نقوس المهدي
كاتب
“.. وبعد، فإن سير الأولين صارت عبرة للآخرين لكي يرى الإنسان العبر التي حصلت لغيره فيعتبر ويطالع حديثُ الأمم السالفة وما جرى لهم فينزجر، فسبحان من جعل حديث الأولين عبرة لقوم آخرين، فمن تلك العبر الحكايات التي تسمى “ألف ليلة وليلة”.
بهذه الكلمات الخالدة في تراث الأدب العربي والعالمي تُفتتح مقدمة “ألف ليلة وليلة” التي بهرت العقول وخلبت الألباب، درة الإبداع القصصي العربي والعالمي على مر العصور، وذروة ما وصل إليه الخيال العربي الخلاق، جامعا ومتضمنا للأعراف والتقاليد الاجتماعية والمسكوت عنه في طبقات المجتمع العربي في العصر الوسيط.
على الغلاف الخارجي لإحدى طبعاتها النادرة العتيقة “طبعة مكتبة صبيح وأولاده”، تأتي هذه الفقرة التعريفية الدالة “ألف ليلة وليلة، ذات الحوادث العجيبة، والقصص المطربة الغريبة، لياليها غرام في غرام، وتفاصيل حب وعشق وهيام، وحكايات ونوادر فكاهية، ولطائف وطرائف أدبية، بالصور المدهشة البديعة، من أبدع ما كان، ومناظر أعجوبة من عجائب الزمان”. هكذا كتب مخرج هذه الطبعة العتيقة، جامعاً لمناطق السحر وعوالم القص والسرد في هذه التحفة الأدبية الخالدة، حكايات “ألف ليلة وليلة”، ذلك العالم الزاخر الساحر الجميل الذي ألهب، وما زال يلهب، مخيلةَ المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين في كل الأصقاع والعصور.
وكان من الطبيعي ألا يتم تناول ما تثيره طبعة جديدة من طبعات “الليالي” دون أن تثير ثائرة المتزمتين والمنغلقين فكريا وحضاريا، وضيقي الأفق ممن يفرضون وصايتهم على المجتمع والناس، ويعتبرون أنفسهم ملّاكَ الحقيقة المطلقة دون رد أو اختلاف!
ولعل أفضل محاولة للإجابة عن الأسئلة السابقة ليس في إشباع رغبات هؤلاء الباحثين عن الشهرة والتربح من وراء رفع دعوى قضائية، الغرض الظاهر منها منع “ألف ليلة وليلة” من التداول ومصادرتها وسحب نسخها ـ إن وجدت منها نسخة باقية ـ أما الأغراض الخفية فليس أقربها الشهرة وإن كان من أبعدها على المدى الطويل التربح والوصول إلى غايات ومرامٍ غير معلنة. وأفضل رد على هؤلاء ليس الخوض في تفاصيل دعواهم أو الإعلان عن أسمائهم وأشخاصهم ومقر عملهم، إنما الأصوب والأجدر هو إعادة التعريف بالليالي، وتبصير الناس بتاريخها وموقعها من الآداب العالمية والحض على الاهتمام بهذا العمل العبقري الفذ الذي ألهم أدباء العالم وفنانيه ومثقفيه وكتابه ـ باعترافهم وشهادتهم ـ أعظم أعمالهم وأشهرها وأروعها، وأن نشير إلى موقع “الليالي” من التراث الأدبي العالمي الخالد.
أصل وفصل
أقدم إشارة وردت في كتب التراث العربي إلى “ألف ليلة وليلة”، ما أورده محمد بن إسحاق النديم في كتابه “الفهرست” صفحة 422 في مستهل المقالة الثامنة من الباب الثامن من كتابه، حيث يقول:
“أول من صنف الخرافات، وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن، وحمل بعد ذلك على ألسنة الحيوان الفرس الأول، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام الملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء البلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه. فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب “هزار أفسان” ومعناه الألف خرافة. وفي هذا الكتاب دون المئتي سمر، لأن كل سمر كان يحدّث به في ليال عدة، وهي من أظرف الحكايات التي وضعتها الفرس في غابر الدهر”.
كانت تلك الحكايات تسمى في الأصل “ألف خرافة”، ووجدت بلا شك في فارس في وقت من الأوقات، وأغلب الظن أنها تحتوي منذ ذلك الحين أو تشتمل على القصة المحورية “قصة الإطار” المشهورة، التي تعود في النهاية على ما يبدو إلى أصل هندي. ثم أصبحت هذه الحكايات تعرف باسم “ألف ليلة العربية” منذ القرن “الثالث الهجري/ التاسع الميلادي”، وهذا الاسم تحور في تاريخ غير محدد إلى اسم “ألف ليلة وليلة” المعروفة باللغة الإنجليزية بالليالي العربية.
وأيا ما كانت الأسماء التي أطلقت عليها حكايات “ألف ليلة العربية” أو قصص “ألف ليلة وليلة” أو “الليالي العربية”، كما شاعت في الترجمات والآداب الغربية، فإنها في النهاية تطلق على تلك المجموعة الضخمة المتعددة الأعراق والأصول من القصص الشعبي، قيل في أصولها إنها فارسية أو هندية، لكنها لم تكتسب شرعية التكوين والذيوع والانتشار إلا بعد اكتسابها الهوية العربية الإسلامية فيما بعد القرنين 3، 4 الهجريين إلى اكتمال صورتها المعروفة تقريبا في القرنين 8، 9هـ.
