء دافعها الجنسي أسهما تماماً في شفائها من نوبات الصرع والغضب التي كانت قد أصابتها. وهنا يمكن القول: إنّ المجامعة تخفّف الغضب العنيف، ولهذا السبب لا يوجد دواءٌ مثلها نافع للغاية ضدّ الاكتئاب وكره المجتمع، فالفعل الجنسي يهيئ النفس للطمأنينة، وهو يعيد الإنسان الكئيب والغاضب إلي حالة أكثر اتزاناً، كما يري غاليان.
وتشير سيرة الملكة بدور زوجة قمر الزمان، بالإضافة إلي مكايدها ونزعتها صوب الخيانة الجنسية، إلي أنّها كانت مستبدّة، وقد نشأت نشأة استبدادية في مجتمع استبدادي، وفي كنف أبيها الملك الغيور المستبدّ الجائر والظالم والقاهر الغشوم، الذي قتل أربعين منجّما وحكيماً من منجّمي بلاده وحكمائها لأنّهم عجزوا عن شفاء ابنته بدور من نوبات مرضها العدواني، ومن شدّة استبدادها فقد قتلت قهرمانتها بالسيف، من دون أن ترتكب هذه القهرمانة أي ذنب. ويبدو أنّ عشيقها قمر الزمان، بعد أن تزوّجها، لم يستطع الحدّ من نزعاتها الاستبدادية وترويض وحش جوعها الجنسي الكاسر؛ ما دفعها لأن تتعلّق بولده الأمير الأسعد ابن الملكة حياة النفوس، ولم يستطع أن يخضعها لسلطته، وذلك لاستبدادها ورفضها منذ شبابها المبكر أن تتخلّي عن منزلتها السلطوية.
إنّ للنساء الجميلات في ألف ليلة وليلة، سواء أكنّ من طبقة السلطة أم من بقية الطبقات الاجتماعية الأخري، سطوة شديدة علي الرجال، باختلاف طبقاتهم ومراكزهم السياسية والاجتماعية. ومن الغريب أنّ الرجال الملوك والأثرياء في ألف ليلة وليلة ـ ومهما كان عدد زوجاتهم وجواريهم كثيراً ـ يطمحون دائماً إلي امتلاك المزيد من هاته النسوة الجميلات امتلاكاً جنسياً، ويبذلون كلّ ما بوسعهم لامتلاكهنّ، ويفتعلون الحروب، ويتطاحنون، ويبدّدون أنفسهم لأجل هاته النسوة. فعلي سبيل المثال: علي الرغم من كثرة نساء النبي سليمان بن داود، فإنّه كان يطمح إلي امتلاك أية امرأة جميلة ومغايرة لغيرها من النساء، عندما يسمع بخبرها من أعوانه عفاريت الجان، فعندما يصف له العفريت داهش بن الأعمش ابنة أحد الملوك ـ وهو من أولاد إبليس ـ بمحاسنها ومفاتنَها، حيث «كانت أحسن أهل زمانها ذات حسن وجمال وبهاء وكمال»، فإنّه سرعان ما يبدي رغبته في زواجها، ويرسل إلي أبيها الملك قائلاً: «زوّجني ابنتك واكسر صنمك (...) وإن أنت أبيت أتيت بجنود لا طاقة لك بها، فاستعدّ للسؤال جواباً والبس للموت جلباباً، فسوف أسير لك بجنود تملأ الفضاء». لكنّ والد الفتاة الجميلة يرفض طلبه، عندئذ يستنفر النبي مملكته وأعوانه من الإنس والجان والشياطين، ويأمر وزيره الدمرياط ملك الجان، ووزيره آصف بن برخيا بأن يزحفا بجنودهما إلي هذا الملك، ويهدما مدينته فوق رأسه. ويذهبون ويهدمون المدينة، ويتزوّج النبي سليمان هذه المرأة الجميلة ـ لا يذكر الراوي اسماً لها ـ اغتصاباً وقهراً.
