نقوس المهدي
كاتب
دخلنا بلدة الميتين عند غروب الشمس. غشينا منزلاً، فمنزلاً. كل شيء كان، كما توقعنا، متداعياً، متهدماً، صحراء مضيئة بالموت وبالحياة الخفية.
كان الرماة منتشرين، ببنادقهم، في كل مكان. العالم كان ـ آنذاك ـ في تمام فوضاه. إن "الآباء الروحيين" الصغار الذين يسيطرون على كلّ شيء أغاروا على الطعام الذي جُلب إلينا. هم قد أغاروا على ما تنزله الطائرات وإعانات وكالات الإغاثة ووزعوا معظم الطعام في ما بين أنفسهم وبني عشيرتهم.
نحن ما عدنا نكترث ـ الطعام ما عاد يهمنا. أنا قد عشت بدونه منذ ثلاثة أسابيع. الآن أنا أُطعمُ على الهواء وعلى النُّشدان.
وفي كلِّ يومٍ، فيما أنا أزداد نحافةً، أرى أشياء أكثر حولنا. أرى الموتى ـ كلَّ أولئك اللذين ماتوا من الجوع. إنهم ـ الآن ـ أكثر بهجةً؛ إنهم أسعد منّا. ثمّ إنهم في كلّ مكان، يعيشون حيواتهم المضيئة وكأنما ما حدث شيء، أو كأنّما هم كانوا أكثرَ حياةً منّا.
كلّما ازددتُ جوعاً كلّما رأيتهم بجلاءٍ أكثر ـ أولئك الأصدقاء القدامى اللذين ماتوا من قبلي وكانوا، في لحظات احتضارهم، يتشبّثون بالذّباب. الآن هم يُطعمُونَ على الهواء. ثمّ هم ينظرون إلينــا ـ نحن الأحياء ـ بشفقةٍ ورأفةٍ عظيمين.
أظنّ أن هذا هو الذي لا يستطيع الأناسُ البيض أن يفهمونه حين يجيئون إلينا بأجهزة تصويرهم التلفزيونيّة وإعانتهم. هم يتوقعون أن يرونا باكيين. لكنّهم، بدلاً عن ذلك، يروننا محدّقين فيهم، بدون حسِّ تسوّلٍ وبصفاءٍ ناتئٍ في عيوننا. ربما كانوا مرتعبين، في سرّهم، من أننا لسنا خائفين من الاحتضار على هذه الطريقة.
لا تعد الواعية، بعد ثلاثة أسابيع من الجوع، منتبهةً. فحاملها يكون، آنذاك، أكثرَ إيغالاً في الموت من الحياة. فإنما الروح، إذ هي مريدةً الرحيل، هي من تُعاني. إنها تُعاني لأنّ الجّسد كان منازعاً الفناء.
لا بدَّ أننا قد جئنا إلى البلدةِ عند الفجرِ. كان الجّميع، في البلدةِ، قد ماتوا. الخيول والأبقار أيضاً كانت على سبيل موتها. أستطيع أن أقول إنّ الهواء قد فاح بعفونة الموت. لكن ذلك لن يكون صحيحاً. فهو ـ الهواء ـ قد كان فائحاً، بالأحرى، برائحة الزّبدة الزّنخة والحرارة المسمومة والمجاري الرديئة. وفيما بين ذلك كان هنالك ـ ويا للمفارقة!ـ عبقُ أزهارٍ واهنٍ.
الناس الوحيدون اللذين لم يكونوا أمواتاً هم الأموات. ومغنّين أغانٍ ذهبيّات، في أصواتٍ جماعيّة، طروبين في كلّ مكان، كان الموتى ساعين على مسالك حيواتهم المألوفة. الآخرون الوحيدون اللذين ما كانوا ميتين كانوا هم الجنود. أولئك قد خاضوا، فيما بينهم، معاركَ أزليّة. ما كان يبدو لهم مهماً شأن تعداد من ماتوا. فكل ما كان يعنيهم، آنذاك، هو كيف يديرون، بكفاءة، رياضيات الحروب الجّهمة، عساهم يستطيعون، بذلك، أن ينتصروا في أعظم المعارك أهميّة، وتلك هي التي جاريةً على قيادة ساحة المقابر الخرافيّة هذي والتي كانت، ذات يوم، أرضاً جميلة ومتحضّرة.