المؤلف المجهول
وهذه المجموعة من القصص مجهولة المؤلف، وربما أيضا ليست لمؤلف واحد، يختلف عددها وترتيب ورودها باختلاف النسخ المتاحة لها، ويجمعها كلها إطار واحد أو قصة إطارية جامعة هي الحكاية الأم التي شهرت وعرفت بها في جميع أنحاء العالم. وهي التي أشار إليها ابن النديم في كتابه “الفهرست” قائلا: “السبب في وضعه ـ أي كتاب ألف ليلة وليلة - كما هو معروف، أن ملكا من ملوك الفرس كان إذا زوج امرأة قتلها بعد يوم، غيرةً عليها من الرجال، فتزوج بجارية من بنات الملوك ممن لهن عقل ودراية يقال لها “شهرزاد”، فلما اتصلت به أخذت تحدثه وتصل الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة، وإلى أن رزقه الله منها بولد طرحته إليه، ووقفته على حيلته عليه. وكان للملك كهرمانة يقال لها “دنيا زاد”، كانت موافقة لها على ذلك”.
وقد عرف العرب “الليالي” أو “ألف ليلة وليلة” من أزمان قديمة جدا، وإن كانت في صورتها الأولى المنقولة والمترجمة لا بصورتها المكتملة الحالية بأشكالها المتعددة.
وبرغم وجود أشتات من آثار بابلية وفارسية وهندية وإغريقية ومصرية قديمة، في هذه المجموعة الضخمة من القصص الشعبي الفني، فإنه وباعتراف أغلب ـ إن لم يكن كل ـ الدارسين والباحثين لا تشكل هذه الآثار إلا جزءا وجيزا من أجزائها المتعددة، أما بقية أجزائها الأخرى فهي أدب قصصي عربي خالص جديد كل الجدة، وهي تأليف شعبي خالص استعان فيه المؤلف الشعبي بموتيفات من الموروثات الشعبية العربية الثقافية والاجتماعية، تعبر عن مجتمعات عربية إسلامية متأخرة في بغداد ودمشق والقاهرة.
ويقول جميل نخلة المدور في كتابه “حضارة الإسلام في دار السلام”: “ولما راج الكتاب وذاع وتداوله النساخ والكتاب وأضافوا إليه حكايات كثيرة وضعوها على سبيل الفكاهة بما يعهد فيهم من طول الباع في وضع الحكايات، ولا سيما ما يتضمن أخبار وحكايات الجان ووصف مساكنهم تحت البحار وتزويجهم بناتهم من ملوك الأنس وقصص العفاريت والهواتف وغير ذلك إلى أن صار جملة ما في الكتاب حكايات عربية لا يخالطها من كلام الفرس إلا القليل، وهي إن كانت بعيدة عن الصدق تظهر فضل العرب في أنهم يمتلكون فؤاد السامع برقة مأخذهم في تجميلها ورونقها”.
ومن هنا غلبت الطوابع العربية الإسلامية على ما عداها من العناصر البابلية والفارسية والهندية السابقة عليها.
ومن رواية ابن النديم المتقدمة في “الفهرست”، نستخلص أن أصل “ألف ليلة وليلة” ترجمة لكتاب هندي فارسي قديم اسمه الـ”هزار إفسانه”، ومعناه “الألف خرافة”، وقد تمت ترجمته إلى اللغة العربية في القرن الثاني أو الثالث الهجري، إلا أنه وبمرور الزمن أضيفت إليه مجموعتان كبيرتان متمايزتان من الحكايات هما المجموعة البغدادية، والمجموعة المصرية، والأخيرة الأهم، في عهد خلفاء صلاح الدين الأيوبي أو في أوائل قيام الدولة المملوكية.
ويحتوي النص النهائي لألف ليلة وليلة على مواد قصصية مصرية يمكن تحديد تاريخها باطمئنان بالقرن الـ8هـ/ 14م. وهذه الحكايات المصرية تدخل ضمن مساهمات عدد كبير من الأقطار والمدن العربية في إنشاء قصص ألف ليلة وليلة في أوقات مختلفة.
وهناك بعض القصص التي نشأت مستقلة عن أصل “الليالي” في القرن الرابع الهجري “العاشر الميلادي”، وجدت فيما بعد مضمنة في قصص “ألف ليلة وليلة”، مثل “حكاية الملك جليعاد والوزير شماس، وحكاية السندباد”.
طبعات وترجمات
ومن المؤكد أن النصوص الأولى القائمة بذاتها لهذه الحكايات الشعبية قد تعرضت لعدة تحويرات قبل أن تصبح في الصورة التي وصلتنا وتعرف بها الآن. فجميع مادة هذا الأدب الشعبي خضعت لعمليات معقدة من التغيير والتطوير. فحكايات “ألف ليلة وليلة” نفسها تعتبر حقلا خصبا للتفكير والتأمل في الطرق الرئيسية والجانبية التي سلكها الابتكار الأدبي حتى وصل في تؤدة وروية إلى صورته النهائية.
وما زال الكتاب في زيادة وإضافة حتى اتخذ صورته شبه الأخيرة في القرنين “8، 9هـ/ الـ14، 15م” وهي الصورة التي وصلتنا تقريبا، ومعنى هذا أن الليالي بصورتها المكتملة الحالية شهدت عمليات عدة من الإضافة والحذف المستمرين. وكان من نتاج عمليات هذا الاكتمال أنه ما زالت هناك حتى الآن نسخ من الليالي تتضمن حكايات ليست موجودة في غيرها من النسخ الأخرى.
ومن المعروف أن الليالي عرفت في أوروبا مبكرا جدا، وكان ذلك مع ترجمة أنطوان جالان لها للفرنسية.
وطبعة أنطوان جالان الفرنسي عام 1704م هذه، ترجمت عنها الليالي إلى اللغات الإنجليزية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية والهولندية والدانماركية والألمانية والسويدية والروسية والبولندية والهنجارية “المجرية”. كما نقلت عنها ترجمات فون هامر وفيل وهاننج وليتمان إلى الألمانية، وترجمات هنري تورنز وإدوارد وليم لين وجون بين إلى الإنجليزية.
