نقوس المهدي
كاتب
الكتاب بحث عميق في العلاقة بين الجنس والسلطة في الليالى وعن دور المرأة ليس في مجتمع الليالى وحسب بل المرأة الراوية ــ شهرزاد ــ التي مثلت مع بنات جنسها البؤرة المركزية لليالي.
ذلك ما دعا عددا لا حصر له من الباحثين والمترجمين في كافة أنحاء العالم، للقول ان الليالى تجسد عالم المرأة بجدارة أو بتعبير الكاتب البوسنى جواد قره حسن إن ألف ليلة وليلة الكتاب الاكثر أنوثة في الادب العالمي، فمن خلال القص وفعل الجنس أنقذت شهرزاد نساء مدينتها من بطش شهريار، فهى المفدى والمخلص.
ولكن قبل الحديث عن علاقة شهرزاد وحكاياتها بالسلطة في مجتمع الليالى يقول الباحث ان ألف ليلة وليلة لها اصول فارسية وهندية والادعاء بأنها عمل عربى خالص ادعاء لا يخلو من تعصب لصالح الادب والخيال العربيين، احكى حكاية والا قتلتك.. ثم امنحينى جسدك هذا هو المبدأ الجوهرى الذى يمكننا به فهم بنية وتشكل الحكاية في ألف ليلة وليلة، وهو المبدأ الجوهرى الذى يشغل بال السلطة الحاكمة زمان القص، ان اللذة العجيبة التي كان يجدها شهريار في قتل النساء في مدينته تعادل لذة الليالى الحمراء التي ترويها شهرزاد، وتبدو شهرزاد فى معظم الليالى ــ قبل ان تكون مخلوقا انسانيا ــ مجرد جسد ووعاء لذكورة السلطان ــ شهريار ــ وأرقه، فهى تشحذ ذاكرته وتحبب اليه الفعل الجنسي، وذلك بتوالى ليالى القص وما فيها من تداعيات ورؤى جنسية، وعشق مبحوح، وخيانات زوجية، فمنذ ان رأى شهريار زوجته تمارس الحب مع العبد الاسود، احس بشرخ في اعماقه، وفقد ثقته بذاته، وقدرته الذكورية المطعونة، وأحس ان كل امرأة يمكن ان تخونه مع عبد آخر، فاصبحت المرأة بالنسبة اليه مجرد جسد لليلة واحدة وبعد ذلك يأتى فعل القتل تتويجا لهذياناته السلطوية، فالخطاب، خطاب القتل يلتقى مع خطاب الجنس، وما يبعد الاول عن ساحة الفعل الحقيقى هو السرد الحكائى المطعم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بخطاب الجنس، ومع القص تشكل عملية الافتتان بشهرزاد على مستويين:
1ــ مستوى اللذة لاكتشاف بقية الاحداث في الحكاية.
2ــ مستوى الفعل الجنسى المثار أو المحرض في معظم الحكايات.
نحس اثناء قراءة الليالى رغم تواجد المرأة سواء أكانت جارية ام معشوقة، ام عاهرة ام حرة ان جوعا جنسيا يفترس الرجل والمرأة معا، وبعد ان تطفئ الليلة الحمراء شبق الشخصية وجوعها، سرعان ما يتأجج هذا الشبق الانثوى والذكورى ثانية، بحيث تستمر حميمية اللحظة التي يلتقى فيها جسد ما بجسد آخر من المساء الى الصباح، واحيانا تتكرر هذه الظاهرة لأيام متواصلة والظاهرة في حقيقتها تنم عن الخواء الانسانى العام الذى تحس به الشخصية نتيجة هزائمها امام بنيات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية كذلك لا يمكن اغفال الخطاب
الدينى وعلاقته بالجنس والسلطة فالخطاب الجنسى في الليالى ينمو ويزدهر باعتماده على الخطاب الديني، وقدرة هذا الخطاب لأن يكون حقلاً مرجعيا ثقافيا يمتح منه خطاب الجنس ففى احدى الحكايات يرغب الملك سليمان بالزواج من امرأة جديدة وتأكيدا لرغبته في هذا الزواج يستشهد امام وزيره بالحديث النبوى الآتى تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة ، وايضا لا يمكن ان نغفل عن فساد السلطة ولقد فتح لنا الباحث قوسا مهما عن ذلك، لقد كان الرشيد نفسه يغيب في الليالى عن السياسة ومشاكلها، وعن هموم المواطنين والمسحوقين، وعن المدينة الغاضبة بالنقمة على نظام حكمه، فقد تركزت اهتماماته في بناء القصور الخاصة، وجلب الجوارى من ابعد اصقاع الارض وتنمية امواله الخاصة واطلاق غرائزه الجنسية الى اقصاها، ان حياة اللهو والترف الماجن
ومظاهر الحياة الجنسية التي كان يعيشها مع جواريه لم تترك له فسحة للتأمل في احوال الناس وبؤسهم، بل سلم بغداد لمجموعة من المنحرفين وقطاع الطرق.
