عبدالله محمد الغذامي - الكيد الثقافي

لو تأملنا ثقافيا بكلمتي الدهاء والكيد لوجدنا أن الثقافة تجنح إلى نسبة الدهاء للرجال ونسبة الكيد للنساء، والدهاء والكيد يندرجان معا تحت مظلة الفعل العقلي بوصفهما مسميين للحيلة العقلية حينما يكون المرء في مأزق أوحينما يعتريه أمر فادح، والرجال والنساء معا يمارسون أنواعا من الحيل العقليلة والذهنية في حل مشاكل الحياة ومواجهة المأزق، ولو تمعنا في القصص والحكايات لوجدنا أنواعا من الحيل الثقافية يستعملها كل طرف لتخليص نفسه أو نفسها مما يقف في الطريق من مفاجآت الحياة، غير أن مانجده في تلك الحكايات هو التفريق الثقافي بين أفعال الرجال وأفعال النساء حيث يجري تمجيد أفاعيل الرجال بوصفها دهاء في مقابل التقليل من صنيع النساء من حيث وصف فعلهن على أنه كيد، وفي التفريق اللغوي تنطوي أحكام ثقافية منحازة ومصنفة للمرأة.

وحينما نتكلم عن الكيد فإن قصة امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام هي مايتبادر إلى الذهن مباشرة، وهي قصة جرى استغلالها ثقافيا وجرى تحريفها عن المراد الذي وردت فيه في القرآن الكريم، ومن ذلك مانقله الإمام الزمخشري عن عالم لم يذكر اسمه، من أنه قال إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، واحتج لذلك بالآية الكريمة التي تقول (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) في مقابل الآية التي وردت في قصة يوسف وهي (إن كيدكن عظيم) ولذا قال ذلك العالم إنه يخاف من كيد النساء أكثر مما يخاف من كيد الشيطان، ومن عجب أن الزمخشري لم يذكر اسم العالم وكأنما هو قناع لتمرير الفكرة دون تحمل مسؤوليتها، وهي حيلة ثقافية واضحة، ولعل الإمام غفر الله له قد استجاب هنا للضاغط النسقي وأحس بذلك وأدرك تعارض هذا مع الحق العلمي فأراد فك هذا التعارض عبر تسريب الفكرة ونسبتها إلى مجهول، ولقد رد الإمام ابن المنير على ذلك بأن أشار إلى أن الآية الكريمة في قصة يوسف جاءت على الحكاية والقول هو من كلام العزيز، زوج المرأة وهو الذي وصف كيد هن بالعظيم، أما الآية التي وصفت كيد الشيطان بالضعيف فهي من كلام الله جل وعلا، وكانت في مجال المقارنة بين إرادة الله سبحانه وكيد الشيطان وهنا لن يكون كيد الشيطان عظيما أمام إرادة الله كما أن الكيد هنا ورد في مجاورة مع القتال ونص الآية واضح في ذلك (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا- النساء 76). وهذا يوضح الأمر ويحسمه كما قال الإمام ابن المنير- انظر الكشاف للزمخشري وحاشية ابن المنير 2/315-.

وما نقله الإمام الزمخشري عن تعظيم كيد النساء ومحاولة الإيهام من أن هذا حكم قرآني مع تجاهل سياق الأية الكريمة وتجاهل كونها على الحكاية عن العزيز هو في الملاحظة النهائية تصور ثقافي عام يجنح إلى توظيف هذا القول ضد النساء ووصفهن بالكيد وتمييز هن به مع التحايل على ذلك بكل الحيل اللغوية والثقافية الممكنة.