لكن لم يبدأ الالتفات والانتباه إلى الليالي في الدراسات العربية إلا مع أطروحة الدكتورة سهير القلماوي التي تقدمت بها الى كلية الآداب جامعة القاهرة لنيل درجة الدكتوراه تحت إشراف الدكتور طه حسين عام 1941، وطبعت في دار المعارف عام 1947، وكان هذا الكتاب باكورة الدراسات العلمية المنهجية عن ألف ليلة وليلة، تلاها جهود جيل من الأساتذة والدارسين العظام الذين قاموا بدرس “الليالي” ضمن دراساتهم العميقة للأدب الشعبي وفنونه، منهم الدكتور عبد الحميد يونس، وأحمد رشدي صالح، والشاعر فوزي العنتيل، والباحث والإذاعي فاروق خورشيد.
وما زالت “ألف ليلة وليلة”، وستظل، تثير ما تثيره فينا من إحساس بالمتعة والفن والخيال، وما زالت تٌستلهم في الإبداع الفني والأدبي العربي والإنساني في فنون لغوية أو غير لغوية. إنها تتمتع بقدرة خارقة على مقاومة الاندثار والفناء، وأتصور أن هذا مرتبط بصدق “الليالي” الكامل في التعبير عن زمانها، لأنها استطاعت أن تعكس الرؤية الحضارية على مستوى الحياة اليومية البسيطة أو على مستوى الحياة الفكرية، وقد أحاطت بالحضارة العربية الإسلامية بل الحضارات الشرقية كلها وعبرت عن هذه الحضارات الشرقية مجتمعة.
“ألف ليلة وليلة” ينبوع الإبداع ومصدر الإلهام والسحر والدهشة
مطالعات أدبية دفاعا عن الوجدان
لعله لم يحظ كتاب أدبي في تاريخ البشرية بما حظي به كتاب “ألف ليلة وليلة” من الذيوع والانتشار والتأثير في وجدان ومخيلة كبار الأدباء والمبدعين العالميين في كل العصور منذ أن عرفت الليالي وترجمت إلى كل اللغات المعتبرة تقريبا وإلى وقتنا هذا. ومن الأمور التي لا يستطيع أن ينكرها منكر أو يجحدها جاحد أنه ما من أديب فذ أو كاتب بارع أو روائي قدير أو قصصي حاذق إلا وله في إبداعه وكتابته نصيب من “ألف ليلة وليلة” عمدة الأدب القصصي بلا منازع.
وإذا عدنا إلى عميد الرواية العربية نجيب محفوظ فسنجده في أحاديثه التي أدلى بها أو حواراته التي أجراها يؤكد تأكيدا جازما أنه لولا “الليالي” ما كان نجيب محفوظ وما كانت إبداعاته الخالدة التي وضعته في الصدارة بين كتاب الرواية في العالم. ولنجيب محفوظ درّة روائية لم تنل حظها الذي تستحقه من الدرس والشهرة، قياسا بأعماله الكبرى المعروفة، وهي روايته “ليالي ألف ليلة” التي استوحاها واستلهمها بالكامل من “ألف ليلة وليلة”.
في هذا التحقيق نحاول استكشاف أثر “الليالي” ووقع الأزمة التي تتعرض لها:
الخراط: حكايات الأم
الروائي إدوار الخراط عبّر عن حزنه الشديد مما يراه ويسمعه عن الهجوم على “الليالي”، قائلا “مما يكرب المرء كثيرا، حقيقة، إنه يحتاج إلى تأكيد النوافل، ألم تبدع الثقافة العربية على طول تاريخها كتبا قلائل تعتبرها بالتأكيد كتبها “بالجوهر” وليس “بالعرض”، كما يسلم بذلك العالم كله، وليكن من هذه الكتب كتاب شعبي”.
وأضاف أن “سر عبقرية الشعوب أخفى وأعمق وأصدق، والتراث الشعبي أذهب غورا في أعماقنا جميعا وحكايات جدتي وخالتي على سطح بيتنا في غيط العنب في الليالي المقمرة تحت سماء الإسكندرية الصافية عميقة الزرقة، هي حكايات “شهرزاد” محكية بلغة الأم، باللغة الأم”.
وعن تأثره بالليالي في أعماله الإبداعية، يقول “كان هناك في ألف ليلة وليلة ـ وكيف يمكن أن نغفل أو ننكر ـ بُعدا مهما وظاهرا فيها، هو بعد القهر والفقر المدقع والطغيان والعسف، بُعد الرعب والحيف والجور الذي لا يطاق. لذلك ربما كانت النصوص التي استلهمت فيها “ألف ليلة وليلة”، وقطّرتها وكثّفتها ـ بقدر ما كان في الإمكان ـ في “ترابها زعفران” التي قد يصح على سبيل الشطح أن أسميها “ألف ليلة وليلة إسكندرانية”، وفي “حجارة بوبيللو” وغيرها، نصوص تستند أيضا إلى هذا البعد، في سياق واقعي أرضي، سياق الإسكندرية في الثلاثينيات من القرن الماضي”.
الغيطاني: ذروة القص
أما الروائي جمال الغيطاني صاحب التاريخ الطويل مع “ألف ليلة وليلة” وطبعاتها التاريخية، وبعث طبعاتها المجهولة وإعادة إصدارها من خلال ترؤسه لسلسلة “الذخائر”، فيقول: “في مكتبتي قسم خاص “بألف ليلة”، الطبعات المختلفة منها، طبعة كلكتا (1814م) الأولى على الإطلاق وطبعة بولاق الشهيرة (1835م) وهي الأتم وطبعة محمد علي صبيح وأولاده التي صودرت وأفرج عنها وطبعة جزائرية في أربعة مجلدات صغيرة للجيب، وهي كاملة تقريبا بالقياس إلى طبعة بولاق، وطبعة بيروتية قديمة عن مطبعة الآباء اليسوعيين، وطبعة أوروبية قديمة في مدينة برسلاو نشرت مسلسلة في مجلة التراث الشعبي العراقية، وأخيرا طبعة محسم مهدي المحققة التي أصدرتها دار بريل في هولندا.. إلخ”.
