نقوس المهدي
كاتب
كلما خرجت إلى صيد الثعالب بواسطة الكلاب أقول لنفسي بأني إذا تمكنت من صيد واحد منها فلا بد أن أتأكد مما قاله زفوركن، عالم التاريخ الطبيعي والصياد الشهير، في كتابه المتميز "اصطياد الثعالب". وأنا أتحدث هنا عن تلك الغدة الصغيرة الموجودة تحت ذيل الثعلب عند المنبت والتي تنبعث منها، حسب زفوركن، رائحة تماثل الرائحة المنبعثة من البنفسج في يوم شديد البرودة. ولقد عبر زفوركن عن ذلك بالقول بأن عبق البنفسج بالنسبة له يتوج دائما متعة رياضة صيد الثعالب الراقية. لكن لم يسمع أحد عن أي صياد قال أنه قد شم تلك الراحة. فمعظمنا على ثقة من أن رائحة ذيل الثعلب تماثل رائحة ذيل الكلب، في حين يوافق آخرون زفوركن من باب الدماثة المحضة. ولو لم أكن أعرف شخصيا أن زفوركن مؤلف من النوع الذي لا يدلي بالمعلومات جزافا، لكنت اعتبرت تصريحه مثل حكاية الملك العاري(*). ولكن حيث أن زفوركن قد قال ذلك، فالأمر صحيح كما لو كنت أنا الذي قلته. أنا على ثقة من أن زفوركن قد شم رائحة البنفسج، وهذا في حد ذاته واقعة بيولوجية مثيرة. وأتساءل عما إذا كان سيقدر لي أن أشم نفس الرائحة أنا شخصيا.
المشكلة أن صيد الثعالب بواسطة الكلاب لا يكون موفقا دائما. ذلك أن الثعلب إما أن يلجأ إلى أحد الجحور أو يقود الكلاب وراءه بعيدا بحيث يتعذر اصطياده قبل حلول الظلام. ولطالما اعتبرت نفسي محظوظا إذا ما تمكنت من اصطياد ثعلب في اليوم الثالث من الخروج إلى الصيد، إذ غالبا ما يتم ذلك في اليوم الرابع أو حتى الخامس. وكلما قررت تشمم البنفسج أخفق في الاصطياد، وعندما أوفق، بعد جهد جهيد، أدخل في حالة من البهجة العارمة تنسيني كل شيء عن البنفسج. في النهاية جاء يوم شديد البرودة تمكنت فيه من الاصطياد والتذكر.
كان صباحا باردا، وكان الهلال يبدو كشظية كما كانت النجوم كلها غائبة عندما خرج ثلاثة منا إلى الغابة صحبة كلبين. كان مرافقاي المستشار القانوني بالناحية وعازف بيانو وكانا صيادين ماهرين كليهما. كان مع عازف البيانو كلبه الذي أحرز على جائزة مؤخرا وكان معي أنا كلبي العجوز الذي لا يجارى. كلب واحد أفضل، بالطبع، من إثنين ليسا معتادين على العمل في فريق، ولكن لم يكن أي واحد منا مستعدا لترك كلبه في البيت. وأنا أشير إلى هذا هنا لفائدة الصيادين المستجدين. إذ أنه من الأفضل أن يكون معك كلب واحد وبرفقتك ليس أكثر من شخص. توجد العديد من الثعالب قرب بلدتنا الصغيرة، لكننا نعرفها كلها، وأصبحت هي، من ناحيتها، شديدة الخوف بسبب استفزازاتنا وبالغة الحنكة إلى درجة أصبح معها من المستحيل النيل منها.
سرنا مع الطريق الرئيسي عشرة فراسخ بحثا عن ثعالب نجت من عمليات الصيد. كان هناك سوق منعقد بالبلدة، سوق للخيول فيما يبدو، وعندما تقدمنا شاهدنا سيلا لا ينقطع من الفلاحين قادما على نفس الطريق. كنا، لحسن الحظ، محجوبين بالظلام وإلا لسخر الفلاحون منا سخريتهم التي يخصون بها دائما الصيادين.
