نقوس المهدي
كاتب
من يقرأ الصفحات الاولي من كتاب الف ليلة وليلة سيعرف أن شهريار هو أحد ملوك ساسان بجزر الهند والصين (هذا ما ذكر بالكتاب) ومن يعرف شيئا عن الأدب الهندي القديم سيتعرف علي بعض ملامح منه بين طيات حكايات الليالي، كما انه من السهل أن تلحظ أن اسماء أبطال الحكاية (الإطار) ليست اسماء عربية. ومن قرأ شيئا عن الليالي سيعرف أن هناك باحثين ينسبون أصولها إلي بلاد فارس، وهناك آخرون ينسبونها إلي بلاد الهند ( ومن بين هؤلاء الكاتب الكبير بورخيس) وهذا كما أري يتعلق تحديدا بالحكاية الإطار ( التي ضمنها شخصية شهرزاد) وهي الحكاية التي صبت داخلها شعوب الشرق حكاياتها المتنوعة، وهي التي ينتمي معظمها إلي الشعوب العربية وتقع أغلب أحداثها في مدن عربية ذكرت بالاسم ومنها: القاهرة والاسكندرية وبغداد ودمشق وغيرها، وحملت لهجات متنوعة لعدة بلاد عربية، وكان من بين أبطالها شخصيات تاريخية بارزة عند العرب ومنها هارون الرشيد والخليفة المأمون.
ومن يقرأ الصفحات الأولي من الكتاب سيعرف أن الفتاة شهرزاد ابنة وزير ساسان، كانت قد قرأت الكثير من سير الملوك وأخبار الأمم حتي قيل إنها قرأت الف كتاب. أي أنها حسب الحكاية الأصلية، كانت راوية لما قرأته في الكتب ولم تكن مؤلفة أو مرتجلة للحكايات التي روتها، فهذا خيال لم يخطر إطلاقا علي بال أصحاب الحكاية القديمة.
أسوق هاتين الملحوظتين إلي هواة ترديد الاستعارة المغوية ( أحفاد شهرزاد ) التي يطلقونها علي المؤلفين والمؤلفات المعاصرين، لأنني يزعجني أن تؤدي كثرة ترديدها إلي اعتقاد الأجيال الجديدة أنه ثمة شهرزاد وأنها هي مؤلفة الليالي ( ولا تندهش من انزعاجي، فكثير من المعلومات المغلوطة قد تبدلت مع الزمن وشاع الفهم الخاطيء لها من وراء أسباب كهذه).
والأكثر إزعاجا في الأمر أنها، أولا: تطمس المعلومات الأساسية عن الحكاية الأم لليالي، وثانيا: أنها تحور القيمة الحقيقية لهذا الكتاب لتخدم قيمة مناقضة تماما لها. فما يوحي به التركيز علي وراثة المبدعين المعاصرين للقدرات الفذة لشخصية شهرزاد، يصب في فكرة الإبداع الفردي ويجعل الحكاية التراثية تتواءم مع أفكارنا عن البطولة المطلقة للمؤلف الأوحد، فيحمّلها بكل ما تعلمناه وأدمنّاه في مجتمعاتنا الحديثة عن التميز الفردي والأمجاد الفردية، في حين أن ما يميز الأدب الشعبي هو مجهولية مؤلفيه وطبيعته الخاصة كأدب جمعي.
ومأثرة الف ليلة وليلة العظيمة التي تجعل منه كتابا متفردا في تاريخ آداب الشعوب قاطبة، هي أنه اكبر سفر للإبداع الجمعي الذي يغطي جغرافيا شاسعة، فمؤلفوه بلا عدد، عاشوا علي مدي مئات السنين، في عشرات من المدن، وكان له آلاف من الرواة، وهو يدلل علي اتساع التداول الشفاهي الهائل للحكايات في بلاد الشرق، وكيف جري نقلها من لغة للغة ومن أرض لأرض.
وتتميز الليالي بأنك تجد بصمات شعوب عديدة عليها، من الهند والصين إلي بلاد فارس والعراق إلي الشام ومصر إلي بلاد المغرب. وتجد فيها ما يجعلك تستنتج أنها تحتوي علي طبقات من التأليف الشعبي. فلابد أن الحكايات قد تمازجت في تنقلها وتكثفت وتطعّمت بطعوم المناطق التي مرت عليها، وذلك كله قبل جمعها وتسجيلها ثم طباعتها ومن ثم تثبيتها في الصورة النهائية التي عرفناها بها.
