نقوس المهدي
كاتب
(1-3)
حكاية المطبعة
إن خديوي مصر الحالي محمد علي، فخر الدين والدولة وصاحب المنح العظيمة قد زادت مآثره الجليلة التي لا تعد بإنشاء دار الطباعة العامرة وظهرت للجميع بشكلها البهيج البديع وقد قال الشاعر سعيد إن دار الطباعة هي مصدر الفن الصحيح
عند مدخل الكوبري القديم، توقف سائق التاكسي رافضًا الدخول خوفًا من وحشة ممره المعدني في ذلك الوقت المتأخر من الليل. نعم، هو أقرب للممر منه إلى الكوبري. لذلك أقول: مدخل، وليس مَطلعا. هو جسر يعبر نهر النيل، ليربط بين حيي "روض الفرج" و"رملة بولاق" في مدينة القاهرة، وبين حي إمبابة في مدينة الجيزة. يقولون أيضًا، إنه الرابط الوحيد، في ذلك الوقت، بين محافظات الوجه البحري وبين محافظات الوجه القبلي (صعيد مصر)، عبر قضبان السكك الحديدية المارة في منتصفه. والكوبري له سقف معدني، فوقه دور ثان للمشاة، ومُحلّى بأنصاف دوائر كبيرة، يراها الناظر من بعيد على أهلّة مرصوصة.
لسبب ما، لم يُسمَ كوبري روض الفرج، ولا كوبري بولاق. كان، ولا يزال، اسمه "كوبري إمبابة". عندما جاءت مراهقتنا، كانت الحكومة شيدت جسرًا حديثًا موازيًا له، يؤدي نفس الغرض تقريبًا بإمكانيات أكبر عبر تفريعات تذهب بك، من إمبابة إلى أكثر من منطقة محيطة بروض الفرج، وأطلقت عليه اسم "كوبري ساحل روض الفرج"، إلا أن أبناء إمبابة لم يطلقوا عليه أبدًا سوى: "الكوبري الجديد".
المطابع الأميرية
عندما تعبر الكوبري القديم ذاهبًا إلى إمبابة، ستكون، خرجت إجباريًا إلى شارع واسع، جداره الحائط الخلفي للمبنى التاريخي الكبير "الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية". بينما يحتل هذا الجدار عددًا من ورش تصليح السيارات. كان عمي محسن موظفًا في الهيئة. وعبره تعلم عدد من أبناء أعمامي في مدرستها للطباعة.
لم يأت في ذهني أبدًا، أن "الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية المصرية"، بما لها من علاقة مع العائلة، وبما لمبناها الكبير من شيء في الوجدان حيث تربيت على مشارفه، هي نفسها ما آلت إليه "مطبعة بولاق" التاريخية الشهيرة. لا أعرف لماذا تصورت دائمًا، أن الثانية كانت مجرد مطبعة صغيرة أقيمت في حي بولاق، وردمها التاريخ، وأن شهرتها جاءت، فقط، من كونها كانت أول مطبعة مصرية حديثة، أو ربما بسبب انتشار أشهر مطبوعاتها الذي يحمل اسمها حتى الآن: "ألف ليلة وليلة ـ طبعة بولاق".
شُيدت المطبعة، وفق مادة مكتبة الإسكندرية، في أول الأمر، في جزء من مساحة الترسانة البحرية، في المنطقة الممتدة على شاطئ النهر. وأبناء إمبابة يعرفون، أيضًا، الترسانة البحرية. شيء من اثنين إذن. لم تقع المطبعة القديمة ذات يوم في حي بولاق الذي سُميت باسمه. أو أن المنطقة التي شيدت عليها في امتداد إمبابة، كانت قديمًا تابعة لحي بولاق.
