نقوس المهدي
كاتب
قربان الفسح
”تعال وانظر ما فعلوا بساحة قربان الفسح هذه السنة! صبّوا قسمًا كبيرًا منها بالإسمنت، كيما يكون الوقوف هناك أكثر راحة، غرسوا النباتات والزهور ليتمتّع الجميع بمنظر جميل، أضافوا ثلاثة أفران لشيّ الخراف جيّدًا بدون بقايا ماء، كما كان يحدث في السنوات الماضية. تغيّر منظر الساحة كليًّا، لدرجة أنّه لا يمكن التعرّف عليها. المزيد من الراحة، على حساب منظر الساحة الطبيعي.
ما زلتُ أسأل نفسي: لماذا ينبغي أن تكون هناك راحة أكثر في قربان الفسح؟ إذ أن آبائنا خرجوا من مصر على عجل، حتّى أنّ العجين لم يختمر، ومن لم يسرع بإرادته، دفعه المصريون الذين هرعوا لطرد الشعب. أين هي الراحة هنا إذن؟ دعنا نترك قربان الفسح، ونتركّز في خبز مصّة الفسح. أتستطيع أنت أصلًا، أن تقارن طريقة خبز المصّة في الماضي بما يجري في أيّامنا هذه؟ لا، لا أقصد المصّة ذاتها، إنّا هي هي، ولكن وسائل الراحة مختلفة. في الماضي كان ذلك مقرونًا بالمشقّة، إلا أنّ الفرح كان أعظم. في أيّامنا هذه، وسائل الراحة متوفّرة لحدّ كبير بخصوص خبز المصّة، إلا أنّ ذلك أصبح أمرًا مفروغًا منه، ولا يحمل في طيّاته فرحًا ملحوظا. شيء ما من فرحة الخروج من مصر، آخذٌ بالتناقص بمرور السنين. ألا تشاركني هذا الشعور؟
في الماضي كانت عملية خبز المصّة شيئًا آخرَ. وجب أوّلًا بالطبع، تجميع الحطب للموقدة، جذع شجرة مقطوع يابس جدّا، وبجانبه بعض الأغصان الجافّة لتسريع اشتعال الجذع البطيء. بعد ذلك، كنّا نصفّ اللبنات في صفّين، ونضع عليهما غطاء مقعّرًا من الحديد المسمّى بلغة العرب [بني إسماعيل] بالصاج. كنّا، بعد بعض المحاولات الفاشلة والعجقة والجلبة، نتمكّن من إشعال النار تحت الصاج. عملية الخبز كانت تبدأ بعد تسخين الصاج جيّدا. هذا ليس كلّ شيء. لا حطب مشتعلًا، بدون دخان كثيف، يدخل الأعين والخياشيم، والأفواه وماذا أيضًا، إنّه يجعل أعين العاملين في الخبز تذرف الدموع والأفواه تلهج وتلغط؛ هنا امرأة تقرّص العجين [بِتْكوبِج]، وهنا الخابز وهنا من يلتقط المصّة المخبوزة من على الصاج، وهنا من يُلقّم النار المشتعلة بالمزيد من الخطب الجافّ. بالرغم من كل الشكاوى والصيحات، كان يخيّم جوّ من الإثارة والفرح الكبير؛ تبارى الخبّازون فيما بينهم حول عدد ساعات الخبز، والعدد القياسي لما خبز من المصّة.
اليوم، في المقابل، كلّ شيء ميكانيكي تقريبًا، فرن الغاز حلّ محلّ الحطب، فرن غاز بقالب مسطّح وعليه الصاج، لا دخان ولا حاجة للمزيد من الحطب، كلّ شيء يتمّ بسرعة فائقة، بالكاد ننتهي من احتساء الشاي اللذيذ الذي تقدّمه ربّة البيت للمشتركين في العمل المقدّس.
لا شكّ يوجد بيننا استفزازيون ومتشائمون شتّى، يتوقّعون شيّ الخراف في المستقبل في أفران كهربائية، ولكن لا تُشغلوا بالكم، فهذا لن يحصل أبدًا، ليس بسبب السوّاح ولا الخوف ممّا سيقولون، ولكن بسبب السبب الأهمّ، المذاق. لا مأكلَ ألذَّ طعمًا من لحم الخروف المشويّ في فرن أرضي وفق الطرق الأصلية. والحقيقة أنّ كثيرين يشوون بنفس الطريقة في الأيّام الواقعة بين ثاني يوم العيد والسابق لآخره (عيد الفسح الممتدّ على أسبوع) لخير دليل على ما أقول، وإن أضفت لوسائل الراحة التي ذكرتها، وانعدام الضغط من حولنا، الذي نعرفه للمرّة الرابعة والعشرين [1992]، منذ حرب 1967، عندها أمامك الصورة كاملة.
