نقوس المهدي
كاتب
لألف ليلة وليلة، هذا العمل الأدبي الذي تمتزج فيه الخرافة بالأسطورة، بالسحر، بالأحلام، بالواقع, أثر كبير في مختلف الأجناس الأدبية، سواء أكانت شعرا أم قصة أم رواية أم مسرحا. ولم يقتصر تأثير هذا العمل الكبير على الأدب العربي فحسب، بل كان تأثيرا شديدا في مختلف آداب الشعوب والحضارات المعاصرة.
يبدو اهتمام الغرب الأوروبي بـ»ألف ليلة وليلة« واضحا في الأدب والرسم والنحت والموسيقى، وقد ترجمت ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية أولا، إذ ترجمها أنطوان جالان ANTOINE GALLAND من عام 1704 حتى عام 1717م ترجمة حرّه، ثم تُرجمت إلى اللغات الأوروبية ترجمات عديدة (?).
إنّ لألف ليلة وليلة تأثيراً بعيد المدى في آداب الأمم والشعوب وفنونها العديدة، فقد أثّرت في آداب هذه الأمم وما تزال تؤثر حتّى الآن، ويمكن القول: إنّ كتاب ألف ليلة وليلة ترجم إلى معظم لغات العالم الرئيسة، وتأثّر به كبار رجال الفكر والأدب في العالم، واستلهموا منه أجمل ما كتبوه من نصوص إبداعية، فقد أكّد فولتير أهمية كتاب ألف ليلة وليلة قائلاً: لم أصبح قاصاً إلا بعد أن قرأت ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة. أمّا الناقد الفرنسي ستندال فقد أعجب به إعجاباً شديداً وتمنى أن يصاب بفقدان الذاكرة حتى يعيد قراءة حكايات ألف ليلة وليلة، ويستمتع بها، كما استمتع بها في أول قراءة لها. أمّا أناتول فرانس فقد أكّد أنّه تتلمذ على حكايات ألف ليلة وليلة قبل أن يكون أديباً.
وتقول الناقدة الألمانية أردموتة هللر عن ألف ليلة وليلة: (أسهمت حكايات ألف ليلة وليلة في خلق الصور الرومانسية الخيالية عن الشرق، إذ حملته معها ونقلته إلى الغرب. وتسنّى للغرب من خلال حكايات شهرزاد اكتشاف الشرق. ولا يوجد مؤلف شرقي (بفتح اللام) أثّر تأثيراً قويا في الأدب الأوروبي مثل تلك الحكايات الرائعة والجذابة. وبين ليلة وضحاها أصبح هذا الكتاب جزءاً لا يتجزأ من الأدب العالمي تماماً مثل إلياذة هوميروس، وآينيز، وفرجيل، وديكاميرونة، وبوكاتشيو، والملحمة الألمانية القديمة المسماة nibelungenlied) أما الباحث والناقد الإنكليزي كولريدج ، فيقول عن ألف ليلة وليلة: (إنّ قصص شهرزاد شبيهة بالأحلام ، إذ إنها لا تبعدنا عن الواقع ولكنها تعطينا صورة مغايرة له تلك الصورة التي لا يدركها العقل)(?).أما الباحث والناقد جون جو لميير فيقول: (إنّ شخصية شهرزاد أثّرت تأثيراً حاسماً في تاريخ المرأة الأوروبية، وجعلت القرن الثامن عشر أعظم القرون في حياتها، وكان لجمالها وثقتها بنفسها ، وتصديها وحدها لشهريار الذي عجز كلّ الرجال عن أن يوقفوه، واستخدامها لسلاح الأنوثة والمعرفة معاً، كان لهذا كله أثر كبير في تكوين شخصية المرأة الأوروبية).(?)
لقد أثرت ألف ليلة وليلة في جميع الأجناس الأدبية الأجنبية ، وفي الفنون أيضاً ، وقد كان تأثيرها واضحاً في الكتابات القصصية التي ظهرت في فرنسا وانجلترا وإيطاليا خلال القرن الثامن عشر، والتي ظهرت في أمريكا خلال القرن التاسع عشر، ومن النصوص الأجنبية التي تأثرت بهذه الحكايات: (فاثيك، لبكفورد1786م)، و(لالا روخ، لتوم مور 1817م)، وقصائد بيرون المطولة، ومنها: (رحلة الفارس هارولد )، ومجموعة قصائده الموسومة بـ (حكايات تركية). ونشر توماس هوب في عام 1819م رواية بعنوان: (أنا ستازيس : مذكرات يوناني)، وفيها استقى عوالم ألف ليلة وليلة السحريّة والغرائبيّة. وكتب جيمس جوستنين موريي (1780 ـ 1849م) رواية بعنوان: (مغامرات حاجي بابا )، ذكر في مقدمة طويلة لها علاقة روايته بحكايات ألف ليلة وليلة، ثمّ عاد ونسج من عوالم ألف ليلة وليلة عدة روايات أخرى، وهي على التوالي: (الرهين زهراب 1832م)، (عائشة ، 1834)، (ميرزا، 1841م)، (مسلمة: قصة فارسية، 1847م).
وكتب كنج ليك عملا بعنوان: ( إيثون: إي من الشرق 1844) ، وهو عبارة عن رحلة عبر تركيا وسورية وفلسطين ومصر، استدعى من خلال عمله الإلياذة لهوميروس، وكذلك حكايات ألف ليلة وليلة ، وفي عمله هذا عبّر عن كراهيته الشديدة للمسلمين والعرب، ووصف الرجل منهم بأنّه جثّة هامدة جافة، وأنّ عقله محنّط كالمومياء.(?)