بعد سنوات، من الذهاب والمجيء اليومي من أمام مبنى المطبعة، سنترك الحي، وستقل الزيارات إلى هناك. وفي تلك الزيارات القليلة، سيبدو المبنى الكبير للمطبعة الأميرية أحد العلامات الكبيرة، التي تستطيع أن تراها من عدة نواحي على كورنيش النيل، ومن فوق عدة جسور قريبة منه أو بعيدة، من تلك التي تعبر النهر. سيتساءل الناظر إلى المبنى، كيف لم يلفت نظره الكيان المعماري المهيب قبل أن يترك الحي. كما سيتساءل عن أي مبرر منطقي، حال دون المبنى وأشكال القبح والتلوث التي أصابت المنطقة الكبيرة المحيطة به.
المرويات التاريخية حول نشأة "مطبعة بولاق" عديدة، وفق مادة بحثية كبيرة، توفرها مكتبة الإسكندرية، عبر موقعها لـ"ذاكرة مصر المعاصرة"، وعبر كتاب كبير بعنوان "مطبعة بولاق"، أعده خالد عزب وأحمد منصور. ظهور الطباعة، بمعناها الحديث، يرجع إلى عهد الحملة الفرنسية "1798 ـ 1801". عندما زوّد نابليون بونابرت حملته بمطبعة طلب من معاونيه أن يدخلوا عليها الحروف العربية.
يقول جورجي زيدان، وفق الكتاب، إن محمد علي، في مشروعه لإعادة هيكلة الدولة بعد الفوضى التي خلفت حملة بونابرت، كان سمع عن مطبعة الحملة الفرنسية ورأى بعض آثارها، "فجدد تلك الآثار وأحياها في اسمها الجديد: مطبعة بولاق". بينما يقول آخرون، إن محمد علي وجد حاجة ماسّة إلى وجود مطبعة تخدم المدارس المتعددة التي أنشأها، ومن هنا ظهرت المطبعة الشهيرة.
في تصوري، إن الرأي الأقرب إلى تطور الأحداث بعد ذلك، هو ما قاله باحث يدعى "جيز"، ذكره الكتاب ولم يُعرّفه للأسف، ربما هو أحد المستشرقين. قال إن محمد علي كان متأثرًا بالتقدم في أوروبا، فرأى أن التقدم في مصر لن يأتي إلا عن طريق فن الطباعة، "الشعلة التي نشرت أضواء العلم والمعارف في أوروبا". يرى هذا الباحث، أن محمد علي كانت لديه رغبة في طباعة الكتب الشرقية القديمة التي عبث بها الزمن، وكاد يدمر ما بقى بينها من مخطوطات.
ونحن، إذا نظرنا إلى أشهر العناوين التي جاءت مختومة بختم المطبعة في ذلك الوقت، سنجد أنها، فعلًا، تنتمي لتوصيف هذا الرأي، "الكتب الشرقية القديمة"، وعلى رأسها طبعًا، "ألف ليلة وليلة ـ طبعة بولاق". غير أن الأمر الذي ربما سيسبب لك شديد الدهشة، أن الموسوعة التي قدمتها مكتبة الإسكندرية بعنوان "مطبعة بولاق"، وفي الباب الخاص بأشهر ما أصدرته، لم تأت بشيء عن كتاب الليالي.
من تلك الكتب: "كليلة ودمنة"، الطبعة العربية، بقلم عبد الله بن المقفع، 1836. "محاسن الآثار وحقائق الأخبار"، تاريخ الإمبراطورية العثمانية من 1189 إلى 1775، تأليف واصف أفندي. "تاريخ قدماء الفلاسفة"، ترجمه عن الفرنسية بيومي رفاعة أفندي. "صباغة الحرير"، ترجمه عن الفرنسية الراهب روفائيل. "تلخيص الأشكال"، تأليف حسين رفقي الطماني، "كتاب الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني. فضلا عن جريدة الوقائع المصرية، الجريدة الرسمية للدولة المصرية، والتي تفاجأت بأنها تصدر حتى اليوم، حيث تُنشر فيها القرارات الرسمية للدولة.