إذا كان الراوي يسوّغ للنبي سليمان بن داود هدمه للمدينة، ووفق أيديولوجيا دينية تهدف إلي تحقيق رغبته في تأديب هذا الملك ـ ابن إبليس ـ وإجباره علي الإيمان برسالته النبوية، فإنّ متلقّي الحكاية سيقتنع أنّ الهدف الرئيس من هذا الهدم هوّ المرأة الجميلة الموجودة في هذه المدينة. ويذكر الراوي أنّه أرسل الرسالة التالية إلي والد الفتاة الجميلة: «أنا قد أتيت فاردد عن نفسك ما نزل، وإلاّ فادخل تحت طاعتي وأقرّ برسالتي واكسر صنمك واعبد الواحد وزوّجني ابنتك بالحلال، وقل أنت ومن معك أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ سليمان نبي الله، فإنّ قلت كان لك الأمان والسلامة، وإن أبيت فلا يمنعك تحصّنك منّي في هذه الجزيرة، فإنّ الله تبارك وتعالي أمر الريح بطاعتي، فأمرها أن تحملني إليك بالبساط وأجعلك عبرة لغيرك».
ويمكن أن يتساءل متلقّي الحكاية: لماذا لم يرجع النبي سليمان بن داود الملكَ الضالَّ ابن إبليس إلي طريق الإيمان والحقّ، إلاّ بعد أن سمع أنّ له ابنة جميلة؟ وهل غزوته مدينة الملك كانت تهدف إلي عودة هذا الملك الضالّ إلي الإيمان أم هي غزوة هدفها اختطاف المرأة الجميلة والزواج بها رغماً عنها، مع العلم أنّ هذه المرأة رافضة له عن قناعة تامّة، بناء علي قناعة أبيها الذي يكرهه. وقد يتساءل هذا المتلقّي: هل يجوز للنبي سليمان أن يتزوّج هذه المرأة قهراً، لأنّها اختارت طريق الشرك ورفضت طلبه؟ هذا إذا كان من المتعارف عليه أنّ الزواج عند كلّ الأمم والأقوام، وعبر تاريخ الحضارات المتعاقبة والمتزامنة، لا يكون إلاّ برضي الطرفين. وكيف يجوز له وهو العارف بأصول الزواج وأعرافه الاجتماعية والإنسانية، أن يجبر امرأة جميلة لا تحبّه علي الرضوخ له والزواج به كراهيةً وغصباً، وبخاصّة إذا كانت قصوره مليئة بالجواري والنساء الجميلات، ويستطيع الزواج بمن يشاء من نساء مملكته الكثيرات المؤمنات برسالته؟ وكيف يمكن فهم سرّ سطوته وإصراره علي اختطاف امرأة تبغضه، ثمّ تدمير مدينتها، وقتل أبيها. وسبي قومها؟.
إنّ المتلقّي يجد نفسه أمام احتمالين: إمّا أن يكون النصّ الحكائي نصّاً تخيلياً غرائبياً نسجته مخيلة راوٍ مبدع آثر أن يقدّم نصّاً قادراً علي إدهاش المتلقّي، وشدّه إلي الاستمتاع بهذا النصّ، والتحليق به إلي فضاءاته السحرية البعيدة. وهنا تبدو إجابته علي تساؤلاته السابقة مريحة مقنعة، فمادام فضاء الحكاية هو فضاء التخيل الغرائبي الإبداعي، فليس هناك ما يمنع الراوي من أن يقول ما يشاء، ويؤسطر ما يشاء حول حياة النبي سليمان بن داود، وطموحه لامتلاك النساء. وإمّا أن يكون النصّ الحكائي قريباً من الواقع، أو مؤسَّساً علي مجموعة من المصادر التاريخية التي تحدّثت عنه. وهنا سيعود هذا المتلقّي ويتساءل ثانية، بالإضافة إلي أسئلته السابقة: ما السرّ الخفي الكامن وراء اندفاعه للزواج بالمرأة غصباً؟ وهل أخلاقه أخلاق الأنبياء أم أخلاق الملوك؟. وقد يظلّ هذا المتلقّي عاجزاً عن إيجاد إجابات دقيقة عن أسئلته الكثيرة التي توقعه في مزيدٍ من الحيرة والشكّ والإبهام.
ويبدو أنّ النبي سليمان بن داود كان ولعاً بامتلاك النساء وحشرهنّ في قصوره، فقد كان له ألف بيت فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سُرِّية، كما يروي الطبري.
وليس غريباً علي راوي الحكاية أن يجعله يهدم مدينة، ويقتل ملكها، ويتزوّج ابنته غصباً، هذا إذا عرفنا أنّ معظم ملوك ألف ليلة وليلة وأمرائها وخلفائها، من الملك شهريار مروراً بعمر النعمان حتّي هارون الرشيد وغيرهم كثر، يتزوّجون المرأة التي يريدونها شاءت أم أبت.