ولقد ورد في ألف ليلة وليلة قصة مؤثرة فيها كيد وفيها دهاء والعملان معا من صنع النساء، غير أن القصة لم تفرق بين ماهو عمل شيطاني فيه كيد حقيقي وبين ماهو دهاء إنساني راق في التخلص من مأزق، ولقد وصفت القصة دهاء المرأة وحيلتها في التخلص والنجاة وصفته بأنه كيد مع أنه تصرف شريف للحفاظ على عفتها وعرضها، بينما تغاضت القصة عن دناءة الرجل وغدره ولم تصفه بالخيانة والعذر، مع وجود الخيانة بشكل واضح وصريح، وجاء عنوان القصة تحت مسمي (كيد النساء) وهي قصة الليلة الثانية والسبعين وخمسمائة (572) وفيها أن ملكا عظيما كان محروما من الذرية وطال انتظاره لولد يخلفه ثم تحققت أمنيته بالولد ورزق بغلام جميل، ولما كبر الغلام وحسنت حاله رأي أحد المنجمين أن الولد سوف يموت إن هو نطق في الأيام السبعة القادمة ولذا فإن الكلام خطر عليه وهو موت محقق، وحذر الملك من مغبة هذا الأمر، ونتيجة لذلك بادر الملك وأودع الغلام عند جارية محظية يحبها الملك ويثق بها، وأوصاها أن تشاغل الولد سبعة أيام وتحول بينه وبين الكلام، وصار هذا، حيث توسلت الجارية بكل الوسائل البشرية لإشغال الولد وإلهائه حتى لايجد سببا للنطق، ولكنها مع هذا وقعت في حبه فراودته عن نفسه، ولما تأبي عليها راحت تقول للملك إنه راودها عن نفسها فغضب الملك وقرر قتل ولده على لؤم مسلكة ولأنه لايصلح للملك ولا للحياة بما إنه فاسد وغادر، ولكن الحكماء من مستشاريه حاولوا تهدئته وقالوا إن هذا ربما كان من كيد هذه الجارية، ولكي يثبتوا له كيد النساء وخطرهن رووا له قصة قالوا فيها إن ملكا من الملوك له سلطان وجاه وكانت له أعداد لاتحصى من المحظيات والجواري، وفي يوم من الأيام نظر من فوق السطح فرأي جارية لم يرمثلها في حسنها وجمالها فلما سأل عنها الكتشف أنها جارية لوزيره، فخطط لإبعاد الوزير في رحلة بعيدة، وحينها تسلل إلى منزل الوزير وراود الفتاة عن نفسها وهنا لم تجد الفتاة بدا من التحايل واستخدام دهائها المؤنث لتخليص نفسها من هذا المأزق فأظهرت القبول ولكنها اقترحت على الملك أن تعد له طعاما يأكلانه أولا ثم ينال مراده بعد ذلك فوافق وراحت تعد الطعام بعد أن أعطت الملك كتابا يتسلى به ويقطع انتظاره فلما شرع في الكتاب وجده مواعظ تخوف من الغدر وتحذر من الزني، ووجد الملك في ذلك موعظة حتى إذا ماجاء الطعام وجد على المائدة مائة صنف من الأكل بأشكال وألوان وأحجام غير أنه اكتشف أن الأكل كله ذو طعم واحد على الرغم من تنوعه وتلونه ولما تعجب من هذا قالت له الجارية: هكذا نحن النساء أشكال متنوعة وألوان متعددة ولكن طعمنا واحد، وهنا فهم الملك الرسالة وعاد إلى قصرة مكتفيا بما لديه من نساء حلال.

جاءت القصة هكذا كما رواها الحكماء من أجل تأكيد دعواهم في كيد النساء، ولن يجد القارئ مشقة في كشف هذا اللعب الثقافي حيث إن القصة الأخيرة تكشف عن كيد الرجال وليس كيد النساء، ولكنها مع هذا ترد في كتاب ألف ليلة وليلة محرفة ومقلوبة وتختلط القصص بين الحق والباطل، فالجارية الأولى مربية الغلام كانت تكرارا لقصة امرأة العزيز، ولكن الجارية الثانية كانت شريفة واستعملت ذكاءها وعقلها لدرء الخطر، وهذان نموذجان مؤنثان في مقابل نموذجين للرجال وفي النماذج هذه نجد الغدر مثلما نجد الوفاء، ولكن السؤال هو لماذا جنحت القصة إلى اللعب بالمصطلحات والعبث بالقص من أجل تحريف المعاني ولماذا جاءت القصة تحت عنوان (كيد النساء) وركزت على القصة الأخيرة كدليل على هذا الكيد وهو دليل استخدمه الرجال الحكماء من مستشاري الملك، مثلما ورد عن العالم المجهول الذي أحال إليه الإمام الزمخشري وجعل كيد النساء أكبر من كيد الشيطان، وكأن قصة ألف ليلة وليلة استوحت هذا المعنى فتجاهلت كيد الرجال مع وجوده في القصة وحرفت الدهاء المؤنث كي تسمية كيدا بينما هو وفاء ودهاء. هذا ما تقوله الثقافة حينما تحرف الدلالات وتعيد صياغة المصطلحات حسب دواعي الضاغط النسقي.

* alriyadhcom
 
أعلى