وتأثّر الأديب والفيلسوف مونتسكيو في كتابه: ( الخطابات الفارسية 1721م)، بحكايات ألف ليلة وليلة حين تصويره للولائم، ولعادات الشرق، ولحريمه وعلاقاتهنّ. أمّا فولتير فقد كان من أكثر الأدباء الذين تأثروا بهذه الحكايات، ويظهر هذا التأثير واضحاً في رواياته: (صادق، 1747م)، ( سمير أميس، 1748م)،( أميرة بابل،1768م)، وقصة: ( العالم كيفما يسير،1747م).
وقد حاول أنطوني هاملتون (1646 ـ 1720م) في روايتيه: (حكاية الحمل) و:(قصة زهرة الشوك)، أن يقلّد شخوص ألف ليلة وليلة في مغامراتهم، وعلاقاتهم بالجان. أمّا اللورد وليم بيكفورد، فقد أبدى إعجاباً شديداً بهذه الحكايات، وكتب قصّة بعنوان: ( الخليفة الواثق بالله 1782م)، مستوحياً أحداثها وعلاقات قصورها من أحداث حكايات ألف ليلة وليلة وفضاءاتها المكانية. أمّا الفرنسي تيوفيل جوتييه فقد كان عاشقاً لمدينة القاهرة التي تعدّ من أهم مدن ألف ليلة وليلة، وقد وصف شوارعها وأسواقها المزدحمة، وحوانيتها التجاريّة العامرة بجميع أنواع البضائع، ومن خلال عشقه لهذه المدينة الجميلة التي قرأ عنها كثيراً، وسمع أخبارها العجيبة من أصدقائه الرحالة، ثمّ زارها في ما بعد، وقد كتب عنها في رواياته المليئة بموتيفات ألف ليلة وليلة وصورها، وهذه الروايات: (وجبة في صحراء مصر، 1831م)، (ليلة من ليالي كليوباترة،1838م)، (قدم المومياء 1840م)، (رواية المومياء 1858م).(?) أمّا قصة روبنسون كروسو ، ورحلات كاليفرز الإنكليزية فهما مأخوذتان، في بنية أحداثها وخيالاتها من بنية حكايات السندباد البحري ورحلاته السبع صوب جزر العالم البعيدة ومرافئه.
وقد أخبرني صديقي المستشرق الصيني الأستاذ الدكتور شريف شي سي تونغ أنّ بعضاً من حكايات ألف ليلة وليلة يدرس في المدارس الابتدائية والثانوية الصينية، بالإضافة إلى الجامعات، وبخاصة كليات الآداب والتاريخ والعلوم الإنسانية في الصين، وقد قمت وبنفسي، بتدريس حكايات السندباد البحري وأسفاره لطلابي في شعبة الماجستير بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، وقد أبدى هؤلاء الطلاب إعجاباً شديداً بهذه الحكايات.
ولم يقتصر تأثير ألف ليلة وليلة على القصة والرواية فحسب، بل تعداه إلى أنواع الفنون كافة، ففي المسرح نجد أن المسرحيتين الأوروبيتين: (علاء الدين)، و: (حلاق اشبيلية) تتناصان بشكل واضح وكبير مع حكايتين من حكايات ألف ليلة وليلة ، وهما: (مزين بغداد)، و (علاء الدين والمصباح السحري) .أمّا المسرحي الأسباني لوبي دي فيجا lepe de vega فقد كان أهمّ المسرحيين الأسبان الذين تأثّروا بحكايات ألف ليلة وليلة ، وبخاصّة حكاية ( تودد الجارية مع الخليفة هارون الرشيد) ، وقد سميت إحدى مسرحياته المتأثرة بشكل مباشر بهذه الحكاية بـ: (الجارية تيودور) .(?)
لقد كانت حكايات ألف ليلة وليلة بالنسبة لفناني العالم مكمناً للسحر والتخيّل الخصب وكانت شهرزاد بالنسبة لهم مثالاً للمرأة المتمردة على علاقات مقاصير الحريم ونظمها وقوانينها وضوابطها، ومثالاً للمرأة الشهوانية والمثيرة التي تفضح وتعري بنات جنسها، وتصف أدقّ خصوصيات المرأة في علاقاتها مع عالم الرجال،وفي الوقت نفسه مثالا للجمال الشرقي الأخّاذ ، والمعرفة والحكمة، والذكاء الذي استطاع أن يردع شهريار عن استمراره في قتل بنات مدينته في كل ليلة. هذا الجمال الذي بدا لهم أقرب إلى الأسطورة، فاستوحوا من شخصيتها أجمل اللوحات الفنيّة، وكانت رحلات السندباد البحري، بعوالمها الغرائبية و السحريّة الموشومة بالعفاريت والجنّ والسحرة، معيناً لا ينضب، وقادرا على أن يشكّل مزيداً من اللوحات الفنيّة . وقد كان لترجمة (أنطوان جالان) لكتاب ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية أثر كبير على أدباء الغرب، لأنّ هذه الترجمة تعدّ من أوائل الترجمات، وأكثرها قرباً إلى نفوس الفرنسيين، وأكثرها جاذبية سحريّة لهؤلاء الفرنسيين. ومن أجواء ألف ليلة وليلة استوحى الرسامون: رينوار وماتيس وإنجر، أجمل لوحاتهم ، فرسموا الجواري ومحظيات السلاطين، وجميلات القصور، أمّا الفنان (ديلاكروا)، فقد فتحت حكايات ألف ليلة وليلة آفاق مخيلته الرحبة، فسافر إلى المغرب والجزائر، وأقام فيهما، وبدأ يرسم النساء العربيات الغارقات في نعيم القصور وعزّها، ورسم من وحي ألف ليلة وليلة لوحته المشهورة (نساء الجزائر)، أمّا الفنان ( فان دونجن)، فقد استوحى لوحته المعروفة (راقصة شرقية) من حكايات ألف ليلة وليلة. وشكّل الفنان (أنج تيسييه) من شخصية شهرزاد لوحات فنية زيتية مشعّة بالجمال والأنوثة.
لقد نال كتاب ألف ليلة وليلة اهتماماً من مفكري الأدب العالمي وأعلامه، لم ينله أي كتاب آخر، هذا إذا استثنينا القرآن الكريم، فظهرت فيه دراسات كثيرة تناولت حكاياته، بالتحليل والدراسة والمقارنة, والمؤثرات الداخلة فيها، ويصعب على أيّ دارس أدبي، مهما كان واسع الإطلاع والمعرفة، أن يحيط بجميع دارسي هذه الحكايات، إلاّ أنه يمكن القول: إنّ من أهم الكتاب الأجانب الذين درسوا حكاياته، وحللوها: د. ب. ماكدونالد ( 1863 ـ 1943م)، ج. أويسترب (1867 ـ 1938م)، إينو ليتمان (1875 ـ 1938م)، يوسف فون هامر، وليم لين، دي غويه، نولدكه، تسيبولد، كريمسكي، هرمان زوتنبرغ، شوفان، رينيه باسيه، فون شليكل، أوغست ميلر، إميل كالتييه، فون لولمرنيك، هـ. ريتر، وليم بوبر، سلفستر دي ساسي، هوروفتز، كالتييه، باتريك رسل، سيتزن، رودري باريت، وليم جونز، كوسكان وبرزيلسكي، كرونباوم، هـ . كريكوار، ر.كوسنس.
ولم تتوقف الدراسات الأجنبية في حكايات ألف ليلة وليلة عند هؤلاء الأسماء، بل ظهرت دراسات جديدة معاصرة استكملت الدراسات السابقة، وأتت بنتائج جديدة ومهمّة، ولعلّ أهمّ الدارسين المعاصرين لهذا العمل الأدبي الخالد: هنري فارمر، أندريه ميكيل، تزيفيتان تودوروف، فردريش فون ديرلاين، هو جوفون هوفمنستال، ميشيل جاك، إدجار ويبر، دايفيد بينولت، جيروم كلينتون، برتف بوراتاف، خورخي لويس بورخيس، أندرياس حاموري، جيرهار فيشر، إليوت كولا، سيلفيا بافلن وآخرون، ومن الصينيين المعاصرين الذين التقيت بهم في بكين، والذين كتبوا عن ألف ليلة وليلة، الأساتذة الدكاترة : شريف تشي بو هاو، وصاعد تشونغ جيكون، ولي تشين تشونغ.
ولا نغالي إذا قلنا إنّ ألف ليلة وليلة شكّلت لدى الغربيين حافزا مثيراً وقويا دفعهم إلى التطلع إلى الشرق، ومدنه وفضاءاته المكانيّة التي أسهمت في بناء هذه الحكايات. ولقد كان لهذا الكتاب في ما بعد دور كبير في دفع حركة الاستشراق وانتشارها بقوة، لأنّ الأوروبيين أحبّوا هذا العمل، وافتتنوا به، واعتبروه المسرود الثاني بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، القرآن الكريم، فما كان من أدبائهم ومستشرقيهم إلاّ وأن تاقوا لزيارة بلدان الشرق وعوالمها السحريّة، فرحلوا إلى هذا الشرق باحثين، وراغبين في معرفة سرّ غوامضه، ثمّ في ما بعد دوّنوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن هذا الشرق في كتب عديدة.
لقد دخلت حكايات ألف ليلة وليلة في نسيج التركيب المعرفيّ للثقافة الأجنبية، على اتساعها الزماني والمكاني، وأثّرت فيها تأثيراً شديداً، ولا تزال تؤثّر حتى الآن، ويصعب على أيّ باحث، مهما كان واسع الإطلاع والمعرفة، أن يكشف عن جميع جوانب هذا التأثير، في جميع الأجناس الأدبيّة، سواء أكانت أوروبية أم أمريكية، أم آسيوية، أم غير ذلك.
وتكمن حكايات ألف وليلة في كونها تعبّر عن رؤية شمولية لحياة المجتمعات الإنسانية، في حضارات متعددة ـ متعاقبة ومتزامنة ـ بأحلامها وأفراحها وأحزانها ومصائبها وخيباتها، وتناقضاتها، ولأنّها تتوغل بعيدا إلى أغوار النفس الإنسانية، لتكشف عن استبطاناتها وكوامنها الخفيّة، وما يعتمل في هذه النفس من شرور وآثام من جهة، وصفاء ونقاء وحبّ للخير والفضيلة من جهة أخرى. ومن هنا فإنّ هذه الحكايات تجسّد كثيرا من الرؤى والمفاهيم والقيم التي تؤمن بها الجماعات البشرية، والتي تتعامل بها مع جماعات أخرى، وفي مجتمعات أخرى.
إنّ حكايات ألف ليلة وليلة تمتّد بعيدا لتشمل حضارات ومدنا قامت عبر التاريخ، لأنها حكايات عربية وفارسية وهندية ويونانية(?). وقد كان للمثاقفة الحضارية بين الأمم والحضارات دور كبير في جعل ألف ليلة وليلة عملا عظيما، متشعب المعارف والاتجاهات الفكريّة، وفضاء واسعا تلتقي فيه مدن العالم الكثيرة، وتتجاور وتقيم علاقاتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والتجارية. وتشير نصوص ألف ليلة وليلة إلى أنّ كثيرا من مدنها كانت تتقارب في ملامحها وعلاقاتها وعاداتها، وطبقاتها الاجتماعية، وجمال جواريها، وعبث شطارها ولصوصها، وبطش خلفائها وملوكها، وعظمة قصورها، وجمال بساتينها، وازدهار تجارتها واتساعها. وهذه الملامح شبيهة ـ إلى درجة كبيرة ـ بملامح المدينة الفارسية والهندية التي ذكرتها الليالي وبملامح المدن المتخيّلة التي شكّلها رواة الليالي من خلال خيالهم الخصب، وأحلامهم البعيدة الجامحة وقراءتهم المتشعبة في التاريخ والتراث والعمران والسياسة.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت ألف ليلة وليلة بالنقد والتحليل، فإنّ هذا العمل الأدبي المتميز يبقى غنيا بموضوعاته الكثيرة التي لم تتطرّق إليها الدراسات الأكاديمية والنقدية بعد. ومن هذه الموضوعات التي هي على قدر كبير من الأهمية، والتي تشكل محاور مهمة يمكن أن تضيء كثيرا من جوانب ألف ليلة وليلة المسكوت عنها:
1ـ التناصّ بين حكايات ألف ليلة و ليلة وبين المصادر الأدبيّة والتاريخيّة التي ذكرت كثيراً من حكايات ألف ليلة و ليلة، وبتحويرات جدّ طفيفة. ومن هذه المصادر: الفرج بعد الشدة لأبي علي المحسّن بن علي التنوخي، والمستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي، وأخبار النساء لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن بكر الزرعي (ابن قيّم الجوزيّة)، و الروض العاطر في نزهة الخاطر لمحمد بن أبي بكر بن علي النفزاوي، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، ومصارع العشّاق لجعفر بن أحمد بن الحسين السّراج، وتحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (رحلة ابن بطوطة) لمحمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي (ابن بطوطة).
2 ـ ملامح إيديولوجيا الرواة الإسلاميّين، ومعاداتهم للمسيحيّين واليهود و المجوس.
3 ـ ظاهرة اللهو والمجون في فضاءات قصور ألف ليلة وليلة.
4 ـ المقاييس الجماليّة المرغوبة في نساء ألف ليلة و ليلة كما يحدّدها أذواق الرجال الرواة.
5 ـ نشاط الحركة التجارية في ألف ليلة وليلة، و علاقة التجار بطبقة السلطة، وملامح إيديولوجيا الرواة المعادية للتجار والتجارة من جهة، والمساندة لهم من جهة أخرى.
6 ـ تأثير ألف ليلة وليلة في الرواية العربية المعاصرة، و بخاصّة في روايات نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ويوسف القعيد.
7 ـ تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح العربي الحديث و المعاصر، وبخاصّة في مسرحيّات توفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير وألفريد فرج وسعد الله ونوس ومحمد الشرفي ونعمان عاشور.
8 ـ دور المال في مدن الليالي وعلاقات سكّانها، وتقديس بعض الشخوص له.
9 ـ الجريمة و القتل في ألف ليلة وليلة، وبخاصة جريمة بتر الأطراف.
10 ـ ظاهرة الشذوذ الجنسيّ في ألف ليلة وليلة: مظاهرها، ودوافعها.
11 ـ التكرار في ألف ليلة و ليلة، وذلك في وصف أشكال النساء، وطرائق احتيالهنّ، ووصف القصور، والتكرار في حركة الأبطال و في أحداث بعض الحكايات.
12 ـ طبيعة العلاقة بين السياسيّ السلطويّ والمعرفيّ: الزهديّ والفقهيّ والدينيّ، وانضواء المعرفيّ تحت جناح السلطوي من جهة، ورفض المعرفيّ للسياسيّ و إدانته، والابتعاد عنه من جهة أخرى.
إن الأبحاث القادرة على الإحاطة بجميع أبعاد ألف ليلة وليلة تحتاج إلى جهود عدّة باحثين و مختّصين وخبراتهم في مختلف ميادين المعرفة والعلوم الإنسانيّة، ولأن نصوص ألف ليلة هي نصوص متشعّبة، وتنتمي إلى حضارات متعددة، وقابلة لأن تُفهم وتُفسّر تفاسير متباينة من باحث إلى آخر. وإذا كان النصّ الأدبي: يتألّف من كتابات متعدّدة تنحدر من ثقافات عديدة وتدخل في حوار مع بعضها البعض وتتحاكى وتتعارض (?)، فإنه يصعب على أيّ دارس، مهما كان واسع الإطلاع والمعرفة، أن يكشف عن هذه الثقافات بتعدد مصادرها، وأن يعرف أين تتحاكى وتتعارض.
* د. محمـــد عبدالرحمن يونس
يبدو اهتمام الغرب الأوروبي بـ»ألف ليلة وليلة« واضحا في الأدب والرسم والنحت والموسيقى، وقد ترجمت ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية أولا، إذ ترجمها أنطوان جالان ANTOINE GALLAND من عام 1704 حتى عام 1717م ترجمة حرّه، ثم تُرجمت إلى اللغات الأوروبية ترجمات عديدة (?).
إنّ لألف ليلة وليلة تأثيراً بعيد المدى في آداب الأمم والشعوب وفنونها العديدة، فقد أثّرت في آداب هذه الأمم وما تزال تؤثر حتّى الآن، ويمكن القول: إنّ كتاب ألف ليلة وليلة ترجم إلى معظم لغات العالم الرئيسة، وتأثّر به كبار رجال الفكر والأدب في العالم، واستلهموا منه أجمل ما كتبوه من نصوص إبداعية، فقد أكّد فولتير أهمية كتاب ألف ليلة وليلة قائلاً: لم أصبح قاصاً إلا بعد أن قرأت ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة. أمّا الناقد الفرنسي ستندال فقد أعجب به إعجاباً شديداً وتمنى أن يصاب بفقدان الذاكرة حتى يعيد قراءة حكايات ألف ليلة وليلة، ويستمتع بها، كما استمتع بها في أول قراءة لها. أمّا أناتول فرانس فقد أكّد أنّه تتلمذ على حكايات ألف ليلة وليلة قبل أن يكون أديباً.
وتقول الناقدة الألمانية أردموتة هللر عن ألف ليلة وليلة: (أسهمت حكايات ألف ليلة وليلة في خلق الصور الرومانسية الخيالية عن الشرق، إذ حملته معها ونقلته إلى الغرب. وتسنّى للغرب من خلال حكايات شهرزاد اكتشاف الشرق. ولا يوجد مؤلف شرقي (بفتح اللام) أثّر تأثيراً قويا في الأدب الأوروبي مثل تلك الحكايات الرائعة والجذابة. وبين ليلة وضحاها أصبح هذا الكتاب جزءاً لا يتجزأ من الأدب العالمي تماماً مثل إلياذة هوميروس، وآينيز، وفرجيل، وديكاميرونة، وبوكاتشيو، والملحمة الألمانية القديمة المسماة nibelungenlied) أما الباحث والناقد الإنكليزي كولريدج ، فيقول عن ألف ليلة وليلة: (إنّ قصص شهرزاد شبيهة بالأحلام ، إذ إنها لا تبعدنا عن الواقع ولكنها تعطينا صورة مغايرة له تلك الصورة التي لا يدركها العقل)(?).أما الباحث والناقد جون جو لميير فيقول: (إنّ شخصية شهرزاد أثّرت تأثيراً حاسماً في تاريخ المرأة الأوروبية، وجعلت القرن الثامن عشر أعظم القرون في حياتها، وكان لجمالها وثقتها بنفسها ، وتصديها وحدها لشهريار الذي عجز كلّ الرجال عن أن يوقفوه، واستخدامها لسلاح الأنوثة والمعرفة معاً، كان لهذا كله أثر كبير في تكوين شخصية المرأة الأوروبية).(?)
لقد أثرت ألف ليلة وليلة في جميع الأجناس الأدبية الأجنبية ، وفي الفنون أيضاً ، وقد كان تأثيرها واضحاً في الكتابات القصصية التي ظهرت في فرنسا وانجلترا وإيطاليا خلال القرن الثامن عشر، والتي ظهرت في أمريكا خلال القرن التاسع عشر، ومن النصوص الأجنبية التي تأثرت بهذه الحكايات: (فاثيك، لبكفورد1786م)، و(لالا روخ، لتوم مور 1817م)، وقصائد بيرون المطولة، ومنها: (رحلة الفارس هارولد )، ومجموعة قصائده الموسومة بـ (حكايات تركية). ونشر توماس هوب في عام 1819م رواية بعنوان: (أنا ستازيس : مذكرات يوناني)، وفيها استقى عوالم ألف ليلة وليلة السحريّة والغرائبيّة. وكتب جيمس جوستنين موريي (1780 ـ 1849م) رواية بعنوان: (مغامرات حاجي بابا )، ذكر في مقدمة طويلة لها علاقة روايته بحكايات ألف ليلة وليلة، ثمّ عاد ونسج من عوالم ألف ليلة وليلة عدة روايات أخرى، وهي على التوالي: (الرهين زهراب 1832م)، (عائشة ، 1834)، (ميرزا، 1841م)، (مسلمة: قصة فارسية، 1847م).
وكتب كنج ليك عملا بعنوان: ( إيثون: إي من الشرق 1844) ، وهو عبارة عن رحلة عبر تركيا وسورية وفلسطين ومصر، استدعى من خلال عمله الإلياذة لهوميروس، وكذلك حكايات ألف ليلة وليلة ، وفي عمله هذا عبّر عن كراهيته الشديدة للمسلمين والعرب، ووصف الرجل منهم بأنّه جثّة هامدة جافة، وأنّ عقله محنّط كالمومياء.(?)
وتأثّر الأديب والفيلسوف مونتسكيو في كتابه: ( الخطابات الفارسية 1721م)، بحكايات ألف ليلة وليلة حين تصويره للولائم، ولعادات الشرق، ولحريمه وعلاقاتهنّ. أمّا فولتير فقد كان من أكثر الأدباء الذين تأثروا بهذه الحكايات، ويظهر هذا التأثير واضحاً في رواياته: (صادق، 1747م)، ( سمير أميس، 1748م)،( أميرة بابل،1768م)، وقصة: ( العالم كيفما يسير،1747م).
وقد حاول أنطوني هاملتون (1646 ـ 1720م) في روايتيه: (حكاية الحمل) و:(قصة زهرة الشوك)، أن يقلّد شخوص ألف ليلة وليلة في مغامراتهم، وعلاقاتهم بالجان. أمّا اللورد وليم بيكفورد، فقد أبدى إعجاباً شديداً بهذه الحكايات، وكتب قصّة بعنوان: ( الخليفة الواثق بالله 1782م)، مستوحياً أحداثها وعلاقات قصورها من أحداث حكايات ألف ليلة وليلة وفضاءاتها المكانية. أمّا الفرنسي تيوفيل جوتييه فقد كان عاشقاً لمدينة القاهرة التي تعدّ من أهم مدن ألف ليلة وليلة، وقد وصف شوارعها وأسواقها المزدحمة، وحوانيتها التجاريّة العامرة بجميع أنواع البضائع، ومن خلال عشقه لهذه المدينة الجميلة التي قرأ عنها كثيراً، وسمع أخبارها العجيبة من أصدقائه الرحالة، ثمّ زارها في ما بعد، وقد كتب عنها في رواياته المليئة بموتيفات ألف ليلة وليلة وصورها، وهذه الروايات: (وجبة في صحراء مصر، 1831م)، (ليلة من ليالي كليوباترة،1838م)، (قدم المومياء 1840م)، (رواية المومياء 1858م).(?) أمّا قصة روبنسون كروسو ، ورحلات كاليفرز الإنكليزية فهما مأخوذتان، في بنية أحداثها وخيالاتها من بنية حكايات السندباد البحري ورحلاته السبع صوب جزر العالم البعيدة ومرافئه.
وقد أخبرني صديقي المستشرق الصيني الأستاذ الدكتور شريف شي سي تونغ أنّ بعضاً من حكايات ألف ليلة وليلة يدرس في المدارس الابتدائية والثانوية الصينية، بالإضافة إلى الجامعات، وبخاصة كليات الآداب والتاريخ والعلوم الإنسانية في الصين، وقد قمت وبنفسي، بتدريس حكايات السندباد البحري وأسفاره لطلابي في شعبة الماجستير بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، وقد أبدى هؤلاء الطلاب إعجاباً شديداً بهذه الحكايات.
ولم يقتصر تأثير ألف ليلة وليلة على القصة والرواية فحسب، بل تعداه إلى أنواع الفنون كافة، ففي المسرح نجد أن المسرحيتين الأوروبيتين: (علاء الدين)، و: (حلاق اشبيلية) تتناصان بشكل واضح وكبير مع حكايتين من حكايات ألف ليلة وليلة ، وهما: (مزين بغداد)، و (علاء الدين والمصباح السحري) .أمّا المسرحي الأسباني لوبي دي فيجا lepe de vega فقد كان أهمّ المسرحيين الأسبان الذين تأثّروا بحكايات ألف ليلة وليلة ، وبخاصّة حكاية ( تودد الجارية مع الخليفة هارون الرشيد) ، وقد سميت إحدى مسرحياته المتأثرة بشكل مباشر بهذه الحكاية بـ: (الجارية تيودور) .(?)
لقد كانت حكايات ألف ليلة وليلة بالنسبة لفناني العالم مكمناً للسحر والتخيّل الخصب وكانت شهرزاد بالنسبة لهم مثالاً للمرأة المتمردة على علاقات مقاصير الحريم ونظمها وقوانينها وضوابطها، ومثالاً للمرأة الشهوانية والمثيرة التي تفضح وتعري بنات جنسها، وتصف أدقّ خصوصيات المرأة في علاقاتها مع عالم الرجال،وفي الوقت نفسه مثالا للجمال الشرقي الأخّاذ ، والمعرفة والحكمة، والذكاء الذي استطاع أن يردع شهريار عن استمراره في قتل بنات مدينته في كل ليلة. هذا الجمال الذي بدا لهم أقرب إلى الأسطورة، فاستوحوا من شخصيتها أجمل اللوحات الفنيّة، وكانت رحلات السندباد البحري، بعوالمها الغرائبية و السحريّة الموشومة بالعفاريت والجنّ والسحرة، معيناً لا ينضب، وقادرا على أن يشكّل مزيداً من اللوحات الفنيّة . وقد كان لترجمة (أنطوان جالان) لكتاب ألف ليلة وليلة إلى اللغة الفرنسية أثر كبير على أدباء الغرب، لأنّ هذه الترجمة تعدّ من أوائل الترجمات، وأكثرها قرباً إلى نفوس الفرنسيين، وأكثرها جاذبية سحريّة لهؤلاء الفرنسيين. ومن أجواء ألف ليلة وليلة استوحى الرسامون: رينوار وماتيس وإنجر، أجمل لوحاتهم ، فرسموا الجواري ومحظيات السلاطين، وجميلات القصور، أمّا الفنان (ديلاكروا)، فقد فتحت حكايات ألف ليلة وليلة آفاق مخيلته الرحبة، فسافر إلى المغرب والجزائر، وأقام فيهما، وبدأ يرسم النساء العربيات الغارقات في نعيم القصور وعزّها، ورسم من وحي ألف ليلة وليلة لوحته المشهورة (نساء الجزائر)، أمّا الفنان ( فان دونجن)، فقد استوحى لوحته المعروفة (راقصة شرقية) من حكايات ألف ليلة وليلة. وشكّل الفنان (أنج تيسييه) من شخصية شهرزاد لوحات فنية زيتية مشعّة بالجمال والأنوثة.
لقد نال كتاب ألف ليلة وليلة اهتماماً من مفكري الأدب العالمي وأعلامه، لم ينله أي كتاب آخر، هذا إذا استثنينا القرآن الكريم، فظهرت فيه دراسات كثيرة تناولت حكاياته، بالتحليل والدراسة والمقارنة, والمؤثرات الداخلة فيها، ويصعب على أيّ دارس أدبي، مهما كان واسع الإطلاع والمعرفة، أن يحيط بجميع دارسي هذه الحكايات، إلاّ أنه يمكن القول: إنّ من أهم الكتاب الأجانب الذين درسوا حكاياته، وحللوها: د. ب. ماكدونالد ( 1863 ـ 1943م)، ج. أويسترب (1867 ـ 1938م)، إينو ليتمان (1875 ـ 1938م)، يوسف فون هامر، وليم لين، دي غويه، نولدكه، تسيبولد، كريمسكي، هرمان زوتنبرغ، شوفان، رينيه باسيه، فون شليكل، أوغست ميلر، إميل كالتييه، فون لولمرنيك، هـ. ريتر، وليم بوبر، سلفستر دي ساسي، هوروفتز، كالتييه، باتريك رسل، سيتزن، رودري باريت، وليم جونز، كوسكان وبرزيلسكي، كرونباوم، هـ . كريكوار، ر.كوسنس.
ولم تتوقف الدراسات الأجنبية في حكايات ألف ليلة وليلة عند هؤلاء الأسماء، بل ظهرت دراسات جديدة معاصرة استكملت الدراسات السابقة، وأتت بنتائج جديدة ومهمّة، ولعلّ أهمّ الدارسين المعاصرين لهذا العمل الأدبي الخالد: هنري فارمر، أندريه ميكيل، تزيفيتان تودوروف، فردريش فون ديرلاين، هو جوفون هوفمنستال، ميشيل جاك، إدجار ويبر، دايفيد بينولت، جيروم كلينتون، برتف بوراتاف، خورخي لويس بورخيس، أندرياس حاموري، جيرهار فيشر، إليوت كولا، سيلفيا بافلن وآخرون، ومن الصينيين المعاصرين الذين التقيت بهم في بكين، والذين كتبوا عن ألف ليلة وليلة، الأساتذة الدكاترة : شريف تشي بو هاو، وصاعد تشونغ جيكون، ولي تشين تشونغ.
ولا نغالي إذا قلنا إنّ ألف ليلة وليلة شكّلت لدى الغربيين حافزا مثيراً وقويا دفعهم إلى التطلع إلى الشرق، ومدنه وفضاءاته المكانيّة التي أسهمت في بناء هذه الحكايات. ولقد كان لهذا الكتاب في ما بعد دور كبير في دفع حركة الاستشراق وانتشارها بقوة، لأنّ الأوروبيين أحبّوا هذا العمل، وافتتنوا به، واعتبروه المسرود الثاني بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، القرآن الكريم، فما كان من أدبائهم ومستشرقيهم إلاّ وأن تاقوا لزيارة بلدان الشرق وعوالمها السحريّة، فرحلوا إلى هذا الشرق باحثين، وراغبين في معرفة سرّ غوامضه، ثمّ في ما بعد دوّنوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن هذا الشرق في كتب عديدة.
لقد دخلت حكايات ألف ليلة وليلة في نسيج التركيب المعرفيّ للثقافة الأجنبية، على اتساعها الزماني والمكاني، وأثّرت فيها تأثيراً شديداً، ولا تزال تؤثّر حتى الآن، ويصعب على أيّ باحث، مهما كان واسع الإطلاع والمعرفة، أن يكشف عن جميع جوانب هذا التأثير، في جميع الأجناس الأدبيّة، سواء أكانت أوروبية أم أمريكية، أم آسيوية، أم غير ذلك.
وتكمن حكايات ألف وليلة في كونها تعبّر عن رؤية شمولية لحياة المجتمعات الإنسانية، في حضارات متعددة ـ متعاقبة ومتزامنة ـ بأحلامها وأفراحها وأحزانها ومصائبها وخيباتها، وتناقضاتها، ولأنّها تتوغل بعيدا إلى أغوار النفس الإنسانية، لتكشف عن استبطاناتها وكوامنها الخفيّة، وما يعتمل في هذه النفس من شرور وآثام من جهة، وصفاء ونقاء وحبّ للخير والفضيلة من جهة أخرى. ومن هنا فإنّ هذه الحكايات تجسّد كثيرا من الرؤى والمفاهيم والقيم التي تؤمن بها الجماعات البشرية، والتي تتعامل بها مع جماعات أخرى، وفي مجتمعات أخرى.
