نقوس المهدي
كاتب
لم يطلب أحد من شهرزاد أن تتقدم إلى هذه المهمة المحفوفة بالسيف. هي التي قرَّرت أن تتصدى لملك أخذ على عاتقه قتل امرأة كلَّ ليلةٍ، انتقاماً من امرأة واحدة خانته: زوجته. صارت زوجته الخائنة كل النساء. وصار لزاماً على هذا الجنس "الخائن" أن يموت. فأيُّ طغيان هذا؟ وأيُّ عطشٍ لا يروى للدم "الخائن"؟
يمكننا أن نحسب عدد الفتيات البِكْر اللواتي دخلن إلى مخدع شهريار عرائس، وخرجن في أكفان منقّعة بالدم. لمن يريد الحسبة، فليضرب ثلاثمائة وستين امرأة بثلاث سنين. لأنَّ سيف شهريار ظل مشرعاً في مخدعه، ثلاث سنين، إلى أن هجَّت الناس من مملكته، ببناتها. وجاء يوم كان على وزيره، الموكل بهذه المهمة الكئيبة، أن يأتيه، على عادته كل ليلة، ببنت بِكْر، فلم يجد، فعاد إلى بيته مغموماً، مهموماً، بحسب كتاب الليالي، فسألته ابنته الكبرى شهرزاد عمّا به من همٍّ وغمٍّ، فأخبرها بما حصل من "طقطق حتى السلام عليكم". لا نعرف إن كانت شهرزاد قد علمت بما جرى لبنات جنسها من قبل، لأنها تبدي نوعاً من الدهشة، ثم تقرّر أن تكون هي فتاة تلك الليلة. والسبب واضح تماماً في ذهنها: إنقاذ عنق أبيها من سيف الملك، والأهم إنقاذ بنات جنسها، أو حسبما تقول "بنات المسلمين". العجيب أن من يبدأ متواليات القصّ والحكي هو الوزير الوالد، وليست الابنة شهرزاد، وكأنه بذلك يرسي الإطار العام لليالي الألف وليلة. في حكاية الوالد الذي قبل بمهمة ابنته المميتة عبرة، وهذا دأب الحكايات الأولى لشهرزاد، قبل أن تتحول، مع امتداد الليالي، إلى قصص تتناسل من بعضها، بحيث يستحيل على السامع ألا يرغب بمعرفة إلى أين تؤدي طرق الحكي المتشعبة، ولكن المترابطة، بحيث لا تفقد شيئين: التشويق والترابط. فمن دون تشويق سيسلُّ الملك، الضَجِر والمنتقم، سيفه الذي لم يبرح قبضته، ومن دون ترابط ستكون الحكايات مجرد "ضحك على الذقون" وشراء ساذج للوقت، وهذا لن ينطلي على شهريار إلى ما شاء الله. على شهرزاد أن تواصل "نضالها" من أجل نفسها وبنات جنسها، كالبلهوان الذي يمشي على خيط رفيع.
من بين كل طبقات شعبه وأفراده، لا أحد استطاع أن يتصدى لسعار الدم الذي استبد بالملك. لا وزراؤه ولا مستشاروه، ولا شعرؤاه ولا مفكروه. شخص واحد فقط ينهض بهذا العبء: شهرزاد، متكئة إلى حضور أختها دنيا زاد الذي يشكل عامل دعم معنوي من جهة، ويسهم في إدارة مسرح الحكي من جهة أخرى. فهي التي تبدأ بطلب الحكاية في الليلة الأولى، أخطر الليالي التي ستواجهها شهرزاد.
في مخدع الملك سلاحان، لا ثالث لهما: السيف والكلام. وهما سلاحا البشرية مذ وجدت. ليس للسيف من يوقفه عند حدّه، في حالتنا هذه، فيما يمكن إيقاف الكلام بإشارة من يد الملك. بإيماءة. لذلك، على الكلام – الرواية، السلاح الأضعف هنا، أن يتفوق، كل ليلة، على السيف. بالحكي، بالرواية، بحسن استثمار السلاح الوحيد الممكن لديها، تجتاز شهرزاد الليلة الأولى بحكاية التاجر والعرفيت التي يطلع عليهم الصباح قبل أن تنتهي. ماذا عليها أن تفعل والحال؟ تواصل الحكي بينما يستعد الملك للذهاب إلى ديوانه لمباشرة شؤون حكمه، أم تتوقف عند ذلك الحد الذي بلغته الحكاية؟ تتوقف طبعاً. هذه هي استراتيجية شهرزاد التي ستعمد إليها.
واضح أن حكاية التاجر والعرفيت التي صارت حكايات متداخلة، قد تمكَّنت من إذن الملك وذهنه. فلا بأس بليلة أخرى لسماع نهاية الحكاية! لكنَّ الحكاية لا تنتهي، إذ ستنسجها شهرزاد بحكاية أخرى فأخرى، إلى أن تصير الحكايات بساطاً سحرياً. الرواية طريقة للمقاومة. شهرزاد تنجح في "شراء" حياتها وحياة أبيها وبنات جنسها بالحكي الذي يأخذ بمجامع الألباب. ماذا نستفيد من أمثولة شهرزاد؟ إن قضية بلا رواية (لا أقصد الجنس الأدبي المعروف) هي قضية خاسرة، خصوصاً إن كانت لا تملك السيف.
- alarabycouk
يمكننا أن نحسب عدد الفتيات البِكْر اللواتي دخلن إلى مخدع شهريار عرائس، وخرجن في أكفان منقّعة بالدم. لمن يريد الحسبة، فليضرب ثلاثمائة وستين امرأة بثلاث سنين. لأنَّ سيف شهريار ظل مشرعاً في مخدعه، ثلاث سنين، إلى أن هجَّت الناس من مملكته، ببناتها. وجاء يوم كان على وزيره، الموكل بهذه المهمة الكئيبة، أن يأتيه، على عادته كل ليلة، ببنت بِكْر، فلم يجد، فعاد إلى بيته مغموماً، مهموماً، بحسب كتاب الليالي، فسألته ابنته الكبرى شهرزاد عمّا به من همٍّ وغمٍّ، فأخبرها بما حصل من "طقطق حتى السلام عليكم". لا نعرف إن كانت شهرزاد قد علمت بما جرى لبنات جنسها من قبل، لأنها تبدي نوعاً من الدهشة، ثم تقرّر أن تكون هي فتاة تلك الليلة. والسبب واضح تماماً في ذهنها: إنقاذ عنق أبيها من سيف الملك، والأهم إنقاذ بنات جنسها، أو حسبما تقول "بنات المسلمين". العجيب أن من يبدأ متواليات القصّ والحكي هو الوزير الوالد، وليست الابنة شهرزاد، وكأنه بذلك يرسي الإطار العام لليالي الألف وليلة. في حكاية الوالد الذي قبل بمهمة ابنته المميتة عبرة، وهذا دأب الحكايات الأولى لشهرزاد، قبل أن تتحول، مع امتداد الليالي، إلى قصص تتناسل من بعضها، بحيث يستحيل على السامع ألا يرغب بمعرفة إلى أين تؤدي طرق الحكي المتشعبة، ولكن المترابطة، بحيث لا تفقد شيئين: التشويق والترابط. فمن دون تشويق سيسلُّ الملك، الضَجِر والمنتقم، سيفه الذي لم يبرح قبضته، ومن دون ترابط ستكون الحكايات مجرد "ضحك على الذقون" وشراء ساذج للوقت، وهذا لن ينطلي على شهريار إلى ما شاء الله. على شهرزاد أن تواصل "نضالها" من أجل نفسها وبنات جنسها، كالبلهوان الذي يمشي على خيط رفيع.
من بين كل طبقات شعبه وأفراده، لا أحد استطاع أن يتصدى لسعار الدم الذي استبد بالملك. لا وزراؤه ولا مستشاروه، ولا شعرؤاه ولا مفكروه. شخص واحد فقط ينهض بهذا العبء: شهرزاد، متكئة إلى حضور أختها دنيا زاد الذي يشكل عامل دعم معنوي من جهة، ويسهم في إدارة مسرح الحكي من جهة أخرى. فهي التي تبدأ بطلب الحكاية في الليلة الأولى، أخطر الليالي التي ستواجهها شهرزاد.
في مخدع الملك سلاحان، لا ثالث لهما: السيف والكلام. وهما سلاحا البشرية مذ وجدت. ليس للسيف من يوقفه عند حدّه، في حالتنا هذه، فيما يمكن إيقاف الكلام بإشارة من يد الملك. بإيماءة. لذلك، على الكلام – الرواية، السلاح الأضعف هنا، أن يتفوق، كل ليلة، على السيف. بالحكي، بالرواية، بحسن استثمار السلاح الوحيد الممكن لديها، تجتاز شهرزاد الليلة الأولى بحكاية التاجر والعرفيت التي يطلع عليهم الصباح قبل أن تنتهي. ماذا عليها أن تفعل والحال؟ تواصل الحكي بينما يستعد الملك للذهاب إلى ديوانه لمباشرة شؤون حكمه، أم تتوقف عند ذلك الحد الذي بلغته الحكاية؟ تتوقف طبعاً. هذه هي استراتيجية شهرزاد التي ستعمد إليها.
واضح أن حكاية التاجر والعرفيت التي صارت حكايات متداخلة، قد تمكَّنت من إذن الملك وذهنه. فلا بأس بليلة أخرى لسماع نهاية الحكاية! لكنَّ الحكاية لا تنتهي، إذ ستنسجها شهرزاد بحكاية أخرى فأخرى، إلى أن تصير الحكايات بساطاً سحرياً. الرواية طريقة للمقاومة. شهرزاد تنجح في "شراء" حياتها وحياة أبيها وبنات جنسها بالحكي الذي يأخذ بمجامع الألباب. ماذا نستفيد من أمثولة شهرزاد؟ إن قضية بلا رواية (لا أقصد الجنس الأدبي المعروف) هي قضية خاسرة، خصوصاً إن كانت لا تملك السيف.
- alarabycouk