ضياء عبدالله خميس الكعبيّ - متخيّل ألف ليلة وليلة ودوائر التلقي

يذكر الناقد المغربيّ عبدالفتّاح كليطو في تصديره لكتابه «العين والإبرة، دراسة في ألف ليلة وليلة» الخرافة المغربية بشأن «الليالي العربيّة» قيل «إنه ليس بوسع أي أحد قراءة ألف ليلة وليلة من أولها إلى آخرها دون أن يموت»، ويردف كليطو قائلاً: «ليطمئنْ القارئ أنه لن يموت بسبب الليالي لكونه لن يتمكن، حتى وإنْ رغب في ذلك، من إتمام هذا الكتاب المتشظي الذي يُعتبر متنًا يضم عددًا لا يُحصى من المخطوطات والطبعات والترجمات والإضافات والشروح والكتب المُعادة، وسيظلُ هناك أبدًا نصٌ آخر من الليالي قابلاً للكشف والقراءة».لقد خضع هذا الكتاب لأكثر من ترجمة أوروبية أولها ترجمة الفرنسي أنطوان غالان للكتاب، وهي ترجمة تصرفت فيما زعم غالان أنه عثر عليه لدى تاجر سوري من مخطوطات لليالي. وهي ترجمة كذلك أخضعت النص لذائقة المتلقي الأوروبي وبالتالي أعملت القص والحذف والتعديل والتغيير والتحوير في مواضع كثيرة من الكتاب في جناية كبيرة على المتخيّل السردي ارتكبها غالان بقصدية واضحة! ومن التحقيقات المهمة لهذا الكتاب عمل المستشرق هابخط الصادر عن بريسلاو.
ورغم انتعاش الدراسات الشعبيّة في مصر منذ ثلاثينيات القرن الماضي من خلال تدفق عدد من الدراسات الأكاديميّة الجادة الرصينة في مجال الثقافة الشعبيّة إلا أن َّكتاب «ألف ليلة وليلة» بالذات تعرض لأكثر من محاكمة في مصر بوصفها مصدرًا لطبعة بولاق الأولى والثانية اللتين طُبِعَتا طبعة حجرية في مطلع القرن التاسع عشر الميلاديّ. ورغم تداول هذا الكتاب بطبعاته الشعبيّة غير المهذبة ولا المشذَّبة بين أوساط القراء باختلاف فئاتهم إلا أنَّ هذا الكتاب تعرَّض لمحاكمة غريبة جدًا في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم اتهم فيها ناشره حسين محمد صبيح بأنَّ الكتاب الذي نشره «يحوي قصصًا وألفاظًا مرسومة مخلة بالآداب العامة وخادشة للحياء ومنافية لأخلاق المجتمع المصريّ!» في حين كان دفاع المتهم أنَّ هذا الكتاب «من كتب التراث التي يقوم بطبعها منذ أمد طويل وأنه لم يُضف إليها أو يحذف منها شيئا باعتبار أنَّ التراث يجب المحافظة عليه ونشره كما هو». وبعد أربع جلسات وحكم بالاستئناف حكمت المحكمة ببراءة الكتاب وبراءة ناشره من التهم المرفوعة ضده1، والغريب في الموضوع أنه قبل بضع سنوات وبالتحديد سنة 2010 سُحِبَتْ نسخة مصورة لألف ليلة وليلة عن طبعة دار الكتب المصريّة حقّقها أحد المستشرقين المعروفين وهو المستشرق الألماني هابخط! ثم أُتيحت النسخة مرة أخرى للتداول!
أعدُّ كتاب «أنبئوني بالرؤيا» الذي صنّفه كليطو تحت اسم«رواية» بمثابة سيرة ذاتيّة متخيّلة ومختلقة سرديّا لعلاقة الناقد بكتاب «الليالي العربيّة» The Arabian Nights. وهذا نمطٌ فريدٌ في نوع السيرة الذاتية، أي سيرتنا المتقاطعة مع كتاب أثَّر في تشكيلنا وفي ذائقتنا الثقافية والأدبية، وإن كانت هذه السيرة الذاتية مواربة ومستترة وغير معلنة إلا من خلال التأويل الذي يمارسه المتلقي الفطن على سيرة الكاتب والكتاب معًا. لقد بدأ كليطو هذه العلاقة والتواصل السرديّ التأويليّ باختصاصه الدقيق في مجال السرديات العربية القديمة وخاصة المقامات العربيّة إلى جانب الموروثات السردية العربيّة الأخرى من خلال إخضاعها لتأويلاته المنهجية. ولا تقلّ «الليالي العربيّة» في جاذبيتها السردية عند الناقد الذي عدّها كتابًا لانهائيًا في تخلّقه السردي رغم انتمائها إلى فضاء الثقافة الشعبيّة غير العالِمة»، ورغم الحظر المعلن في مؤسسات الثقافة الرسميّة، وهو الكتاب الذي صُودرت نسخه من معرض القاهرة الدوليّ للكتاب في بداية ثمانينيات