نعود مع الباحث الى المرأة ومركزيتها في الليالي، ان المرأة في ألف ليلة وليلة هى الحلم الوردى بالنسبة للشخصيات التي تشكل الحدث، اذ تتركز تقنية القص على حضورها المكثف، أليست هى التي تحقق للرجل الرعشة وهزة الجسد؟ أليست الفضاء الذى يلوذ به الرجال، اذا ما حاصرتهم الغربة والوحشة والكآبة وعلاقات الربح والخسارة والاستلاب الموحش؟
لذا تواجدها بهذه الكثافة يوفر للحكاية النمو والتشعب والولادة الجديدة لحكاية جديدة؟ وولادة الحكاية الجديدة تعنى حضور الجنس، بحيث يصبح التركيز على الجنس غاية الحكاية الجديدة وهدفها والحكاية تحكى ببساطة وحرية وتنقل ما كان يجرى في تلك العصور، فلم يعد احد يتحرج في الحديث عن العشق والجنس وصار خبز الناس اليومي، حديثهم وحكاياتهم حتى يمكن القول إن الاباحية في مجتمعات الدولة الاموية والعباسية بلغت اقصاها فغدت فجوراً وانحلالا ودعارة، واصبحت المرأة كالرجل في بحثها الدائب عمن يحقق لها حالة التراضى
والانسجام مع مجتمعها والتى تكون حصرا في رعشة الجسد، وسجل الفقهاء والعلماء والرجال العاديون اخبار العلاقات الجنسية المتهتكة، وسجل البعض اخبارهم الخاصة مع النساء والجواري، وتحدث هؤلاء الرجال عن نساء مجتمعاتهم وعلاقاتهن الجنسية برجال هذا المجتمع بوضوح وحرية لا نجدها في مجتمعاتنا الحاضرة، وتمثل المقاطع الاتية دليلا حيا على حرية الحديث عن الجنس في المجتمعات الاسلامية الاولى والاموية والعباسية وعلى نظرة الحضرى أو شبه الحضرى للحب والمرأة:
ــ خلا تمام بجارية له فعجز عنها، فقال ما اوسع حرك، فأنشأت تقول: انت الفداء لمن كان يملؤه.. ويشتكى الضيق منه حين يلقاه
ــ وقالت امرأة من أهل الكوفة: دخلت على عائشة بنت طلحة فسألت عنها، فقيل هى مع زوجها في القيطون فسمعت شهيقا وشخيراً لم اسمع مثله، ثم خرجت اليَّ وجبينها يتصبب عرقا، فقلت لها ما ظننت حرة تفعل هذا بنفسها! فقالت ان الخيل تشرب بالصفير.
ــ وكان لرجل امرأة تخاصمه، وكلما خاصمته قام اليها فواقعها، فقالت ويحك كلما تخاصمنى تأتينى بشفيع لا اقدر على رده.
ــ وأتى رجل الى على بن ابى طالب ــ رضى الله عنه ــ وقال: ان لى امرأة كلما غشيتها تقول قتلتنى فقال اقتلها بهذه القتلة وعليّ اثمها.