كنت باحثاً عن عائلتي ومحبوبتي. كنت أريد أن أعرف إن كانوا قد ماتوا أم لا. فإن ما وجدت بيّنةً على ذلك كنتُ منتوياً أن أظلّ متعلّقاً بالحياة حتى خيطها المهلهل الأخير. أما إذا عرفت أنهم هم، كذلك، قد ماتوا وما عادوا محتاجين إليّ فسوف أموت، وقتذاك، في سلامٍ.
كلّ معلوماتي قادتني إلى هذه البلدة. لذا إن كانت حبيبتي، إخواني وعائلتي ما يزالون في مكانٍ ما فإنهم سيكونون هنا. فهذه هي البلدة الأخيرة في العالم. ووراء بوابتها الصدئة ترقد الصحراء. إن الصحراء تتمطّى على طول الطريق الذّاهب، في الماضي، في التّاريخ، إلى العالم الغربيّ، ثمّ إلى منبع الجفاف والمجاعة: جبل اللا محبّة العاتي. من قمة ذلك الجّبل تترنّم، في اللّيل، أرواح النّفي المتجهّمة بأغاني هولها المُلاشية للروح. تسرق منّا أغاني هؤلاء الرّجاء وتُصيّرنا مسلِّمين طاقاتنا للهواء ـ للهباء. إنها أغانٍ باردة تجعلنا منقادين إلى وضوح الاحتضار.
وراءنا، في الماضي وقبل أن يقع كلّ هذا على الدنيا، كانت هنالك كلّ الاحتمالات الممكنة في العالم. كانت هنالك كل إمكانات البدء من أشياء صغيرة يُنشئُ منها ـ رويداً رويداً ـ تاريخٌ ومستقبلٌ عذبٌ جديدٌ ـ إن كان لنا فقط أن نستبين هاتيك الإمكانات. لكنّا الآن لا نشهد، قُدُماً، سوى الأغاني الآتية من جبل الموت.
نحنُ نبحثُ عمّن نحبّهم بميكانيكيّة وبجفافٍ في عيوننا. معدّاتنا ما عادت موجودة. ما عاد هنالك شيء يوجد سوى البحث. نحنُ نُقلّب الأجساد على جوانبها، علّنا نرى وجهاً أليفاً. كلّ الوجوه أليفة. فالموت قد جعلها جميعاً من آلي وعشيرتي.
أواصلُ بحثي. آتي إلى حيث وجهٍ لا مألوف. كان ذلك أخي. أُومأ برأسي. أهيلُ تراباً على جسده. بعد ساعاتٍ لاحقة أجيء قرب بئر جافّة فألقى هناك أفراد عائلتي الآخرين. كانت أمّي، من بينهم، متشبّثة بعظمٍ هو من النّشاف بحيث أنه ما كان سيُغذّي حتى الذّباب. أومأ برأسي مرّتين. أهيلُ تراباً على أجسادهم. أواصلُ بحثي. ثمةُ وجهٍ واحدٍ آخرٍ ستسري عنّي مألوفيّته الجميلة. حينما أجد ذلك الوجه سأُسلّم نفسي لأغاني الجّبل.
كان الغروب آتياً حين سمعتُ، من ناحية مبنى مدرسةٍ غير مكتمل، غناءً. كان ذاك أكثر الأصوات التي سمعتها، في حياتي، سحريّةً فظننتُ أنه فقط أولئك اللذين يعرفون كم هي عذبةٌ الحياة يستطيعون أن يغنّوا كذلك- يستطيعون أن يغنّوا وكأنما التنفّسَ كان صلاةً.
