نقوس المهدي
كاتب
ليس في التقويم العربي عيد للحب، كما أحسب. ولا ثمّة يوم معلوم في تاريخنا يرتبط بمناسبة لخفق القلوب. ولكن، لدينا ظاهرة شعرية نادرة خاصة بالحبّ، هي الظاهرة العذرية. هناك قراءات عديدة لهذه الظاهرة الشعرية الفريدة التي كادت أن تنحصر بقبيلةٍ هي عذرة، وبزمن هو مستهل الدولة الأموية، وبمكانٍ معين هو الحجاز. وبصرف النظر عما إذا كان أعلام هذه الظاهرة من لحم ودم أو من خيالٍ ونسجٍ، فالأمر يشير، في كل الأحوال، إلى مقام ما للحب لا يشبه حبَّ الجاهلية، وإلى "نوع" من الشعر انفرد، تماماً، عما كان يكتبه العرب من شعر قبله أو بعده.
ولا تنفصل الوقفة الطللية في الشعر العربي، في نظري، عمّا جاء به العذريون، لاحقاً، سوى في أن العذريين (أو رواتهم بالطبع) حوّلوا قصيدتهم كلها إلى وقفة طللية، أو بالأحرى حولوا الوقفة الطللية إلى قصيدة حب. فالحب عندهم مثل طلل. لا هو تحقَّق، بقي، ولا هو زال تماماً واندثر. هذا الانفراد في "غرض" من أغراض الشعر، وجعله ديوانهم، هو ما يميز الشعراء العذريين، فلم يكونوا معنيين بالحرب ولا بالفخر ولا بالهجاء ولا بالمدح. فحربهم وفخرهم ومديحهم معطوف كله على الحبيبة، وما يحيط بها من مكان وأهل. أما الهجاء، فللزمن الذي حال بينهم وبينه الحبيبة، وللعذَّال الذين يقفون لهم بالمرصاد! مع العذريين، صار لدينا قصيدة حب كاملة. ولا تكتب قصيدة الحب من دون قصة حب. على الثانية أن توجد كي توجد الأولى. وهكذا، راحت تروى قصص حب العذريين وتنسج، ويُزاد عليها حتى تحولت إلى أسطورة، أو ما يشبه الأسطورة.
أشهر العذريين هو جميل بثينة. هذا من بني عذرة. لكنّ مجنون ليلى أسبق المحبين العرب، ليس من بني عذرة. والاثنان ارتبطا باسم الحبيبة، وتلاهما في هذا قيس لبنى، وكثيِّر عزة.. إلخ. تبدأ الحكاية، دائماً، من حبٍّ يذيع سرّه في المحيط الاجتماعي، سواء عبر "العاذلين" الذين يقفون للمحبين بالمرصاد، أم من خلال التشبّب بالحبيبة. أي التغزّل بها شعراً يصل إلى مسامع الأهل، فيمنعون الحبيب من لقاء الحبيبة، أو حتى من الزواج بها، كي لا يظن الآخرون أنهم يتسترون على فضيحة. على الجميع أن يعلموا أن ابنتنا أشرف مما تلوكه الألسن من حكايات أو قصائد! هذا هو لسان حال الأهل الذين لا يفعلون بذلك سوى زيادة منسوب الحب، أو إضافة الجنون، عند المحبّ المغدور. ومن بيت سعفٍ في "وادى القرى"، أو من بيت شَعرٍ في "نجد"، تعصف به الرياح والرمال، يطير صيت الفتاة المحبوبة وأهلها، ليحط في صفحات كتاب التاريخ. تصبح "الفضيحة" الصغيرة التي كان مؤكداً أنها لن تبرح وادي القرى، أو هضبة نجد، قصة حب عالمية. وفي حالة قيس بن الملوح، عليه أن يجنّ حتى يتحوّل الى أسطورة. يفقد قيس عقله في سبيل الحب، لكنه قبل ذلك فقد اسمه. فالناس لا تأتي على ذكر اسمه ونسبه. يختفي الاسم والنسب، ويحل محلهما العارض الناتج عن الحب: الجنون. هكذا سيحمل اسم "مجنون ليلى". العشاق الآخرون أفضل حظاً منه. خصوصاً جميل الذي ظل محتفظاً باسمه، بل كان يرى بثينة. ويتسلل إلى بيتها أحياناً. ثمّة من يقول إن زوجها الذي يعلم بحبّ جميل لها كان "يغض" الطرف عن اللقاء. لماذا؟ ليس لقوة شعر جميل، ولا لقدرته على ارتكاب أي فعل في سبيل لقائه بمحبوبته، وإنما لأنَّه كان أعلى منه نسباً. وعن هذا اللقاء، يخبرنا "العذري" جميل قائلاً: يا ليت شعري هل ابيتنَّ ليلة كليلتنا/ حتى نرى ساطع الفجر. تجود علينا بالحديث وتارة/ تجود علينا بالرضاب من الثغر.
* العربي الجديد
ولا تنفصل الوقفة الطللية في الشعر العربي، في نظري، عمّا جاء به العذريون، لاحقاً، سوى في أن العذريين (أو رواتهم بالطبع) حوّلوا قصيدتهم كلها إلى وقفة طللية، أو بالأحرى حولوا الوقفة الطللية إلى قصيدة حب. فالحب عندهم مثل طلل. لا هو تحقَّق، بقي، ولا هو زال تماماً واندثر. هذا الانفراد في "غرض" من أغراض الشعر، وجعله ديوانهم، هو ما يميز الشعراء العذريين، فلم يكونوا معنيين بالحرب ولا بالفخر ولا بالهجاء ولا بالمدح. فحربهم وفخرهم ومديحهم معطوف كله على الحبيبة، وما يحيط بها من مكان وأهل. أما الهجاء، فللزمن الذي حال بينهم وبينه الحبيبة، وللعذَّال الذين يقفون لهم بالمرصاد! مع العذريين، صار لدينا قصيدة حب كاملة. ولا تكتب قصيدة الحب من دون قصة حب. على الثانية أن توجد كي توجد الأولى. وهكذا، راحت تروى قصص حب العذريين وتنسج، ويُزاد عليها حتى تحولت إلى أسطورة، أو ما يشبه الأسطورة.
أشهر العذريين هو جميل بثينة. هذا من بني عذرة. لكنّ مجنون ليلى أسبق المحبين العرب، ليس من بني عذرة. والاثنان ارتبطا باسم الحبيبة، وتلاهما في هذا قيس لبنى، وكثيِّر عزة.. إلخ. تبدأ الحكاية، دائماً، من حبٍّ يذيع سرّه في المحيط الاجتماعي، سواء عبر "العاذلين" الذين يقفون للمحبين بالمرصاد، أم من خلال التشبّب بالحبيبة. أي التغزّل بها شعراً يصل إلى مسامع الأهل، فيمنعون الحبيب من لقاء الحبيبة، أو حتى من الزواج بها، كي لا يظن الآخرون أنهم يتسترون على فضيحة. على الجميع أن يعلموا أن ابنتنا أشرف مما تلوكه الألسن من حكايات أو قصائد! هذا هو لسان حال الأهل الذين لا يفعلون بذلك سوى زيادة منسوب الحب، أو إضافة الجنون، عند المحبّ المغدور. ومن بيت سعفٍ في "وادى القرى"، أو من بيت شَعرٍ في "نجد"، تعصف به الرياح والرمال، يطير صيت الفتاة المحبوبة وأهلها، ليحط في صفحات كتاب التاريخ. تصبح "الفضيحة" الصغيرة التي كان مؤكداً أنها لن تبرح وادي القرى، أو هضبة نجد، قصة حب عالمية. وفي حالة قيس بن الملوح، عليه أن يجنّ حتى يتحوّل الى أسطورة. يفقد قيس عقله في سبيل الحب، لكنه قبل ذلك فقد اسمه. فالناس لا تأتي على ذكر اسمه ونسبه. يختفي الاسم والنسب، ويحل محلهما العارض الناتج عن الحب: الجنون. هكذا سيحمل اسم "مجنون ليلى". العشاق الآخرون أفضل حظاً منه. خصوصاً جميل الذي ظل محتفظاً باسمه، بل كان يرى بثينة. ويتسلل إلى بيتها أحياناً. ثمّة من يقول إن زوجها الذي يعلم بحبّ جميل لها كان "يغض" الطرف عن اللقاء. لماذا؟ ليس لقوة شعر جميل، ولا لقدرته على ارتكاب أي فعل في سبيل لقائه بمحبوبته، وإنما لأنَّه كان أعلى منه نسباً. وعن هذا اللقاء، يخبرنا "العذري" جميل قائلاً: يا ليت شعري هل ابيتنَّ ليلة كليلتنا/ حتى نرى ساطع الفجر. تجود علينا بالحديث وتارة/ تجود علينا بالرضاب من الثغر.
* العربي الجديد