عندما خرجنا من الظلام والتقيناهم لم يكونوا منتبهين. انعكاس ضوء القمر على ماسورتي بندقيتينا جعل خيولهم تجفل مما دفعهم إلى إطلاق وابل من اللعنات. في بعض الحالات النادرة يستمر حصان رصين في السير بهدوء ويفتح السائق، الذي كان غافيا فوق المزلجة، عينيه مضطربا، في البداية، لخوفه من أن نكون قطاع طرق ثم، بعد أن يتبين من نحن، يقول في مداعبة ثقيلة:
- أوه، صيادون! .
دام ذلك فترة طويلة، ولما حل الضوء أخذ الجميع يحيوننا متهكمين:
- يا لسوء حظ الأرانب! .
وكنت أنا هدفا مفضلا:
- لا تضيع وقتك، يا أبي.
أثار ذلك عصبيتي فسألت عازف البيانو:
- كم يوجد فلاح هنا؟ .
أجاب برقم دقيق:
- مليون.
بلغنا النقطة التي كنا متوجهين إليها عندما أصبح الضوء كافيا لتبين آثار الثعالب فوق الثلج الذي لم يمض على سقوطه زمن طويل، أطلقنا الكلاب من فورنا، فتتبع كلبي أول أثر صادفه، وتتبع كلب عازف البيانو أثرا آخر مقتادا صاحبه بعيدا عنا طوال بقية النهار. ذهبنا أنا والمستشار خلف كلبي صاعدين تبة، أشرفنا على أكداس رمل صغيرة مغطاة بالثلج تسببت فيها الثعالب عندما كانت تحفر جحورها بين جذوع الأشجار، وسرعان ما اكتشفناها. كان هناك خليط من الآثار وبينما كان كلبي يتأملها، قمنا نحن بدراسة كافة إمكانيات الهرب المتاحة أمام الثعلب وأفضل السبل لاعتراضه.
كان ثمة جدول متسع يطوق المرتفع الذي توجد به جحور الثعالب لم يتجمد بعد وكان يمتد كوشاح أسود بين الضفتين المشعتين ببياض مبهر. على الجانب الآخر من التبة تمتد غابة لا نهائية تنحل في ضباب متراكم. تقطع الجدول شجرة ساقطة مشكلة جسرا مغلفا بالثلج ينطبع عليه أثر أرجل ثعلب ماضيا باتجاه الغابة. تختفي نهاية الشجرة في دغل كثيف على الناحية الأخرى، وكان عصفوران ينقران نبات الأرقطيون هناك وبمجرد أن نالا كفايتهما من الحب نزل هذان العصفوران الجميلان ليحطا على الثلج الطري باديي التميز عن كافة ما حولهما وأينما توجه المرء بنظره فإنه لابد أن يعود إليهما بابتهاج شديد. لابد وأنه يوجد معبر آخر في مكان قريب لأننا سمعنا صوت كلبي من الناحية الأخرى. وبمجرد أن وجد خط الأثر جأر ثم اندفع نابحا بأعلى ما يمكنه مما يدل على أن الأثر جديد. نزل المستشار واتخذ وضعا مناسبا في مواجهة الشجرة الساقطة والعصفورين. أسرعت أنا إلى الجهة المقابلة بحثا عن المنفذ الآخر. سرعان ما صار النباح خارج مدى أسماعنا، وبينما كنت أواصل البحث قفزت الطريدة نحو المستشار. اندفعت نحو قمة التبة لأنظر، على الأقل، إلى الطريدة من زاوية أوسع وأرى إلى أين ستذهب إذا ما أخفق المستشار في النيل منها. قفز الثعلب نحو مساحة مكشوفة، توقف لبرهة، أجال البصر فيما حوله ثم واصل سيره السلس المهيب باتجاه الشجرة الساقطة حيث مازال العصفوران منهمكين في نقر بذور الأرقطيون. حجبت الأدغال الثعلب عن نظر المستشار لكن موقعه كان ملائما جدا واتخذ وضعية تأهب بناء على نباح الكلب. ظللت أراقب الوضع متسائلا أي الأمرين سيحدث أولا: الطيران المفاجيء للعصفورين انزعاجا من الثعلب، أم إطلاق النار من قبل رفيقي المتأهب. ولكن عندما حانت اللحظة نسيت كل شيء عن العصفورين. دوت البندقية بمجرد أن أظهر الثعلب خطمه من خلال الدغل فأصابت الرصاصة رأسه. ورغم الإصابة القاتلة ظل الثعلب يرتفع وينزل في الهواء في نفس الموضع تقريبا.