كان الغناء مثل البداية البهيجة للخلقِ جميعه؛ ألـ"نعم" المقدِّسة للنَّفَس والضّياء المُفعمة بهما كلُّ الأشياء، ذينكما اللذان يجعلان الماء يترقرق، النباتُ يفرخُ، الحيوانات تثبُ وتلعبُ في الحقول. كما وهما، كذلك، ما يجعلان الرجال والنساء ينظرون مليّاً إلى بُهرة الألوان الأولى، إلى خضرة النباتات، زرقة البحر، ذهبِ الهواء وفَضَّة النّجوم. كانت تلك هي الغاية الحقّة لنشداني، الموسيقى التي تتوّج حياتي الخائنة هذه، النهاية التي ما كنتُ قادراً على أن أرجوها أو أتخيّلها.
بدا وكأنّ هنالك لانهائيّة من الزمان فاصلةً بيني ومبنى المدرسة. ما كانت لديّ قوّة باقية. فقط كان صدى الأغنية الأخير، المجلجل خلل فضاءات جوعي الرحيبة، هو ما "أعاشني". ثمّ، بعد ما قد يكون قرناً، حين أعاد التاريخ نفسه وأتى إلى الدنيا بذات الظروف لأن ما أحد منّا تعلّم أبداً من درسه أو أحبَّ بما يُكفي لكي يتعلّم من الألم، وصلتُ، أخيراً، إلى بابِ حجرةِ المدرسةِ. لكنّ بقرةً، كانت هي ’الشيء‘ الحيّ الوحيد الذي ظلّ في البلدة، مرّت، من قبلِي، خلال الباب. لا بدّ أنها هي، أيضاً، قد جُذبت بالغناء. مضت البقرة إلى داخل الحجرة وتبعتها أنا.
في الدّاخل، كان المكان جميعه قد أخذه الأموات. لكن الهواء هنا ما كان فيه موت. كانت فيه صلاةٌ. الصّلواتُ كانت فائحةَ الرّوائح أكثر من المِيتات. بيد أن كلّ الميّتين هنا كانوا مختلفين، في موتهم، عن الجّثث المطروحةَ خارجاً. الموتى هنا ـ واعذروني لهذا التناقض ـ " أحياء". ليست لديّ كلمة أخرى لتفسير الصفاء الذي كانوا هم فيه. شعرتُ بأنّهم قد صيّروا الحجرة مقدّسةً لأنّهم فكّروا، في لحظاتهم الأخيرة، ليس في أنفسهم ولكن في كلّ الناس الذين يعانون. شعرتُ بأن هذا كان شأنهم لأنّني أحسستُ بنفسي فاعلاً لذات الشيء. زحفتُ نحو ركنٍ، جلستُ إزاء حائطٍ، ثمّ شعرتُ بنفسي مصلّياً لكلِّ السّلالة البشريّة.
صلّيتُ ـ وأنا عالمٌ تماماً أن صلواتي ربما لا تكون سوى إضاعة مطلقة للوقت. صلّيتُ من أجلِ كلِّ شيءٍ عاش، من أجل الجبال والأشجار، من أجل الحيوانات والأنهر، ومن أجل الكائنات الإنسانيّة، أينما هم قد يكونوا. قد سمعتُ صرخة جِماع الإنسانيّة العظيمة القلق والفزع؛ كذلك موسيقاها المُستَوطَنة ـ بهوسٍ ـ للروح. ثم بدأت أنا أيضاً، دون أن أحرّك فمي لانحسار طاقتي، أغنّي في صمت. غنيّت على مدى كلّ المساء.
وحين نظرتُ إلى الجسد الذي كان بقربي ورأيت، في اللامألوفيّة المضيئة بوجهه، وجه حبيبتي غنيّت آناء زمانٍ كلِّ ذاك التعرّف. غنيّتُ بصمتٍ حتى حين جاء رجلٌ أبيض طيّب القلب إلى داخل المدرسة بآلة تصويرٍ تلفزيونيّة و، باكياً، سجّل جميع مشاهد الغرفة الملآنة بالموتى للعالـم ـ أملتُ، آنذاكَ، في أن يكون قد سجّل غنائي أيضاً.
