نقوس المهدي
كاتب
تعرض القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي مثل ما يتعرض له عصرنا الحاضر من مظاهر الصراع واخذت الاوضاع السياسية في مناطق مختلفة من العالم الاسلامي تتغير في شكل كبير ومختلف. ففي الوقت الذي فقدت فيه السلطة المركزية في بغداد قوتها عمت حركة "تحديث" في جانب آخر، اصبح المقياس الاجتماعي للفرد خلالها، هو مدى صلته بالظرف وخفة الروح ومدى تميزه في لعبة الشطرنج والنرد واستخراج الاموال وتدبيرها. حتى اللغة العربية نظر اليها على انها وسيلة للتعبير بغض النظر عن اللحن بها، والاحسن هو الانصراف إلى العلوم النافعة كالحساب مثلاً. وظهرت آنذاك اسماء كبيرة في مجالات مختلفة واحد منها، ابو حيان التوحيدي، الفريد في الكتابة والاسلوب الذي نقل في مؤلفاته "المقابسات" و "الامتاع والمؤانسة" صورة رائعة عن عصره برجالاته وحياته الادبية والعلمية والاجتماعية، وهي تعتبر شاهداً على ذلك العصر ومصدراً عنه. لكن التوحيدي نفسه كغيره من رجال تلك الفترة لم يلقَ المكان الذي يستحقه ولا الرعاية التي يحتاجها علمه.
ابو حيان علي بن محمد بن عباس التوحيدي الذي تكاد تكون حياته مجهولة واستغرب ياقوت الحموي في مؤلفة "معجم الادباء" من ان احداً لم يذكره في كتاب، ولا دمجه ضمن خطاب. ولعل ذلك يعود إلى خصوماته، خصوصاً مع الصاحب بن عباد وقوله انه رجل زنديق منحوس مشؤوم الطابع لا تدخل كتبه بيتاً إلا حل به النحس، وجاء ذلك بعد نشر كتاب التوحيدي "مثالب الوزيرين" التي تعرض فيه إلى شخصة كل من ابن عباد وابن العميد بلهجة ناقدة مقذعة. وكتب الحموي عن التوحيدي: "كان متفنناً في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والادب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان جاحظياً يسلك في تصانيفه مسلكه ويحتذي ان ينتظم في سلوكه. فهو شيخ الصوفية وفيلسوف الادباء واديب الفلاسفة ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وامام البلغاء وعمدة لبني ساسان سخيف اللسان، قليل الرخاء عند الاساءة اليه والاحسان، الذم شأنه والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والزراية...".
علق الدكتور احسان عباس في كتابه "ابو حيان التوحيدي" الصادر عن دار بيروت للطباعة عام 1956 على ما قاله الحموي: "ان التوحيدي لم يكن واحداً من هؤلاء، لقد كان واسع الاطلاع حقاً يعرف الفقه والحديث والتصوف والتأريخ والنحو على خير ما يعرفه من يتصلون بهذه العلوم، ولكنه قبل كل شيء آخر، كان اديباً فناناً، والاديب الفنان يشارك في أشياء كثيرة، ليتميز بشخصيته وطبيعته وطريقته. كان محيطاً باطراف العلوم الاسلامية وعلوم الاوائل، واسع الرواية في كل علم. لقد كان ابو حيان أبلغ من كتب في فن المناجاة". فاسم "التوحيدي" لربما جاء من تسخير كل علم لبلوغ التوحيد كما في كتابه "الامتاع والمؤانسة" قائلاً: "وانا اعوذ بالله من صناعة لا تحقق التوحيد، ولا تدل على الواحد، ولا تدعو إلى عبادته".
وبغض النظر عن مكان مولده الذي ذكره الحموي في حوالى 310 هجرية 924 ميلادية فان التوحيدي كان يعتز بانتسابه إلى العرب في عهد لا يجلب فيه مثل هذا الانتساب اي نفع مادي او اجتماعي، بل فضل العرب على غيرهم ولم يخف غضبة المهندس ابي الوفاء الذي لعب دوراً مهماً في حياته. كما احب اللغة العربية حسبما جاء في "الامتاع" ففضلها على لغات كثيرة التي لم يجد فيها نصوعها: "أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة التي بين مخارجها". عاش ابو حيان حياة مرة وصعبة تنقل بين بغداد وفارس انهاها صوفياً معتكفاً. ومن المحتمل انه توفي في شيراز عام 410 او عام 414 هجرية/ 1023 ميلادية بحسب مصادر أخرى.
عاش ابو حيان قسماً كبيراً من حياته في بغداد ولازم اشهر شيوخها ودرس على ابرز علمائها في مختلف الفنون، وقد ظل جل حياته طالب علم بهمة عالية يطلبه من شيوخه على رغم تبحره فيه والمامه بمختلف ضروبه الشائعة في عصره. واثَّر تكوينه الموسوعي كثيراً في اسلوبه وتصوير شخوص ابطال مؤلفاته التي اضفى عليها صورة شعرية نابضة، تميزت بالثراء وتنوع الموضوعات. فمن مسائل اللغة إلى قضايا الفلسفة والمنطق، ومن الحديث والفقه إلى الرواية والنقد، ومن التأريخ والتحليل السياسي لأوضاع عصره الى الترجمة الذاتية لهمومه ومأساته. فالفلسفة تعلمها من يحيى بن عدي مترجم ارسطو وتلميذ ابي النصر الفارابي، وهو بذلك ينتسب إلى مدرسة ابي سليمان المنطقي التي انشأها استاذه ابن عدي، تلك المدرسة الفلسفية الإلهية التي كانت ترى الفصل بين الدين والفلسفة، ولا ترضى الجمع بينهما وتعتقد ان لكل مجاله الخاص في النفس الانسانية.
درس التوحيدي النحو على شيخه وصديقه ابي سعيد السيرافي الذي تأثر به كثيراً. قال أبو حيان عنه في "الامتاع": "كان أبو سعيد بعيد القرين، لانه كان يقرأ عليه القرآن والفقه والشروط والفرائض والنحو والعروض والقوافي والحساب والهندسة والحديث والاخبار، وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط". ودرس المنطق على ابي سليمان محمد بن بهرام السجستاني المشهور بالمنطقي. ومن المعلوم ان الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" اخذ عن المنطقي. ودرس ابو حيان الفقه على ابي حامد المروروذي، والحديث على ابي بكر الشاشي والسيرافي وجعفر الخلدي.
عاش التوحيدي في عصر برز فيه المجرمون وقطاع الطرق والمغامرون التافهون، وحرم فيه علماء مثل السيرافي وابي سليمان المنطقي وابو حيان التوحيدي نفسه من القوت والمأوى. وكتب عن ذلك التوحيدي في كتابه "الامتاع والمؤانسة": "قد اذلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب وباب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني". كانت الوراقة المهنة التي لازمت ابا حيان طوال حياته وسماها "حرفة الشؤم، فيها ذهاب العمر والبصر" وعلى رغم مشقتها لم تكن تدر على صاحبها إلا القليل، اكثر من الكفاف، ولكنها المهن الوحيدة المتاحة للعديد من علماء تلك الفترة للارتزاق ودفع غائلة الجوع. فبالنسبة اليه هي التي ساهمت بقسط كبير في تنوع ثقافته واثراء اسلوبه، وهي التي قدمته إلى عالم الادب والعلم، ومن طريقها استكثر من الثقافة، وجالس العلماء واستمع إلى عالم الاملاء، واكثر من التدوين. فلم يكن ابو حيان ناسخاً فقط، وإنما كان إلى جانب ذلك واعياً بكل ما ينسخ دارساً له. كما كان يحيى بن عدي شيخ المدرسة البغدادية في الفلسفة، ورّاقاً ينسخ في اليوم والليلة مئة ورقة. وكان ابو سعيد السيرافي عالم النحو لا يخرج إلى مجلسه كل يوم حتى ينسخ عشر ورقات بعشرة دراهم تكون بقدر مؤونته.
كان ابو حيان ورّاقاً، شهد لنفسه انه ضابط، صحيح الخط جيد النسخ، وحاول الاتصال باصحاب القرار في بغداد عندما كان في تلك الفترة يعمل حارساً للبيمارستان العضدي، وبعد ان عاد من الري إليها في العام 980 ميلادية خائباً من ذي الكفايتين "ابن العميد" ومن ابن عباد. واستطاع الاتصال بابن سعدان عبدالله الحسين المعروف بابن العارض، الذي تولى الوزارة لصمصام الدولة البويهي في سنة 373 هجرية 983 ميلادية وقتله لاحقاً بتدبير من ابي القاسم عبدالعزيز يوسف، احد المغامرين الذين وصلوا إلى اعلى المراتب في القرن العاشر الميلادي، قرن المفارقات، وفي قتل ابن العارض انتهت اسعد ايام التوحيدي. كتب التوحيدي بعد تلك الخسارة عن ابن يوسف: "كان اخس خلق الله، وانتن الناس، واقذر الناس، لا منظر ولا مخبر". كانت الفترة التي قضاها ابو حيان بصحبة ابن سعدان من اسعد ايام حياته حيث امن الفقر والعوز وغاثة الجوع فيها.
كانت اولى المهمات التي اوكلها ابن سعدان لابي حيان قبل ان يصبح وزيراً هي نسخ كتاب "الحيوان" وبعد استيزاره دعاه إلى مجالسته ومسامرته. كانت من حصيلة ذلك تأليفه كتابه الذائع الصيت "الامتاع والمؤانسة" الذي جاء بطلب من صديقه المهندس ابي الوفاء محمد بن يحيى البوزجاني القادم إلى العراق سنة 348 هجرية من بوزجان وهو في العشرين من عمره. وخلال وجوده في بغداد بنى صداقات واسعة مع رجال الدولة الهامين مثل الوزير ابن سعدان. وابو الوفاء هذا كان احد الائمة المشاهير في علم الهندسة كما ذكره ابن خلكان في "وفيات الاعيان". ولما كان ابو الوفاء من الحريصين على المحافظة على مكانته في المجتمع الحاكم، كان شديد الاهتمام بما يجري من نشاط في قصر الوزير مهما صغر شأنه او عظم، حتى يكون على بيّنة من حقيقة الاوضاع السياسية في البلاد. ولربما كان له اكثر من دافع غير الاستعداد لتقلبات الاحوال في عاصمة الدولة الاسلامية. ولذلك كانت نقمته على ابي حيان كبيرة لانه لم يعلمه بما كان يدور بينه وبين الوزير وهو الذي توسط له لديه، فوبخه وانبه إلى حد التجريح والشتيمة واشترط عليه من اجل ان يجنبه عاقبة نقمته ان يطلعه على جميع ما تحاور فيه مع الوزير: "بهزله وجده وخيره وشره، وطيبه وخبيثه، وباديه ومكتومه" حتى كأنه "شاهد معهما ورقيب عليهما". فما كان على ابي حيان إلا الرضوخ، مقترحاً ان يجمع تلك الاحاديث في كتاب "يشمل على الدقيق والجليل، والحلو المر، والطري العاسي، والمحبوب المكروه" فرحب ابو الوفاء بذلك طالباً منه ان يكون "الحدث مشروحاً، والاسناد عالياً، واللفظ لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً" لانه كان يخشى ان تخفى عليه خافية، خلف تعميمات البلاغة وحياكة الاسلوب.
وهكذا بدأ ابو حيان في كتابة مؤلفه الرائع "الامتاع والمؤانسة" الذي قسمه إلى ثلاثة اجزاء وجعله في 38 ليلة مضيفاً إليها رسالتين واحدة إلى ابي الوفاء والاخرى إلى الوزير ابن سعدان. وجاء الكتاب على غرار الف ليلة وليلة. وكانت الليالي فيه تخضع لأسلوب الحديث نفسه وهيكلته في تشعبها واستطراداتها وتنوعها والانتقال من موضوع إلى آخر بحسب المقولة الشائعة "الحديث ذو شجون والشيء بالشيء يذكر"، وهو إلى ذلك ممتع متعة الحديث، خفيف على النفس على رغم جدية المسائل التي كان يخوض فيها. جمع فيه ابو حيان كل ما دار بينه وبين الوزير من احاديث الادب واللغة والدين والفلسفة والسياسة. ولربما جاءت تسمية الكتاب من قول الوزير ابن سعدان لابي حيان في الليلة الاولى: "ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك "للمحادثة والتأنيس". فالمتعة عن التوحيدي ليست فقط متعة الوجدان وانما هي أيضاً متعة العقل.
جاء الكتاب متنوع المواضيع كما ذكر ذلك ابو حيان فيه "كل ما كان في نفسه من جد وهزل، وغث وسمين، شاحب ونضير، وفكاهة وطب وادب واعتذار واعتلال واستدلال، واشياء من طريف الممالحة على ما رسم له الوزير".
كتب احمد امين في مقدمة له عن الكتاب قام بتحقيقها مع احمد الزين وصدر في ثلاثة اجزاء في العام 1939-1944 الآتي: "الكتاب ممتع مؤنس كاسمه، يلقي نوراً كثيراً على العراق في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي".
ان اهمية كتابه وكذلك كتابه الآخر "المقابسات" في كونهما مصدراً مهماً لدراسة تلك الفترة الزمنية من التأريخ الاسلامي عموماً وتاريخ العراق السياسي والاجتماعي، العلمي والادبي. فهماً يعطيننا فكرة عن مستوى المعارف التي بلغتها الحضارة العربية والاسلامية في تلك الفترة وكذلك عن اهم المسائل الفكرية والعلمية التي تشغل مفكري عصره. ومن اهم المسائل التي تطرق اليها في "الامتاع" هي الجدلية بين المنطق اليوناني والنحو العربي والمفاضلة بين الاجناس. وهو مرجع لدارسي حياة ابن حيان واستجلاء معالم شخصيته وتفكيره ومواقفه الفكرية والادبية والسياسية، وعليه اعتمد كل مؤرخ ودارس لهذا الرجل الذي عاش تلك الفترة بمرها قبل حلوها وهو يروي الاحداث التي عاشها واصفاً الشخصيات التي عرفها. فانه لم يكد يترك شخصية من الشخصيات الادبية والفكرية في عصره إلا وحاول تقويمها وتسليط الاضواء على فكرها او ادبها والمقارنة بينها وبين نظرائها في فنها.
نقل ابو حيان في مؤلفه صورة عن الوضع الاجتماعي والسياسي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، فتحدث عن غلاء المعيشة وانعدام الامن والخوف على الارواح والممتلكات من سطوة النهاية وعصابات العيّارين وقطاع الطرق. وحدثنا عن حوادث سنة 362 الهجرية 973 ميلادية في بغداد ووصول العيارين بقيادة "اسود الزبد" الذي رأى عندما فشا الهرج والمرج ومن هو دونه قد سل سيفاً، حمل هو السيف أيضاً ونهب وغار وسلب، وظهر منه شيطان في مسك انسان، واصبح وجهه وعذب لفظه، وحسن جسمه وعشق وعشق، والايام تأتي بالغرائب، فلما دعي قائداً واطاعه رجال واعطاهم وفرق فيهم، وطلب الرئاسة عليهم، صار جانبه لا يرام، وحماه لا يضام". كما ذكر ابو حيان مشاهير آخرين من العيارين مثل ابن كبرويه، وابو الدود وابو الذباب وابو الارضة وابو النوابح الذين قاموا بشن الغارات وواصلوا النهب واشعلوا الحرائق حتى لم يصل إلى الناس الماء من دجلة. وساءت حال الناس واصبحوا: "بين هارب جال، إلى مظلوم صابر، إلى مستريح لتسليم ضيعته إلى المقطع ليأمن شره وبوائقه. وقطع الحاكم اقطاعات واسعة للوزراء حيث أثرى كثير منهم في وقت الغلاء، واستغنى المقطعون عن الفلاح الصغير بالوكلاء والعبيد، ووقع الجور على التناء".
ان تلك الفوضى الاقتصادية العامة هي التي جعلت الفقر اساساً مشتركاً عند الجمهور الاعظم من الرعية. كما حدثنا ابو حيان مثلاً في الليلة الثامنة والثلاثين عن انصراف الحكام والوزراء إلى اللهو واهمالهم شؤون الرعية والحكم. واعطانا في ليالٍ اخرى صورة عن تعفن الوضع السياسي داخل قصور الحاكم وما كان يحاك فيه من مؤامرات ودسائس، حتى اصبحت مقصد الوصوليين والمغامرين، وقلما تولى شخص الوزارة في ذلك العصر ولم يعزل ويقتل بدسيسة ممن سيخلفه. وهذا بدوره يسقط بعد مدة بدسيسة من غيره ليتولى مكانه وهكذا. كإنما الانسان كان يمضي على وثيقة اعدامه ساعة تسلمه لمقاليد السلطة.
كما تحدث عن تدهور القيم في حديثه عن ابي القاسم الداركي الفقيه من انه "اتخذ الشهادة مكسبة، وهو يأكل الدنيا بالدين، ولا يرجع إلى ثقة وامانة، لقد تهتك بنيسابور قديماً وببغداد حديثاً".اصبحت في تلك الظروف الطبقة المثقفة تبتعد عن دائرة الحياة العامة، وتعيش في صوامع فكرية خاصة وقل تأثيرها في تشكيل الحياة، وقنعت بالنظر من بعيد إلى ما يجري على مسرح السياسة وميدان المجتمع.
فاستاذه المنطقي مثلاً يعجز عن شراء طعامه ودفع اجرة داره. كما كان ابو بكر القومسي الذي كان ينحر اعجاجاً وسراجاً وهاجاً، فكان من الضر والفاقة ومقاساة الشدة. حتى كانت الهجرة في سبيل الرزق طريقاً لانقاذ الذات من مأساة العوز. كما كانت لبعض الادباء مجالاً للهروب من ذلك الواقع المتفسخ حيث كانت حلب عاصمة الحمدانيين القوة الحقيقية لجذبهم ومنهم ابو الطيب المتنبي.
فمن النسخة المخطوطة في مكتبة اميروسيانا في ميلانو من كتاب "الامتاع والمؤانسة" يظهر ان ابي حيان انتهى من تأليفه في سنة 374 هجرية، اي بعد سنة من تولي ابن سعدان الوزارة وقبل عام من عزله وقتله. توسط له لدى ابن سعدان المهندس أبو الوفاء، كما ذكرنا سابقاً، الذي أراده أن يكون عيناً على ابن سعدان، مستغلاً ظروف الرجل المادية الصعبة، بعد ان كتب اليه ابو حيان رسالة قال فيها: "خلصني ايها الرجل من التكفف، انقذني من لبس الفقر، اطلقني من قيد الضر، اشترني بالاحسان، اكفني مؤونة الغداء والعشاء". إلى ذلك الحد بلغت حال رجل فذ عالم موسوعي كالتوحيدي وكذلك استاذه ابي سليمان وابي سعيد السيرفي لا يجدان اجرة حجرة ولا يأمنا غائلة الجوع. كان ابو حيان شاهداً على تلك الفترة التي صور فيها بغداد على انها "انقلاب القيم وتدهورها"، الفوضى وانعدام الامن، واصبحت القوة العسكرية لدى قادة الجيش هي المصدر الحقيقي للسلطة وانحلت على اثرها السلطة المركزية، وتشجع العديد من القادة والولاة والثوار على الخروج على الحاكم واعلان استقلالهم عنه. وكثرت الفتن وقطعت الطرق، وظهر العيارون يروعون الناس ويسلبونهم، فاهمل الزرع وكسدت التجارة واصبح الناس يعيشون في رعب متواصل زاده قمع ذوي السلطان لهم واثقال كواهلهم بالضرائب والاتاوات التي لا طاقة لهم بها ليصرفها هؤلاء في اهوائهم وبذخهم واستراضاء اعوانهم، وادى هذا إلى انتشار المجاعات والاوبئة.
وكان من نتائج ذلك اشتداد الفوارق بين الطبقة العامة التي تضم السواد الاعظم من الشعب وطبقة المحظوظين من امراء وقواد ومن دار في ركابهم، وقد ظهر في صفوف الطبقة الحاكمة ما عرف بالعيارين، مما جعل الناس جمعاً ممزقاً حائرين بينها. ساعد فساد الوضع الاقتصادي والسياسي إلى خلل القيم من دون تعويضها بقيم أخرى. فخلالها كان "اسود الزبد"، شخصاً تافهاً من سقط الناس، زعيماً يأمر فيطاع وكان غيره من عشرات المغامرين التافهين يبذرون الاموال في اللهو والانس. وفي المقابل من ذلك ناهض "اخوان الصفا" النظام وتدهور حال المجتمع فعالجوه من الجذور وأعدوا بديلاً نظرياً وعملياً له وعملوا بالفعل في مستوى التحضير الايديولوجي كبدل لـ"دولة الشر" كما سموها. ويتضمن "الامتاع والمؤانسة" وثيقة تاريخية فريدة جاءت في الليلة السابعة عشرة حول "اخوان الصفا" والحديث عن شخصيتين من ابرز مؤسيسها وهما زيد بن رفاعة والمقدسي، وما جاء فيه يعتبر المصدر الاساس لافكار واتجاهات هذه الجماعة الفكرية والسياسية، حتى اعتبر الكثيرون ان التوحيدي واحد منهم. في تلك الفترة لم يستطع مفكر كأبي حيان التعايش مع ذلك الوضع الشاذ فعمد إلى الانتحار الرمزي بدلاً من الانتحار الفعلي فعمد إلى احراق كتبه في العام 400 للهجرة 1010 ميلادية.