أخذت قفزات الثعلب تتضاءل، ولما همد ذهبنا لنتبين مدى ضخامته.
ما من داع للشفقة على هذا الحيوان. فجميعنا، أيها القراء الشفوقون، آيلون إلى نفس المصير عاجلا أم آجلا. أنا شخصيا مستعد لذلك، وما يقلقني هو أن الناس قد ينظرون إلي قائلين في خيبة أمل:
- كم هو ضئيل الحجم.
لم أر، حقيقة، ثعلبا مثل هذا من قبل. كان ثعلبا ذكرا ضخما بني اللون، عجوزا وبأسنان فاسدة.
لم نكن محظوظين في الأرانب يومها. إذ ظل الثلج يتساقط حتى الصباح مما قلل من احتمالات العثور على الآثار، لذا لم نتمكن من العثور على أي أثر لها. انقضى النهار الشتائي القصير دون أن نشعر وسرعان ما فاجأنا الظلام وتناهى إلينا صوت بوق عازف البيانو، فرددنا عليه والتقينا مجددا. لم يصد لا ثعلبا ولا أرنبا، لكنه سر بإنجازنا. فلقد كان صيادا حقيقيا.
عدنا مسرورين مع نفس الطريق. ولقد شاء سوء الحظ أن يتزامن ذلك مع عودة الفلاحين من السوق منتشين بكأس أو كأسين، وبمجرد أن رأونا : ثلاثة صيادين عائدين بثعلب واحد فقط حيونا بطريقتهم المعتادة:
- واحد فحسب؟ .
لم نرد. لكن عدم انقطاع موكبهم ذهب بصبرنا
- كم يبلغ تعدادهم؟ .
سألت.
- مليوناً.
أجاب عازف البيانو مرة أخرى.
سئمنا الوضع، فابتعدنا عن الطريق الرئيسي سالكين ممرا موازيا له عبر الغابة. جعلنا ذلك نشعر بفرح شديد فجلسنا على إحدى الأشجار الساقطة لنرتاح قليلا. وضع المستشار الثعلب من على كتفيه وعندها تذكرت فجأة أنني كنت أرغب دائما في أن أتوج متعة رياضة صيد الثعالب الراقية بنفحة من رائحة البنفسج. ضحك مرافقاي عندما أخبرتهما بذلك. عندها استشهدت بزفوركن الذي هو مرجع لدى كافة الصيادين. فأخبرتهما عن الغدة العطرية وتلوت عليهما الفقرة المعنية من الذاكرة. اقتنع عازف البيانو وصار بمثل اهتمامي. أما المستشار فقد تأملني بنظرة مهنية فاحصة، محاولا التأكد مما إذا كنت جادا أو فقط أدبر مزحة.
- دعني أقوم أنا بذلك.
تطوع عازف البيانو.
رفع ذيل الثعلب وتشمم في امتعاض.
- توجد نفس الرائحة التي من المتوقع أن توجد في مثل هذا الموضع.
قال.
طافت ابتسامة متشككة على شفتي المستشار. أحببت أن أعاقب هذا المستشار المتشكك كما رغبت في أن نكون متساوين فيما ينالنا من زفوركن. رفعت ذيل الثعلب وتعمدت أن أطيل مدة استنشاقي. قلت بأسى:
- أنت مخطيء يا عزيزي. لابد أن ذلك التبغ الرديء قد أتلف حاسة الشم لديك. لا أريد القول بأني شممت رائحة البنفسج فعلا، ولكنها على أية حال رائحة زكية.