وعن تقدير أثر الليالي في نفسه، يقول الغيطاني: أتوقف طويلا عند “ألف ليلة وليلة” باعتبارها ذروة فن القص والإبداع العربي، وعندما أقول العربي فإنني أعني ذلك الميراث الفني والثقافي الداخل في عناصر تكوين الثقافة العربية، والمنتمي إلى حقب تاريخية مختلفة، وديانات متعددة، وحضارات متعاقبة، متجاورة، ومؤثرات وافدة، متفاعلة من ثقافات أخرى”.
شلبي: سيرة ذاتية
ويطلق الروائي خيري شلبي على “ألف ليلة وليلة” أنها سيرة ذاتية للشعب المصري، ويؤكد أن “الليالي” معزوفة شعبية في تمجيد المرأة العربية. ويسترجع من معين الذاكرة الزاخرة ذكرياته مع الليالي، حيث يقول: “على أرضية شباك المندرة كانت ترقد بأجزائها الأربعة المتهرئة تحت ركام من ورق السيرة الهلالية وسيرة عنترة بن شداد وسيرة ذات الهمة وسيرة سيف بن ذي يزن وسيرة فيروز شاه وسيرة حمزة البهلوان وسيرة الظاهر بيبرس. ليست مندرتنا هي الوحيدة التي يحفل شباكها بهذه الكتب فمعظم منادر البلد والأصح منادر القرية لها شبابيك كهذه عليها الكتب نفسها. ربما تجد جزءا من سيرة عنترة ناقصا أو جزءا من الهلالية جديدا فاعلم أن هذا الجزء الناقص من عنترة قد أعير لمندرة أخرى مقابل هذا الجزء الجديد من الهلالية. أما أجزاء الف ليلة وليلة فإنها لا تنقص أبدا لأنها غير قابلة للإعارة مطلقا لأنها بعد أن قرئت مئات المرات أمست حكاياتها قابلة للطلب منفصلة في لحظة من لحظات السهرة. يحن الحضور لحكاية من الحكايا فيطلبون قراءتها وقد شاهدت في طفولتي مدى الإحباط الذي يرين على القوم إذا اتضح أن الجزء الذي فيه هذه الحكاية غير موجود أو غابت منه صفحة واحدة”.
البساطي: تأثر تلقائي
ويقول الأديب محمد البساطي: عندما بدأت الكتابة، وبدأت أستكشف عددا من الجوانب الفنية في اعمال الاخرين وأعمال التراث الانساني بوجه عام اكتشفت أن “ألف ليلة وليلة” ليست عملا سهلا وأنها تنطوي على درجات من “الفنية” هائلة على مستوى البناء والشخصيات والأجواء. وكان من أوجه متعتي الخالصة أن قرأت “ألف ليلة وليلة” مرة أخرى، وتيقنت أنني لم أستوعبها استيعابا كاملا في القراءة الأولى، ثم تيقنت أنها شأن الأعمال العظيمة كلها قادرة على أن تجذب قارئها بين وقت وآخر ليعيد قراءتها من جديد في ضوء جديد.
وعن تأثره في أعماله الروائية والقصصية “بألف ليلة وليلة” وتغلغلها في البناء القصصي والسردي، يؤكد البساطي أن تأثره هذا قد تم بشكل تلقائي دون تعمد منه في ذلك، ويضيف مثلا في قصتي “إث إث” في مجموعتي “أحلام رجال قصار العمر”، تنهض هذه القصة على تناول شخصية صغير مشوه يقوم بتربيته أخوه الأكبر، فيحمله على كتفيه ويصر على أن يحمله حتى بعد أن يكبر ويصير حمله عبئا، لقد اكتشفت بعد كتابتها أن هذه القصة مبنية على حكاية من حكايات “سندباد” الشهيرة، وهي حكاية “السندباد” الذي يحمل “شيخ البحر” على كتفيه، ويكون من ذلك ما عاناه من معاناة هائلة فصلتها الحكاية.
القعيد: حكاية شهرزاد
وفي سياق مشابه لسياق الدعوة إلى محاكمة المسؤولين عن إعادة طبع “الليالي” بل محاكمتها هي ذاتها، يروي الكاتب والروائي يوسف القعيد قصته مع “شهرزاد” التي يقول عنها: “لهذه القصة قصة، القصة عنوانها “مرافعة البلبل في القفص”، وتبدأ حكايتي معها عندما صودرت “ألف ليلة وليلة” حيث صدر حكم من محكمة الآداب بمصادرتها بناء على شكوى تقدم بها ولي أمر طالبة. وتحولت هذه الشكوى الى قضية نظرت في محكمة طنطا وأصدر القاضي حكما بالمصادرة. وفي القاهرة حكمت محكمة أول درجة بمصادرة “الليالي”، لأن صاحبة الدهشة والمتعة “خدشت الحياء العام” وعندما تقرر نظر القضية في الاستئناف ذهبت إلى المحكمة. وظللت أذهب إلى المحكمة حتى صدر حكم الاستئناف برفض الحكم الأول. ومن شدة إعجابي بالقاضي الذي أصدر هذا الحكم من أجل إنقاذ بر مصر من الفوضى الناتجة عن حرق “الليالي” في ميدان عام ذهبت إليه حيث يعيش.
وطوال هذه الفترة لم يكن في ذهني أن أكتب قصة عما جرى، ولكن بعد نظر القضية وصدور الحكم فيها سافرت في رحلة طويلة وبعيدة إلى كوريا الشمالية. وهناك نبت عنوان القصة في ذهني “مرافعة البلبل في القفص”. كان الموضوع جاهزا بداخلي وجاء العنوان يشده وراءه.
في هذه الرواية بطلة تحضر بغيابها هي “شهرزاد” محاكمتها هي التي فجرت العمل كله، ولكن من المهم أن أؤكد أنني عندما ذهبت إلى المحكمة، لم يكن في ذهني أبدا كتابة ولا يحزنون. تلك هي حكايتي مع “شهرزاد”.