كتب التوحيدي العديد من المؤلفات المهمة بالاضافة إلى "الامتاع والمؤانسة" و "المقابسات" منها كتاب "الصداقة والصديق"، "الهوامل والشوامل" الذي جمع فيه اجوبته التي سألها مسكويه خازن مكتبة ابن عباد في مواضيع مختلفة كالادب واللغة والفلسفة والاخلاق وغيرها، وكتاب "الاشارات الالهية" و"البصائر والذخائر" و"مثالب الوزيرين" الكتاب الذي نقد فيه ابن عباد وابن العميد، وكتاب "الحج العقلي" الذي اتهمه ابن الجوزي على اساسه انه واحد من ثلاثة زنادقة في الاسلام: "التوحيدي والمعري وابن الراوندي واخطرهم التوحيدي لانه لم يفصح عن زندقته مثل الاخرين"، كما رأى ابن الجوزي. لكن ذلك الكتاب لم يؤكد ان ابا حيان كاتبه، ويعتقد اكثر من مؤرخ انه على الغالب كان من تأليف الحلاج، لان ابا حيان، وبحسب رأي ياقوت في معجم الادباء: "كان يتأله والناس على ثقة من دينه".
ابو حيان علي بن محمد بن عباس التوحيدي الذي تكاد تكون حياته مجهولة واستغرب ياقوت الحموي في مؤلفة "معجم الادباء" من ان احداً لم يذكره في كتاب، ولا دمجه ضمن خطاب. ولعل ذلك يعود إلى خصوماته، خصوصاً مع الصاحب بن عباد وقوله انه رجل زنديق منحوس مشؤوم الطابع لا تدخل كتبه بيتاً إلا حل به النحس، وجاء ذلك بعد نشر كتاب التوحيدي "مثالب الوزيرين" التي تعرض فيه إلى شخصة كل من ابن عباد وابن العميد بلهجة ناقدة مقذعة. وكتب الحموي عن التوحيدي: "كان متفنناً في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والادب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان جاحظياً يسلك في تصانيفه مسلكه ويحتذي ان ينتظم في سلوكه. فهو شيخ الصوفية وفيلسوف الادباء واديب الفلاسفة ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وامام البلغاء وعمدة لبني ساسان سخيف اللسان، قليل الرخاء عند الاساءة اليه والاحسان، الذم شأنه والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والزراية...".
علق الدكتور احسان عباس في كتابه "ابو حيان التوحيدي" الصادر عن دار بيروت للطباعة عام 1956 على ما قاله الحموي: "ان التوحيدي لم يكن واحداً من هؤلاء، لقد كان واسع الاطلاع حقاً يعرف الفقه والحديث والتصوف والتأريخ والنحو على خير ما يعرفه من يتصلون بهذه العلوم، ولكنه قبل كل شيء آخر، كان اديباً فناناً، والاديب الفنان يشارك في أشياء كثيرة، ليتميز بشخصيته وطبيعته وطريقته. كان محيطاً باطراف العلوم الاسلامية وعلوم الاوائل، واسع الرواية في كل علم. لقد كان ابو حيان أبلغ من كتب في فن المناجاة". فاسم "التوحيدي" لربما جاء من تسخير كل علم لبلوغ التوحيد كما في كتابه "الامتاع والمؤانسة" قائلاً: "وانا اعوذ بالله من صناعة لا تحقق التوحيد، ولا تدل على الواحد، ولا تدعو إلى عبادته".
وبغض النظر عن مكان مولده الذي ذكره الحموي في حوالى 310 هجرية 924 ميلادية فان التوحيدي كان يعتز بانتسابه إلى العرب في عهد لا يجلب فيه مثل هذا الانتساب اي نفع مادي او اجتماعي، بل فضل العرب على غيرهم ولم يخف غضبة المهندس ابي الوفاء الذي لعب دوراً مهماً في حياته. كما احب اللغة العربية حسبما جاء في "الامتاع" ففضلها على لغات كثيرة التي لم يجد فيها نصوعها: "أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة التي بين مخارجها". عاش ابو حيان حياة مرة وصعبة تنقل بين بغداد وفارس انهاها صوفياً معتكفاً. ومن المحتمل انه توفي في شيراز عام 410 او عام 414 هجرية/ 1023 ميلادية بحسب مصادر أخرى.
عاش ابو حيان قسماً كبيراً من حياته في بغداد ولازم اشهر شيوخها ودرس على ابرز علمائها في مختلف الفنون، وقد ظل جل حياته طالب علم بهمة عالية يطلبه من شيوخه على رغم تبحره فيه والمامه بمختلف ضروبه الشائعة في عصره. واثَّر تكوينه الموسوعي كثيراً في اسلوبه وتصوير شخوص ابطال مؤلفاته التي اضفى عليها صورة شعرية نابضة، تميزت بالثراء وتنوع الموضوعات. فمن مسائل اللغة إلى قضايا الفلسفة والمنطق، ومن الحديث والفقه إلى الرواية والنقد، ومن التأريخ والتحليل السياسي لأوضاع عصره الى الترجمة الذاتية لهمومه ومأساته. فالفلسفة تعلمها من يحيى بن عدي مترجم ارسطو وتلميذ ابي النصر الفارابي، وهو بذلك ينتسب إلى مدرسة ابي سليمان المنطقي التي انشأها استاذه ابن عدي، تلك المدرسة الفلسفية الإلهية التي كانت ترى الفصل بين الدين والفلسفة، ولا ترضى الجمع بينهما وتعتقد ان لكل مجاله الخاص في النفس الانسانية.
درس التوحيدي النحو على شيخه وصديقه ابي سعيد السيرافي الذي تأثر به كثيراً. قال أبو حيان عنه في "الامتاع": "كان أبو سعيد بعيد القرين، لانه كان يقرأ عليه القرآن والفقه والشروط والفرائض والنحو والعروض والقوافي والحساب والهندسة والحديث والاخبار، وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط". ودرس المنطق على ابي سليمان محمد بن بهرام السجستاني المشهور بالمنطقي. ومن المعلوم ان الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" اخذ عن المنطقي. ودرس ابو حيان الفقه على ابي حامد المروروذي، والحديث على ابي بكر الشاشي والسيرافي وجعفر الخلدي.