انطلت الحيلة، وقام المستشار بالتشمم هو الآخر. قال ضاحكا:
- كلا. لن تقنعني. إنها رائحة كريهة. الملك عار.
كان صف كثيف من الأشجار يفصلنا عن الطريق الرئيسي والسيل الذي لا ينقطع من المزالج. ضحكنا: ألن يكون الأمر طريفا إذا ما شاهدنا كل أولئك الفلاحين ونحن نتشمم تحت ذيل الثعلب. ما الذي ستوحي به إليهم، عندها، روح الدعابة المنتشية لديهم؟ .
عندما جلسنا ثلاثتنا نتناول الشاي في بيتي ذلك المساء تذكرت زفوركن في امتعاض. فتناولت كتابه لأوضح لصديقي أنه يعد حدثا علميا مشهودا له. وعندما قرأت عليهما ما يتعلق بمسألة الغدة العطرية تبين أنها توجد فوق، و ليس تحت، منبت ذيل الثعلب. تلك الوسادة التي تتضوع برائحة البنفسج في الأيام البالغة البرودة توجد فوق الذيل، وبالتحديد، في الموضع الذي يريح عليه الثعلب خطمه عندما يلتف لينام.
أثناء ما كنا نتناقش حول ذلك، بدأت تنبعث من الثعلب الذي كنا قد أحضرناه معنا إلى الحجرة رائحة شديدة الحدة كرائحة الكلب حتى أن رائحة سجائرنا، ناهيك عن البنفسج، لم تخفف منها.
فكرنا في ملايين الفلاحين الذين نلتقيهم على الطريق الرئيسي وكل منهم يصيح:
- إيه، أيها الصيادون! . لقد تشممتم في الموقع الخاطيء! .
(*) ميخائيل بريشفن Mikhail Prishvin ( 1873- 1954) أديب روسي، اختصاصي في الزراعة وهاو للصيد في الغابات عن طريق الكلاب. للطبيعة حضور طاغ في أدبه.
(**) إشارة إلى قصة بعنوان: " ثياب الإمبراطور " للكاتب الهولندي هانز كرستيان آندرسنHans Christian Anderson (1805- 1875) . التي يوهم فيها نصابان ملكاً بأنهما قادران على أن يصنعا له ثيابا من قماش غريب نادر لا يرى. وعندما يخرج الملك في موكب مهيب (مرتديا) ثيابه الوهمية يصمت كل من حوله عن إعلان الحقيقة. إلا أن طفلا كان يعتلي إحدى الأشجار يصيح ساخرا: الملك عار.
المشكلة أن صيد الثعالب بواسطة الكلاب لا يكون موفقا دائما. ذلك أن الثعلب إما أن يلجأ إلى أحد الجحور أو يقود الكلاب وراءه بعيدا بحيث يتعذر اصطياده قبل حلول الظلام. ولطالما اعتبرت نفسي محظوظا إذا ما تمكنت من اصطياد ثعلب في اليوم الثالث من الخروج إلى الصيد، إذ غالبا ما يتم ذلك في اليوم الرابع أو حتى الخامس. وكلما قررت تشمم البنفسج أخفق في الاصطياد، وعندما أوفق، بعد جهد جهيد، أدخل في حالة من البهجة العارمة تنسيني كل شيء عن البنفسج. في النهاية جاء يوم شديد البرودة تمكنت فيه من الاصطياد والتذكر.