كان الموتى في كلّ فجٍّ حولي، مبتسمين وعلى صفاء. ما حضّوني على المضيّ قدماً- كانوا فقط مبتهجين بهدوءٍ وعمقٍ. لم يسألوني أن اهرع، عجولاً، إليهم، بل تركوا ذلك الأمر لي. ما الذي بمستطاعي أن اختاره؟ الحياة الإنسانيّة- تلك الملأى بالجشع والمرارة، المعتمة، خفيضة الأوكسجين، الدامغة بالأحكام والإدانات، اللئيمة ثم، كذلك، اللطيفة والرائعة. لكن... إن الحياة الإنسانيّة قد خانتني. ثمّ، بخلافِ ذلك، ما تبقّى منّي شيءٌ يُنقذ. حتى روحي كانت محتَضَرَةً من الجّوع.
فتحتُ عينيّ للمرّة الأخيرة. رأيتُ آلات التصوير مسلّطةً فوقنا جميعاً. لهم، نحنُ كنّا الموتى. آنما عبرتُ نَزَع الضّياء رأيتهم هم كالموتى إذ كانوا معجونين في عالمٍ دون شفقةٍ أو حبٍّ.
وفيما كانت البقرة جائلةً في أنحاء خراب الحجرة ـ المدرسة البائن ينبغي أن يكون المصوّرون المسجّلونَ الحدثَ جميعه قد بدا لهم عجباً أمر أن أكون أنا قد جعلتُ نفسي مرتاحاً هكذا فيما بين الموتى. أنا قد فعلتُ ذلك إذ تمدّدتُ حيثُ كنتُ وأمسكتُ بيدِ محبوبتي. وبنَفَسٍ أليمٍ وشهقةٍ وابتسامةٍ تركتُ نفسي تنطلقُ إلى حيثُ شاءت.
يجب أن تكون الابتسامةُ قد حيّرت صائغو التقارير الصّحفيّة. ولئن كانوا قد فهموا لغتي لكانوا قد أدركوا أنّها طريقتي الخاصّة في قولِ "مع السَّلامة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلاةٌ من الأحيـــــــــاء
قصة قصيرة للكاتب النيجيري بين أوكري
ترجمة إبراهيم جعفر
بين أوكري (1959ـ )
كان الرماة منتشرين، ببنادقهم، في كل مكان. العالم كان ـ آنذاك ـ في تمام فوضاه. إن "الآباء الروحيين" الصغار الذين يسيطرون على كلّ شيء أغاروا على الطعام الذي جُلب إلينا. هم قد أغاروا على ما تنزله الطائرات وإعانات وكالات الإغاثة ووزعوا معظم الطعام في ما بين أنفسهم وبني عشيرتهم.
نحن ما عدنا نكترث ـ الطعام ما عاد يهمنا. أنا قد عشت بدونه منذ ثلاثة أسابيع. الآن أنا أُطعمُ على الهواء وعلى النُّشدان.
وفي كلِّ يومٍ، فيما أنا أزداد نحافةً، أرى أشياء أكثر حولنا. أرى الموتى ـ كلَّ أولئك اللذين ماتوا من الجوع. إنهم ـ الآن ـ أكثر بهجةً؛ إنهم أسعد منّا. ثمّ إنهم في كلّ مكان، يعيشون حيواتهم المضيئة وكأنما ما حدث شيء، أو كأنّما هم كانوا أكثرَ حياةً منّا.
كلّما ازددتُ جوعاً كلّما رأيتهم بجلاءٍ أكثر ـ أولئك الأصدقاء القدامى اللذين ماتوا من قبلي وكانوا، في لحظات احتضارهم، يتشبّثون بالذّباب. الآن هم يُطعمُونَ على الهواء. ثمّ هم ينظرون إلينــا ـ نحن الأحياء ـ بشفقةٍ ورأفةٍ عظيمين.
أظنّ أن هذا هو الذي لا يستطيع الأناسُ البيض أن يفهمونه حين يجيئون إلينا بأجهزة تصويرهم التلفزيونيّة وإعانتهم. هم يتوقعون أن يرونا باكيين. لكنّهم، بدلاً عن ذلك، يروننا محدّقين فيهم، بدون حسِّ تسوّلٍ وبصفاءٍ ناتئٍ في عيوننا. ربما كانوا مرتعبين، في سرّهم، من أننا لسنا خائفين من الاحتضار على هذه الطريقة.