حكايات واحاديث وقصص لا تنتهى وكى لا نشرد نرجع الى شهرزاد والليالي، المرأة في الليالى كانت تعلن عن توقها الى الرجال وتشترى الذى احبته كما في حكاية على شار وزمرد الجارية أو تصطاده كما في حكاية الرشيد مع الجوهري ولا يخفى ان في حكايات شهرزاد يلاحظ غياب لغة الحوار بين اجساد الشخوص الحكائية اى ان الفضاء الزمانى الفاصل بين الجسدين فضاء آنى قلما يمتد، وهو غائب في احيان كثيرة فاندفاع الجسد نحو جسد آخر يعنى تحديدا تغييب لغة الحوار واحضار الجنس بتكثيف الزمن، ثم الغاءه، وكثيراً ما يقع الجسد في توق الجسد الآخر من اول نظرة دون ان يكون هناك لغة مشتركة، أو رؤية مشتركة الا لغة الدافع الجنسى والسؤال هو، هل يمكن القول اإن رغبة المرأة الهائجة وغير العادية في الحصول على جسد ذكورى عائدة الى الدافع البيولوجى المصاب بخلل في نظام غدده وعملها؟ أم هى عملية احتجاج على وضعها اللا آدمى والمتدني؟ الذى
تكرسه سلطة المجتمع الذكورى البطريركي، وبالتالى يدفعها هذا الوضع الى ضرب رقم قياسى في عدد مرات الخيانة، وعدد مرات المضاجعة، إما مع القرد اوالدب أو العفريت، أو العبيد والخدم في القصور، اوأى رجل آخر يستهويها؟ أم عملية تمرد على القصور الحريرية الناعمة ذات الاسوار الشاهقة التي يبنيها الرجل البطريركى لمحاصرة جسد المرأة ودوام الاستئثار به، باعتباره سلعة مهمة؟ أم ان الرغبة في الجسد والجنس والتهتك رغبة بيولوجية طبيعية لذاتها مثلها مثل بقية الرغبات، بعيدا عن المؤثرات الخارجية؟
يبدو ان هذه الامور مجتمعة أو متفرقة تؤثر على اندفاع الشخصية المحموم والمسعور للحصول على الجسد بأية طريقة كانت: بالتمرد، بالحيلة، بالخيانة، وبالمبالغة فيها بوضع السم للشخصيات الذكورية أو الانثوية التي تحول دون تحقيق هذه الرغبة.
ولقد امتزج الجنس بعدة أشياء في الليالى على رأس هذه الأشياء الجمال، فقد قدمت شهرزاد بانوراما عريضة من الاجساد الجميلة القادرة على بث مكنونات شهوة شهريار، ولكى تقدم شهرزاد الجنس تقديما مثيرا وجماليا لا بد ان تلجأ الى وظيفة مرجعية اخرى تساندها، فالجمال من الله، والله خلق الجمال للانسان كى يستمتع به، وطالما ان الله اصطفى الانسان على الارض وجعله خليفة له، اذن يمتعه بالجمال والشهوة والجنس ليعمر الكون، وتستمر الحياة في سيرورتها الحضارية، لذلك اصبح الجمال هدفا من أهداف الحكاية، والجمال وفق منظور الليالى يتحدد بالدرجة الاولى في تشكيل الجسد واماكنه المثيرة جنسيا وصار الجمال يعنى تحديدا الجسد المثير والمكتنز الشفاف، وكل ما يحقق الظاهرة الحسية بتوقها ونزوعها صوب اللذة، يشكل قيمة جمالية تتبلور اولاً وتتضح من خلال تقاطيع جسد المرأة وتحديدا مورفولوجيتها الخارجية هى المقياس الجمالى الأول، وقيمة هذا المقياس في وظيفته على بث الشهوة ثم اطفائها عن طريق رعشة الجسد.
والجنس في الليالى وكما ذكر الباحث امتزج وتفاعل مع عدة مؤثرات ساهمت في تفرده، مثل الطبيعة ممثلة في البساتين وضفاف الانهار والخمر والموسيقي، فقد لعبت الخمر والرقص والغناء دورا مهما تمهيدا للوصول الى الغاية الكلية (الجسد) أو ذروة الحكاية، كذلك لعبت التوابل وكافة انواع البخور والعطور القادمة من الهند والسند وفارس واليمن دورا واضحا في تفجير الاثارة العربية على المستوى الجنسى ومن يقرأ الليالى جيدا سيلاحظ ان العطارين اصبحوا خبراء في فن الجسد (الجنس) واصبحت حوانيتهم فضاء تعقد فيه صفقات الجنس، وتوقف
الباحث عند الشكل الذى صيغ فيه خطاب الجنس في الليالي، حيث ان خطاب الجنس في الليالى يشكل قصا وسردا بلوحات جمالية متناغمة ومزخرفة ويبدو هذا الخطاب فنا كلاميا بنسق جديد يخرق بنية اللغة العادية التي سادت في كتب الادب.
لقد ساهمت هذه اللغة في تحرير طاقات السرد الكامنة واخراجه من نمطيته، فبنية اللغة الجنسية تتكرر وتترادف اثناء وصف الجسد وتقاطيعه وتكوراته ولحظة تواصله مع جسد آخر.
فى الختام يصل الباحث في كتابه الشيق والمهم الى هذا الحكم: ولولا خطاب الجنس لفقدت ألف ليلة وليلة قيمتها ودلالاتها العميقة على مستوى البنية الحكائية ومستوى عظمتها الادبية والتاريخية ويظل خطاب الجنس فيها من اهم الخطابات الفكرية التي اطرتها الشعوب والحضارات ــ مبدعة ألف ليلة ــ هذا العمل العظيم الذى ذاع صيته إلى افاق الارض شرقا وغربا وحضارات وقارات.
18/12/2005
* الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة
تأليف د. محمد عبد الرحمن يونس
مؤسسة الانتشاء الأدبي ـ بيروت ـ لندن عام 1998م.
* عن موقع ألف لحرية الكشف في الكتابة والانسان
ذلك ما دعا عددا لا حصر له من الباحثين والمترجمين في كافة أنحاء العالم، للقول ان الليالى تجسد عالم المرأة بجدارة أو بتعبير الكاتب البوسنى جواد قره حسن إن ألف ليلة وليلة الكتاب الاكثر أنوثة في الادب العالمي، فمن خلال القص وفعل الجنس أنقذت شهرزاد نساء مدينتها من بطش شهريار، فهى المفدى والمخلص.
ولكن قبل الحديث عن علاقة شهرزاد وحكاياتها بالسلطة في مجتمع الليالى يقول الباحث ان ألف ليلة وليلة لها اصول فارسية وهندية والادعاء بأنها عمل عربى خالص ادعاء لا يخلو من تعصب لصالح الادب والخيال العربيين، احكى حكاية والا قتلتك.. ثم امنحينى جسدك هذا هو المبدأ الجوهرى الذى يمكننا به فهم بنية وتشكل الحكاية في ألف ليلة وليلة، وهو المبدأ الجوهرى الذى يشغل بال السلطة الحاكمة زمان القص، ان اللذة العجيبة التي كان يجدها شهريار في قتل النساء في مدينته تعادل لذة الليالى الحمراء التي ترويها شهرزاد، وتبدو شهرزاد فى معظم الليالى ــ قبل ان تكون مخلوقا انسانيا ــ مجرد جسد ووعاء لذكورة السلطان ــ شهريار ــ وأرقه، فهى تشحذ ذاكرته وتحبب اليه الفعل الجنسي، وذلك بتوالى ليالى القص وما فيها من تداعيات ورؤى جنسية، وعشق مبحوح، وخيانات زوجية، فمنذ ان رأى شهريار زوجته تمارس الحب مع العبد الاسود، احس بشرخ في اعماقه، وفقد ثقته بذاته، وقدرته الذكورية المطعونة، وأحس ان كل امرأة يمكن ان تخونه مع عبد آخر، فاصبحت المرأة بالنسبة اليه مجرد جسد لليلة واحدة وبعد ذلك يأتى فعل القتل تتويجا لهذياناته السلطوية، فالخطاب، خطاب القتل يلتقى مع خطاب الجنس، وما يبعد الاول عن ساحة الفعل الحقيقى هو السرد الحكائى المطعم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بخطاب الجنس، ومع القص تشكل عملية الافتتان بشهرزاد على مستويين:
1ــ مستوى اللذة لاكتشاف بقية الاحداث في الحكاية.
2ــ مستوى الفعل الجنسى المثار أو المحرض في معظم الحكايات.
نحس اثناء قراءة الليالى رغم تواجد المرأة سواء أكانت جارية ام معشوقة، ام عاهرة ام حرة ان جوعا جنسيا يفترس الرجل والمرأة معا، وبعد ان تطفئ الليلة الحمراء شبق الشخصية وجوعها، سرعان ما يتأجج هذا الشبق الانثوى والذكورى ثانية، بحيث تستمر حميمية اللحظة التي يلتقى فيها جسد ما بجسد آخر من المساء الى الصباح، واحيانا تتكرر هذه الظاهرة لأيام متواصلة والظاهرة في حقيقتها تنم عن الخواء الانسانى العام الذى تحس به الشخصية نتيجة هزائمها امام بنيات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية كذلك لا يمكن اغفال الخطاب
الدينى وعلاقته بالجنس والسلطة فالخطاب الجنسى في الليالى ينمو ويزدهر باعتماده على الخطاب الديني، وقدرة هذا الخطاب لأن يكون حقلاً مرجعيا ثقافيا يمتح منه خطاب الجنس ففى احدى الحكايات يرغب الملك سليمان بالزواج من امرأة جديدة وتأكيدا لرغبته في هذا الزواج يستشهد امام وزيره بالحديث النبوى الآتى تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة ، وايضا لا يمكن ان نغفل عن فساد السلطة ولقد فتح لنا الباحث قوسا مهما عن ذلك، لقد كان الرشيد نفسه يغيب في الليالى عن السياسة ومشاكلها، وعن هموم المواطنين والمسحوقين، وعن المدينة الغاضبة بالنقمة على نظام حكمه، فقد تركزت اهتماماته في بناء القصور الخاصة، وجلب الجوارى من ابعد اصقاع الارض وتنمية امواله الخاصة واطلاق غرائزه الجنسية الى اقصاها، ان حياة اللهو والترف الماجن
ومظاهر الحياة الجنسية التي كان يعيشها مع جواريه لم تترك له فسحة للتأمل في احوال الناس وبؤسهم، بل سلم بغداد لمجموعة من المنحرفين وقطاع الطرق.
نعود مع الباحث الى المرأة ومركزيتها في الليالي، ان المرأة في ألف ليلة وليلة هى الحلم الوردى بالنسبة للشخصيات التي تشكل الحدث، اذ تتركز تقنية القص على حضورها المكثف، أليست هى التي تحقق للرجل الرعشة وهزة الجسد؟ أليست الفضاء الذى يلوذ به الرجال، اذا ما حاصرتهم الغربة والوحشة والكآبة وعلاقات الربح والخسارة والاستلاب الموحش؟
لذا تواجدها بهذه الكثافة يوفر للحكاية النمو والتشعب والولادة الجديدة لحكاية جديدة؟ وولادة الحكاية الجديدة تعنى حضور الجنس، بحيث يصبح التركيز على الجنس غاية الحكاية الجديدة وهدفها والحكاية تحكى ببساطة وحرية وتنقل ما كان يجرى في تلك العصور، فلم يعد احد يتحرج في الحديث عن العشق والجنس وصار خبز الناس اليومي، حديثهم وحكاياتهم حتى يمكن القول إن الاباحية في مجتمعات الدولة الاموية والعباسية بلغت اقصاها فغدت فجوراً وانحلالا ودعارة، واصبحت المرأة كالرجل في بحثها الدائب عمن يحقق لها حالة التراضى
والانسجام مع مجتمعها والتى تكون حصرا في رعشة الجسد، وسجل الفقهاء والعلماء والرجال العاديون اخبار العلاقات الجنسية المتهتكة، وسجل البعض اخبارهم الخاصة مع النساء والجواري، وتحدث هؤلاء الرجال عن نساء مجتمعاتهم وعلاقاتهن الجنسية برجال هذا المجتمع بوضوح وحرية لا نجدها في مجتمعاتنا الحاضرة، وتمثل المقاطع الاتية دليلا حيا على حرية الحديث عن الجنس في المجتمعات الاسلامية الاولى والاموية والعباسية وعلى نظرة الحضرى أو شبه الحضرى للحب والمرأة:
ــ خلا تمام بجارية له فعجز عنها، فقال ما اوسع حرك، فأنشأت تقول: انت الفداء لمن كان يملؤه.. ويشتكى الضيق منه حين يلقاه
ــ وقالت امرأة من أهل الكوفة: دخلت على عائشة بنت طلحة فسألت عنها، فقيل هى مع زوجها في القيطون فسمعت شهيقا وشخيراً لم اسمع مثله، ثم خرجت اليَّ وجبينها يتصبب عرقا، فقلت لها ما ظننت حرة تفعل هذا بنفسها! فقالت ان الخيل تشرب بالصفير.
ــ وكان لرجل امرأة تخاصمه، وكلما خاصمته قام اليها فواقعها، فقالت ويحك كلما تخاصمنى تأتينى بشفيع لا اقدر على رده.
ــ وأتى رجل الى على بن ابى طالب ــ رضى الله عنه ــ وقال: ان لى امرأة كلما غشيتها تقول قتلتنى فقال اقتلها بهذه القتلة وعليّ اثمها.
حكايات واحاديث وقصص لا تنتهى وكى لا نشرد نرجع الى شهرزاد والليالي، المرأة في الليالى كانت تعلن عن توقها الى الرجال وتشترى الذى احبته كما في حكاية على شار وزمرد الجارية أو تصطاده كما في حكاية الرشيد مع الجوهري ولا يخفى ان في حكايات شهرزاد يلاحظ غياب لغة الحوار بين اجساد الشخوص الحكائية اى ان الفضاء الزمانى الفاصل بين الجسدين فضاء آنى قلما يمتد، وهو غائب في احيان كثيرة فاندفاع الجسد نحو جسد آخر يعنى تحديدا تغييب لغة الحوار واحضار الجنس بتكثيف الزمن، ثم الغاءه، وكثيراً ما يقع الجسد في توق الجسد الآخر من اول نظرة دون ان يكون هناك لغة مشتركة، أو رؤية مشتركة الا لغة الدافع الجنسى والسؤال هو، هل يمكن القول اإن رغبة المرأة الهائجة وغير العادية في الحصول على جسد ذكورى عائدة الى الدافع البيولوجى المصاب بخلل في نظام غدده وعملها؟ أم هى عملية احتجاج على وضعها اللا آدمى والمتدني؟ الذى
تكرسه سلطة المجتمع الذكورى البطريركي، وبالتالى يدفعها هذا الوضع الى ضرب رقم قياسى في عدد مرات الخيانة، وعدد مرات المضاجعة، إما مع القرد اوالدب أو العفريت، أو العبيد والخدم في القصور، اوأى رجل آخر يستهويها؟ أم عملية تمرد على القصور الحريرية الناعمة ذات الاسوار الشاهقة التي يبنيها الرجل البطريركى لمحاصرة جسد المرأة ودوام الاستئثار به، باعتباره سلعة مهمة؟ أم ان الرغبة في الجسد والجنس والتهتك رغبة بيولوجية طبيعية لذاتها مثلها مثل بقية الرغبات، بعيدا عن المؤثرات الخارجية؟
يبدو ان هذه الامور مجتمعة أو متفرقة تؤثر على اندفاع الشخصية المحموم والمسعور للحصول على الجسد بأية طريقة كانت: بالتمرد، بالحيلة، بالخيانة، وبالمبالغة فيها بوضع السم للشخصيات الذكورية أو الانثوية التي تحول دون تحقيق هذه الرغبة.
ولقد امتزج الجنس بعدة أشياء في الليالى على رأس هذه الأشياء الجمال، فقد قدمت شهرزاد بانوراما عريضة من الاجساد الجميلة القادرة على بث مكنونات شهوة شهريار، ولكى تقدم شهرزاد الجنس تقديما مثيرا وجماليا لا بد ان تلجأ الى وظيفة مرجعية اخرى تساندها، فالجمال من الله، والله خلق الجمال للانسان كى يستمتع به، وطالما ان الله اصطفى الانسان على الارض وجعله خليفة له، اذن يمتعه بالجمال والشهوة والجنس ليعمر الكون، وتستمر الحياة في سيرورتها الحضارية، لذلك اصبح الجمال هدفا من أهداف الحكاية، والجمال وفق منظور الليالى يتحدد بالدرجة الاولى في تشكيل الجسد واماكنه المثيرة جنسيا وصار الجمال يعنى تحديدا الجسد المثير والمكتنز الشفاف، وكل ما يحقق الظاهرة الحسية بتوقها ونزوعها صوب اللذة، يشكل قيمة جمالية تتبلور اولاً وتتضح من خلال تقاطيع جسد المرأة وتحديدا مورفولوجيتها الخارجية هى المقياس الجمالى الأول، وقيمة هذا المقياس في وظيفته على بث الشهوة ثم اطفائها عن طريق رعشة الجسد.
والجنس في الليالى وكما ذكر الباحث امتزج وتفاعل مع عدة مؤثرات ساهمت في تفرده، مثل الطبيعة ممثلة في البساتين وضفاف الانهار والخمر والموسيقي، فقد لعبت الخمر والرقص والغناء دورا مهما تمهيدا للوصول الى الغاية الكلية (الجسد) أو ذروة الحكاية، كذلك لعبت التوابل وكافة انواع البخور والعطور القادمة من الهند والسند وفارس واليمن دورا واضحا في تفجير الاثارة العربية على المستوى الجنسى ومن يقرأ الليالى جيدا سيلاحظ ان العطارين اصبحوا خبراء في فن الجسد (الجنس) واصبحت حوانيتهم فضاء تعقد فيه صفقات الجنس، وتوقف
الباحث عند الشكل الذى صيغ فيه خطاب الجنس في الليالي، حيث ان خطاب الجنس في الليالى يشكل قصا وسردا بلوحات جمالية متناغمة ومزخرفة ويبدو هذا الخطاب فنا كلاميا بنسق جديد يخرق بنية اللغة العادية التي سادت في كتب الادب.
لقد ساهمت هذه اللغة في تحرير طاقات السرد الكامنة واخراجه من نمطيته، فبنية اللغة الجنسية تتكرر وتترادف اثناء وصف الجسد وتقاطيعه وتكوراته ولحظة تواصله مع جسد آخر.
فى الختام يصل الباحث في كتابه الشيق والمهم الى هذا الحكم: ولولا خطاب الجنس لفقدت ألف ليلة وليلة قيمتها ودلالاتها العميقة على مستوى البنية الحكائية ومستوى عظمتها الادبية والتاريخية ويظل خطاب الجنس فيها من اهم الخطابات الفكرية التي اطرتها الشعوب والحضارات ــ مبدعة ألف ليلة ــ هذا العمل العظيم الذى ذاع صيته إلى افاق الارض شرقا وغربا وحضارات وقارات.
18/12/2005
* الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة
تأليف د. محمد عبد الرحمن يونس
مؤسسة الانتشاء الأدبي ـ بيروت ـ لندن عام 1998م.
* عن موقع ألف لحرية الكشف في الكتابة والانسان