نقوس المهدي
كاتب
75 العدد
عثر أطفال ذات يوم في حفرة على شيء في حجم بيضة دجاجة يخترقه خط؛ وتوهم الجميع أن ذلك الشيء هو حبة قمح، فمر أحد الناس ورآها بين أيدي أطفال فاشتراها منهم بخمس كوبيات وحملها معه إلى المدينة وباعها إلى القيصر على اعتبار أنها شيء غريب.
فأكر القيصر بإحضار الحكماء وعرض عليهم ذلك الشيء طالبا منهم أن يتعرفوا على طبيعته، فقلبه الحكماء على وجوهه دون أن يستطيعوا استكناه حقيقته.
ولما عجزوا عن معرفة الكنه وضعوا ذلك الشيء على حافة نافذة وتركوه، وإذا بدجاجة تمر حذاء النافذة فتنقره وتخلف به ثقبا، فتأكد لدى الحكماء أن ذلك الشيء هو بذرة وساروا إلى القيصر وأخبروه بأن ذلك الشيء هو حبة سلت(*)، فبهت القيصر لذلك وطلب من الحكماء أن يبحثوا أين ومتى أمكن لحبة سلت من ذلك الحجم أن تنمو، وعاد الحكماء ليغرقوا في تأملاتهم ويستشيروا أهم كتبهم، وملا لم ينتهوا إلة نتيجة ساروا إلى القيصر وقالوا له :
- ليس في إمكاننا أن نطمئنك، إن كتبنا لم تهدنا إلى معرفة هذه الحالة، وعليك أن تسأل الفلاحين فربما كان بينه من سمع بالمكان والزمان الذي استطاعت هذه الحبة أن تنمو فيه.
فأرسل القيصر يطلب أكبر الفلاحين سنا فجيء بفلاح عجوز ذي وجه اخضر، وفم خال من الأسنان فدخل وهو يستند إلى عكازتين، فعرض عليه القيصر حبة السلت، لكن العجوز لم يكن يبصر بوضوح وكان عليهم أن يساعدوه ليتفحصها بعينيه ويديه فسأله القيصر :
- هل تقدر يا أبتاه على معرفة أين يمكن أن تكبر هذه البذرة، وهل اتفق لك أن زرعت منها في حقولك أو اشتريت مثلها من مكان ما ؟
كان الشيخ من الصمم حتى أنه كان يجد صعوبة كبرى في السماع، لكنه أجاب آخر الأمر :
- لا، لم أزرع قط مثلها ولا حصدت ولا اشترت سلتا من هذا النوع، فالقمح الذي كنت اشتريته أو أزرعه لم يكن بأكبر من قمح هذه الأيام، وعليك أن تسأل أبي إن مر بسمعه المكان الذي يمكن أن تنمو به هذه البذرة.
فأمر القيصر بإحضار أب العجوز فجيء به وكان فلاحا طاعنا في السن يمشي مستندا على عكازة واحدة؛ فعرض عليه القيصر حبة السلت قائلا :
- أتعرف أيها الشيخ أين يمكن أن تنمو بذرة من هذا النوع ؟ وهل زرعت مرة مثلها في حقولك أو اشتريتها ؟
كان سمع الشيخ ثقيلا إلا انه كان أحسن حالا من ابنه فأجاب :
- لا، لم أزرع مثل هذا السلت ولم احصده ولم أشتر قمحا من نوعه، لقد كانت النقود مجهولة في عصرنا، وكان كل واحد يأكل من قمح حقله، والذين يملكون حقولا أكثر يقتسمونها مع الذين لا يملكون، إني لا أعرف أين يمكن أن تزرع مثل هذه البذرة، ففي عصرنا وإن كان السلت أضخم حبا منه اليوم لكنه
أقل حجما من هذه البذرة. ولقد سمعت من أبي أن السلت في عهده كان أجود وكان يعطي بذورا أضخم، فاسأل أبي.
واستدعى القيصر أبا الشيخ فأتى وكان بلا عكازة، خفيف المشي، حاد العينين، قوي السمع، واضح الصوت، فقدم له القيصر البذرة، فأخذها وفحصها وقوم وزنها ثم قال :
- منذ سنين لم أر سلت العصور القديمة.
وبعد أن عض عليها ومضغها بين أسنانه تابع كلامه :
- إنها تماما تلك العصور.. فسأله القيصر :
- ستقول إذن أيها الأب أين ومتى زرع مثل هذا السلت ؟ وأنت ؟ أما كنت تشتريه وتزرعه في حقولك؟
فأجاب الفلاح المسن :
- في عصرنا لم نكن نعرف سلتا غير هذا. إنه نفس السلت الذي كنت آكله وأعطي للآخرين ليأكلوا منه. بل هو السلت نفسه الذي كنت أبذره وأحصده وأرسله إلى الطاحونة.
فسأله القيصر من جديد :
- وهل كنت تشتريه ؟ أم كنت تبذره بنفسك في حقولك ؟
فقهقه الشيخ ثم قال :
- في عصرنا، لم يكن أحد منا تراوده حتى مجرد فكرة في اقتراف مثل هذا الذنب، دنب أن يشتري الخبز أو يبيعه .? فالنقود لم تكن موجودة، وكل واحد عنده من الخبز ما يكفيه ليعيش.
فسأله القيصر :
- لي أيها الأب أين كنت تزرع حبا من هذا النوع ؟ وأين كان حقلك ؟ فأجاب الجد : ض
- كان حقلي هو أرض الله، فالتربة كانت حرة ولم يكن تسمي الأرض أرضه. العمل وحده الذي نسميه عملنا.
فمضى القيصر يسأل :
- والآن أيها الأب أريد معرفة شيئين آخرين : أولا : لماذا كانت هذه الحبة تنمو في عصركم ولا كذلك في عصرنا ؟ وثانيا : لماذا يحتاج حفيدك إلى عكازين ليمشي، وابنك إلى واجدة بينما أنت نشيط خفيف الحركة ؟ عيناك تبصران بوضوح، وأسنانك تعض وتمضغ، وكلامك صريح بشوش.. لماذا إذن أيها الأب ؟.
فأجاب الفلاح فورا :
- لأن أناس هذا العصر تخلوا عن طلب خبزهم من عمل أيديهم، وأصبحوا يؤثرون العيش من عمل الغير. أما نحن فلم نكن نعيش بهذا الشكل في عصرنا. لقد طنا نتبع شريعة الله ونعيش قانعين بالكفاف دون أن نحسد أحدا.
(*) السلت : نوع من القمح لكنه أعلى منه ينبت في الأماكن الباردة.
* مجلة دعوة الحق. ع: 75. يناير 1965
عثر أطفال ذات يوم في حفرة على شيء في حجم بيضة دجاجة يخترقه خط؛ وتوهم الجميع أن ذلك الشيء هو حبة قمح، فمر أحد الناس ورآها بين أيدي أطفال فاشتراها منهم بخمس كوبيات وحملها معه إلى المدينة وباعها إلى القيصر على اعتبار أنها شيء غريب.
فأكر القيصر بإحضار الحكماء وعرض عليهم ذلك الشيء طالبا منهم أن يتعرفوا على طبيعته، فقلبه الحكماء على وجوهه دون أن يستطيعوا استكناه حقيقته.
ولما عجزوا عن معرفة الكنه وضعوا ذلك الشيء على حافة نافذة وتركوه، وإذا بدجاجة تمر حذاء النافذة فتنقره وتخلف به ثقبا، فتأكد لدى الحكماء أن ذلك الشيء هو بذرة وساروا إلى القيصر وأخبروه بأن ذلك الشيء هو حبة سلت(*)، فبهت القيصر لذلك وطلب من الحكماء أن يبحثوا أين ومتى أمكن لحبة سلت من ذلك الحجم أن تنمو، وعاد الحكماء ليغرقوا في تأملاتهم ويستشيروا أهم كتبهم، وملا لم ينتهوا إلة نتيجة ساروا إلى القيصر وقالوا له :
- ليس في إمكاننا أن نطمئنك، إن كتبنا لم تهدنا إلى معرفة هذه الحالة، وعليك أن تسأل الفلاحين فربما كان بينه من سمع بالمكان والزمان الذي استطاعت هذه الحبة أن تنمو فيه.
فأرسل القيصر يطلب أكبر الفلاحين سنا فجيء بفلاح عجوز ذي وجه اخضر، وفم خال من الأسنان فدخل وهو يستند إلى عكازتين، فعرض عليه القيصر حبة السلت، لكن العجوز لم يكن يبصر بوضوح وكان عليهم أن يساعدوه ليتفحصها بعينيه ويديه فسأله القيصر :
- هل تقدر يا أبتاه على معرفة أين يمكن أن تكبر هذه البذرة، وهل اتفق لك أن زرعت منها في حقولك أو اشتريت مثلها من مكان ما ؟
كان الشيخ من الصمم حتى أنه كان يجد صعوبة كبرى في السماع، لكنه أجاب آخر الأمر :
- لا، لم أزرع قط مثلها ولا حصدت ولا اشترت سلتا من هذا النوع، فالقمح الذي كنت اشتريته أو أزرعه لم يكن بأكبر من قمح هذه الأيام، وعليك أن تسأل أبي إن مر بسمعه المكان الذي يمكن أن تنمو به هذه البذرة.
فأمر القيصر بإحضار أب العجوز فجيء به وكان فلاحا طاعنا في السن يمشي مستندا على عكازة واحدة؛ فعرض عليه القيصر حبة السلت قائلا :
- أتعرف أيها الشيخ أين يمكن أن تنمو بذرة من هذا النوع ؟ وهل زرعت مرة مثلها في حقولك أو اشتريتها ؟
كان سمع الشيخ ثقيلا إلا انه كان أحسن حالا من ابنه فأجاب :
- لا، لم أزرع مثل هذا السلت ولم احصده ولم أشتر قمحا من نوعه، لقد كانت النقود مجهولة في عصرنا، وكان كل واحد يأكل من قمح حقله، والذين يملكون حقولا أكثر يقتسمونها مع الذين لا يملكون، إني لا أعرف أين يمكن أن تزرع مثل هذه البذرة، ففي عصرنا وإن كان السلت أضخم حبا منه اليوم لكنه
أقل حجما من هذه البذرة. ولقد سمعت من أبي أن السلت في عهده كان أجود وكان يعطي بذورا أضخم، فاسأل أبي.
واستدعى القيصر أبا الشيخ فأتى وكان بلا عكازة، خفيف المشي، حاد العينين، قوي السمع، واضح الصوت، فقدم له القيصر البذرة، فأخذها وفحصها وقوم وزنها ثم قال :
- منذ سنين لم أر سلت العصور القديمة.
وبعد أن عض عليها ومضغها بين أسنانه تابع كلامه :
- إنها تماما تلك العصور.. فسأله القيصر :
- ستقول إذن أيها الأب أين ومتى زرع مثل هذا السلت ؟ وأنت ؟ أما كنت تشتريه وتزرعه في حقولك؟
فأجاب الفلاح المسن :
- في عصرنا لم نكن نعرف سلتا غير هذا. إنه نفس السلت الذي كنت آكله وأعطي للآخرين ليأكلوا منه. بل هو السلت نفسه الذي كنت أبذره وأحصده وأرسله إلى الطاحونة.
فسأله القيصر من جديد :
- وهل كنت تشتريه ؟ أم كنت تبذره بنفسك في حقولك ؟
فقهقه الشيخ ثم قال :
- في عصرنا، لم يكن أحد منا تراوده حتى مجرد فكرة في اقتراف مثل هذا الذنب، دنب أن يشتري الخبز أو يبيعه .? فالنقود لم تكن موجودة، وكل واحد عنده من الخبز ما يكفيه ليعيش.
فسأله القيصر :
- لي أيها الأب أين كنت تزرع حبا من هذا النوع ؟ وأين كان حقلك ؟ فأجاب الجد : ض
- كان حقلي هو أرض الله، فالتربة كانت حرة ولم يكن تسمي الأرض أرضه. العمل وحده الذي نسميه عملنا.
فمضى القيصر يسأل :
- والآن أيها الأب أريد معرفة شيئين آخرين : أولا : لماذا كانت هذه الحبة تنمو في عصركم ولا كذلك في عصرنا ؟ وثانيا : لماذا يحتاج حفيدك إلى عكازين ليمشي، وابنك إلى واجدة بينما أنت نشيط خفيف الحركة ؟ عيناك تبصران بوضوح، وأسنانك تعض وتمضغ، وكلامك صريح بشوش.. لماذا إذن أيها الأب ؟.
فأجاب الفلاح فورا :
- لأن أناس هذا العصر تخلوا عن طلب خبزهم من عمل أيديهم، وأصبحوا يؤثرون العيش من عمل الغير. أما نحن فلم نكن نعيش بهذا الشكل في عصرنا. لقد طنا نتبع شريعة الله ونعيش قانعين بالكفاف دون أن نحسد أحدا.
(*) السلت : نوع من القمح لكنه أعلى منه ينبت في الأماكن الباردة.
* مجلة دعوة الحق. ع: 75. يناير 1965