إنّ حكايات ألف ليلة وليلة تمتّد بعيدا لتشمل حضارات ومدنا قامت عبر التاريخ، لأنها حكايات عربية وفارسية وهندية ويونانية(?). وقد كان للمثاقفة الحضارية بين الأمم والحضارات دور كبير في جعل ألف ليلة وليلة عملا عظيما، متشعب المعارف والاتجاهات الفكريّة، وفضاء واسعا تلتقي فيه مدن العالم الكثيرة، وتتجاور وتقيم علاقاتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والتجارية. وتشير نصوص ألف ليلة وليلة إلى أنّ كثيرا من مدنها كانت تتقارب في ملامحها وعلاقاتها وعاداتها، وطبقاتها الاجتماعية، وجمال جواريها، وعبث شطارها ولصوصها، وبطش خلفائها وملوكها، وعظمة قصورها، وجمال بساتينها، وازدهار تجارتها واتساعها. وهذه الملامح شبيهة ـ إلى درجة كبيرة ـ بملامح المدينة الفارسية والهندية التي ذكرتها الليالي وبملامح المدن المتخيّلة التي شكّلها رواة الليالي من خلال خيالهم الخصب، وأحلامهم البعيدة الجامحة وقراءتهم المتشعبة في التاريخ والتراث والعمران والسياسة.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت ألف ليلة وليلة بالنقد والتحليل، فإنّ هذا العمل الأدبي المتميز يبقى غنيا بموضوعاته الكثيرة التي لم تتطرّق إليها الدراسات الأكاديمية والنقدية بعد. ومن هذه الموضوعات التي هي على قدر كبير من الأهمية، والتي تشكل محاور مهمة يمكن أن تضيء كثيرا من جوانب ألف ليلة وليلة المسكوت عنها:
1ـ التناصّ بين حكايات ألف ليلة و ليلة وبين المصادر الأدبيّة والتاريخيّة التي ذكرت كثيراً من حكايات ألف ليلة و ليلة، وبتحويرات جدّ طفيفة. ومن هذه المصادر: الفرج بعد الشدة لأبي علي المحسّن بن علي التنوخي، والمستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي، وأخبار النساء لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن بكر الزرعي (ابن قيّم الجوزيّة)، و الروض العاطر في نزهة الخاطر لمحمد بن أبي بكر بن علي النفزاوي، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، ومصارع العشّاق لجعفر بن أحمد بن الحسين السّراج، وتحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (رحلة ابن بطوطة) لمحمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي (ابن بطوطة).
2 ـ ملامح إيديولوجيا الرواة الإسلاميّين، ومعاداتهم للمسيحيّين واليهود و المجوس.
3 ـ ظاهرة اللهو والمجون في فضاءات قصور ألف ليلة وليلة.
4 ـ المقاييس الجماليّة المرغوبة في نساء ألف ليلة و ليلة كما يحدّدها أذواق الرجال الرواة.
5 ـ نشاط الحركة التجارية في ألف ليلة وليلة، و علاقة التجار بطبقة السلطة، وملامح إيديولوجيا الرواة المعادية للتجار والتجارة من جهة، والمساندة لهم من جهة أخرى.
6 ـ تأثير ألف ليلة وليلة في الرواية العربية المعاصرة، و بخاصّة في روايات نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ويوسف القعيد.
7 ـ تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح العربي الحديث و المعاصر، وبخاصّة في مسرحيّات توفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير وألفريد فرج وسعد الله ونوس ومحمد الشرفي ونعمان عاشور.
8 ـ دور المال في مدن الليالي وعلاقات سكّانها، وتقديس بعض الشخوص له.
9 ـ الجريمة و القتل في ألف ليلة وليلة، وبخاصة جريمة بتر الأطراف.
10 ـ ظاهرة الشذوذ الجنسيّ في ألف ليلة وليلة: مظاهرها، ودوافعها.
11 ـ التكرار في ألف ليلة و ليلة، وذلك في وصف أشكال النساء، وطرائق احتيالهنّ، ووصف القصور، والتكرار في حركة الأبطال و في أحداث بعض الحكايات.
12 ـ طبيعة العلاقة بين السياسيّ السلطويّ والمعرفيّ: الزهديّ والفقهيّ والدينيّ، وانضواء المعرفيّ تحت جناح السلطوي من جهة، ورفض المعرفيّ للسياسيّ و إدانته، والابتعاد عنه من جهة أخرى.
إن الأبحاث القادرة على الإحاطة بجميع أبعاد ألف ليلة وليلة تحتاج إلى جهود عدّة باحثين و مختّصين وخبراتهم في مختلف ميادين المعرفة والعلوم الإنسانيّة، ولأن نصوص ألف ليلة هي نصوص متشعّبة، وتنتمي إلى حضارات متعددة، وقابلة لأن تُفهم وتُفسّر تفاسير متباينة من باحث إلى آخر. وإذا كان النصّ الأدبي: يتألّف من كتابات متعدّدة تنحدر من ثقافات عديدة وتدخل في حوار مع بعضها البعض وتتحاكى وتتعارض (?)، فإنه يصعب على أيّ دارس، مهما كان واسع الإطلاع والمعرفة، أن يكشف عن هذه الثقافات بتعدد مصادرها، وأن يعرف أين تتحاكى وتتعارض.
* د. محمـــد عبدالرحمن يونس