أيضًا، من أهم إصدارات المطبعة في تلك الأيام، كان "القرآن الكريم"، الذي ظل طبعه مُحرمًا، إلى وقت متأخر في فترة حكم محمد علي، بناء على مبررات تتعلق بتعارض مواد الطباعة مع الطهارة، وعدم جواز ضغط الآيات القرآنية بالآلات الحديدية، وخوفاً من احتمال وقوع أخطاء، تتسبب في تحريف الآيات، حتى قرر محمد علي إرسال مخطوط القرآن إلى مطبعة بولاق، وخُصص له جزء من المطبعة، وعرف هذا الجزء باسم "مطبعة المصحف الشريف".
لا تزال طباعة بعض المطبوعات، إذن، تصدر من المطبعة حتى الآن! مثل "الوقائع المصرية"، إضافة إلى التقاويم السنوية: "الأجندات والنتائج التي للأشهر والأيام والأسابيع، وتواريخ المناسبات والعطلات الرسمية، والتي تطبع منها كميات هائلة مع بداية كل عام".
الأزهر والمطبعة
يحكي الكتاب، أن محرري المطبعة ومصححيها كانوا من طلبة الأزهر، الذين دُربوا لذلك تدريبًا استغرق ست سنوات، وأن فريق التحرير هذا كان رئيسه الشيخ نصر الهوريني، الذي كان من علماء اللغة والأدب وقتها، والذي أرسله محمد علي إمامًا لإحدى البعثات المصرية إلى فرنسا، فأقام هناك فترة تعلم خلالها الفرنسية، وعندما عاد تولى رئاسة تصحيح مطبعة بولاق، فصحح الكثير من كتب العلم والتاريخ واللغة، منها "المطالع النصرية للمطابع المصرية"، و "في أصول الكتابة".
وربما هناك خيط ما، بين هذه الحكاية، التي تؤكد علاقة شيوخ الأزهر بالمطبعة، وبين الحكايات التي ذكرت أن جامع كتاب "ألف ليلة وليلة ـ طبعة بولاق"، ومحرره، هو الشيخ قطة العدوي. وهي الطبعة التي أحدثت جدلًا مدويًا منذ سنوات قليلة، عندما طبعتها سلسلة "الذخائر"، التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، برئاسة تحرير الروائي الراحل جمال الغيطاني. عندما تقدم محامون ببلاغ إلى النائب العام، يُتهم فيها القائمون على نشر الليالي مُصورة عن طبعة بولاق، بخدش الحياء العام.
الثابت، إذن، في عدد من الكتب والمراجع، أن الشيخ قطة العدوي، هو المحقق والمراجع لنص الليالي، الذي نعرفه بطبعة بولاق. المعروف أيضًا، أن هذا النص المُعتمد، خرج إلى العالم يحمل بعض الحكايات ذات النكهة المصرية.
هل هناك، حقًا مؤلف مصري مجهول لليالي المُدخلة على الطبعة القديمة؟ المستشرق الفرنسي جان كلود غارسين يؤكد هذا في كتابه "من أجل قراءة تاريخية لألف ليلة وليلة"،فهل هو قطة العدوي نفسه؟ أم "كاتب" مغمور كان يعمل في المطبعة أراد أن يجاري الحكايات البغدادية ويضيف اليها نكهة مصرية؟ أم أن المسألة حكايات أضافها عدد من الرواة في أوقات مختلفة؟
سنعود الى هذا في حلقة مقبلة، وكذا لمعرفة لماذا لم تُذكر الليالي ضمن أشهر إصدارات المطبعة في موسوعة مكتبة الإسكندرية.
ربما ببعض المشي، والنظر من فوق الكوبري القديم، يمكن أن نفهم، كيف استطاع مبنى المطبعة القابع باستقرار هناك، أن يظل منفردًا بواجهته أمام النهر، مسيطرًا على مؤثرات الزمن، بغض النظر عما يحدث في الشوارع الخلفية، التي يداريها بجسده الكبير.
* عن ضفة ثالثة
حكاية المطبعة
إن خديوي مصر الحالي محمد علي، فخر الدين والدولة وصاحب المنح العظيمة قد زادت مآثره الجليلة التي لا تعد بإنشاء دار الطباعة العامرة وظهرت للجميع بشكلها البهيج البديع وقد قال الشاعر سعيد إن دار الطباعة هي مصدر الفن الصحيح
عند مدخل الكوبري القديم، توقف سائق التاكسي رافضًا الدخول خوفًا من وحشة ممره المعدني في ذلك الوقت المتأخر من الليل. نعم، هو أقرب للممر منه إلى الكوبري. لذلك أقول: مدخل، وليس مَطلعا. هو جسر يعبر نهر النيل، ليربط بين حيي "روض الفرج" و"رملة بولاق" في مدينة القاهرة، وبين حي إمبابة في مدينة الجيزة. يقولون أيضًا، إنه الرابط الوحيد، في ذلك الوقت، بين محافظات الوجه البحري وبين محافظات الوجه القبلي (صعيد مصر)، عبر قضبان السكك الحديدية المارة في منتصفه. والكوبري له سقف معدني، فوقه دور ثان للمشاة، ومُحلّى بأنصاف دوائر كبيرة، يراها الناظر من بعيد على أهلّة مرصوصة.
لسبب ما، لم يُسمَ كوبري روض الفرج، ولا كوبري بولاق. كان، ولا يزال، اسمه "كوبري إمبابة". عندما جاءت مراهقتنا، كانت الحكومة شيدت جسرًا حديثًا موازيًا له، يؤدي نفس الغرض تقريبًا بإمكانيات أكبر عبر تفريعات تذهب بك، من إمبابة إلى أكثر من منطقة محيطة بروض الفرج، وأطلقت عليه اسم "كوبري ساحل روض الفرج"، إلا أن أبناء إمبابة لم يطلقوا عليه أبدًا سوى: "الكوبري الجديد".
المطابع الأميرية
عندما تعبر الكوبري القديم ذاهبًا إلى إمبابة، ستكون، خرجت إجباريًا إلى شارع واسع، جداره الحائط الخلفي للمبنى التاريخي الكبير "الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية". بينما يحتل هذا الجدار عددًا من ورش تصليح السيارات. كان عمي محسن موظفًا في الهيئة. وعبره تعلم عدد من أبناء أعمامي في مدرستها للطباعة.
لم يأت في ذهني أبدًا، أن "الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية المصرية"، بما لها من علاقة مع العائلة، وبما لمبناها الكبير من شيء في الوجدان حيث تربيت على مشارفه، هي نفسها ما آلت إليه "مطبعة بولاق" التاريخية الشهيرة. لا أعرف لماذا تصورت دائمًا، أن الثانية كانت مجرد مطبعة صغيرة أقيمت في حي بولاق، وردمها التاريخ، وأن شهرتها جاءت، فقط، من كونها كانت أول مطبعة مصرية حديثة، أو ربما بسبب انتشار أشهر مطبوعاتها الذي يحمل اسمها حتى الآن: "ألف ليلة وليلة ـ طبعة بولاق".
شُيدت المطبعة، وفق مادة مكتبة الإسكندرية، في أول الأمر، في جزء من مساحة الترسانة البحرية، في المنطقة الممتدة على شاطئ النهر. وأبناء إمبابة يعرفون، أيضًا، الترسانة البحرية. شيء من اثنين إذن. لم تقع المطبعة القديمة ذات يوم في حي بولاق الذي سُميت باسمه. أو أن المنطقة التي شيدت عليها في امتداد إمبابة، كانت قديمًا تابعة لحي بولاق.
بعد سنوات، من الذهاب والمجيء اليومي من أمام مبنى المطبعة، سنترك الحي، وستقل الزيارات إلى هناك. وفي تلك الزيارات القليلة، سيبدو المبنى الكبير للمطبعة الأميرية أحد العلامات الكبيرة، التي تستطيع أن تراها من عدة نواحي على كورنيش النيل، ومن فوق عدة جسور قريبة منه أو بعيدة، من تلك التي تعبر النهر. سيتساءل الناظر إلى المبنى، كيف لم يلفت نظره الكيان المعماري المهيب قبل أن يترك الحي. كما سيتساءل عن أي مبرر منطقي، حال دون المبنى وأشكال القبح والتلوث التي أصابت المنطقة الكبيرة المحيطة به.
المرويات التاريخية حول نشأة "مطبعة بولاق" عديدة، وفق مادة بحثية كبيرة، توفرها مكتبة الإسكندرية، عبر موقعها لـ"ذاكرة مصر المعاصرة"، وعبر كتاب كبير بعنوان "مطبعة بولاق"، أعده خالد عزب وأحمد منصور. ظهور الطباعة، بمعناها الحديث، يرجع إلى عهد الحملة الفرنسية "1798 ـ 1801". عندما زوّد نابليون بونابرت حملته بمطبعة طلب من معاونيه أن يدخلوا عليها الحروف العربية.
يقول جورجي زيدان، وفق الكتاب، إن محمد علي، في مشروعه لإعادة هيكلة الدولة بعد الفوضى التي خلفت حملة بونابرت، كان سمع عن مطبعة الحملة الفرنسية ورأى بعض آثارها، "فجدد تلك الآثار وأحياها في اسمها الجديد: مطبعة بولاق". بينما يقول آخرون، إن محمد علي وجد حاجة ماسّة إلى وجود مطبعة تخدم المدارس المتعددة التي أنشأها، ومن هنا ظهرت المطبعة الشهيرة.
في تصوري، إن الرأي الأقرب إلى تطور الأحداث بعد ذلك، هو ما قاله باحث يدعى "جيز"، ذكره الكتاب ولم يُعرّفه للأسف، ربما هو أحد المستشرقين. قال إن محمد علي كان متأثرًا بالتقدم في أوروبا، فرأى أن التقدم في مصر لن يأتي إلا عن طريق فن الطباعة، "الشعلة التي نشرت أضواء العلم والمعارف في أوروبا". يرى هذا الباحث، أن محمد علي كانت لديه رغبة في طباعة الكتب الشرقية القديمة التي عبث بها الزمن، وكاد يدمر ما بقى بينها من مخطوطات.
ونحن، إذا نظرنا إلى أشهر العناوين التي جاءت مختومة بختم المطبعة في ذلك الوقت، سنجد أنها، فعلًا، تنتمي لتوصيف هذا الرأي، "الكتب الشرقية القديمة"، وعلى رأسها طبعًا، "ألف ليلة وليلة ـ طبعة بولاق". غير أن الأمر الذي ربما سيسبب لك شديد الدهشة، أن الموسوعة التي قدمتها مكتبة الإسكندرية بعنوان "مطبعة بولاق"، وفي الباب الخاص بأشهر ما أصدرته، لم تأت بشيء عن كتاب الليالي.
من تلك الكتب: "كليلة ودمنة"، الطبعة العربية، بقلم عبد الله بن المقفع، 1836. "محاسن الآثار وحقائق الأخبار"، تاريخ الإمبراطورية العثمانية من 1189 إلى 1775، تأليف واصف أفندي. "تاريخ قدماء الفلاسفة"، ترجمه عن الفرنسية بيومي رفاعة أفندي. "صباغة الحرير"، ترجمه عن الفرنسية الراهب روفائيل. "تلخيص الأشكال"، تأليف حسين رفقي الطماني، "كتاب الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني. فضلا عن جريدة الوقائع المصرية، الجريدة الرسمية للدولة المصرية، والتي تفاجأت بأنها تصدر حتى اليوم، حيث تُنشر فيها القرارات الرسمية للدولة.