كان صباحا باردا، وكان الهلال يبدو كشظية كما كانت النجوم كلها غائبة عندما خرج ثلاثة منا إلى الغابة صحبة كلبين. كان مرافقاي المستشار القانوني بالناحية وعازف بيانو وكانا صيادين ماهرين كليهما. كان مع عازف البيانو كلبه الذي أحرز على جائزة مؤخرا وكان معي أنا كلبي العجوز الذي لا يجارى. كلب واحد أفضل، بالطبع، من إثنين ليسا معتادين على العمل في فريق، ولكن لم يكن أي واحد منا مستعدا لترك كلبه في البيت. وأنا أشير إلى هذا هنا لفائدة الصيادين المستجدين. إذ أنه من الأفضل أن يكون معك كلب واحد وبرفقتك ليس أكثر من شخص. توجد العديد من الثعالب قرب بلدتنا الصغيرة، لكننا نعرفها كلها، وأصبحت هي، من ناحيتها، شديدة الخوف بسبب استفزازاتنا وبالغة الحنكة إلى درجة أصبح معها من المستحيل النيل منها.
سرنا مع الطريق الرئيسي عشرة فراسخ بحثا عن ثعالب نجت من عمليات الصيد. كان هناك سوق منعقد بالبلدة، سوق للخيول فيما يبدو، وعندما تقدمنا شاهدنا سيلا لا ينقطع من الفلاحين قادما على نفس الطريق. كنا، لحسن الحظ، محجوبين بالظلام وإلا لسخر الفلاحون منا سخريتهم التي يخصون بها دائما الصيادين.
عندما خرجنا من الظلام والتقيناهم لم يكونوا منتبهين. انعكاس ضوء القمر على ماسورتي بندقيتينا جعل خيولهم تجفل مما دفعهم إلى إطلاق وابل من اللعنات. في بعض الحالات النادرة يستمر حصان رصين في السير بهدوء ويفتح السائق، الذي كان غافيا فوق المزلجة، عينيه مضطربا، في البداية، لخوفه من أن نكون قطاع طرق ثم، بعد أن يتبين من نحن، يقول في مداعبة ثقيلة:
- أوه، صيادون! .
دام ذلك فترة طويلة، ولما حل الضوء أخذ الجميع يحيوننا متهكمين:
- يا لسوء حظ الأرانب! .
وكنت أنا هدفا مفضلا:
- لا تضيع وقتك، يا أبي.
أثار ذلك عصبيتي فسألت عازف البيانو:
- كم يوجد فلاح هنا؟ .
أجاب برقم دقيق:
- مليون.
بلغنا النقطة التي كنا متوجهين إليها عندما أصبح الضوء كافيا لتبين آثار الثعالب فوق الثلج الذي لم يمض على سقوطه زمن طويل، أطلقنا الكلاب من فورنا، فتتبع كلبي أول أثر صادفه، وتتبع كلب عازف البيانو أثرا آخر مقتادا صاحبه بعيدا عنا طوال بقية النهار. ذهبنا أنا والمستشار خلف كلبي صاعدين تبة، أشرفنا على أكداس رمل صغيرة مغطاة بالثلج تسببت فيها الثعالب عندما كانت تحفر جحورها بين جذوع الأشجار، وسرعان ما اكتشفناها. كان هناك خليط من الآثار وبينما كان كلبي يتأملها، قمنا نحن بدراسة كافة إمكانيات الهرب المتاحة أمام الثعلب وأفضل السبل لاعتراضه.
