نقوس المهدي
كاتب
الموضوع كبير. ولكن هناك نماذج قليلة ساطعة فى هذا المجال، لعل أشهرها استفادة صلاح جاهين من شكل الموال الشعبى وتركيب الأغنية الشعبية والعديد، واستفادة فؤاد حداد الأكبر من الموال واعتماده عليه بالدرجة الأولى فى استلهامه لتراث الشعب، وخاصة لزوم ما يلزم، الذى استهواه كما استهوى أبانا صانع المواويل المجهول.
وهو موضوع لعلنى أعود إليه لاحقاً، لأننى أريد أن أركز اليوم على النثر، على الحكايات، وبالتحديد على ألف ليلة وليلة.
بعض حكايات "الليالى" استلهمها كُتَّاب دراما مثل ألفريد فرج، الذى نسج من خيوطها مسرحيتيه "حلاق بغداد" و"على جناح التبريزى وتابعه قفة". لكن العمل الذى أعاد صياغتها جذرياً، وحوَّل حكاياها إلى مادة خام ينتقى منها وينخلها فيحتفظ اللآلئ، وينقيها من الرمل والحصى، كان رواية نجيب محفوظ "ليالى ألف ليلة".
"ليالى ألف ليلة" نموذج لاستفادة الأدب من التراث عموماً، والفلكلور خصوصاً، إنها لم "تنقل" كما فعل كثيرون بدرجات متفاوتة من الأصالة والإبداع، فمنهم من كان ناقلاً لا غير، ومنهم –كألفريد فرج فى مسرحه- من احتفظ بالحكاية الأصلية وطوَّعها لرؤيته وأسلوبه. أما نجيب محفوظ، فقد استمد من "الليالى" الأصلية عناصر وشخصيات مثل شهريار وشهرزاد ودنيازاد ومعروف الإسكافى والسندباد وغيرهم، وأضاف لهم شخصيات كثيرة من صنعه، وبدأ من حيث انتهت "الليالى" وقد تحول شهريار إلى مخلوق شبه إنسانى بعد أن روضته حكايات شهرزاد، لكنه لم يُشف تماما من غطرسته ودمويته.
وطوَّع محفوظ حكايا الشخصيات التراثية لرؤيته هو، فاختلفت عن الأصل اختلافا جذريا، أما الشخصيات الجديدة فقد صنع منها حكايات فيها عناصر من العمل الأم، لكنّ معظمها من خياله هو، وتخدم رؤية متكاملة استخدم محفوظ الليالى فى تقديمها. وفى سبيل ذلك ألبس بعض شخصيات الأصل حكايات جديدة، وبعض حكايات الأصل شخصيات من صنعه.
نعم، لقد "استخدم" محفوظ "ألف ليلة وليلة"، بعد أن نسفها من جذورها، والتقط من الركام ما ينفعه، بينما هناك بعض من استلهموا السير الشعبية فما صنعوا أكثر من صياغتها بلغة أحدث، دون تغيير يُذكر، ودون رؤية جديدة يبثونها من خلال هذا الاستلهام، الذى هو نقل صريح لا أكثر.
وكما قلت فى البداية: الموضوع كبير، ومتفرع بين شعر ونثر. وهو بالتأكيد يحتاج أكثر من مقالة قصيرة. فاعتبروا هذه مقدمة.
وقبل أن أترككم أسوق لكم نموذجا من بين نماذج كثيرة فى "ليالى" محفوظ توضح كيف استفاد من العمل الأم، وكيف أعاد صياغته. وليكن فصلها الافتتاحى:
شهريار
عقب صلاة الفجر، وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة، دعى الوزير دندان إلى مقابلة السلطان شهريار.. تلاشت رزانة دندان، خفق قلب الأبوة بين جوانحه، غمغم وهو يرتدى ملابسه: "الآن تقرر المصير.. مصيرك يا شهرزاد!"..
مضى فى الطريق الصاعد إلى الجبل على برذون يتبعه نفر من الحراس ويتقدمه حامل مشعل، فى جو مشعشع بالندى وبرودة مستأنسة.. ثلاثة أعوام مضت بين الخوف والرجاء، بين الموت والأمل.. مضت فى رواية الحكايات، وبفضل الحكايات امتد الأجل بشهرزاد ثلاثة أعوام.. غير أن للحكايات نهاية ككل شئ ، وقد انتهت أمس، فأى قدر يرصدك يا ابنتى الحبيبة؟!..