بالحسابات الإنسانية الرحيبة تجعلك مثل هذه المعلومات تبتهج لفكرة شيوع الإبداع ومشاعيّته قديما، (اعرف أن الكثيرين بيننا يعجزون عن الابتهاج بهذا الأمر، مفضلين عليه بهجة الوصول إلي ما يثبت انفراد وطنهم بالتحديد بملكية هذا الإبداع أو ذاك) وبالحسابات الإنسانية الرحيبة أيضا يمكنك أن تبتهج بفكرة مجهولية المؤلف وانت تتّبع ولع هؤلاء المجهولين القدامي بإبداع أدب يعبر عنهم، فيصفون مدنهم وأسواقهم وحرفهم وبيوتهم وأنماط الحياة والعلاقات فيها، ويعبرون عن أفكار ومفاهيم الناس في زمانهم، مضمّنين ما ابدعوه من حكايات، مئات المأثورات والأمثولات الشعبية، وآلاف الأبيات الشعرية والأزجال التي هي أيضا لشعراء مجهولين. ويفتنك أن تلحظ بين الحكايات ما يحمل نَفَس المؤلف الذي انشأها، فرسم مساراتها الدرامية الملتفة والمركبة، وابتكر الحبكات المشوقة والمفاجآت الغرائبية المدهشة، وتوصل إلي الحيل التي يفكك بها الأزمات ليفضي بها إلي النهايات السعيدة ويلمس قبسا من الحكمة. يفتنك أن تشعر بوجود هذا المؤلف البارع الذي تعرف أنه خُلق مجهولا وسيظل مجهولا للأبد، بينما انت تطل عليه من بعيد، من الزمن الذي يعيش فيه أناس يعدون أتفه قصة تعبر برءوسهم الفقيرة الخيال، كنزا يروجون له ويتاجرون به.
لا شك أنه من بين المنافع الإنسانية الفريدة لهذا الكتاب أنه يقدم صورة لما كان عليه انتفاء الملكية في الإبداع، وكيف كان الجميع يستمتعون، ويتداولون مادته دونما انشغال بتسمية من تؤول إليه هذه المادة أو تلك. واستنادا إلي جميع هذه الدواعي الإنسانية، اري أن هذه الاستعارة تطمس وتمسخ كل هذه الحقائق والمعاني المهمة المرتبطة بهذا الكتاب.
وفي نفس هذا السياق ثمة مفارقة اندهش لها، إذ يشيع زهو مبالغ فيه لكون الليالي قد جعلت المرأة هي راوية الحكايات، حيث يشيع استنتاج أن ذلك يمثل تبجيلا للمرأة ووصفها بأنها بطبيعتها راوية عظيمة ومن هنا تتولد الاستعارات المفخّمة، بينما لم يكن وراء ذلك إلا محض حيلة فنية اقتضتها الطبيعة الخاصة بالحكاية الإطار الجامعة للحكايات، إذ بها ينفتح الإطار علي الترقب ومناوشات التشويق للحظة قتل شهريار لعروسه، وبها ينشأ المبرر لتوالي سرد مئات الحكايات المتكئة علي فكرة إلهاء شهريار ودفعه لتأجيل قتل عروسه، أما تبجيل المرأة كراوية فأغلب الظن أنه لم يخطر ببال مبدعي الحكاية ( خاصة إذا نظرنا إلي ما جاء في نفس الحكاية من أن شهوة قتل النساء لدي شهريار جاءت بسبب مشاهدته لسلسلة من الخيانات الفاحشة من قبل النساء لرجالهن: خيانة زوجته، ثم خيانة زوجة أخيه، ثم الخيانات الجريئة والطريفة لمعشوقة العفريت بكل قوته وجبروته، فضلا عن سيادة تيمة خيانات النساء التي لا تُحصي ولا تُعد علي طول الكتاب وعرضه.)
وبشكل عام إذا تأملنا في طبيعة الحكايات بموضوعاتها الأكثر تواردا التي تدور حول الصراع من أجل الرزق أو حول الخيانات النسائية، فضلا عن إشارات أخري كثيرة فإنه يقودنا إلي استنتاج أن أغلب مؤلفي الف ليلة وليلة كانوا من الرجال.
لقد استمعت مؤخرا إلي شهادة روائية عربية عن إبداعها، ووجدت كيف استحوذت عليها تماما استعارة: حفيدة شهرزاد، فأسرفت في استعمالها في تلميع نفسها. وهنا يحضرني قول كونديرا عن خطورة اللعب بالاستعارات، في روايته خفة الكائن: " لا احد يلهو بالاستعارات" إذ ما أسهل أن تتورط في تصديقها.