كان ثمة جدول متسع يطوق المرتفع الذي توجد به جحور الثعالب لم يتجمد بعد وكان يمتد كوشاح أسود بين الضفتين المشعتين ببياض مبهر. على الجانب الآخر من التبة تمتد غابة لا نهائية تنحل في ضباب متراكم. تقطع الجدول شجرة ساقطة مشكلة جسرا مغلفا بالثلج ينطبع عليه أثر أرجل ثعلب ماضيا باتجاه الغابة. تختفي نهاية الشجرة في دغل كثيف على الناحية الأخرى، وكان عصفوران ينقران نبات الأرقطيون هناك وبمجرد أن نالا كفايتهما من الحب نزل هذان العصفوران الجميلان ليحطا على الثلج الطري باديي التميز عن كافة ما حولهما وأينما توجه المرء بنظره فإنه لابد أن يعود إليهما بابتهاج شديد. لابد وأنه يوجد معبر آخر في مكان قريب لأننا سمعنا صوت كلبي من الناحية الأخرى. وبمجرد أن وجد خط الأثر جأر ثم اندفع نابحا بأعلى ما يمكنه مما يدل على أن الأثر جديد. نزل المستشار واتخذ وضعا مناسبا في مواجهة الشجرة الساقطة والعصفورين. أسرعت أنا إلى الجهة المقابلة بحثا عن المنفذ الآخر. سرعان ما صار النباح خارج مدى أسماعنا، وبينما كنت أواصل البحث قفزت الطريدة نحو المستشار. اندفعت نحو قمة التبة لأنظر، على الأقل، إلى الطريدة من زاوية أوسع وأرى إلى أين ستذهب إذا ما أخفق المستشار في النيل منها. قفز الثعلب نحو مساحة مكشوفة، توقف لبرهة، أجال البصر فيما حوله ثم واصل سيره السلس المهيب باتجاه الشجرة الساقطة حيث مازال العصفوران منهمكين في نقر بذور الأرقطيون. حجبت الأدغال الثعلب عن نظر المستشار لكن موقعه كان ملائما جدا واتخذ وضعية تأهب بناء على نباح الكلب. ظللت أراقب الوضع متسائلا أي الأمرين سيحدث أولا: الطيران المفاجيء للعصفورين انزعاجا من الثعلب، أم إطلاق النار من قبل رفيقي المتأهب. ولكن عندما حانت اللحظة نسيت كل شيء عن العصفورين. دوت البندقية بمجرد أن أظهر الثعلب خطمه من خلال الدغل فأصابت الرصاصة رأسه. ورغم الإصابة القاتلة ظل الثعلب يرتفع وينزل في الهواء في نفس الموضع تقريبا.
أخذت قفزات الثعلب تتضاءل، ولما همد ذهبنا لنتبين مدى ضخامته.
ما من داع للشفقة على هذا الحيوان. فجميعنا، أيها القراء الشفوقون، آيلون إلى نفس المصير عاجلا أم آجلا. أنا شخصيا مستعد لذلك، وما يقلقني هو أن الناس قد ينظرون إلي قائلين في خيبة أمل:
- كم هو ضئيل الحجم.
لم أر، حقيقة، ثعلبا مثل هذا من قبل. كان ثعلبا ذكرا ضخما بني اللون، عجوزا وبأسنان فاسدة.
لم نكن محظوظين في الأرانب يومها. إذ ظل الثلج يتساقط حتى الصباح مما قلل من احتمالات العثور على الآثار، لذا لم نتمكن من العثور على أي أثر لها. انقضى النهار الشتائي القصير دون أن نشعر وسرعان ما فاجأنا الظلام وتناهى إلينا صوت بوق عازف البيانو، فرددنا عليه والتقينا مجددا. لم يصد لا ثعلبا ولا أرنبا، لكنه سر بإنجازنا. فلقد كان صيادا حقيقيا.
عدنا مسرورين مع نفس الطريق. ولقد شاء سوء الحظ أن يتزامن ذلك مع عودة الفلاحين من السوق منتشين بكأس أو كأسين، وبمجرد أن رأونا : ثلاثة صيادين عائدين بثعلب واحد فقط حيونا بطريقتهم المعتادة:
- واحد فحسب؟ .
لم نرد. لكن عدم انقطاع موكبهم ذهب بصبرنا
- كم يبلغ تعدادهم؟ .
سألت.
- مليوناً.
أجاب عازف البيانو مرة أخرى.