لا تعد الواعية، بعد ثلاثة أسابيع من الجوع، منتبهةً. فحاملها يكون، آنذاك، أكثرَ إيغالاً في الموت من الحياة. فإنما الروح، إذ هي مريدةً الرحيل، هي من تُعاني. إنها تُعاني لأنّ الجّسد كان منازعاً الفناء.
لا بدَّ أننا قد جئنا إلى البلدةِ عند الفجرِ. كان الجّميع، في البلدةِ، قد ماتوا. الخيول والأبقار أيضاً كانت على سبيل موتها. أستطيع أن أقول إنّ الهواء قد فاح بعفونة الموت. لكن ذلك لن يكون صحيحاً. فهو ـ الهواء ـ قد كان فائحاً، بالأحرى، برائحة الزّبدة الزّنخة والحرارة المسمومة والمجاري الرديئة. وفيما بين ذلك كان هنالك ـ ويا للمفارقة!ـ عبقُ أزهارٍ واهنٍ.
الناس الوحيدون اللذين لم يكونوا أمواتاً هم الأموات. ومغنّين أغانٍ ذهبيّات، في أصواتٍ جماعيّة، طروبين في كلّ مكان، كان الموتى ساعين على مسالك حيواتهم المألوفة. الآخرون الوحيدون اللذين ما كانوا ميتين كانوا هم الجنود. أولئك قد خاضوا، فيما بينهم، معاركَ أزليّة. ما كان يبدو لهم مهماً شأن تعداد من ماتوا. فكل ما كان يعنيهم، آنذاك، هو كيف يديرون، بكفاءة، رياضيات الحروب الجّهمة، عساهم يستطيعون، بذلك، أن ينتصروا في أعظم المعارك أهميّة، وتلك هي التي جاريةً على قيادة ساحة المقابر الخرافيّة هذي والتي كانت، ذات يوم، أرضاً جميلة ومتحضّرة.
كنت باحثاً عن عائلتي ومحبوبتي. كنت أريد أن أعرف إن كانوا قد ماتوا أم لا. فإن ما وجدت بيّنةً على ذلك كنتُ منتوياً أن أظلّ متعلّقاً بالحياة حتى خيطها المهلهل الأخير. أما إذا عرفت أنهم هم، كذلك، قد ماتوا وما عادوا محتاجين إليّ فسوف أموت، وقتذاك، في سلامٍ.
كلّ معلوماتي قادتني إلى هذه البلدة. لذا إن كانت حبيبتي، إخواني وعائلتي ما يزالون في مكانٍ ما فإنهم سيكونون هنا. فهذه هي البلدة الأخيرة في العالم. ووراء بوابتها الصدئة ترقد الصحراء. إن الصحراء تتمطّى على طول الطريق الذّاهب، في الماضي، في التّاريخ، إلى العالم الغربيّ، ثمّ إلى منبع الجفاف والمجاعة: جبل اللا محبّة العاتي. من قمة ذلك الجّبل تترنّم، في اللّيل، أرواح النّفي المتجهّمة بأغاني هولها المُلاشية للروح. تسرق منّا أغاني هؤلاء الرّجاء وتُصيّرنا مسلِّمين طاقاتنا للهواء ـ للهباء. إنها أغانٍ باردة تجعلنا منقادين إلى وضوح الاحتضار.
وراءنا، في الماضي وقبل أن يقع كلّ هذا على الدنيا، كانت هنالك كلّ الاحتمالات الممكنة في العالم. كانت هنالك كل إمكانات البدء من أشياء صغيرة يُنشئُ منها ـ رويداً رويداً ـ تاريخٌ ومستقبلٌ عذبٌ جديدٌ ـ إن كان لنا فقط أن نستبين هاتيك الإمكانات. لكنّا الآن لا نشهد، قُدُماً، سوى الأغاني الآتية من جبل الموت.
نحنُ نبحثُ عمّن نحبّهم بميكانيكيّة وبجفافٍ في عيوننا. معدّاتنا ما عادت موجودة. ما عاد هنالك شيء يوجد سوى البحث. نحنُ نُقلّب الأجساد على جوانبها، علّنا نرى وجهاً أليفاً. كلّ الوجوه أليفة. فالموت قد جعلها جميعاً من آلي وعشيرتي.
أواصلُ بحثي. آتي إلى حيث وجهٍ لا مألوف. كان ذلك أخي. أُومأ برأسي. أهيلُ تراباً على جسده. بعد ساعاتٍ لاحقة أجيء قرب بئر جافّة فألقى هناك أفراد عائلتي الآخرين. كانت أمّي، من بينهم، متشبّثة بعظمٍ هو من النّشاف بحيث أنه ما كان سيُغذّي حتى الذّباب. أومأ برأسي مرّتين. أهيلُ تراباً على أجسادهم. أواصلُ بحثي. ثمةُ وجهٍ واحدٍ آخرٍ ستسري عنّي مألوفيّته الجميلة. حينما أجد ذلك الوجه سأُسلّم نفسي لأغاني الجّبل.
كان الغروب آتياً حين سمعتُ، من ناحية مبنى مدرسةٍ غير مكتمل، غناءً. كان ذاك أكثر الأصوات التي سمعتها، في حياتي، سحريّةً فظننتُ أنه فقط أولئك اللذين يعرفون كم هي عذبةٌ الحياة يستطيعون أن يغنّوا كذلك- يستطيعون أن يغنّوا وكأنما التنفّسَ كان صلاةً.
كان الغناء مثل البداية البهيجة للخلقِ جميعه؛ ألـ"نعم" المقدِّسة للنَّفَس والضّياء المُفعمة بهما كلُّ الأشياء، ذينكما اللذان يجعلان الماء يترقرق، النباتُ يفرخُ، الحيوانات تثبُ وتلعبُ في الحقول. كما وهما، كذلك، ما يجعلان الرجال والنساء ينظرون مليّاً إلى بُهرة الألوان الأولى، إلى خضرة النباتات، زرقة البحر، ذهبِ الهواء وفَضَّة النّجوم. كانت تلك هي الغاية الحقّة لنشداني، الموسيقى التي تتوّج حياتي الخائنة هذه، النهاية التي ما كنتُ قادراً على أن أرجوها أو أتخيّلها.
بدا وكأنّ هنالك لانهائيّة من الزمان فاصلةً بيني ومبنى المدرسة. ما كانت لديّ قوّة باقية. فقط كان صدى الأغنية الأخير، المجلجل خلل فضاءات جوعي الرحيبة، هو ما "أعاشني". ثمّ، بعد ما قد يكون قرناً، حين أعاد التاريخ نفسه وأتى إلى الدنيا بذات الظروف لأن ما أحد منّا تعلّم أبداً من درسه أو أحبَّ بما يُكفي لكي يتعلّم من الألم، وصلتُ، أخيراً، إلى بابِ حجرةِ المدرسةِ. لكنّ بقرةً، كانت هي ’الشيء‘ الحيّ الوحيد الذي ظلّ في البلدة، مرّت، من قبلِي، خلال الباب. لا بدّ أنها هي، أيضاً، قد جُذبت بالغناء. مضت البقرة إلى داخل الحجرة وتبعتها أنا.
في الدّاخل، كان المكان جميعه قد أخذه الأموات. لكن الهواء هنا ما كان فيه موت. كانت فيه صلاةٌ. الصّلواتُ كانت فائحةَ الرّوائح أكثر من المِيتات. بيد أن كلّ الميّتين هنا كانوا مختلفين، في موتهم، عن الجّثث المطروحةَ خارجاً. الموتى هنا ـ واعذروني لهذا التناقض ـ " أحياء". ليست لديّ كلمة أخرى لتفسير الصفاء الذي كانوا هم فيه. شعرتُ بأنّهم قد صيّروا الحجرة مقدّسةً لأنّهم فكّروا، في لحظاتهم الأخيرة، ليس في أنفسهم ولكن في كلّ الناس الذين يعانون. شعرتُ بأن هذا كان شأنهم لأنّني أحسستُ بنفسي فاعلاً لذات الشيء. زحفتُ نحو ركنٍ، جلستُ إزاء حائطٍ، ثمّ شعرتُ بنفسي مصلّياً لكلِّ السّلالة البشريّة.
