د
د.محمد عبدالحليم غنيم
فى عام 1943 عاد أبى من جبهة القتال ، بالنسبة لقريتنا الصغيرة كان ذلك حدثا عظيما . هرع إلى بيتنا كل من فى القرية . وعندما نظرنا إلى خوائنا الخاوى أومأ مدير المزرعة الجماعية إلى كاتب الحسابات ، فخرج يتبعه أمين المخزن .
بعد نصف ساعة فوجئنا بهما وهما يندفعان إلى الداخل ، كما لو كانا فى يوم عرس . يحمل الكاتب فوق كتفيه حملا صغيرا ، ويحمل الأمين برميل جعة . أنزل كل منهما حمله ، ثم وضعا على الخوان نصف كيلو عسل ونصف كيلو جزر ونصف كيلو سمن ، هذا بالإضافة إلى الخبز ، فى تلك اللحظة كان أبى يحكى لنا عن المعركة القريبة من بلدة مزدوك ، فتوقف وأخذ يفتش فى جيبه عن بعض التبغ ، ولم يستطع أن يلف سيجارته .
لم تمر سوى لحظة ، وإذا بصبى صغير يندفع إلى الحجرة قائلا وهو يلهث أن دنيالين موشيج عاد هو الآخر من جبهة القتال .
فرحنا جميعا وقمنا نجرى إلى مكان دنيالين موشيج ، تجمعنا حول خوان عار مثل خواننا الذي كان عاريا ، تطلع مدير المزرعة الجماعية إلى أمين المخزن ، لكن برجاء هذه المرة . أجاب أمين المخزن :
- لم يعد هناك شيء . الله يحنن ، لا شيء أقسم بأطفالى لا يوجد شيء ، أقسم بالصليب المقدس .
كان الأمين يقسم فى همس تقريبا حتى لا يسمعه أبى وموشيج خاصة ، بيد أن المدير قال فى هدوء ووضوح :
- أتظن أننى لا أعرف أنه لا يوجد شيء .. لكنك ترى الموقف .
عندئذ أومأ أبى إلى أمى ، خرجت ثم عادت بعد دقائق وهى تحمل نصف كيلو العسل والسمن والخبز ، ومع هذا لم يتطلع أحد إلى الخوان مطلقا . لقد كنا مشغولين بالاستماع إلى ما يقوله هذا الجندى العائد من الجبهة الآن .
فى المدرسة أخذ الأطفال الذين لا يزال آباؤهم يحاربون فى جبهة القتال قطع البطاطس اللذيذة ، كما كنت آخذ ، هذه المرة أخذت قطعة واحدة . فقد عاد أبى من الجبهة ولم يستمر طويلا فى الخدمة .
لم تكن أمى تستطيع القراءة والكتابة . وعندما كان أبى فى الجبهة ، كانت تملى خطابا تكتبه له جارتنا وكانت فتاة صغيرة ، فتقول لأبى أن يهتم بنفسه وأننا أحياء وبخير وتتمنى أن يكون هو مثلنا ، وأن الطقس جميل ، ولم تحدث أشياء مهمة . وأنه ـ أى أبى ـ يجب أن يكتب لنا كثيرا .
فى واقع الأمر لم تكن أمى راضية عن تلك الخطابات . لكن عندما أعملت فكرها ، لم يتعد الأمر أن تعلمت الأبجدية . كتيت جارتنا الصغيرة العنوان على المظروف ، بعد انتهاء أمى من إملائها أخبار أبى عن الطقس ، فتحت أمى المظروف دون علم الفتاة وأضافت إلى الرسالة المكتوبة :
- يا أعز حبيب ، أرسل إليك أحضانى المكنوبة .
الأحضان هى الأحضان . لكن ما هذه الأحضان المكتوبة ؟ ما كانت أمى تقصد عالما مختلفا تماما ، عالم من الجمال والكلمات المبهمة . تلك الكلمات التى تعبر عما يجيش فى قلب أمى وروحها . ومعنى ذلك أن أمى فقدت أبى ، فقدته بطريقتها الخاصة . ومعنى ذلك أيضا أن انتظارها الطويل لأبى لا تستطيع الكلمات العادية أن تعبر عنه . بيد أن عودة أبى أبطلت هذه الأحضان المكتوبة .
بعد سنوات عديدة عندما كانت الأم عاملة فى مزرعة خط الجبهة بدأت تتقدم من منصب إلى آخر ، خرجت وهى لم تستطع أن تقرأ أو تكتب . قالت لأبى بابتسامة بالكاد محسوسة :
- لماذا عدت من الجبهة هكذا سريعا ، كنت أود أن أتعلم أن أكتب لو غبت طويلا . وعندئذ سيجعلنا الكتاب أكثر غراما . ثم هزت رأسها وأضافت :
- تلك الأحضان المكتوبة تخصنى .
ترجمة / د. محمد عبد الحليم غنيم
المؤلف : جرانت ماتوفيسيان كاتب أرمنى مشهور ترجمت كتبه إلى معظم اللغات
بعد نصف ساعة فوجئنا بهما وهما يندفعان إلى الداخل ، كما لو كانا فى يوم عرس . يحمل الكاتب فوق كتفيه حملا صغيرا ، ويحمل الأمين برميل جعة . أنزل كل منهما حمله ، ثم وضعا على الخوان نصف كيلو عسل ونصف كيلو جزر ونصف كيلو سمن ، هذا بالإضافة إلى الخبز ، فى تلك اللحظة كان أبى يحكى لنا عن المعركة القريبة من بلدة مزدوك ، فتوقف وأخذ يفتش فى جيبه عن بعض التبغ ، ولم يستطع أن يلف سيجارته .
لم تمر سوى لحظة ، وإذا بصبى صغير يندفع إلى الحجرة قائلا وهو يلهث أن دنيالين موشيج عاد هو الآخر من جبهة القتال .
فرحنا جميعا وقمنا نجرى إلى مكان دنيالين موشيج ، تجمعنا حول خوان عار مثل خواننا الذي كان عاريا ، تطلع مدير المزرعة الجماعية إلى أمين المخزن ، لكن برجاء هذه المرة . أجاب أمين المخزن :
- لم يعد هناك شيء . الله يحنن ، لا شيء أقسم بأطفالى لا يوجد شيء ، أقسم بالصليب المقدس .
كان الأمين يقسم فى همس تقريبا حتى لا يسمعه أبى وموشيج خاصة ، بيد أن المدير قال فى هدوء ووضوح :
- أتظن أننى لا أعرف أنه لا يوجد شيء .. لكنك ترى الموقف .
عندئذ أومأ أبى إلى أمى ، خرجت ثم عادت بعد دقائق وهى تحمل نصف كيلو العسل والسمن والخبز ، ومع هذا لم يتطلع أحد إلى الخوان مطلقا . لقد كنا مشغولين بالاستماع إلى ما يقوله هذا الجندى العائد من الجبهة الآن .
فى المدرسة أخذ الأطفال الذين لا يزال آباؤهم يحاربون فى جبهة القتال قطع البطاطس اللذيذة ، كما كنت آخذ ، هذه المرة أخذت قطعة واحدة . فقد عاد أبى من الجبهة ولم يستمر طويلا فى الخدمة .
لم تكن أمى تستطيع القراءة والكتابة . وعندما كان أبى فى الجبهة ، كانت تملى خطابا تكتبه له جارتنا وكانت فتاة صغيرة ، فتقول لأبى أن يهتم بنفسه وأننا أحياء وبخير وتتمنى أن يكون هو مثلنا ، وأن الطقس جميل ، ولم تحدث أشياء مهمة . وأنه ـ أى أبى ـ يجب أن يكتب لنا كثيرا .
فى واقع الأمر لم تكن أمى راضية عن تلك الخطابات . لكن عندما أعملت فكرها ، لم يتعد الأمر أن تعلمت الأبجدية . كتيت جارتنا الصغيرة العنوان على المظروف ، بعد انتهاء أمى من إملائها أخبار أبى عن الطقس ، فتحت أمى المظروف دون علم الفتاة وأضافت إلى الرسالة المكتوبة :
- يا أعز حبيب ، أرسل إليك أحضانى المكنوبة .
الأحضان هى الأحضان . لكن ما هذه الأحضان المكتوبة ؟ ما كانت أمى تقصد عالما مختلفا تماما ، عالم من الجمال والكلمات المبهمة . تلك الكلمات التى تعبر عما يجيش فى قلب أمى وروحها . ومعنى ذلك أن أمى فقدت أبى ، فقدته بطريقتها الخاصة . ومعنى ذلك أيضا أن انتظارها الطويل لأبى لا تستطيع الكلمات العادية أن تعبر عنه . بيد أن عودة أبى أبطلت هذه الأحضان المكتوبة .
بعد سنوات عديدة عندما كانت الأم عاملة فى مزرعة خط الجبهة بدأت تتقدم من منصب إلى آخر ، خرجت وهى لم تستطع أن تقرأ أو تكتب . قالت لأبى بابتسامة بالكاد محسوسة :
- لماذا عدت من الجبهة هكذا سريعا ، كنت أود أن أتعلم أن أكتب لو غبت طويلا . وعندئذ سيجعلنا الكتاب أكثر غراما . ثم هزت رأسها وأضافت :
- تلك الأحضان المكتوبة تخصنى .
ترجمة / د. محمد عبد الحليم غنيم
المؤلف : جرانت ماتوفيسيان كاتب أرمنى مشهور ترجمت كتبه إلى معظم اللغات
التعديل الأخير بواسطة المشرف: