نقوس المهدي
كاتب
يعتبر الشاعر والقاص والمحرر والناقد الأمريكي إدجار ألن بو Edgar Allan Poe (1809-1849) واحداً من أهم شخصيات القرن التاسع عشر المعنيّة بالأدب الرومانسي. إلا أنه لم يستفد من قيمته الأدبية والنقدية أثناء حياته فقد عاش حياةً مليئة بالفقر والغرابة والحرمان. وكما الرسّامون الكبار لم تتضح أهميّة لوحاته الأدبية الحافلة بالمعاني والإيحاءات والألوان إلا بعد وفاته بعقود.
ويشتهر بو بأسلوبه المميز ونظريته الأدبية التي لخصها في مقال له بعنوان "المبدأ الشعري The Poetic Principle" حيث يربط إدجار ألن بو بين الناحية الجمالية للفن وبين المثالية الصرفة، ذاكراً أن المزاج أو الاحساس الذي يخلقه العمل الفني يسمو بالروح، ولذلك يعتبر تجربة روحيّة. وقد نادى بمبدأ الفن للفن art for artصs sake حتى قبل أن يُعرف المبدأ بفترة طويلة. ولذلك كان يعارض التعليمية في الفن مركزاً في نقده الأدبي على أن التوجيه الأخلاقي يجب ألا يمتزج بالنص الشعري أو الفني الذي يجب أن يركز على الوصول إلى الإحساس الجمالي الصرف.
وفي مقاله يعترض بو على القصيدة الطويلة (الملحمة) التي يرى ان كان لابد منها أن تقسّم إلى وحدات معنوية يتم استيعاب كل وحدة منها في فترة زمنيّة واحدة، على أن يكون هناك رابط كلي يربط الوحدات في معنى أشمل يسمو بالروح. يقول بو: "بما أن الغاية القصوى من الفن هي الإحساس بالجمال، أي أن غايته هي التأثير على المتلقي، فإن هذا التأثير يمكن الوصول إليه خلال فترة زمنية قصيرة (الفترة التي تستغرقها قراءة قصيدة غنائية، أو مشاهدة عرض درامي، أو التمعن في لوحة، الخ...). ولذا كان بو من أنصار القصة القصيرة على الرغم من ان هذا الفن والمجلات التي تنشره كانت تعتبر في القرن التاسع عشر سوقية وغير راقية وغير مكافئة لفنون مثل الرواية والملحمة. وقد أثر إصرار إدجار ألان بو على أسلوبه المميّز في القصة القصيرة وتفضيله لها على الأجيال التالية من الكتّاب وساعد على انتشارها. فمجمل قصصه القصيرة الثماني والستين تتمتع بأسلوب سهل ممتنع وتقنيات لم تكن تعرف في عصره.
فبالنسبة إليه يجب أن يقرأ القارئ القصة في جلسة واحدة تكون روحه فيها ملك للكاتب. كما لا يجب ان تكون هناك أي تأثيرات خارجيّة تتعارض مع انسجام القارئ مع القصة. وليس من المفروض أن يكون هناك مجال لنمو الشخصيات في القصة القصيرة أو لتعدد الأحداث. فالبناء العام عامل أكثر أهمية في القصة القصيرة عنه في الرواية حيث يجب ان يراعي الكاتب حبكته جاعلاً بداية القصة ونهايتها نصب عينيه أثناء عملية الكتابة. كما يجب أن يجاهد الكاتب للوصول إلى مفهوم "المؤثر الواحد" الذي يجب ان يكون لبنة البناء الأولى للقصة، والذي يجب أن تقوم عليه أحداث القصة التي يدمجها الكاتب للوصول إلى المؤثر الواحد المقصود. وخلال عملية الكتابة كلها يجب أن يكون لكل كلمة في القصة غاية مباشرة أو غير مباشرة محددة سلفاً. وعند تحقيق ذلك بعناية ومهارة يتم رسم لوحة أدبية تترك في عقل المتأمل لها إحساساً تاماً بالرضا.
ويمكن الوصول بسهولة إلى الاحساس التام بالرضا عند قراءة قصة إدجار ألن بو القصيرة الساخرة "ليلة شهرزاد الثانية بعد الألف"The Thousand and Second Tale of Scheherazade التي نشرت عام 1845م. ويتبدى في هذه القصة بحث بو عن الجمالية البحتة ومبدأ الفن للفن وثقافته الأدبية في أنه تجاوز الحدود الجغرافية حيث كان واسع الاطلاع على آداب الأمم الأخرى، فمن خلال هذه القصة استبطن بو "ألف ليلة وليلة" الشهير وسجّل انطباعه الشخصي عنه قبل أن ينتشر العمل بعد ترجمة ريتشارد بيرتون له إلى الانجليزية لغة بو الأم بحوالي أربعين عاماً!
وتجمع هذه القصة بين أسلوب ونظرية بو في كتابة القصة المذكور أعلاه وبين سبقه عصره في الوصول إلى تقنيات في القص لم تنتشر إلا بعد الحرب العالمية الثانية مع انتشار عصر ما بعد الحداثة. وتشمل هذه التقنيات:
(1) تقنية التداخل الأدبي metafiction حيث استبطن بو عملاً أدبياً معروفاً وهو ألف ليلة وليلة ليبني عملاً أدبياً آخر، ليلة شهرزاد الثانية بعد الألف، مستلهماً من العمل الأساسي مكونات مثل الزمان والمكان والشخصيات الخ. وتقنية التداخل الأدبي رائعة خاصة للقصة القصيرة حيث تثريها وتوسّع أبعادها إلى آفاق قد لا يكون لها حدود دون الحاجة إلى تطويل القصة وتمطيطها.
(2) وضع إدجار ألن بو، بعد العنوان، لعبارة قصيرة تدل على الوجهة التي يرغب أن يوجه قارئه إليها، وهي تقنية توجد في كثير من قصص بو القصيرة، ويستمدها من مصادر مختلفة يذكرها عادةً، فقد تكون بيتاً أو أبياتاً من الشعر، أو قولاً مأثوراً، أو عبارة من عمل أدبي معروف. وأحياناً يضع عبارة غريبة مثل "والنبي، تين!" In the name of the Prophet - figs!!، وهي عبارة ينادي بها البائع التركي المتجول "حسب قول بو" على بضاعته. وهذه العبارة، التي توجت قصته القصيرة الساخرة كيف تكتب مقالاً لمجلة بلاكوود How to Write a Blackwood Article"، مناسبة للغاية لهذه القصة بالذات التي تدور حول سيّدة تعيش وهم الانتساب إلى الطبقة الارستقراطية وتريد كتابة مقال لمجلة بلاكوود البريطانية (1817- 1980) التي يسخر إدجار ألان بو من أسلوبها "المجلّة" في اختيار المواد وفي الرقابة على النشر. وعبارة "والنبي - تين!!"على بساطتها تجسّد انتفاء العلاقة أحياناً بين أجزاء الخطاب، وهذا نقد واضح لأسلوب مجلة بلاكوود في النشر ولكتابات المنتسبين إليها. أما في قصة "ليلة شهرزاد الثانية بعد الألف" فيضع بو عبارة: الحقيقة أغرب من الخيال truth is stranger than fiction "التي تتوّج القصة مهيئة القارئ لسخرية بو من ألف ليلة وليلة والمجتمع الذي أنتجه!!
(3) جعل بو راوي القصة يتحدث إلى القارئ بشكل مباشر مضيفاً مستوى آخر إلى مستويات القص العديدة الموجودة في العمل الأصلي، حيث يتحدث راوي بو عن إلمامه بمصدر أدبي آخر يضع نهاية مغايرة لنهاية ألف ليلة وليلة الأصلية المفتوحة. وشهرزاد تروي القصص للملك شهريار، وبعض شخصيات تلك القصص تروي قصصاً أخرى لبعضها الخ. كما مزج بو بين بعض الحقائق المعروفة مثل التلغراف وطرق التصوير المعروفة في القرن التاسع عشر وبين قصة السندباد الخيالية.
(4) استخدم بو عبارات مكونة من دمج عدة كلمات مثل: قللي الآن أهذاحق أملا Tellmenow Isitsoornot كعنوان لعمل مشرقي يزعم بو أنه وجد فيه نهاية مغايرة لنهاية ألف ليلة، فشهريار الذي تخبره شهرزاد من خلال قصص مثل قصة سندباد البحري عن المكتشفات العلمية الحديثة لا يصدقها، وبذلك لا تنجو في نهاية المطاف من الموت. وطريقة دمج عدة كلمات لتكوين كلمة واحدة ذات دلالة مغايرة تقنية استخدمها جون بارث في روايته "كتاب العشر ليال وليلة: قصة الحادي عشر The Book of Ten Nights and a Night: Eleven Stories." (2004م) التي استبطن فيها ألف ليلة وليلة وطبق فيها تقنيات ما بعد الحداثة، فجنيّة بارث أنثى اسمها WYSIWYG اختصاراً ل what you see is what you get ما تراه هو ما تحصل عليه. ولعل تأثير إدجار ألان بو قد امتد ليصل إلى جون بارث الذي يعتبر واحدا من أهم رموز ما بعد الحداثة.
*alriyadhcom
ويشتهر بو بأسلوبه المميز ونظريته الأدبية التي لخصها في مقال له بعنوان "المبدأ الشعري The Poetic Principle" حيث يربط إدجار ألن بو بين الناحية الجمالية للفن وبين المثالية الصرفة، ذاكراً أن المزاج أو الاحساس الذي يخلقه العمل الفني يسمو بالروح، ولذلك يعتبر تجربة روحيّة. وقد نادى بمبدأ الفن للفن art for artصs sake حتى قبل أن يُعرف المبدأ بفترة طويلة. ولذلك كان يعارض التعليمية في الفن مركزاً في نقده الأدبي على أن التوجيه الأخلاقي يجب ألا يمتزج بالنص الشعري أو الفني الذي يجب أن يركز على الوصول إلى الإحساس الجمالي الصرف.
وفي مقاله يعترض بو على القصيدة الطويلة (الملحمة) التي يرى ان كان لابد منها أن تقسّم إلى وحدات معنوية يتم استيعاب كل وحدة منها في فترة زمنيّة واحدة، على أن يكون هناك رابط كلي يربط الوحدات في معنى أشمل يسمو بالروح. يقول بو: "بما أن الغاية القصوى من الفن هي الإحساس بالجمال، أي أن غايته هي التأثير على المتلقي، فإن هذا التأثير يمكن الوصول إليه خلال فترة زمنية قصيرة (الفترة التي تستغرقها قراءة قصيدة غنائية، أو مشاهدة عرض درامي، أو التمعن في لوحة، الخ...). ولذا كان بو من أنصار القصة القصيرة على الرغم من ان هذا الفن والمجلات التي تنشره كانت تعتبر في القرن التاسع عشر سوقية وغير راقية وغير مكافئة لفنون مثل الرواية والملحمة. وقد أثر إصرار إدجار ألان بو على أسلوبه المميّز في القصة القصيرة وتفضيله لها على الأجيال التالية من الكتّاب وساعد على انتشارها. فمجمل قصصه القصيرة الثماني والستين تتمتع بأسلوب سهل ممتنع وتقنيات لم تكن تعرف في عصره.
فبالنسبة إليه يجب أن يقرأ القارئ القصة في جلسة واحدة تكون روحه فيها ملك للكاتب. كما لا يجب ان تكون هناك أي تأثيرات خارجيّة تتعارض مع انسجام القارئ مع القصة. وليس من المفروض أن يكون هناك مجال لنمو الشخصيات في القصة القصيرة أو لتعدد الأحداث. فالبناء العام عامل أكثر أهمية في القصة القصيرة عنه في الرواية حيث يجب ان يراعي الكاتب حبكته جاعلاً بداية القصة ونهايتها نصب عينيه أثناء عملية الكتابة. كما يجب أن يجاهد الكاتب للوصول إلى مفهوم "المؤثر الواحد" الذي يجب ان يكون لبنة البناء الأولى للقصة، والذي يجب أن تقوم عليه أحداث القصة التي يدمجها الكاتب للوصول إلى المؤثر الواحد المقصود. وخلال عملية الكتابة كلها يجب أن يكون لكل كلمة في القصة غاية مباشرة أو غير مباشرة محددة سلفاً. وعند تحقيق ذلك بعناية ومهارة يتم رسم لوحة أدبية تترك في عقل المتأمل لها إحساساً تاماً بالرضا.
ويمكن الوصول بسهولة إلى الاحساس التام بالرضا عند قراءة قصة إدجار ألن بو القصيرة الساخرة "ليلة شهرزاد الثانية بعد الألف"The Thousand and Second Tale of Scheherazade التي نشرت عام 1845م. ويتبدى في هذه القصة بحث بو عن الجمالية البحتة ومبدأ الفن للفن وثقافته الأدبية في أنه تجاوز الحدود الجغرافية حيث كان واسع الاطلاع على آداب الأمم الأخرى، فمن خلال هذه القصة استبطن بو "ألف ليلة وليلة" الشهير وسجّل انطباعه الشخصي عنه قبل أن ينتشر العمل بعد ترجمة ريتشارد بيرتون له إلى الانجليزية لغة بو الأم بحوالي أربعين عاماً!
وتجمع هذه القصة بين أسلوب ونظرية بو في كتابة القصة المذكور أعلاه وبين سبقه عصره في الوصول إلى تقنيات في القص لم تنتشر إلا بعد الحرب العالمية الثانية مع انتشار عصر ما بعد الحداثة. وتشمل هذه التقنيات:
(1) تقنية التداخل الأدبي metafiction حيث استبطن بو عملاً أدبياً معروفاً وهو ألف ليلة وليلة ليبني عملاً أدبياً آخر، ليلة شهرزاد الثانية بعد الألف، مستلهماً من العمل الأساسي مكونات مثل الزمان والمكان والشخصيات الخ. وتقنية التداخل الأدبي رائعة خاصة للقصة القصيرة حيث تثريها وتوسّع أبعادها إلى آفاق قد لا يكون لها حدود دون الحاجة إلى تطويل القصة وتمطيطها.
(2) وضع إدجار ألن بو، بعد العنوان، لعبارة قصيرة تدل على الوجهة التي يرغب أن يوجه قارئه إليها، وهي تقنية توجد في كثير من قصص بو القصيرة، ويستمدها من مصادر مختلفة يذكرها عادةً، فقد تكون بيتاً أو أبياتاً من الشعر، أو قولاً مأثوراً، أو عبارة من عمل أدبي معروف. وأحياناً يضع عبارة غريبة مثل "والنبي، تين!" In the name of the Prophet - figs!!، وهي عبارة ينادي بها البائع التركي المتجول "حسب قول بو" على بضاعته. وهذه العبارة، التي توجت قصته القصيرة الساخرة كيف تكتب مقالاً لمجلة بلاكوود How to Write a Blackwood Article"، مناسبة للغاية لهذه القصة بالذات التي تدور حول سيّدة تعيش وهم الانتساب إلى الطبقة الارستقراطية وتريد كتابة مقال لمجلة بلاكوود البريطانية (1817- 1980) التي يسخر إدجار ألان بو من أسلوبها "المجلّة" في اختيار المواد وفي الرقابة على النشر. وعبارة "والنبي - تين!!"على بساطتها تجسّد انتفاء العلاقة أحياناً بين أجزاء الخطاب، وهذا نقد واضح لأسلوب مجلة بلاكوود في النشر ولكتابات المنتسبين إليها. أما في قصة "ليلة شهرزاد الثانية بعد الألف" فيضع بو عبارة: الحقيقة أغرب من الخيال truth is stranger than fiction "التي تتوّج القصة مهيئة القارئ لسخرية بو من ألف ليلة وليلة والمجتمع الذي أنتجه!!
(3) جعل بو راوي القصة يتحدث إلى القارئ بشكل مباشر مضيفاً مستوى آخر إلى مستويات القص العديدة الموجودة في العمل الأصلي، حيث يتحدث راوي بو عن إلمامه بمصدر أدبي آخر يضع نهاية مغايرة لنهاية ألف ليلة وليلة الأصلية المفتوحة. وشهرزاد تروي القصص للملك شهريار، وبعض شخصيات تلك القصص تروي قصصاً أخرى لبعضها الخ. كما مزج بو بين بعض الحقائق المعروفة مثل التلغراف وطرق التصوير المعروفة في القرن التاسع عشر وبين قصة السندباد الخيالية.
(4) استخدم بو عبارات مكونة من دمج عدة كلمات مثل: قللي الآن أهذاحق أملا Tellmenow Isitsoornot كعنوان لعمل مشرقي يزعم بو أنه وجد فيه نهاية مغايرة لنهاية ألف ليلة، فشهريار الذي تخبره شهرزاد من خلال قصص مثل قصة سندباد البحري عن المكتشفات العلمية الحديثة لا يصدقها، وبذلك لا تنجو في نهاية المطاف من الموت. وطريقة دمج عدة كلمات لتكوين كلمة واحدة ذات دلالة مغايرة تقنية استخدمها جون بارث في روايته "كتاب العشر ليال وليلة: قصة الحادي عشر The Book of Ten Nights and a Night: Eleven Stories." (2004م) التي استبطن فيها ألف ليلة وليلة وطبق فيها تقنيات ما بعد الحداثة، فجنيّة بارث أنثى اسمها WYSIWYG اختصاراً ل what you see is what you get ما تراه هو ما تحصل عليه. ولعل تأثير إدجار ألان بو قد امتد ليصل إلى جون بارث الذي يعتبر واحدا من أهم رموز ما بعد الحداثة.
*alriyadhcom