ونظراً لأنّ نساء ألف ليلة وليلة فاتنات ومثيرات جنسياً، فإنّ هؤلاء الحكّام كانوا يتطامنون أمام هاته النسوة، ولذا يمكن لأية امرأة بجمال صوتها، ومفاتن جسدها، أن تكون ذات سطوة في قصرها وعلي جواريها وعلي زوجها، كدنيا البرمكية، وزوجة أحد الرجال السلطويين في حكاية: «الحشّاش مع حريم أحد الأكابر»، وجواري السيدة زبيدة. فالرواة الذين عاصروا طغاة أزمنتهم لا يستطيعون أن يتركوا أبطالهم من الملوك والأمراء في حال سعار جنسي، علي الرّغم من جبروت النساء المعشوقات وسطوتهنّ؛ فما علي النساء في نهاية المطاف إلاّ الاستسلام لرغبات رجال السلطة، وإطفاء سعارهم الجنسي. وقد كان كثير من النساء يجد لذّة في هذا الاستسلام، لأنّه يحقّق لهنّ إشباعاً جنسياً، وطموحاً للوصول إلي أعلي المراتب السياسية، وهذا الاستسلام في بنيته العميقة ليس هزيمة، بل إنّه يقود إلي المجد والسلطة، فبعد أن تستسلم المرأة لرغبات الرجل السلطوي تمارس بدورها سلطة جنسية عليه، وتمارس علي جواريها وعبيدها سلطة فعلية.
علي الرغم من سلطة النساء في ألف ليلة وليلة، وبطشهنّ واستبدادهنّ، فإنّ الرواة ـ بعد أن يبرزوا ملامح استبدادهنّ، ويبثّوا أيديولوجيتهم المعادية لهنّ ـ يحطّون من مكانتهنّ، فهنّ دائماً في وضعية تقبيل اليد لرجال السلطة، علي الرغم من مكانتهنّ الاجتماعية العليا. فالسيدة شمسة بنت الملك شهلان عشيقة الأمير جانشاه في حكاية «حاسب كريم الدين وملكة الحيات»، هي وجميع أخواتها الأميرات يقبّلن يد الأمير العاشق جانشاه عندما يصل إلي قصر والدهنّ الملك. في حين أنّ هؤلاء الرواة يعدّون الرجل السلطوي سيداً دائماً ـ في معظم حكاياتهم ـ ويعدّون المرأة بمنزلة الجارية الدونية. فمعظم النساء، مهما علا شأنهنّ، يبقين جواري لأزواجهنّ ولعشاقهنّ ولآبائهنّ، وحتّي الأميرات بنات الملوك يصبحن جواري عندما يتزوّجن أو يعشقن، لأنّ الرواة يجبرونهنّ علي التنازل عن مكانتهنّ السلطوية كأميرات. فابنة ملك صنعاء الأرستقراطية البهية التي تحاكي البدر الزاهر تصبح جارية عند الراوي، عندما يعشقها ابن أحد ملوك ألف ليلة وليلة، فهذه الأميرة «الجارية فرحت عندما سمعت من ابن الملك هذا الكلام».
وتشير حكاية «حسن الصائغ البصري» إلي أنّ الأميرة منار السنا زوجة حسن الصائغ البصري من أهمّ أميرات ألف ليلة وليلة، وأنّ والدها من أثري ملوك زمانه، وأشدّهم سطوة، ويملك أقاليم وبلاداً شاسعة، ومع ذلك فإنّ الراوي لا يراها إلاّ جارية أمام زوجها، علي الرغم من أنّ زوجها من طبقة اجتماعية دونية ـ طبقة الصاغة ـ. وحتّي يحطّ الراوي من منزلة الأميرة منار السنا، هذه المرأة التي كانت أميرة ثمّ صارت جارية بعد زواجها من حسن البصري، فإنّه يتجاهل اسمها منذ بداية خيوط سرد الحكاية، ولا يفصح عن هذا الاسم إلاّ بعد أن تكون الحكاية قد شارفت من نهايتها.
وهنا يمكن القول: إنّ البنية الثقافية لرواة الليالي، بمفاهيمها ومعتقداتها، هي انعكاس للبنية الثقافية العامّة والتجميعية لحضارة عصرهم والعصور التي سبقتهم، هذه البنية التي تعتقد جازمةً أنّ النساء لسن إلاّ جواري، علي الرغم من علوّ مكانتهنّ الاجتماعية والسياسية، ولسن في نهاية المطاف إلاّ ملكاً للرجال، و«ما خُلقت النساء إلاّ للرجال». وأنّه مطلوب منهنّ أن يطعن الرجال طاعة مطلقة، وأن لا يغادرن منازلهنّ إلاّ بأمر أزواجهنّ، لأنّ الخروج علي طاعة هؤلاء الأزواج يعني ارتكاباً للآثام، ودخول أبواب المعاصي والهلاك. وهذه الرؤي الأيديولوجية المبثوثة في حكايات ألف ليلة وليلة تشير إلي بنية الرواة المعرفية التي يكمن وراءها عقل استبدادي معادٍ لاستبداد النساء وجبروتهنّ، ويري أنّ أولي مهمّات المرأة في الحياة أن تكون وعاءً للإنجاب واللذّة وخادمة للرجل، ترضخ لأوامره، ولا تفكّر أبداً بالانفلات من حظيرة سطوته، وإلاّ فإنّ المصائب الهالكة ستحيق بها. وهاهو أحد الرواة يكشف عن رؤيته الاستبدادية، بحمولاتها المعرفية التي تدعو المرأة إلي حمل لواء طاعة الرجل، ومهما كانت رفيعة القدر، ويجعل بطلته منار السنا تعزّز ذلك. وهاهي تعتذر لزوجها حسن البصري عن خروجها من منزله ببغداد من دون أمره، مؤكّدة له أنّ كل ما حلّ بها من مصائب كان نتيجة لخروجها علي طاعته: «هيهات يا روحي هيهات أن يخلّصني أحد، ممّا أنا فيه إلاّ الله تعالي، ففز بنفسك وارحل ولا ترم روحك في الهلاك فما حلّ بي هذا إلاّ لكوني عصيتك وخالفت أمرك، وخرجت من غير إذنك، فبالله عليك يا حسن لا تؤاخذني بذنبي واعلم أنّ المرأة ما تعرف قيمة الرجل حتّي تفارقه وأنا أذنبت وأخطأت، ولكن أستغفر الله العظيم ممّا وقع منّي وإن جمعَ الله شملنا لا أعصي لك أمراً بعد ذلك أبداً».
علي الرغم من سلطة النساء في ألف ليلة وليلة، وبطشهنّ واستبدادهنّ، فإنّ الرواة ـ بعد أن يبرزوا ملامح استبدادهنّ، ويبثّوا أيديولوجيتهم المعادية لهنّ ـ يحطّون من مكانتهنّ، فهنّ دائماً في وضعية تقبيل اليد لرجال السلطة، علي الرغم من مكانتهنّ الاجتماعية العليا. فالسيدة شمسة بنت الملك شهلان عشيقة الأمير جانشاه في حكاية «حاسب كريم الدين وملكة الحيات»، هي وجميع أخواتها الأميرات يقبّلن يد الأمير العاشق جانشاه عندما يصل إلي قصر والدهنّ الملك. في حين أنّ هؤلاء الرواة يعدّون الرجل السلطوي سيداً دائماً ـ في معظم حكاياتهم ـ ويعدّون المرأة بمنزلة الجارية الدونية. فمعظم النساء، مهما علا شأنهنّ، يبقين جواري لأزواجهنّ ولعشاقهنّ ولآبائهنّ، وحتّي الأميرات بنات الملوك يصبحن جواري عندما يتزوّجن أو يعشقن، لأنّ الرواة يجبرونهنّ علي التنازل عن مكانتهنّ السلطوية كأميرات. فابنة ملك صنعاء الأرستقراطية البهية التي تحاكي البدر الزاهر تصبح جارية عند الراوي، عندما يعشقها ابن أحد ملوك ألف ليلة وليلة، فهذه الأميرة «الجارية فرحت عندما سمعت من ابن الملك هذا الكلام».
وتشير حكاية «حسن الصائغ البصري» إلي أنّ الأميرة منار السنا زوجة حسن الصائغ البصري من أهمّ أميرات ألف ليلة وليلة، وأنّ والدها من أثري ملوك زمانه، وأشدّهم سطوة، ويملك أقاليم وبلاداً شاسعة، ومع ذلك فإنّ الراوي لا يراها إلاّ جارية أمام زوجها، علي الرغم من أنّ زوجها من طبقة اجتماعية دونية ـ طبقة الصاغة ـ. وحتّي يحطّ الراوي من منزلة الأميرة منار السنا، هذه المرأة التي كانت أميرة ثمّ صارت جارية بعد زواجها من حسن البصري، فإنّه يتجاهل اسمها منذ بداية خيوط سرد الحكاية، ولا يفصح عن هذا الاسم إلاّ بعد أن تكون الحكاية قد شارفت من نهايتها.