أيضًا، من أهم إصدارات المطبعة في تلك الأيام، كان "القرآن الكريم"، الذي ظل طبعه مُحرمًا، إلى وقت متأخر في فترة حكم محمد علي، بناء على مبررات تتعلق بتعارض مواد الطباعة مع الطهارة، وعدم جواز ضغط الآيات القرآنية بالآلات الحديدية، وخوفاً من احتمال وقوع أخطاء، تتسبب في تحريف الآيات، حتى قرر محمد علي إرسال مخطوط القرآن إلى مطبعة بولاق، وخُصص له جزء من المطبعة، وعرف هذا الجزء باسم "مطبعة المصحف الشريف".
لا تزال طباعة بعض المطبوعات، إذن، تصدر من المطبعة حتى الآن! مثل "الوقائع المصرية"، إضافة إلى التقاويم السنوية: "الأجندات والنتائج التي للأشهر والأيام والأسابيع، وتواريخ المناسبات والعطلات الرسمية، والتي تطبع منها كميات هائلة مع بداية كل عام".
الأزهر والمطبعة
يحكي الكتاب، أن محرري المطبعة ومصححيها كانوا من طلبة الأزهر، الذين دُربوا لذلك تدريبًا استغرق ست سنوات، وأن فريق التحرير هذا كان رئيسه الشيخ نصر الهوريني، الذي كان من علماء اللغة والأدب وقتها، والذي أرسله محمد علي إمامًا لإحدى البعثات المصرية إلى فرنسا، فأقام هناك فترة تعلم خلالها الفرنسية، وعندما عاد تولى رئاسة تصحيح مطبعة بولاق، فصحح الكثير من كتب العلم والتاريخ واللغة، منها "المطالع النصرية للمطابع المصرية"، و "في أصول الكتابة".
وربما هناك خيط ما، بين هذه الحكاية، التي تؤكد علاقة شيوخ الأزهر بالمطبعة، وبين الحكايات التي ذكرت أن جامع كتاب "ألف ليلة وليلة ـ طبعة بولاق"، ومحرره، هو الشيخ قطة العدوي. وهي الطبعة التي أحدثت جدلًا مدويًا منذ سنوات قليلة، عندما طبعتها سلسلة "الذخائر"، التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، برئاسة تحرير الروائي الراحل جمال الغيطاني. عندما تقدم محامون ببلاغ إلى النائب العام، يُتهم فيها القائمون على نشر الليالي مُصورة عن طبعة بولاق، بخدش الحياء العام.
الثابت، إذن، في عدد من الكتب والمراجع، أن الشيخ قطة العدوي، هو المحقق والمراجع لنص الليالي، الذي نعرفه بطبعة بولاق. المعروف أيضًا، أن هذا النص المُعتمد، خرج إلى العالم يحمل بعض الحكايات ذات النكهة المصرية.
هل هناك، حقًا مؤلف مصري مجهول لليالي المُدخلة على الطبعة القديمة؟ المستشرق الفرنسي جان كلود غارسين يؤكد هذا في كتابه "من أجل قراءة تاريخية لألف ليلة وليلة"،فهل هو قطة العدوي نفسه؟ أم "كاتب" مغمور كان يعمل في المطبعة أراد أن يجاري الحكايات البغدادية ويضيف اليها نكهة مصرية؟ أم أن المسألة حكايات أضافها عدد من الرواة في أوقات مختلفة؟
سنعود الى هذا في حلقة مقبلة، وكذا لمعرفة لماذا لم تُذكر الليالي ضمن أشهر إصدارات المطبعة في موسوعة مكتبة الإسكندرية.
ربما ببعض المشي، والنظر من فوق الكوبري القديم، يمكن أن نفهم، كيف استطاع مبنى المطبعة القابع باستقرار هناك، أن يظل منفردًا بواجهته أمام النهر، مسيطرًا على مؤثرات الزمن، بغض النظر عما يحدث في الشوارع الخلفية، التي يداريها بجسده الكبير.
* عن ضفة ثالثة