سامي عبدالوهاب - تصوّر الحكاية الشعبية للجان

تزخر الكثير من الحكايات الشعبية بمخلوقات أخرى غير الإنسان تشاركه حياته وتؤثر فيها وفي مصيره، حتى أن معظم الدارسين والباحثين يضعون طائفة من الحكايات الشعبية تحت اسم «الحكاية الخرافية».

وعالم هذه الحكايات هو «المجهول» الذي يقابل لاشعور الإنسان، أو العالم الداخلي الخفي للإنسان، والذي تتحرك فيه الدوافع التي يحسها صاحبها وإن كان لا يدركها بوعي وهو يستجيب لها وكأن كل شيء يتم في عالم من السحر. «1»

وهذا العالم المجهول في الحكاية الشعبية الخرافية يزخر بكائنات تجسدها مخاوف الإنسان وطموحاته وتخيلاته عما لا يعرف، كائنات مثل الجن والغيلان والساحرات والمردة والحيوانات والطيور الغريبة كالرخ والعنقاء وغيرها.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو «لماذا يلجأ الإنسان إلى اقتحام هذه العوالم المجهولة رغم إدراكه ضعفه وقلة حيلته...؟».

يرى «أندريه يولس» أن الحكاية الخرافية تحقق للإنسان حياة العدالة والحب التي يحلم بها، ويضيف «ماكس لوتي» إلى ذلك، أن الحكاية الخرافية تقدم بوسائلها الخاصة جوابا شافيا عن السؤال الذي يدور بخلد الشعب عن مصيره.

من هنا كان من الضروري للإنسان - إزاء القلق الناشيء عن غموض العالم من حوله - أن يجد متنفسا لمشاعره في هذا النوع من الحكايات، أو بمعنى آخر كان لزاما عليه أن يصنع لنفسه عالما آخر يفسر له غموض العالم الواقعي من حوله، ويجسد حلمه بالعدالة المفتقدة.

٭٭٭

نتناول فيما يلي تصور الحكاية الشعبية لأحد هذه العناصر، وهو الجان. لا شك أن صورة الجان في الحكاية الشعبية قد تشكلت في الأساس انطلاقا من تصور الإنسان - خاصة في عصوره البدائية - لهذا الكائن شكلا وطبيعة ووظيفة.

وقد اعتقد الإنسان بوجود الجان عنصرا مؤثرا في حياته منذ ما قبل ظهور الأديان ونزول الكتب السماوية - التي لم تنف هذا الوجود - بل أثبتته وبينته كما في قول الله عز وجل في سورة الأحقاف «وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين» «آية:92»، وكذلك في قوله سبحانه وتعالى أيضا في سورة تحمل اسم الجن «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا»، وهذا إلى جانب ما هو معروف - من القرآن أيضا - من تسخير الله الجن لنبيه سليمان - عليه السلام - ينفذون أوامره ويعملون له ما يشاء.

وروي الطبراني بإسناد حسن عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجن ثلاثة أصناف، فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء وصنف حيات وصنف يحلون ويظعنون»، ومن ثم فقد ازداد إيمان الإنسان به واعتقاده بأنه يلعب دورا مؤثرا في حياته.

ولكن... كيف رأى الإنسان هذا الكائن؟ وكيف تصور شكله وطبيعته؟ وما هي مصادره التي استقى منها الرؤية والتصور؟ ثم كيف وظفه فنيا في حكاياته؟

يقول ادوارد وليم لين )2( «يعتقد العرب في الخرافات اعتقادا عظيما، ويعد عرب مصر أكثرهم تعلقا بهذه الاعتقادات الباطلة، وأكثر هذه الخرافات اعتبارا الاعتقاد بالجن»، وينقل عنهم قولهم إن الجن أصلهم سابق على آدم - وهو هنا لم يطلع على الآية الكريمة التي تقول: «ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم» - وأنهم - أي الجن - في خصائصهم العامة طبقة من الكائنات تتوسط بين الملائكة والإنس، وتقل عنهما فضلا وأنها خلقت من نار وتستطيع أن تتشكل بأشكال الناس والبهائم والوحوش الخيالية، كما يمكنها أن تختفي عن الأنظار كما تريد.. ومنهم المؤمنون ومنهم الكفرة، ويسكنون الأنهار والخرائب والآبار والحمامات والأفران والمراحيض.

ويقول «لين» أيضا إن العرب يخشون الجن، أخيارهم وأشرارهم ويعتقدون أنهم كثيرا أو دائما يتشكلون بأشكال القطط والكلاب والحيوانات المفترسة وقد روى الشيخ خليل المدابغي - وهو من أشهر علماء مصر في تلك الفترة - الحكاية التالية: «كان له، كما يقول، قط أسود عزيز، وفي منتصف إحدى الليالي سمع طرقا على باب داره، فقام القط وفتح مصراع الباب وهتف: من؟ فأجابه صوت: «أنا فلان الجني... افتح الباب»، فقال قط الشيخ: إن المزلاج قرئ عليه اسم الله، فقال الآخر: «إذن اقذف لي رغيفين من الخبز» فأجاب القط: إن سلة الخبز سمي عليها، قال الغريب: «أعطني جرعة ماء إذن» فرد عليه بأن وعاء الماء محفوظ بنفس الطريقة، فسأل ماذا يستطيع أن يفعل وهو يوشك أن يموت جوعا وعطشا؟

فأشار عليه القط أن يذهب إلى الدار التالية، وذهب هو بنفسه وفتح الباب ثم عاد، وفي الصباح التالي غفل الشيخ عن عادة كان يراعيها دائما فأعطى القط نصف الفطيرة التي كان يفطر بها بدلا من قطعة صغيرة اعتاد أن يعطيه إياها، ثم قال له: «يا قطي العزيز، أنت تعلم أني فقير، فجئني إذن ببعض الذهب»... فاختفى القط في الحال ولم يره الشيخ بعدها أبدا...

وقد جاء في بعض الأخبار «3» «أن نوعا من الجن في قدم الزمان قبل خلق آدم عليه السلام - كانوا سكانا في الأرض وقد طبقوها برا وبحرا، وسهلا وجبلا، وكان فيهم النبوة والملك والدين والشريعة، وكانوا يطيرون إلى السماء ويسلمون على الملائكة ويستعلمون منهم خبر ما في السماء، وكثرت نعم الله عليهم إلى أن طغوا وبغوا وتركوا وصايا أنبيائهم فأرسل الله عليهم جندا من الملائكة فحصل بينهم مقتلة عظيمة، وغلبوا الجن وطردوهم إلى أطراف البحار».
وهناك أيضا ما يعرف «بالمتشيطنة» ومنها السعلاه ويحكى أن صنفا منها يتزى بزي النساء ويتراءى للرجال، وحكي أن بعضهم تزوج امرأة منهن وهو لا يعلم وأنجب منها ثم تركته ذات ليلة وطارت ولم تعد إليه...

ومن أشهر ملوك الجان « إبليس» الذي تملك الأرض - كما يقول المسعودي - مدة طويلة إلى أن خلق آدم وجرى له ما جرى مع إبليس.

ويقول الدميري في كتابه «حياة الحيوان»«4» إن الجن أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة.

ونتيجة لهذه المعتقدات - سواء الدينية أو الشعبية - تشكلت صورة الجان في الحكاية، واتخذت أشكالا متعددة، فهو إما متناه في الصغر أو العكس، ففي حكاية «الصياد مع العفريت» وهي من حكايات «ألف ليلة وليلة» يصف الصياد الجني بعد أن فتح القمقم النحاسي وخرج منه دخان أخذ يتجمع حتى صار عفريتا «رأسه في السحاب، ورجلاه في التراب، برأس كالقبة وأيد كالمذاري، ورجلين كالصواري، وفم كالمغارة، وأسنان كالحجارة، ومناخير كالإبريق وعينين كالسراجين، أشعث أغبر».

هذا من ناحية الشكل الخارجي للجان، أما من ناحية طبيعته فهم كما سبق القول أجسام هوائية تتشكل حسبما يقتضي الحال في الحكاية، لا يرتبط بقوانين الحركة التي يتقيد بها الإنسان متجاوزا الزمان والمكان، أو هم كما جاء في الحديث الشريف السابق ذكره ثلاثة أصناف، صنف يطير وصنف حيات وصنف يقيم ويرحل، ويرى فيه المعتقد الشعبي القدرة على التلبس بالإنسان وإلحاق الضرر به وعليه يستلزم الأمر بعض الطقوس التي يتكسب منها السحرة والدجالون والمشعوذون، ويمضي المعتقد الشعبي في تصنيفه للجن، فيقسمه إلي جن شرير يعمل على إيذاء البشر في مواجهة الجن المؤمن الخير الذي يعمل على إصلاح ما أفسد الجن الشرير ومحاولة إحباط عمله، وبهذه المواصفات يمكنه أن يلعب دوره المهم والرئيس في هذه النوعية من الحكايات الخرافية التي تنتشر في الكثير من الثقافات في جميع أنحاء العالم، وكأن هذه المعتقدات معادل موضوعي للصراع الأبدي بين الخير والشر.
 
أعلى