دخل القصر الرابض فوق الجبل.. اقتاده الحاجب إلى شرفة خلفية تطل على الحديقة المترامية.. بدا شهريار فى مجلسه على ضوء قنديل واحد، سافر الرأس، غزير الشعر أسوده، تلتمع عيناه فى وجهه الطويل، وتفترش أعلى صدره لحية عريضة.. قبل دندان الأرض بين يديه.. داخلته رهبة –رغم طول المعاشرة- لرجل حفل تاريخه بالصرامة والقسوة ودماء الأبرياء.. وأشار السلطان بإطفاء القنديل الوحيد فساد الظلام، ولاحت بوضوح نسبى أشباح الأشجار الفواحة.. تمتم شهريار:
ليكن الظلام كى أرصد انبثاق الضياء..
تفاءل دندان شيئا ما وقال:
متعك الله يا مولاى بأطيب ما فى الليل والنهار..
صمت.. لم يستطع دندان أن يستشف ما وراء وجهه من رضا أو سخط حتى قال بهدوء:
- اقتضت مشيئتنا أن تبقى شهرزاد زوجة لنا..
وثب دندان واقفا ثم انحنى على يد السلطان فلثمها بامتنان ودمع الشكر يتحرك فى أعماقه.
فليؤيد الله سلطانك إلى أبد الآبدين..
قال السلطان وكأنما تذكر ضحاياه:
العدل له وسائل متباينة، منها السيف ومنها العفو، ولله حكمته..
سدد الله خطاك إلى حكمته يا مولاى..
فقال بارتياح:
حكاياتها السحر الحلال، تفتحت منها عوالم تدعو للتأمل..
ثمل الوزير بفرحته صامتا فقال السلطان:
وأنجبت لى وليدا فسكنت عواصف النفس الهائجة..
لتهنأ يا مولاى بالسعادة فى الدارين..
تمتم السلطان باقتضاب:
السعادة!..
قلق دندان لسبب غامض.. ارتفع صياح الديكة.. قال السلطان وكأنما يخاطب نفسه:
الوجود أغمض ما فى الوجود!
غير أن نبرته تخففت من الحيرة وهو يقول:
انظر!..
نظر دندان نحو الأفق فرآه يتورد بالسرور المقدس..
وهو موضوع لعلنى أعود إليه لاحقاً، لأننى أريد أن أركز اليوم على النثر، على الحكايات، وبالتحديد على ألف ليلة وليلة.
بعض حكايات "الليالى" استلهمها كُتَّاب دراما مثل ألفريد فرج، الذى نسج من خيوطها مسرحيتيه "حلاق بغداد" و"على جناح التبريزى وتابعه قفة". لكن العمل الذى أعاد صياغتها جذرياً، وحوَّل حكاياها إلى مادة خام ينتقى منها وينخلها فيحتفظ اللآلئ، وينقيها من الرمل والحصى، كان رواية نجيب محفوظ "ليالى ألف ليلة".
"ليالى ألف ليلة" نموذج لاستفادة الأدب من التراث عموماً، والفلكلور خصوصاً، إنها لم "تنقل" كما فعل كثيرون بدرجات متفاوتة من الأصالة والإبداع، فمنهم من كان ناقلاً لا غير، ومنهم –كألفريد فرج فى مسرحه- من احتفظ بالحكاية الأصلية وطوَّعها لرؤيته وأسلوبه. أما نجيب محفوظ، فقد استمد من "الليالى" الأصلية عناصر وشخصيات مثل شهريار وشهرزاد ودنيازاد ومعروف الإسكافى والسندباد وغيرهم، وأضاف لهم شخصيات كثيرة من صنعه، وبدأ من حيث انتهت "الليالى" وقد تحول شهريار إلى مخلوق شبه إنسانى بعد أن روضته حكايات شهرزاد، لكنه لم يُشف تماما من غطرسته ودمويته.