صلّيتُ ـ وأنا عالمٌ تماماً أن صلواتي ربما لا تكون سوى إضاعة مطلقة للوقت. صلّيتُ من أجلِ كلِّ شيءٍ عاش، من أجل الجبال والأشجار، من أجل الحيوانات والأنهر، ومن أجل الكائنات الإنسانيّة، أينما هم قد يكونوا. قد سمعتُ صرخة جِماع الإنسانيّة العظيمة القلق والفزع؛ كذلك موسيقاها المُستَوطَنة ـ بهوسٍ ـ للروح. ثم بدأت أنا أيضاً، دون أن أحرّك فمي لانحسار طاقتي، أغنّي في صمت. غنيّت على مدى كلّ المساء.
وحين نظرتُ إلى الجسد الذي كان بقربي ورأيت، في اللامألوفيّة المضيئة بوجهه، وجه حبيبتي غنيّت آناء زمانٍ كلِّ ذاك التعرّف. غنيّتُ بصمتٍ حتى حين جاء رجلٌ أبيض طيّب القلب إلى داخل المدرسة بآلة تصويرٍ تلفزيونيّة و، باكياً، سجّل جميع مشاهد الغرفة الملآنة بالموتى للعالـم ـ أملتُ، آنذاكَ، في أن يكون قد سجّل غنائي أيضاً.
كان الموتى في كلّ فجٍّ حولي، مبتسمين وعلى صفاء. ما حضّوني على المضيّ قدماً- كانوا فقط مبتهجين بهدوءٍ وعمقٍ. لم يسألوني أن اهرع، عجولاً، إليهم، بل تركوا ذلك الأمر لي. ما الذي بمستطاعي أن اختاره؟ الحياة الإنسانيّة- تلك الملأى بالجشع والمرارة، المعتمة، خفيضة الأوكسجين، الدامغة بالأحكام والإدانات، اللئيمة ثم، كذلك، اللطيفة والرائعة. لكن... إن الحياة الإنسانيّة قد خانتني. ثمّ، بخلافِ ذلك، ما تبقّى منّي شيءٌ يُنقذ. حتى روحي كانت محتَضَرَةً من الجّوع.
فتحتُ عينيّ للمرّة الأخيرة. رأيتُ آلات التصوير مسلّطةً فوقنا جميعاً. لهم، نحنُ كنّا الموتى. آنما عبرتُ نَزَع الضّياء رأيتهم هم كالموتى إذ كانوا معجونين في عالمٍ دون شفقةٍ أو حبٍّ.
وفيما كانت البقرة جائلةً في أنحاء خراب الحجرة ـ المدرسة البائن ينبغي أن يكون المصوّرون المسجّلونَ الحدثَ جميعه قد بدا لهم عجباً أمر أن أكون أنا قد جعلتُ نفسي مرتاحاً هكذا فيما بين الموتى. أنا قد فعلتُ ذلك إذ تمدّدتُ حيثُ كنتُ وأمسكتُ بيدِ محبوبتي. وبنَفَسٍ أليمٍ وشهقةٍ وابتسامةٍ تركتُ نفسي تنطلقُ إلى حيثُ شاءت.
يجب أن تكون الابتسامةُ قد حيّرت صائغو التقارير الصّحفيّة. ولئن كانوا قد فهموا لغتي لكانوا قد أدركوا أنّها طريقتي الخاصّة في قولِ "مع السَّلامة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلاةٌ من الأحيـــــــــاء
قصة قصيرة للكاتب النيجيري بين أوكري
ترجمة إبراهيم جعفر
بين أوكري (1959ـ )