عاش التوحيدي في عصر برز فيه المجرمون وقطاع الطرق والمغامرون التافهون، وحرم فيه علماء مثل السيرافي وابي سليمان المنطقي وابو حيان التوحيدي نفسه من القوت والمأوى. وكتب عن ذلك التوحيدي في كتابه "الامتاع والمؤانسة": "قد اذلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب وباب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني". كانت الوراقة المهنة التي لازمت ابا حيان طوال حياته وسماها "حرفة الشؤم، فيها ذهاب العمر والبصر" وعلى رغم مشقتها لم تكن تدر على صاحبها إلا القليل، اكثر من الكفاف، ولكنها المهن الوحيدة المتاحة للعديد من علماء تلك الفترة للارتزاق ودفع غائلة الجوع. فبالنسبة اليه هي التي ساهمت بقسط كبير في تنوع ثقافته واثراء اسلوبه، وهي التي قدمته إلى عالم الادب والعلم، ومن طريقها استكثر من الثقافة، وجالس العلماء واستمع إلى عالم الاملاء، واكثر من التدوين. فلم يكن ابو حيان ناسخاً فقط، وإنما كان إلى جانب ذلك واعياً بكل ما ينسخ دارساً له. كما كان يحيى بن عدي شيخ المدرسة البغدادية في الفلسفة، ورّاقاً ينسخ في اليوم والليلة مئة ورقة. وكان ابو سعيد السيرافي عالم النحو لا يخرج إلى مجلسه كل يوم حتى ينسخ عشر ورقات بعشرة دراهم تكون بقدر مؤونته.
كان ابو حيان ورّاقاً، شهد لنفسه انه ضابط، صحيح الخط جيد النسخ، وحاول الاتصال باصحاب القرار في بغداد عندما كان في تلك الفترة يعمل حارساً للبيمارستان العضدي، وبعد ان عاد من الري إليها في العام 980 ميلادية خائباً من ذي الكفايتين "ابن العميد" ومن ابن عباد. واستطاع الاتصال بابن سعدان عبدالله الحسين المعروف بابن العارض، الذي تولى الوزارة لصمصام الدولة البويهي في سنة 373 هجرية 983 ميلادية وقتله لاحقاً بتدبير من ابي القاسم عبدالعزيز يوسف، احد المغامرين الذين وصلوا إلى اعلى المراتب في القرن العاشر الميلادي، قرن المفارقات، وفي قتل ابن العارض انتهت اسعد ايام التوحيدي. كتب التوحيدي بعد تلك الخسارة عن ابن يوسف: "كان اخس خلق الله، وانتن الناس، واقذر الناس، لا منظر ولا مخبر". كانت الفترة التي قضاها ابو حيان بصحبة ابن سعدان من اسعد ايام حياته حيث امن الفقر والعوز وغاثة الجوع فيها.
كانت اولى المهمات التي اوكلها ابن سعدان لابي حيان قبل ان يصبح وزيراً هي نسخ كتاب "الحيوان" وبعد استيزاره دعاه إلى مجالسته ومسامرته. كانت من حصيلة ذلك تأليفه كتابه الذائع الصيت "الامتاع والمؤانسة" الذي جاء بطلب من صديقه المهندس ابي الوفاء محمد بن يحيى البوزجاني القادم إلى العراق سنة 348 هجرية من بوزجان وهو في العشرين من عمره. وخلال وجوده في بغداد بنى صداقات واسعة مع رجال الدولة الهامين مثل الوزير ابن سعدان. وابو الوفاء هذا كان احد الائمة المشاهير في علم الهندسة كما ذكره ابن خلكان في "وفيات الاعيان". ولما كان ابو الوفاء من الحريصين على المحافظة على مكانته في المجتمع الحاكم، كان شديد الاهتمام بما يجري من نشاط في قصر الوزير مهما صغر شأنه او عظم، حتى يكون على بيّنة من حقيقة الاوضاع السياسية في البلاد. ولربما كان له اكثر من دافع غير الاستعداد لتقلبات الاحوال في عاصمة الدولة الاسلامية. ولذلك كانت نقمته على ابي حيان كبيرة لانه لم يعلمه بما كان يدور بينه وبين الوزير وهو الذي توسط له لديه، فوبخه وانبه إلى حد التجريح والشتيمة واشترط عليه من اجل ان يجنبه عاقبة نقمته ان يطلعه على جميع ما تحاور فيه مع الوزير: "بهزله وجده وخيره وشره، وطيبه وخبيثه، وباديه ومكتومه" حتى كأنه "شاهد معهما ورقيب عليهما". فما كان على ابي حيان إلا الرضوخ، مقترحاً ان يجمع تلك الاحاديث في كتاب "يشمل على الدقيق والجليل، والحلو المر، والطري العاسي، والمحبوب المكروه" فرحب ابو الوفاء بذلك طالباً منه ان يكون "الحدث مشروحاً، والاسناد عالياً، واللفظ لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً" لانه كان يخشى ان تخفى عليه خافية، خلف تعميمات البلاغة وحياكة الاسلوب.