وكي ּأعرِض لك صورة متوازنة، عليّ أن أقصّ عليك عن خبز المصّة في فترة أخرى صعبة، حيث عشنا في ضغط وجهل بما سيولِده الغد. تلك الأيّام التي كان فيها كلّ يوم جديد أسوأَ من سابقه، إنّها أيام حرب 1948، أذكر أنّه في السنين الثلاث أو الأربع، 1947-1950، مُنع السامريون من خارج نابلس من الوصول إلى جبل جريزيم للمشاركة في تأدية فريضة قربان الفسح. ما دار من أحداث بين اليهود والعرب، الاعتداءات المتبادلة، إغلاق الحدود السياسية بوجهنا، كل هذه الأمور أَضْفت علينا جوًّا من الضغط الشديد والهلع، شمل كل مكان تواجدنا فيه، في تل أبيب ويافا. كلّ من أخرج رأسه خارج بيته ليُلقي نظرة على ما يجري في الخارج، كان يعرّض حياته للخطر.
أخذ عيد الفسح يقترب، ولا أحد منّا، سكان يافا وتل أبيب، خدع نفسه بأنّه يستطيع أن يصل إلى جبل جريزيم. كنّا بحاجة لتأمين طحين المصّة من المحيط القريب منّا. في الخارج كانت مجموعات هائجة من مُثيري الشغب، تطلق النار على كل ذاهب وآيب تقريبا. سُمع إطلاق الرصاص من كل جهة، أطلق اليهود والعرب الرصاص على بعضهم البعض، وكنّا نحن بينهم في وَسَط نار الجحيم.
قلنا لأنفسنا لا خبز، كالمعلوم، في الفسح. مُنعنا من تقريب القربان، كلّنا كنّا بعيدين، أمّا خبز المصِّة فكان في متناول اليد. ما زلت أتذكّر أفراد الشلّة، الذين كانوا في يافا، مثل الأشقّاء، إسحق ويعقوب وسرور (ساسون)، أبناء فارس (پيرتص) صدقة،خليل (أبراهام) بن شاكر (يِسّخار) مفرج (مرحيڤ)، إبراهيم بن نور، شقيقي كمال (تميم) وأنا وآخرين. لا تسألني كيف حصلنا على المصّة، تمّ ذلك بطريقة ما، إذ لا بدّ من المجازفة حتّى، من أجل القيام بفريضة ما. في آخر المطاف، قعد خليل بن شاكر، رحمه الله، ليخبز المصّة على الصاج. جلسنا كلّنا في رِواق مدخل بيتنا. كنتُ أقلّب المصّة وإحدى النساء كانت تقرّص العجين [بِتْكوبِج] وخليل بن شاكر يبسّطه [يرقّه] ويقذفه إلى الأعلى ليستدير أكثر على وجه الصاج الملتهب بالنار التي تحته. شقيقي كمال كان يضيف الحطب بمعاونة سرور صدقة، رحمة الله عليه، الذي كان متحمّسًا لمدّ يد العون في العمل المقدّس؛ كأنّ كل شيء كان منسّقًا. كلّ تقليب مصّة على الصاج كان يرافقه سيل من إطلاق الرصاص خارج البيت، بعد ذلك سُمع صوت طائرات محلّقة وبعدها سُمع دويّ انفجارات بالقرب من البيت. تابعنا عملنا وكأنّ شيئًا لم يحدث. ألقى علينا الجيران نظراتِهم بخوف شديد وهم متراصّون على درابزينات الدرج في مداخل البيوت. حثّونا على ترك كلّ شيء والاختباء في البيت: ”كيف تجرؤون على عمل هذا والرصاص يدوّي في الخارج“؟ إنّهم سيروْن الدخان يتصاعد من بيتنا، ويبدأون بإطلاق الرصاص علينا“، زعق الجيران علينا.
لم نأبه لصيحاتهم. تأدية فريضة خبز المصّة كانت في نظرنا أهمَّ من أيّ اعتبار آخر. إبراهيم بن مفرج، إنسان ورع جدًّا في إيمانه، يُضفي من ּثقته القوية بالنفس علينا جميعًا، ابتسم وقال لجيراننا: ”لا تهتمّوا، نحن السامريون، يحمينا الله من أيّ شرّ“. عند سماعنا لكلماته اغرورقت أعيننا ولم ندر لماذا، هل بسبب الدخان الكثيف الذي انطلق من تحت الصاج، أم بسبب تذكّرنا أنّ في تلك اللحظات، يُنهي إخواننا على جبل جريزيم استعدادتِهم الأخيرة لقربان فسح العام 1948“.
* عن الموقد
”تعال وانظر ما فعلوا بساحة قربان الفسح هذه السنة! صبّوا قسمًا كبيرًا منها بالإسمنت، كيما يكون الوقوف هناك أكثر راحة، غرسوا النباتات والزهور ليتمتّع الجميع بمنظر جميل، أضافوا ثلاثة أفران لشيّ الخراف جيّدًا بدون بقايا ماء، كما كان يحدث في السنوات الماضية. تغيّر منظر الساحة كليًّا، لدرجة أنّه لا يمكن التعرّف عليها. المزيد من الراحة، على حساب منظر الساحة الطبيعي.
ما زلتُ أسأل نفسي: لماذا ينبغي أن تكون هناك راحة أكثر في قربان الفسح؟ إذ أن آبائنا خرجوا من مصر على عجل، حتّى أنّ العجين لم يختمر، ومن لم يسرع بإرادته، دفعه المصريون الذين هرعوا لطرد الشعب. أين هي الراحة هنا إذن؟ دعنا نترك قربان الفسح، ونتركّز في خبز مصّة الفسح. أتستطيع أنت أصلًا، أن تقارن طريقة خبز المصّة في الماضي بما يجري في أيّامنا هذه؟ لا، لا أقصد المصّة ذاتها، إنّا هي هي، ولكن وسائل الراحة مختلفة. في الماضي كان ذلك مقرونًا بالمشقّة، إلا أنّ الفرح كان أعظم. في أيّامنا هذه، وسائل الراحة متوفّرة لحدّ كبير بخصوص خبز المصّة، إلا أنّ ذلك أصبح أمرًا مفروغًا منه، ولا يحمل في طيّاته فرحًا ملحوظا. شيء ما من فرحة الخروج من مصر، آخذٌ بالتناقص بمرور السنين. ألا تشاركني هذا الشعور؟
في الماضي كانت عملية خبز المصّة شيئًا آخرَ. وجب أوّلًا بالطبع، تجميع الحطب للموقدة، جذع شجرة مقطوع يابس جدّا، وبجانبه بعض الأغصان الجافّة لتسريع اشتعال الجذع البطيء. بعد ذلك، كنّا نصفّ اللبنات في صفّين، ونضع عليهما غطاء مقعّرًا من الحديد المسمّى بلغة العرب [بني إسماعيل] بالصاج. كنّا، بعد بعض المحاولات الفاشلة والعجقة والجلبة، نتمكّن من إشعال النار تحت الصاج. عملية الخبز كانت تبدأ بعد تسخين الصاج جيّدا. هذا ليس كلّ شيء. لا حطب مشتعلًا، بدون دخان كثيف، يدخل الأعين والخياشيم، والأفواه وماذا أيضًا، إنّه يجعل أعين العاملين في الخبز تذرف الدموع والأفواه تلهج وتلغط؛ هنا امرأة تقرّص العجين [بِتْكوبِج]، وهنا الخابز وهنا من يلتقط المصّة المخبوزة من على الصاج، وهنا من يُلقّم النار المشتعلة بالمزيد من الخطب الجافّ. بالرغم من كل الشكاوى والصيحات، كان يخيّم جوّ من الإثارة والفرح الكبير؛ تبارى الخبّازون فيما بينهم حول عدد ساعات الخبز، والعدد القياسي لما خبز من المصّة.
اليوم، في المقابل، كلّ شيء ميكانيكي تقريبًا، فرن الغاز حلّ محلّ الحطب، فرن غاز بقالب مسطّح وعليه الصاج، لا دخان ولا حاجة للمزيد من الحطب، كلّ شيء يتمّ بسرعة فائقة، بالكاد ننتهي من احتساء الشاي اللذيذ الذي تقدّمه ربّة البيت للمشتركين في العمل المقدّس.
لا شكّ يوجد بيننا استفزازيون ومتشائمون شتّى، يتوقّعون شيّ الخراف في المستقبل في أفران كهربائية، ولكن لا تُشغلوا بالكم، فهذا لن يحصل أبدًا، ليس بسبب السوّاح ولا الخوف ممّا سيقولون، ولكن بسبب السبب الأهمّ، المذاق. لا مأكلَ ألذَّ طعمًا من لحم الخروف المشويّ في فرن أرضي وفق الطرق الأصلية. والحقيقة أنّ كثيرين يشوون بنفس الطريقة في الأيّام الواقعة بين ثاني يوم العيد والسابق لآخره (عيد الفسح الممتدّ على أسبوع) لخير دليل على ما أقول، وإن أضفت لوسائل الراحة التي ذكرتها، وانعدام الضغط من حولنا، الذي نعرفه للمرّة الرابعة والعشرين [1992]، منذ حرب 1967، عندها أمامك الصورة كاملة.
وكي ּأعرِض لك صورة متوازنة، عليّ أن أقصّ عليك عن خبز المصّة في فترة أخرى صعبة، حيث عشنا في ضغط وجهل بما سيولِده الغد. تلك الأيّام التي كان فيها كلّ يوم جديد أسوأَ من سابقه، إنّها أيام حرب 1948، أذكر أنّه في السنين الثلاث أو الأربع، 1947-1950، مُنع السامريون من خارج نابلس من الوصول إلى جبل جريزيم للمشاركة في تأدية فريضة قربان الفسح. ما دار من أحداث بين اليهود والعرب، الاعتداءات المتبادلة، إغلاق الحدود السياسية بوجهنا، كل هذه الأمور أَضْفت علينا جوًّا من الضغط الشديد والهلع، شمل كل مكان تواجدنا فيه، في تل أبيب ويافا. كلّ من أخرج رأسه خارج بيته ليُلقي نظرة على ما يجري في الخارج، كان يعرّض حياته للخطر.
أخذ عيد الفسح يقترب، ولا أحد منّا، سكان يافا وتل أبيب، خدع نفسه بأنّه يستطيع أن يصل إلى جبل جريزيم. كنّا بحاجة لتأمين طحين المصّة من المحيط القريب منّا. في الخارج كانت مجموعات هائجة من مُثيري الشغب، تطلق النار على كل ذاهب وآيب تقريبا. سُمع إطلاق الرصاص من كل جهة، أطلق اليهود والعرب الرصاص على بعضهم البعض، وكنّا نحن بينهم في وَسَط نار الجحيم.
قلنا لأنفسنا لا خبز، كالمعلوم، في الفسح. مُنعنا من تقريب القربان، كلّنا كنّا بعيدين، أمّا خبز المصِّة فكان في متناول اليد. ما زلت أتذكّر أفراد الشلّة، الذين كانوا في يافا، مثل الأشقّاء، إسحق ويعقوب وسرور (ساسون)، أبناء فارس (پيرتص) صدقة،خليل (أبراهام) بن شاكر (يِسّخار) مفرج (مرحيڤ)، إبراهيم بن نور، شقيقي كمال (تميم) وأنا وآخرين. لا تسألني كيف حصلنا على المصّة، تمّ ذلك بطريقة ما، إذ لا بدّ من المجازفة حتّى، من أجل القيام بفريضة ما. في آخر المطاف، قعد خليل بن شاكر، رحمه الله، ليخبز المصّة على الصاج. جلسنا كلّنا في رِواق مدخل بيتنا. كنتُ أقلّب المصّة وإحدى النساء كانت تقرّص العجين [بِتْكوبِج] وخليل بن شاكر يبسّطه [يرقّه] ويقذفه إلى الأعلى ليستدير أكثر على وجه الصاج الملتهب بالنار التي تحته. شقيقي كمال كان يضيف الحطب بمعاونة سرور صدقة، رحمة الله عليه، الذي كان متحمّسًا لمدّ يد العون في العمل المقدّس؛ كأنّ كل شيء كان منسّقًا. كلّ تقليب مصّة على الصاج كان يرافقه سيل من إطلاق الرصاص خارج البيت، بعد ذلك سُمع صوت طائرات محلّقة وبعدها سُمع دويّ انفجارات بالقرب من البيت. تابعنا عملنا وكأنّ شيئًا لم يحدث. ألقى علينا الجيران نظراتِهم بخوف شديد وهم متراصّون على درابزينات الدرج في مداخل البيوت. حثّونا على ترك كلّ شيء والاختباء في البيت: ”كيف تجرؤون على عمل هذا والرصاص يدوّي في الخارج“؟ إنّهم سيروْن الدخان يتصاعد من بيتنا، ويبدأون بإطلاق الرصاص علينا“، زعق الجيران علينا.
لم نأبه لصيحاتهم. تأدية فريضة خبز المصّة كانت في نظرنا أهمَّ من أيّ اعتبار آخر. إبراهيم بن مفرج، إنسان ورع جدًّا في إيمانه، يُضفي من ּثقته القوية بالنفس علينا جميعًا، ابتسم وقال لجيراننا: ”لا تهتمّوا، نحن السامريون، يحمينا الله من أيّ شرّ“. عند سماعنا لكلماته اغرورقت أعيننا ولم ندر لماذا، هل بسبب الدخان الكثيف الذي انطلق من تحت الصاج، أم بسبب تذكّرنا أنّ في تلك اللحظات، يُنهي إخواننا على جبل جريزيم استعدادتِهم الأخيرة لقربان فسح العام 1948“.
* عن الموقد