وطوَّع محفوظ حكايا الشخصيات التراثية لرؤيته هو، فاختلفت عن الأصل اختلافا جذريا، أما الشخصيات الجديدة فقد صنع منها حكايات فيها عناصر من العمل الأم، لكنّ معظمها من خياله هو، وتخدم رؤية متكاملة استخدم محفوظ الليالى فى تقديمها. وفى سبيل ذلك ألبس بعض شخصيات الأصل حكايات جديدة، وبعض حكايات الأصل شخصيات من صنعه.
نعم، لقد "استخدم" محفوظ "ألف ليلة وليلة"، بعد أن نسفها من جذورها، والتقط من الركام ما ينفعه، بينما هناك بعض من استلهموا السير الشعبية فما صنعوا أكثر من صياغتها بلغة أحدث، دون تغيير يُذكر، ودون رؤية جديدة يبثونها من خلال هذا الاستلهام، الذى هو نقل صريح لا أكثر.
وكما قلت فى البداية: الموضوع كبير، ومتفرع بين شعر ونثر. وهو بالتأكيد يحتاج أكثر من مقالة قصيرة. فاعتبروا هذه مقدمة.
وقبل أن أترككم أسوق لكم نموذجا من بين نماذج كثيرة فى "ليالى" محفوظ توضح كيف استفاد من العمل الأم، وكيف أعاد صياغته. وليكن فصلها الافتتاحى:
شهريار
عقب صلاة الفجر، وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة، دعى الوزير دندان إلى مقابلة السلطان شهريار.. تلاشت رزانة دندان، خفق قلب الأبوة بين جوانحه، غمغم وهو يرتدى ملابسه: "الآن تقرر المصير.. مصيرك يا شهرزاد!"..
مضى فى الطريق الصاعد إلى الجبل على برذون يتبعه نفر من الحراس ويتقدمه حامل مشعل، فى جو مشعشع بالندى وبرودة مستأنسة.. ثلاثة أعوام مضت بين الخوف والرجاء، بين الموت والأمل.. مضت فى رواية الحكايات، وبفضل الحكايات امتد الأجل بشهرزاد ثلاثة أعوام.. غير أن للحكايات نهاية ككل شئ ، وقد انتهت أمس، فأى قدر يرصدك يا ابنتى الحبيبة؟!..
دخل القصر الرابض فوق الجبل.. اقتاده الحاجب إلى شرفة خلفية تطل على الحديقة المترامية.. بدا شهريار فى مجلسه على ضوء قنديل واحد، سافر الرأس، غزير الشعر أسوده، تلتمع عيناه فى وجهه الطويل، وتفترش أعلى صدره لحية عريضة.. قبل دندان الأرض بين يديه.. داخلته رهبة –رغم طول المعاشرة- لرجل حفل تاريخه بالصرامة والقسوة ودماء الأبرياء.. وأشار السلطان بإطفاء القنديل الوحيد فساد الظلام، ولاحت بوضوح نسبى أشباح الأشجار الفواحة.. تمتم شهريار:
ليكن الظلام كى أرصد انبثاق الضياء..
تفاءل دندان شيئا ما وقال:
متعك الله يا مولاى بأطيب ما فى الليل والنهار..
صمت.. لم يستطع دندان أن يستشف ما وراء وجهه من رضا أو سخط حتى قال بهدوء:
- اقتضت مشيئتنا أن تبقى شهرزاد زوجة لنا..
وثب دندان واقفا ثم انحنى على يد السلطان فلثمها بامتنان ودمع الشكر يتحرك فى أعماقه.
فليؤيد الله سلطانك إلى أبد الآبدين..
قال السلطان وكأنما تذكر ضحاياه:
العدل له وسائل متباينة، منها السيف ومنها العفو، ولله حكمته..
سدد الله خطاك إلى حكمته يا مولاى..
فقال بارتياح:
حكاياتها السحر الحلال، تفتحت منها عوالم تدعو للتأمل..
ثمل الوزير بفرحته صامتا فقال السلطان:
وأنجبت لى وليدا فسكنت عواصف النفس الهائجة..
لتهنأ يا مولاى بالسعادة فى الدارين..
تمتم السلطان باقتضاب:
السعادة!..
قلق دندان لسبب غامض.. ارتفع صياح الديكة.. قال السلطان وكأنما يخاطب نفسه:
الوجود أغمض ما فى الوجود!
غير أن نبرته تخففت من الحيرة وهو يقول:
انظر!..
نظر دندان نحو الأفق فرآه يتورد بالسرور المقدس..