القرن الماضي ولا تزالُ بعض نسخه تخضع للمصادرة ومحاكمة ناشريها، وليس ببعيدٍ عنا طبعة دار الكتب المصرية لطبعة بريسلاو المُعاد نشرها بتحقيق المستشرق هابخط بن مكسيمليانوس وما حدث لها من محاولة حظر قبل سنوات قلائل في القاهرة أيضًا. ولعلَّها مفارقة ثقافية أنَّ «الليالي العربية» ظلّتْ تتخلّق سردًا وتتناسلُ في أنواع سردية أخرى من بينها الحكاية والسيرة الشعبية وغيرها من أنواع الحكي السرديّ، فمن الصعب جدًا أن نختزل عقلنا العربيّ في جانبه العقلانيّ فقط كما حاول محمد عابد الجابريّ في كتبه عن العقل العربيّ ثم تراجعه في كتابه «العقل السياسيّ العربيّ» عندما اعترف بوجود مخيالات عدة منبثقة من إطار الحضارة العربية الإسلامية، وهذه المخيالات جزء من شخصيتنا التاريخية والثقافية العربية رغم اتسامها بسمات المختلف والمؤتلف والمتعدد الثقافي. ورغم كون ألف ليلة وليلة موروثًا قصصيًا إنسانيًا خضع لتراكم حكائيّ أبدعته عدة ثقافات إلا أنَّ الإضافات والتأويلات العربية شكّلت بنية أساسية في الروايات البغدادية والشامية والمصرية لهذا الكتاب «اللامتناهي» وفق تعبير كليطو. كما أنَّ تأثيراته في الآداب الشعبية الإقليمية والعربية وفي الرواية الحديثة والمعاصرة أمر ملحوظ حظي بعدد كبير من الدراسات في مجال الأدب المقارنComparative Literature.
لماذا اختار كليطو الليالي العربية كي تكون متخيّله السرديَّ الذي صنفه في «رواية»؟! يكتشف السارد إسماعيل «ألف ليلة وليلة» عندما يلتقطُ هذا الكتابَ من فوق أريكة بغرفة جدته، وهكذا بدأ الطفل «إسماعيل» بقراءة الكتاب مخالفًا سرد شهرزاد الليليّ» كنتُ أقرأ في الفراش، على ضوء النهار... نقيض شهرزاد التي تروي في الليل وتسكتُ في الصباح.
كنتُ بقطعي القراءة في المساء، أخالفُ إشارتها الضمنية وأعكس نظام الأشياء. أشار الناقد تزفيتين تودوروف إلى أنَّ السرد في ألف ليلة وليلة كان يعني الحياة والتوقف عن السرد كان يعني الموت، ولذلك نجدُ أنَّ التقنيات السردية في نصوص الليالي العربية قائمة أساسًا على إلحاق حكاية داخل حكاية في كل ليلة فلا تنتهي الليلة بانتهاء الحكاية وإلا كانت نشوة الانتشاء قد بلغت أوجها عند شهريار فانتعش ثم سيصيبه الضجر والملل وسيقتل شهرزاد... لقد كانت شهرزاد أذكى من شهريار فجعلته لا يشعر بتلك النشوة وإنَّما جعلته دائم اللهفة والترقب والانتظار إلى الليلة الحادية بعد الألف وفي انتظار تتمة حكاية لتلحقها بحكاية يترقب بشوق خاتمتها. في سمفونية «شهرزاد» الخالدة للروسيّ ريمسكي كورساكوف ثمَّة تأويل موسيقي لحكاية شهرزاد وشهريار تعبر عنها النغمات الموسيقية الهادئة ثم المتصاعدة بثورة بركان يوشك على الانفجار ثم الهدوء بعد ذلك. وثمَّة تأويل نفسي للحكاية عبَّر عنه النمساويّ برونو بتلهايم في كتابه «التحليل النفسيّ للحكايات الشعبية» وهو يحلل نفسيا الشخصيتين الرئيسيتين في «ألف ليلة وليلة» مستعينًا بآليات التحليل النفسيّ عند سيجموند فرويد: لقد جعل شهريار يمثل «الهو» الخاضع للغرائز في حين تمثل شهرزاد «الأنا الأعلى»، وهي تحاول بواسطة الحكي إعادة التوازن النفسيّ إلى شهريار وتنجح في النهاية في إحداث ذلك. وختامً أقول ستظل لليالي العربية دائما سطوتها الجاذبة على المتلقين بمختلف فئاتهم في هذا الكون كله؛ سطوها مصدرها جاذبية الحكي اللامتناهية!
1- انظر الوقائع الطريفة في محاكمة كتاب ألف ليلة وليلة مجلة فصول، المجلد الثاني عشر، العدد الرابع، شتاء 1994(ألف ليلة وليلة) الجزء الأول.،ص ص273-293.


- د. ضياء عبدالله خميس الكعبيّ - متخيّل ألف ليلة وليلة ودوائر التلقي
* أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث
 
أعلى