وهنا يمكن القول: إنّ البنية الثقافية لرواة الليالي، بمفاهيمها ومعتقداتها، هي انعكاس للبنية الثقافية العامّة والتجميعية لحضارة عصرهم والعصور التي سبقتهم، هذه البنية التي تعتقد جازمةً أنّ النساء لسن إلاّ جواري، علي الرغم من علوّ مكانتهنّ الاجتماعية والسياسية، ولسن في نهاية المطاف إلاّ ملكاً للرجال، و«ما خُلقت النساء إلاّ للرجال». وأنّه مطلوب منهنّ أن يطعن الرجال طاعة مطلقة، وأن لا يغادرن منازلهنّ إلاّ بأمر أزواجهنّ، لأنّ الخروج علي طاعة هؤلاء الأزواج يعني ارتكاباً للآثام، ودخول أبواب المعاصي والهلاك. وهذه الرؤي الأيديولوجية المبثوثة في حكايات ألف ليلة وليلة تشير إلي بنية الرواة المعرفية التي يكمن وراءها عقل استبدادي معادٍ لاستبداد النساء وجبروتهنّ، ويري أنّ أولي مهمّات المرأة في الحياة أن تكون وعاءً للإنجاب واللذّة وخادمة للرجل، ترضخ لأوامره، ولا تفكّر أبداً بالانفلات من حظيرة سطوته، وإلاّ فإنّ المصائب الهالكة ستحيق بها. وهاهو أحد الرواة يكشف عن رؤيته الاستبدادية، بحمولاتها المعرفية التي تدعو المرأة إلي حمل لواء طاعة الرجل، ومهما كانت رفيعة القدر، ويجعل بطلته منار السنا تعزّز ذلك. وهاهي تعتذر لزوجها حسن البصري عن خروجها من منزله ببغداد من دون أمره، مؤكّدة له أنّ كل ما حلّ بها من مصائب كان نتيجة لخروجها علي طاعته: «هيهات يا روحي هيهات أن يخلّصني أحد، ممّا أنا فيه إلاّ الله تعالي، ففز بنفسك وارحل ولا ترم روحك في الهلاك فما حلّ بي هذا إلاّ لكوني عصيتك وخالفت أمرك، وخرجت من غير إذنك، فبالله عليك يا حسن لا تؤاخذني بذنبي واعلم أنّ المرأة ما تعرف قيمة الرجل حتّي تفارقه وأنا أذنبت وأخطأت، ولكن أستغفر الله العظيم ممّا وقع منّي وإن جمعَ الله شملنا لا أعصي لك أمراً بعد ذلك أبداً».
إنّ رؤية الرواة الأيديولوجية المأخوذة بوهم الرجولة والسيادة والتفوّق، أسهمت إلي حدّ بعيد في تشكيل نساء ألف ليلة وليلة المستبدّات اللواتي يشكّلن خطراً علي مجتمع الرجال ومجتمع النساء في آن. ومن هنا فإنّه وجب علي الرجال ـ وفق أيديولوجيا هؤلاء الرواة ـ في المدن الإسلامية وغير الإسلامية، حتّي يمنعوا مدّ شرور النساء وبطشهنّ، وحتّي يعمّ الأمان والطمأنينة، أن يكبحوا جموح النساء، وأن يقلّصوا أدوارهنّ في الحياة السياسية والاجتماعية، ووجب علي النساء أن تعمل علي دوام مرضاتهم وسعادتهم، ولذائذهم في المأكل والمشرب والجسد، وخدمة أولادهم، وتربيتهم التربية التي يرونها مناسبة.
أنّ المسـتبدّين والطغاة في ألف ليلة وليلة، رجالاً ونساءً، كانوا يجدون لذّة في تعذيب الناس وقهرهم، وكان يحسّون بالرضي يملأ نفوسهم، وهم يشاهدون الناس البسطاء يفرّون مذعورين أمامهم .
إنّ حياة الفسق التي ينغمس فيها مجتمع السلطة تجعل أفراد هذا المجتمع
عاجزين عن ممارسة السيطرة الضرورية علي ذواتهم التي تنجرف في ملاحقة العلاقات الجنسية غير الشرعية وطلبها .
ويبدو أنّ رواة ألف ليلة وليلة يريدون أن يؤكّدوا لمتلقّي الحكايات، أنّ الغريزة الجنسية لدى النساء تشكّل قوّة شيطانية وحشية .
وليست نساء السلطة في ألف ليلة وليلة هنّ المستبدّات والزواني الوحيدات، بل يتساوي في ذلك معظم نساء ألف ليلة وليلة ..
.