* إيهاب الملاح - ألف ليلة وليلة.. تعددت الأسماء والطبعات والترجمات والأثر واحد..
حكايات فارسية وهندية بهوية عربية
بهذه الكلمات الخالدة في تراث الأدب العربي والعالمي تُفتتح مقدمة “ألف ليلة وليلة” التي بهرت العقول وخلبت الألباب، درة الإبداع القصصي العربي والعالمي على مر العصور، وذروة ما وصل إليه الخيال العربي الخلاق، جامعا ومتضمنا للأعراف والتقاليد الاجتماعية والمسكوت عنه في طبقات المجتمع العربي في العصر الوسيط.
على الغلاف الخارجي لإحدى طبعاتها النادرة العتيقة “طبعة مكتبة صبيح وأولاده”، تأتي هذه الفقرة التعريفية الدالة “ألف ليلة وليلة، ذات الحوادث العجيبة، والقصص المطربة الغريبة، لياليها غرام في غرام، وتفاصيل حب وعشق وهيام، وحكايات ونوادر فكاهية، ولطائف وطرائف أدبية، بالصور المدهشة البديعة، من أبدع ما كان، ومناظر أعجوبة من عجائب الزمان”. هكذا كتب مخرج هذه الطبعة العتيقة، جامعاً لمناطق السحر وعوالم القص والسرد في هذه التحفة الأدبية الخالدة، حكايات “ألف ليلة وليلة”، ذلك العالم الزاخر الساحر الجميل الذي ألهب، وما زال يلهب، مخيلةَ المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين في كل الأصقاع والعصور.
وكان من الطبيعي ألا يتم تناول ما تثيره طبعة جديدة من طبعات “الليالي” دون أن تثير ثائرة المتزمتين والمنغلقين فكريا وحضاريا، وضيقي الأفق ممن يفرضون وصايتهم على المجتمع والناس، ويعتبرون أنفسهم ملّاكَ الحقيقة المطلقة دون رد أو اختلاف!
ولعل أفضل محاولة للإجابة عن الأسئلة السابقة ليس في إشباع رغبات هؤلاء الباحثين عن الشهرة والتربح من وراء رفع دعوى قضائية، الغرض الظاهر منها منع “ألف ليلة وليلة” من التداول ومصادرتها وسحب نسخها ـ إن وجدت منها نسخة باقية ـ أما الأغراض الخفية فليس أقربها الشهرة وإن كان من أبعدها على المدى الطويل التربح والوصول إلى غايات ومرامٍ غير معلنة. وأفضل رد على هؤلاء ليس الخوض في تفاصيل دعواهم أو الإعلان عن أسمائهم وأشخاصهم ومقر عملهم، إنما الأصوب والأجدر هو إعادة التعريف بالليالي، وتبصير الناس بتاريخها وموقعها من الآداب العالمية والحض على الاهتمام بهذا العمل العبقري الفذ الذي ألهم أدباء العالم وفنانيه ومثقفيه وكتابه ـ باعترافهم وشهادتهم ـ أعظم أعمالهم وأشهرها وأروعها، وأن نشير إلى موقع “الليالي” من التراث الأدبي العالمي الخالد.
أصل وفصل
أقدم إشارة وردت في كتب التراث العربي إلى “ألف ليلة وليلة”، ما أورده محمد بن إسحاق النديم في كتابه “الفهرست” صفحة 422 في مستهل المقالة الثامنة من الباب الثامن من كتابه، حيث يقول:
“أول من صنف الخرافات، وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن، وحمل بعد ذلك على ألسنة الحيوان الفرس الأول، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام الملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء البلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه. فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب “هزار أفسان” ومعناه الألف خرافة. وفي هذا الكتاب دون المئتي سمر، لأن كل سمر كان يحدّث به في ليال عدة، وهي من أظرف الحكايات التي وضعتها الفرس في غابر الدهر”.
كانت تلك الحكايات تسمى في الأصل “ألف خرافة”، ووجدت بلا شك في فارس في وقت من الأوقات، وأغلب الظن أنها تحتوي منذ ذلك الحين أو تشتمل على القصة المحورية “قصة الإطار” المشهورة، التي تعود في النهاية على ما يبدو إلى أصل هندي. ثم أصبحت هذه الحكايات تعرف باسم “ألف ليلة العربية” منذ القرن “الثالث الهجري/ التاسع الميلادي”، وهذا الاسم تحور في تاريخ غير محدد إلى اسم “ألف ليلة وليلة” المعروفة باللغة الإنجليزية بالليالي العربية.
وأيا ما كانت الأسماء التي أطلقت عليها حكايات “ألف ليلة العربية” أو قصص “ألف ليلة وليلة” أو “الليالي العربية”، كما شاعت في الترجمات والآداب الغربية، فإنها في النهاية تطلق على تلك المجموعة الضخمة المتعددة الأعراق والأصول من القصص الشعبي، قيل في أصولها إنها فارسية أو هندية، لكنها لم تكتسب شرعية التكوين والذيوع والانتشار إلا بعد اكتسابها الهوية العربية الإسلامية فيما بعد القرنين 3، 4 الهجريين إلى اكتمال صورتها المعروفة تقريبا في القرنين 8، 9هـ.
المؤلف المجهول
وهذه المجموعة من القصص مجهولة المؤلف، وربما أيضا ليست لمؤلف واحد، يختلف عددها وترتيب ورودها باختلاف النسخ المتاحة لها، ويجمعها كلها إطار واحد أو قصة إطارية جامعة هي الحكاية الأم التي شهرت وعرفت بها في جميع أنحاء العالم. وهي التي أشار إليها ابن النديم في كتابه “الفهرست” قائلا: “السبب في وضعه ـ أي كتاب ألف ليلة وليلة - كما هو معروف، أن ملكا من ملوك الفرس كان إذا زوج امرأة قتلها بعد يوم، غيرةً عليها من الرجال، فتزوج بجارية من بنات الملوك ممن لهن عقل ودراية يقال لها “شهرزاد”، فلما اتصلت به أخذت تحدثه وتصل الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة، وإلى أن رزقه الله منها بولد طرحته إليه، ووقفته على حيلته عليه. وكان للملك كهرمانة يقال لها “دنيا زاد”، كانت موافقة لها على ذلك”.