وفي النهاية اعتذر إذا كان ما سقته يفسد علي الشهرزادات المعاصرات الطرب بهذه الاستعارة، فلم أقصد سوي الانتصار لحقائق التراث الإنساني كما هي، بخيرها وشرها، وأجد أن الأصلح هو أن نتأمل فيها ونتعلم من دلالاتها ومعانيها بما هي عليه، بدلا من تحويرها واستغلالها فيما يشبع غرورنا المعاصر ببعض البهرجة الزائفة.
.
ومن يقرأ الصفحات الأولي من الكتاب سيعرف أن الفتاة شهرزاد ابنة وزير ساسان، كانت قد قرأت الكثير من سير الملوك وأخبار الأمم حتي قيل إنها قرأت الف كتاب. أي أنها حسب الحكاية الأصلية، كانت راوية لما قرأته في الكتب ولم تكن مؤلفة أو مرتجلة للحكايات التي روتها، فهذا خيال لم يخطر إطلاقا علي بال أصحاب الحكاية القديمة.
أسوق هاتين الملحوظتين إلي هواة ترديد الاستعارة المغوية ( أحفاد شهرزاد ) التي يطلقونها علي المؤلفين والمؤلفات المعاصرين، لأنني يزعجني أن تؤدي كثرة ترديدها إلي اعتقاد الأجيال الجديدة أنه ثمة شهرزاد وأنها هي مؤلفة الليالي ( ولا تندهش من انزعاجي، فكثير من المعلومات المغلوطة قد تبدلت مع الزمن وشاع الفهم الخاطيء لها من وراء أسباب كهذه).
والأكثر إزعاجا في الأمر أنها، أولا: تطمس المعلومات الأساسية عن الحكاية الأم لليالي، وثانيا: أنها تحور القيمة الحقيقية لهذا الكتاب لتخدم قيمة مناقضة تماما لها. فما يوحي به التركيز علي وراثة المبدعين المعاصرين للقدرات الفذة لشخصية شهرزاد، يصب في فكرة الإبداع الفردي ويجعل الحكاية التراثية تتواءم مع أفكارنا عن البطولة المطلقة للمؤلف الأوحد، فيحمّلها بكل ما تعلمناه وأدمنّاه في مجتمعاتنا الحديثة عن التميز الفردي والأمجاد الفردية، في حين أن ما يميز الأدب الشعبي هو مجهولية مؤلفيه وطبيعته الخاصة كأدب جمعي.
ومأثرة الف ليلة وليلة العظيمة التي تجعل منه كتابا متفردا في تاريخ آداب الشعوب قاطبة، هي أنه اكبر سفر للإبداع الجمعي الذي يغطي جغرافيا شاسعة، فمؤلفوه بلا عدد، عاشوا علي مدي مئات السنين، في عشرات من المدن، وكان له آلاف من الرواة، وهو يدلل علي اتساع التداول الشفاهي الهائل للحكايات في بلاد الشرق، وكيف جري نقلها من لغة للغة ومن أرض لأرض.
وتتميز الليالي بأنك تجد بصمات شعوب عديدة عليها، من الهند والصين إلي بلاد فارس والعراق إلي الشام ومصر إلي بلاد المغرب. وتجد فيها ما يجعلك تستنتج أنها تحتوي علي طبقات من التأليف الشعبي. فلابد أن الحكايات قد تمازجت في تنقلها وتكثفت وتطعّمت بطعوم المناطق التي مرت عليها، وذلك كله قبل جمعها وتسجيلها ثم طباعتها ومن ثم تثبيتها في الصورة النهائية التي عرفناها بها.
بالحسابات الإنسانية الرحيبة تجعلك مثل هذه المعلومات تبتهج لفكرة شيوع الإبداع ومشاعيّته قديما، (اعرف أن الكثيرين بيننا يعجزون عن الابتهاج بهذا الأمر، مفضلين عليه بهجة الوصول إلي ما يثبت انفراد وطنهم بالتحديد بملكية هذا الإبداع أو ذاك) وبالحسابات الإنسانية الرحيبة أيضا يمكنك أن تبتهج بفكرة مجهولية المؤلف وانت تتّبع ولع هؤلاء المجهولين القدامي بإبداع أدب يعبر عنهم، فيصفون مدنهم وأسواقهم وحرفهم وبيوتهم وأنماط الحياة والعلاقات فيها، ويعبرون عن أفكار ومفاهيم الناس في زمانهم، مضمّنين ما ابدعوه من حكايات، مئات المأثورات والأمثولات الشعبية، وآلاف الأبيات الشعرية والأزجال التي هي أيضا لشعراء مجهولين. ويفتنك أن تلحظ بين الحكايات ما يحمل نَفَس المؤلف الذي انشأها، فرسم مساراتها الدرامية الملتفة والمركبة، وابتكر الحبكات المشوقة والمفاجآت الغرائبية المدهشة، وتوصل إلي الحيل التي يفكك بها الأزمات ليفضي بها إلي النهايات السعيدة ويلمس قبسا من الحكمة. يفتنك أن تشعر بوجود هذا المؤلف البارع الذي تعرف أنه خُلق مجهولا وسيظل مجهولا للأبد، بينما انت تطل عليه من بعيد، من الزمن الذي يعيش فيه أناس يعدون أتفه قصة تعبر برءوسهم الفقيرة الخيال، كنزا يروجون له ويتاجرون به.
لا شك أنه من بين المنافع الإنسانية الفريدة لهذا الكتاب أنه يقدم صورة لما كان عليه انتفاء الملكية في الإبداع، وكيف كان الجميع يستمتعون، ويتداولون مادته دونما انشغال بتسمية من تؤول إليه هذه المادة أو تلك. واستنادا إلي جميع هذه الدواعي الإنسانية، اري أن هذه الاستعارة تطمس وتمسخ كل هذه الحقائق والمعاني المهمة المرتبطة بهذا الكتاب.
وفي نفس هذا السياق ثمة مفارقة اندهش لها، إذ يشيع زهو مبالغ فيه لكون الليالي قد جعلت المرأة هي راوية الحكايات، حيث يشيع استنتاج أن ذلك يمثل تبجيلا للمرأة ووصفها بأنها بطبيعتها راوية عظيمة ومن هنا تتولد الاستعارات المفخّمة، بينما لم يكن وراء ذلك إلا محض حيلة فنية اقتضتها الطبيعة الخاصة بالحكاية الإطار الجامعة للحكايات، إذ بها ينفتح الإطار علي الترقب ومناوشات التشويق للحظة قتل شهريار لعروسه، وبها ينشأ المبرر لتوالي سرد مئات الحكايات المتكئة علي فكرة إلهاء شهريار ودفعه لتأجيل قتل عروسه، أما تبجيل المرأة كراوية فأغلب الظن أنه لم يخطر ببال مبدعي الحكاية ( خاصة إذا نظرنا إلي ما جاء في نفس الحكاية من أن شهوة قتل النساء لدي شهريار جاءت بسبب مشاهدته لسلسلة من الخيانات الفاحشة من قبل النساء لرجالهن: خيانة زوجته، ثم خيانة زوجة أخيه، ثم الخيانات الجريئة والطريفة لمعشوقة العفريت بكل قوته وجبروته، فضلا عن سيادة تيمة خيانات النساء التي لا تُحصي ولا تُعد علي طول الكتاب وعرضه.)
وبشكل عام إذا تأملنا في طبيعة الحكايات بموضوعاتها الأكثر تواردا التي تدور حول الصراع من أجل الرزق أو حول الخيانات النسائية، فضلا عن إشارات أخري كثيرة فإنه يقودنا إلي استنتاج أن أغلب مؤلفي الف ليلة وليلة كانوا من الرجال.
لقد استمعت مؤخرا إلي شهادة روائية عربية عن إبداعها، ووجدت كيف استحوذت عليها تماما استعارة: حفيدة شهرزاد، فأسرفت في استعمالها في تلميع نفسها. وهنا يحضرني قول كونديرا عن خطورة اللعب بالاستعارات، في روايته خفة الكائن: " لا احد يلهو بالاستعارات" إذ ما أسهل أن تتورط في تصديقها.
وفي النهاية اعتذر إذا كان ما سقته يفسد علي الشهرزادات المعاصرات الطرب بهذه الاستعارة، فلم أقصد سوي الانتصار لحقائق التراث الإنساني كما هي، بخيرها وشرها، وأجد أن الأصلح هو أن نتأمل فيها ونتعلم من دلالاتها ومعانيها بما هي عليه، بدلا من تحويرها واستغلالها فيما يشبع غرورنا المعاصر ببعض البهرجة الزائفة.
.