وهكذا بدأ ابو حيان في كتابة مؤلفه الرائع "الامتاع والمؤانسة" الذي قسمه إلى ثلاثة اجزاء وجعله في 38 ليلة مضيفاً إليها رسالتين واحدة إلى ابي الوفاء والاخرى إلى الوزير ابن سعدان. وجاء الكتاب على غرار الف ليلة وليلة. وكانت الليالي فيه تخضع لأسلوب الحديث نفسه وهيكلته في تشعبها واستطراداتها وتنوعها والانتقال من موضوع إلى آخر بحسب المقولة الشائعة "الحديث ذو شجون والشيء بالشيء يذكر"، وهو إلى ذلك ممتع متعة الحديث، خفيف على النفس على رغم جدية المسائل التي كان يخوض فيها. جمع فيه ابو حيان كل ما دار بينه وبين الوزير من احاديث الادب واللغة والدين والفلسفة والسياسة. ولربما جاءت تسمية الكتاب من قول الوزير ابن سعدان لابي حيان في الليلة الاولى: "ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك "للمحادثة والتأنيس". فالمتعة عن التوحيدي ليست فقط متعة الوجدان وانما هي أيضاً متعة العقل.
جاء الكتاب متنوع المواضيع كما ذكر ذلك ابو حيان فيه "كل ما كان في نفسه من جد وهزل، وغث وسمين، شاحب ونضير، وفكاهة وطب وادب واعتذار واعتلال واستدلال، واشياء من طريف الممالحة على ما رسم له الوزير".
كتب احمد امين في مقدمة له عن الكتاب قام بتحقيقها مع احمد الزين وصدر في ثلاثة اجزاء في العام 1939-1944 الآتي: "الكتاب ممتع مؤنس كاسمه، يلقي نوراً كثيراً على العراق في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي".
ان اهمية كتابه وكذلك كتابه الآخر "المقابسات" في كونهما مصدراً مهماً لدراسة تلك الفترة الزمنية من التأريخ الاسلامي عموماً وتاريخ العراق السياسي والاجتماعي، العلمي والادبي. فهماً يعطيننا فكرة عن مستوى المعارف التي بلغتها الحضارة العربية والاسلامية في تلك الفترة وكذلك عن اهم المسائل الفكرية والعلمية التي تشغل مفكري عصره. ومن اهم المسائل التي تطرق اليها في "الامتاع" هي الجدلية بين المنطق اليوناني والنحو العربي والمفاضلة بين الاجناس. وهو مرجع لدارسي حياة ابن حيان واستجلاء معالم شخصيته وتفكيره ومواقفه الفكرية والادبية والسياسية، وعليه اعتمد كل مؤرخ ودارس لهذا الرجل الذي عاش تلك الفترة بمرها قبل حلوها وهو يروي الاحداث التي عاشها واصفاً الشخصيات التي عرفها. فانه لم يكد يترك شخصية من الشخصيات الادبية والفكرية في عصره إلا وحاول تقويمها وتسليط الاضواء على فكرها او ادبها والمقارنة بينها وبين نظرائها في فنها.
نقل ابو حيان في مؤلفه صورة عن الوضع الاجتماعي والسياسي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، فتحدث عن غلاء المعيشة وانعدام الامن والخوف على الارواح والممتلكات من سطوة النهاية وعصابات العيّارين وقطاع الطرق. وحدثنا عن حوادث سنة 362 الهجرية 973 ميلادية في بغداد ووصول العيارين بقيادة "اسود الزبد" الذي رأى عندما فشا الهرج والمرج ومن هو دونه قد سل سيفاً، حمل هو السيف أيضاً ونهب وغار وسلب، وظهر منه شيطان في مسك انسان، واصبح وجهه وعذب لفظه، وحسن جسمه وعشق وعشق، والايام تأتي بالغرائب، فلما دعي قائداً واطاعه رجال واعطاهم وفرق فيهم، وطلب الرئاسة عليهم، صار جانبه لا يرام، وحماه لا يضام". كما ذكر ابو حيان مشاهير آخرين من العيارين مثل ابن كبرويه، وابو الدود وابو الذباب وابو الارضة وابو النوابح الذين قاموا بشن الغارات وواصلوا النهب واشعلوا الحرائق حتى لم يصل إلى الناس الماء من دجلة. وساءت حال الناس واصبحوا: "بين هارب جال، إلى مظلوم صابر، إلى مستريح لتسليم ضيعته إلى المقطع ليأمن شره وبوائقه. وقطع الحاكم اقطاعات واسعة للوزراء حيث أثرى كثير منهم في وقت الغلاء، واستغنى المقطعون عن الفلاح الصغير بالوكلاء والعبيد، ووقع الجور على التناء".
ان تلك الفوضى الاقتصادية العامة هي التي جعلت الفقر اساساً مشتركاً عند الجمهور الاعظم من الرعية. كما حدثنا ابو حيان مثلاً في الليلة الثامنة والثلاثين عن انصراف الحكام والوزراء إلى اللهو واهمالهم شؤون الرعية والحكم. واعطانا في ليالٍ اخرى صورة عن تعفن الوضع السياسي داخل قصور الحاكم وما كان يحاك فيه من مؤامرات ودسائس، حتى اصبحت مقصد الوصوليين والمغامرين، وقلما تولى شخص الوزارة في ذلك العصر ولم يعزل ويقتل بدسيسة ممن سيخلفه. وهذا بدوره يسقط بعد مدة بدسيسة من غيره ليتولى مكانه وهكذا. كإنما الانسان كان يمضي على وثيقة اعدامه ساعة تسلمه لمقاليد السلطة.
كما تحدث عن تدهور القيم في حديثه عن ابي القاسم الداركي الفقيه من انه "اتخذ الشهادة مكسبة، وهو يأكل الدنيا بالدين، ولا يرجع إلى ثقة وامانة، لقد تهتك بنيسابور قديماً وببغداد حديثاً".اصبحت في تلك الظروف الطبقة المثقفة تبتعد عن دائرة الحياة العامة، وتعيش في صوامع فكرية خاصة وقل تأثيرها في تشكيل الحياة، وقنعت بالنظر من بعيد إلى ما يجري على مسرح السياسة وميدان المجتمع.
فاستاذه المنطقي مثلاً يعجز عن شراء طعامه ودفع اجرة داره. كما كان ابو بكر القومسي الذي كان ينحر اعجاجاً وسراجاً وهاجاً، فكان من الضر والفاقة ومقاساة الشدة. حتى كانت الهجرة في سبيل الرزق طريقاً لانقاذ الذات من مأساة العوز. كما كانت لبعض الادباء مجالاً للهروب من ذلك الواقع المتفسخ حيث كانت حلب عاصمة الحمدانيين القوة الحقيقية لجذبهم ومنهم ابو الطيب المتنبي.
فمن النسخة المخطوطة في مكتبة اميروسيانا في ميلانو من كتاب "الامتاع والمؤانسة" يظهر ان ابي حيان انتهى من تأليفه في سنة 374 هجرية، اي بعد سنة من تولي ابن سعدان الوزارة وقبل عام من عزله وقتله. توسط له لدى ابن سعدان المهندس أبو الوفاء، كما ذكرنا سابقاً، الذي أراده أن يكون عيناً على ابن سعدان، مستغلاً ظروف الرجل المادية الصعبة، بعد ان كتب اليه ابو حيان رسالة قال فيها: "خلصني ايها الرجل من التكفف، انقذني من لبس الفقر، اطلقني من قيد الضر، اشترني بالاحسان، اكفني مؤونة الغداء والعشاء". إلى ذلك الحد بلغت حال رجل فذ عالم موسوعي كالتوحيدي وكذلك استاذه ابي سليمان وابي سعيد السيرفي لا يجدان اجرة حجرة ولا يأمنا غائلة الجوع. كان ابو حيان شاهداً على تلك الفترة التي صور فيها بغداد على انها "انقلاب القيم وتدهورها"، الفوضى وانعدام الامن، واصبحت القوة العسكرية لدى قادة الجيش هي المصدر الحقيقي للسلطة وانحلت على اثرها السلطة المركزية، وتشجع العديد من القادة والولاة والثوار على الخروج على الحاكم واعلان استقلالهم عنه. وكثرت الفتن وقطعت الطرق، وظهر العيارون يروعون الناس ويسلبونهم، فاهمل الزرع وكسدت التجارة واصبح الناس يعيشون في رعب متواصل زاده قمع ذوي السلطان لهم واثقال كواهلهم بالضرائب والاتاوات التي لا طاقة لهم بها ليصرفها هؤلاء في اهوائهم وبذخهم واستراضاء اعوانهم، وادى هذا إلى انتشار المجاعات والاوبئة.
وكان من نتائج ذلك اشتداد الفوارق بين الطبقة العامة التي تضم السواد الاعظم من الشعب وطبقة المحظوظين من امراء وقواد ومن دار في ركابهم، وقد ظهر في صفوف الطبقة الحاكمة ما عرف بالعيارين، مما جعل الناس جمعاً ممزقاً حائرين بينها. ساعد فساد الوضع الاقتصادي والسياسي إلى خلل القيم من دون تعويضها بقيم أخرى. فخلالها كان "اسود الزبد"، شخصاً تافهاً من سقط الناس، زعيماً يأمر فيطاع وكان غيره من عشرات المغامرين التافهين يبذرون الاموال في اللهو والانس. وفي المقابل من ذلك ناهض "اخوان الصفا" النظام وتدهور حال المجتمع فعالجوه من الجذور وأعدوا بديلاً نظرياً وعملياً له وعملوا بالفعل في مستوى التحضير الايديولوجي كبدل لـ"دولة الشر" كما سموها. ويتضمن "الامتاع والمؤانسة" وثيقة تاريخية فريدة جاءت في الليلة السابعة عشرة حول "اخوان الصفا" والحديث عن شخصيتين من ابرز مؤسيسها وهما زيد بن رفاعة والمقدسي، وما جاء فيه يعتبر المصدر الاساس لافكار واتجاهات هذه الجماعة الفكرية والسياسية، حتى اعتبر الكثيرون ان التوحيدي واحد منهم. في تلك الفترة لم يستطع مفكر كأبي حيان التعايش مع ذلك الوضع الشاذ فعمد إلى الانتحار الرمزي بدلاً من الانتحار الفعلي فعمد إلى احراق كتبه في العام 400 للهجرة 1010 ميلادية.
كتب التوحيدي العديد من المؤلفات المهمة بالاضافة إلى "الامتاع والمؤانسة" و "المقابسات" منها كتاب "الصداقة والصديق"، "الهوامل والشوامل" الذي جمع فيه اجوبته التي سألها مسكويه خازن مكتبة ابن عباد في مواضيع مختلفة كالادب واللغة والفلسفة والاخلاق وغيرها، وكتاب "الاشارات الالهية" و"البصائر والذخائر" و"مثالب الوزيرين" الكتاب الذي نقد فيه ابن عباد وابن العميد، وكتاب "الحج العقلي" الذي اتهمه ابن الجوزي على اساسه انه واحد من ثلاثة زنادقة في الاسلام: "التوحيدي والمعري وابن الراوندي واخطرهم التوحيدي لانه لم يفصح عن زندقته مثل الاخرين"، كما رأى ابن الجوزي. لكن ذلك الكتاب لم يؤكد ان ابا حيان كاتبه، ويعتقد اكثر من مؤرخ انه على الغالب كان من تأليف الحلاج، لان ابا حيان، وبحسب رأي ياقوت في معجم الادباء: "كان يتأله والناس على ثقة من دينه".