وقد عرف العرب “الليالي” أو “ألف ليلة وليلة” من أزمان قديمة جدا، وإن كانت في صورتها الأولى المنقولة والمترجمة لا بصورتها المكتملة الحالية بأشكالها المتعددة.
وبرغم وجود أشتات من آثار بابلية وفارسية وهندية وإغريقية ومصرية قديمة، في هذه المجموعة الضخمة من القصص الشعبي الفني، فإنه وباعتراف أغلب ـ إن لم يكن كل ـ الدارسين والباحثين لا تشكل هذه الآثار إلا جزءا وجيزا من أجزائها المتعددة، أما بقية أجزائها الأخرى فهي أدب قصصي عربي خالص جديد كل الجدة، وهي تأليف شعبي خالص استعان فيه المؤلف الشعبي بموتيفات من الموروثات الشعبية العربية الثقافية والاجتماعية، تعبر عن مجتمعات عربية إسلامية متأخرة في بغداد ودمشق والقاهرة.
ويقول جميل نخلة المدور في كتابه “حضارة الإسلام في دار السلام”: “ولما راج الكتاب وذاع وتداوله النساخ والكتاب وأضافوا إليه حكايات كثيرة وضعوها على سبيل الفكاهة بما يعهد فيهم من طول الباع في وضع الحكايات، ولا سيما ما يتضمن أخبار وحكايات الجان ووصف مساكنهم تحت البحار وتزويجهم بناتهم من ملوك الأنس وقصص العفاريت والهواتف وغير ذلك إلى أن صار جملة ما في الكتاب حكايات عربية لا يخالطها من كلام الفرس إلا القليل، وهي إن كانت بعيدة عن الصدق تظهر فضل العرب في أنهم يمتلكون فؤاد السامع برقة مأخذهم في تجميلها ورونقها”.
ومن هنا غلبت الطوابع العربية الإسلامية على ما عداها من العناصر البابلية والفارسية والهندية السابقة عليها.
ومن رواية ابن النديم المتقدمة في “الفهرست”، نستخلص أن أصل “ألف ليلة وليلة” ترجمة لكتاب هندي فارسي قديم اسمه الـ”هزار إفسانه”، ومعناه “الألف خرافة”، وقد تمت ترجمته إلى اللغة العربية في القرن الثاني أو الثالث الهجري، إلا أنه وبمرور الزمن أضيفت إليه مجموعتان كبيرتان متمايزتان من الحكايات هما المجموعة البغدادية، والمجموعة المصرية، والأخيرة الأهم، في عهد خلفاء صلاح الدين الأيوبي أو في أوائل قيام الدولة المملوكية.
ويحتوي النص النهائي لألف ليلة وليلة على مواد قصصية مصرية يمكن تحديد تاريخها باطمئنان بالقرن الـ8هـ/ 14م. وهذه الحكايات المصرية تدخل ضمن مساهمات عدد كبير من الأقطار والمدن العربية في إنشاء قصص ألف ليلة وليلة في أوقات مختلفة.
وهناك بعض القصص التي نشأت مستقلة عن أصل “الليالي” في القرن الرابع الهجري “العاشر الميلادي”، وجدت فيما بعد مضمنة في قصص “ألف ليلة وليلة”، مثل “حكاية الملك جليعاد والوزير شماس، وحكاية السندباد”.
طبعات وترجمات
ومن المؤكد أن النصوص الأولى القائمة بذاتها لهذه الحكايات الشعبية قد تعرضت لعدة تحويرات قبل أن تصبح في الصورة التي وصلتنا وتعرف بها الآن. فجميع مادة هذا الأدب الشعبي خضعت لعمليات معقدة من التغيير والتطوير. فحكايات “ألف ليلة وليلة” نفسها تعتبر حقلا خصبا للتفكير والتأمل في الطرق الرئيسية والجانبية التي سلكها الابتكار الأدبي حتى وصل في تؤدة وروية إلى صورته النهائية.
وما زال الكتاب في زيادة وإضافة حتى اتخذ صورته شبه الأخيرة في القرنين “8، 9هـ/ الـ14، 15م” وهي الصورة التي وصلتنا تقريبا، ومعنى هذا أن الليالي بصورتها المكتملة الحالية شهدت عمليات عدة من الإضافة والحذف المستمرين. وكان من نتاج عمليات هذا الاكتمال أنه ما زالت هناك حتى الآن نسخ من الليالي تتضمن حكايات ليست موجودة في غيرها من النسخ الأخرى.
ومن المعروف أن الليالي عرفت في أوروبا مبكرا جدا، وكان ذلك مع ترجمة أنطوان جالان لها للفرنسية.
وطبعة أنطوان جالان الفرنسي عام 1704م هذه، ترجمت عنها الليالي إلى اللغات الإنجليزية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية والهولندية والدانماركية والألمانية والسويدية والروسية والبولندية والهنجارية “المجرية”. كما نقلت عنها ترجمات فون هامر وفيل وهاننج وليتمان إلى الألمانية، وترجمات هنري تورنز وإدوارد وليم لين وجون بين إلى الإنجليزية.
لكن لم يبدأ الالتفات والانتباه إلى الليالي في الدراسات العربية إلا مع أطروحة الدكتورة سهير القلماوي التي تقدمت بها الى كلية الآداب جامعة القاهرة لنيل درجة الدكتوراه تحت إشراف الدكتور طه حسين عام 1941، وطبعت في دار المعارف عام 1947، وكان هذا الكتاب باكورة الدراسات العلمية المنهجية عن ألف ليلة وليلة، تلاها جهود جيل من الأساتذة والدارسين العظام الذين قاموا بدرس “الليالي” ضمن دراساتهم العميقة للأدب الشعبي وفنونه، منهم الدكتور عبد الحميد يونس، وأحمد رشدي صالح، والشاعر فوزي العنتيل، والباحث والإذاعي فاروق خورشيد.
وما زالت “ألف ليلة وليلة”، وستظل، تثير ما تثيره فينا من إحساس بالمتعة والفن والخيال، وما زالت تٌستلهم في الإبداع الفني والأدبي العربي والإنساني في فنون لغوية أو غير لغوية. إنها تتمتع بقدرة خارقة على مقاومة الاندثار والفناء، وأتصور أن هذا مرتبط بصدق “الليالي” الكامل في التعبير عن زمانها، لأنها استطاعت أن تعكس الرؤية الحضارية على مستوى الحياة اليومية البسيطة أو على مستوى الحياة الفكرية، وقد أحاطت بالحضارة العربية الإسلامية بل الحضارات الشرقية كلها وعبرت عن هذه الحضارات الشرقية مجتمعة.
“ألف ليلة وليلة” ينبوع الإبداع ومصدر الإلهام والسحر والدهشة
مطالعات أدبية دفاعا عن الوجدان
لعله لم يحظ كتاب أدبي في تاريخ البشرية بما حظي به كتاب “ألف ليلة وليلة” من الذيوع والانتشار والتأثير في وجدان ومخيلة كبار الأدباء والمبدعين العالميين في كل العصور منذ أن عرفت الليالي وترجمت إلى كل اللغات المعتبرة تقريبا وإلى وقتنا هذا. ومن الأمور التي لا يستطيع أن ينكرها منكر أو يجحدها جاحد أنه ما من أديب فذ أو كاتب بارع أو روائي قدير أو قصصي حاذق إلا وله في إبداعه وكتابته نصيب من “ألف ليلة وليلة” عمدة الأدب القصصي بلا منازع.
وإذا عدنا إلى عميد الرواية العربية نجيب محفوظ فسنجده في أحاديثه التي أدلى بها أو حواراته التي أجراها يؤكد تأكيدا جازما أنه لولا “الليالي” ما كان نجيب محفوظ وما كانت إبداعاته الخالدة التي وضعته في الصدارة بين كتاب الرواية في العالم. ولنجيب محفوظ درّة روائية لم تنل حظها الذي تستحقه من الدرس والشهرة، قياسا بأعماله الكبرى المعروفة، وهي روايته “ليالي ألف ليلة” التي استوحاها واستلهمها بالكامل من “ألف ليلة وليلة”.
في هذا التحقيق نحاول استكشاف أثر “الليالي” ووقع الأزمة التي تتعرض لها:
الخراط: حكايات الأم
الروائي إدوار الخراط عبّر عن حزنه الشديد مما يراه ويسمعه عن الهجوم على “الليالي”، قائلا “مما يكرب المرء كثيرا، حقيقة، إنه يحتاج إلى تأكيد النوافل، ألم تبدع الثقافة العربية على طول تاريخها كتبا قلائل تعتبرها بالتأكيد كتبها “بالجوهر” وليس “بالعرض”، كما يسلم بذلك العالم كله، وليكن من هذه الكتب كتاب شعبي”.
وأضاف أن “سر عبقرية الشعوب أخفى وأعمق وأصدق، والتراث الشعبي أذهب غورا في أعماقنا جميعا وحكايات جدتي وخالتي على سطح بيتنا في غيط العنب في الليالي المقمرة تحت سماء الإسكندرية الصافية عميقة الزرقة، هي حكايات “شهرزاد” محكية بلغة الأم، باللغة الأم”.
وعن تأثره بالليالي في أعماله الإبداعية، يقول “كان هناك في ألف ليلة وليلة ـ وكيف يمكن أن نغفل أو ننكر ـ بُعدا مهما وظاهرا فيها، هو بعد القهر والفقر المدقع والطغيان والعسف، بُعد الرعب والحيف والجور الذي لا يطاق. لذلك ربما كانت النصوص التي استلهمت فيها “ألف ليلة وليلة”، وقطّرتها وكثّفتها ـ بقدر ما كان في الإمكان ـ في “ترابها زعفران” التي قد يصح على سبيل الشطح أن أسميها “ألف ليلة وليلة إسكندرانية”، وفي “حجارة بوبيللو” وغيرها، نصوص تستند أيضا إلى هذا البعد، في سياق واقعي أرضي، سياق الإسكندرية في الثلاثينيات من القرن الماضي”.
الغيطاني: ذروة القص
أما الروائي جمال الغيطاني صاحب التاريخ الطويل مع “ألف ليلة وليلة” وطبعاتها التاريخية، وبعث طبعاتها المجهولة وإعادة إصدارها من خلال ترؤسه لسلسلة “الذخائر”، فيقول: “في مكتبتي قسم خاص “بألف ليلة”، الطبعات المختلفة منها، طبعة كلكتا (1814م) الأولى على الإطلاق وطبعة بولاق الشهيرة (1835م) وهي الأتم وطبعة محمد علي صبيح وأولاده التي صودرت وأفرج عنها وطبعة جزائرية في أربعة مجلدات صغيرة للجيب، وهي كاملة تقريبا بالقياس إلى طبعة بولاق، وطبعة بيروتية قديمة عن مطبعة الآباء اليسوعيين، وطبعة أوروبية قديمة في مدينة برسلاو نشرت مسلسلة في مجلة التراث الشعبي العراقية، وأخيرا طبعة محسم مهدي المحققة التي أصدرتها دار بريل في هولندا.. إلخ”.
وعن تقدير أثر الليالي في نفسه، يقول الغيطاني: أتوقف طويلا عند “ألف ليلة وليلة” باعتبارها ذروة فن القص والإبداع العربي، وعندما أقول العربي فإنني أعني ذلك الميراث الفني والثقافي الداخل في عناصر تكوين الثقافة العربية، والمنتمي إلى حقب تاريخية مختلفة، وديانات متعددة، وحضارات متعاقبة، متجاورة، ومؤثرات وافدة، متفاعلة من ثقافات أخرى”.
شلبي: سيرة ذاتية
ويطلق الروائي خيري شلبي على “ألف ليلة وليلة” أنها سيرة ذاتية للشعب المصري، ويؤكد أن “الليالي” معزوفة شعبية في تمجيد المرأة العربية. ويسترجع من معين الذاكرة الزاخرة ذكرياته مع الليالي، حيث يقول: “على أرضية شباك المندرة كانت ترقد بأجزائها الأربعة المتهرئة تحت ركام من ورق السيرة الهلالية وسيرة عنترة بن شداد وسيرة ذات الهمة وسيرة سيف بن ذي يزن وسيرة فيروز شاه وسيرة حمزة البهلوان وسيرة الظاهر بيبرس. ليست مندرتنا هي الوحيدة التي يحفل شباكها بهذه الكتب فمعظم منادر البلد والأصح منادر القرية لها شبابيك كهذه عليها الكتب نفسها. ربما تجد جزءا من سيرة عنترة ناقصا أو جزءا من الهلالية جديدا فاعلم أن هذا الجزء الناقص من عنترة قد أعير لمندرة أخرى مقابل هذا الجزء الجديد من الهلالية. أما أجزاء الف ليلة وليلة فإنها لا تنقص أبدا لأنها غير قابلة للإعارة مطلقا لأنها بعد أن قرئت مئات المرات أمست حكاياتها قابلة للطلب منفصلة في لحظة من لحظات السهرة. يحن الحضور لحكاية من الحكايا فيطلبون قراءتها وقد شاهدت في طفولتي مدى الإحباط الذي يرين على القوم إذا اتضح أن الجزء الذي فيه هذه الحكاية غير موجود أو غابت منه صفحة واحدة”.
البساطي: تأثر تلقائي
ويقول الأديب محمد البساطي: عندما بدأت الكتابة، وبدأت أستكشف عددا من الجوانب الفنية في اعمال الاخرين وأعمال التراث الانساني بوجه عام اكتشفت أن “ألف ليلة وليلة” ليست عملا سهلا وأنها تنطوي على درجات من “الفنية” هائلة على مستوى البناء والشخصيات والأجواء. وكان من أوجه متعتي الخالصة أن قرأت “ألف ليلة وليلة” مرة أخرى، وتيقنت أنني لم أستوعبها استيعابا كاملا في القراءة الأولى، ثم تيقنت أنها شأن الأعمال العظيمة كلها قادرة على أن تجذب قارئها بين وقت وآخر ليعيد قراءتها من جديد في ضوء جديد.
وعن تأثره في أعماله الروائية والقصصية “بألف ليلة وليلة” وتغلغلها في البناء القصصي والسردي، يؤكد البساطي أن تأثره هذا قد تم بشكل تلقائي دون تعمد منه في ذلك، ويضيف مثلا في قصتي “إث إث” في مجموعتي “أحلام رجال قصار العمر”، تنهض هذه القصة على تناول شخصية صغير مشوه يقوم بتربيته أخوه الأكبر، فيحمله على كتفيه ويصر على أن يحمله حتى بعد أن يكبر ويصير حمله عبئا، لقد اكتشفت بعد كتابتها أن هذه القصة مبنية على حكاية من حكايات “سندباد” الشهيرة، وهي حكاية “السندباد” الذي يحمل “شيخ البحر” على كتفيه، ويكون من ذلك ما عاناه من معاناة هائلة فصلتها الحكاية.
القعيد: حكاية شهرزاد
وفي سياق مشابه لسياق الدعوة إلى محاكمة المسؤولين عن إعادة طبع “الليالي” بل محاكمتها هي ذاتها، يروي الكاتب والروائي يوسف القعيد قصته مع “شهرزاد” التي يقول عنها: “لهذه القصة قصة، القصة عنوانها “مرافعة البلبل في القفص”، وتبدأ حكايتي معها عندما صودرت “ألف ليلة وليلة” حيث صدر حكم من محكمة الآداب بمصادرتها بناء على شكوى تقدم بها ولي أمر طالبة. وتحولت هذه الشكوى الى قضية نظرت في محكمة طنطا وأصدر القاضي حكما بالمصادرة. وفي القاهرة حكمت محكمة أول درجة بمصادرة “الليالي”، لأن صاحبة الدهشة والمتعة “خدشت الحياء العام” وعندما تقرر نظر القضية في الاستئناف ذهبت إلى المحكمة. وظللت أذهب إلى المحكمة حتى صدر حكم الاستئناف برفض الحكم الأول. ومن شدة إعجابي بالقاضي الذي أصدر هذا الحكم من أجل إنقاذ بر مصر من الفوضى الناتجة عن حرق “الليالي” في ميدان عام ذهبت إليه حيث يعيش.
وطوال هذه الفترة لم يكن في ذهني أن أكتب قصة عما جرى، ولكن بعد نظر القضية وصدور الحكم فيها سافرت في رحلة طويلة وبعيدة إلى كوريا الشمالية. وهناك نبت عنوان القصة في ذهني “مرافعة البلبل في القفص”. كان الموضوع جاهزا بداخلي وجاء العنوان يشده وراءه.
في هذه الرواية بطلة تحضر بغيابها هي “شهرزاد” محاكمتها هي التي فجرت العمل كله، ولكن من المهم أن أؤكد أنني عندما ذهبت إلى المحكمة، لم يكن في ذهني أبدا كتابة ولا يحزنون. تلك هي حكايتي مع “شهرزاد”.
* إيهاب الملاح - ألف ليلة وليلة.. تعددت الأسماء والطبعات والترجمات والأثر واحد..
حكايات فارسية وهندية بهوية عربية