سئمنا الوضع، فابتعدنا عن الطريق الرئيسي سالكين ممرا موازيا له عبر الغابة. جعلنا ذلك نشعر بفرح شديد فجلسنا على إحدى الأشجار الساقطة لنرتاح قليلا. وضع المستشار الثعلب من على كتفيه وعندها تذكرت فجأة أنني كنت أرغب دائما في أن أتوج متعة رياضة صيد الثعالب الراقية بنفحة من رائحة البنفسج. ضحك مرافقاي عندما أخبرتهما بذلك. عندها استشهدت بزفوركن الذي هو مرجع لدى كافة الصيادين. فأخبرتهما عن الغدة العطرية وتلوت عليهما الفقرة المعنية من الذاكرة. اقتنع عازف البيانو وصار بمثل اهتمامي. أما المستشار فقد تأملني بنظرة مهنية فاحصة، محاولا التأكد مما إذا كنت جادا أو فقط أدبر مزحة.
- دعني أقوم أنا بذلك.
تطوع عازف البيانو.
رفع ذيل الثعلب وتشمم في امتعاض.
- توجد نفس الرائحة التي من المتوقع أن توجد في مثل هذا الموضع.
قال.
طافت ابتسامة متشككة على شفتي المستشار. أحببت أن أعاقب هذا المستشار المتشكك كما رغبت في أن نكون متساوين فيما ينالنا من زفوركن. رفعت ذيل الثعلب وتعمدت أن أطيل مدة استنشاقي. قلت بأسى:
- أنت مخطيء يا عزيزي. لابد أن ذلك التبغ الرديء قد أتلف حاسة الشم لديك. لا أريد القول بأني شممت رائحة البنفسج فعلا، ولكنها على أية حال رائحة زكية.
انطلت الحيلة، وقام المستشار بالتشمم هو الآخر. قال ضاحكا:
- كلا. لن تقنعني. إنها رائحة كريهة. الملك عار.
كان صف كثيف من الأشجار يفصلنا عن الطريق الرئيسي والسيل الذي لا ينقطع من المزالج. ضحكنا: ألن يكون الأمر طريفا إذا ما شاهدنا كل أولئك الفلاحين ونحن نتشمم تحت ذيل الثعلب. ما الذي ستوحي به إليهم، عندها، روح الدعابة المنتشية لديهم؟ .
عندما جلسنا ثلاثتنا نتناول الشاي في بيتي ذلك المساء تذكرت زفوركن في امتعاض. فتناولت كتابه لأوضح لصديقي أنه يعد حدثا علميا مشهودا له. وعندما قرأت عليهما ما يتعلق بمسألة الغدة العطرية تبين أنها توجد فوق، و ليس تحت، منبت ذيل الثعلب. تلك الوسادة التي تتضوع برائحة البنفسج في الأيام البالغة البرودة توجد فوق الذيل، وبالتحديد، في الموضع الذي يريح عليه الثعلب خطمه عندما يلتف لينام.
أثناء ما كنا نتناقش حول ذلك، بدأت تنبعث من الثعلب الذي كنا قد أحضرناه معنا إلى الحجرة رائحة شديدة الحدة كرائحة الكلب حتى أن رائحة سجائرنا، ناهيك عن البنفسج، لم تخفف منها.
فكرنا في ملايين الفلاحين الذين نلتقيهم على الطريق الرئيسي وكل منهم يصيح:
- إيه، أيها الصيادون! . لقد تشممتم في الموقع الخاطيء! .
(*) ميخائيل بريشفن Mikhail Prishvin ( 1873- 1954) أديب روسي، اختصاصي في الزراعة وهاو للصيد في الغابات عن طريق الكلاب. للطبيعة حضور طاغ في أدبه.
(**) إشارة إلى قصة بعنوان: " ثياب الإمبراطور " للكاتب الهولندي هانز كرستيان آندرسنHans Christian Anderson (1805- 1875) . التي يوهم فيها نصابان ملكاً بأنهما قادران على أن يصنعا له ثيابا من قماش غريب نادر لا يرى. وعندما يخرج الملك في موكب مهيب (مرتديا) ثيابه الوهمية يصمت كل من حوله عن إعلان الحقيقة. إلا أن طفلا كان يعتلي إحدى الأشجار يصيح ساخرا: الملك عار.
التعديل الأخير: