نقوس المهدي
كاتب
ترجمة: الدكتور لحسن الكيري**
كان ماكرا أو غبيا كفاية بحيث اندس بيننا خِفية. و عندما انتبه إليه إيدواردو كان عليه أن يقبله إذْ كان هناك قانون مضمر مفاده أنه كان يجب أن تستمر الأمور أو تتطور هكذا مثلما هي عليه أو مثلما كانت تسير و إلا فإنه في المقابل لو طلب الإذن لكنا قد رفضناه من دون شك.
كان ذا أسنان قليلة، رشيقا، ملتحيا، متسخا جدا، بوجه بني أدكن، تعرُّق دُهني و شعر متشابك و طويل. رائحته كانت تشبه خليطا من رائحة الفم الكريهة و العرق و البول. كان يحمل كيسا باليا و كبيرا جدا و يلبس سراويل متسخة و ممزقة. ما كان يثير الانتباه فيه أكثر، خاصة في البداية، هو وضعية ذراعيه المفتوحين دائما و الجامدين. فيما بعد سيتبين أن يديه كانتا مسمرتين على خشب. و بتفحصه بعمق اكتشفنا أن هذا الخشب جزء من صليب (مغطى بالكيس) يمتد من الكليتين إلى القفا. كانت جروح اليدين ملتئمة، و بها خليط من الدم الجاف و رؤوس مسامير يعلوها الصدأ.
بإعادة بناء القصة، أتخيل أن أحدهم، و أتصور من، سيُناوله شيئا ليأكله لأن وضعية الذراعين كانت تمنعه من أن يعبُر عبر الفتحة المشرفة على غرفة الطعام. و عليه فمنطقيا كان دائما غائبا عن مائدتنا. أميل إلى التفكير في أنه في الواقع لم يكن يأكل.
في ذلك الحين كنا مشتتين و غير متواصلين و لم تكن تمارس أيّة مراقبة على تصرفات أحد، فقط أن إيدواردو كان يخرج بعض الحسابات بين الفينة و الأخرى. كنا نتحدث لماما و لم يصل المصلوب إلى أن يكون موضوعا. أشك في أننا كنا جميعا نفكر فيه و لكن لسبب ما لم نكن نناقش ذلك. كان ضون بيدرو، الأكثر غيابا و الدائم الشرود أو المنشغل باللعب بكرياته المعدنية، هو الوحيد الذي اقترب منه في البداية كي ينبهه بصوت مائل إلى الإرشاد بأن سحَّاب سرواله مفتوحٌ. رد المصلوب بما يشبه الابتسامة قائلا له بأن يحكيها إلى العاهرة أمه التي خلفته لينقطع الحوار نهائيا بينهما.
كان يبقى على الهامش بوضعية فزاعة الطيور هذه، و في غير ما مرة فكرت بمكر في أن أقترح عليه أن يؤدي هذه الوظيفة في الحقول (و هو الأمر العابر الذي لم ننتبه إليه كفاية؛ فقط البدينة من كانت تتكفل بعملية السقي، لكن في ذلك المستوى لم يعد هذا الأمر مهما).
في المساء كان يدخل إلى المستودع بطريقة جانبية بالضرورة عبر الباب الضيق و كان يكلفه كثيرا أن يتمدد كي ينام. أخيرا، قررتُ أن أساعده في تلبية هذه الحاجة و هو الأمر الذي لم يشكرني عليه بطريقة صريحة و أنا لا أتخيل كيف ينهض كل صباح لأنني كنت أستمر في النوم إلى وقت متأخر. كان الجميع يعلم أنه في فاتح شتنبر قد تقفل إيميليا الخمسَ عشْرة سنة من عمرها و كان مقبولا بلا نقاش بأنها ستُفتض بكارتُها من طرف إيدواردو مثلهن جميعا. بعد ذلك كان هذا الأخير يهملهن لتمر تلك الشابات، أو لا تفعلن، إلى تكوين زِيجة مستقرة نسبيا مع أيٍّ كان من الباقي.
كانت إيميليا أكثرَ مَنْ تُتمنى و الأكثر نضجا: السنون الأربع عشرة و الشهور التسعة من عمرها كانت تجننا. فتاة مِغناج من دون تكبر، كانت لا مبالاتُها تنسحب علينا جميعا بما في ذلك إيدواردو.
كان شعرها أسود و لامعا، طويلا و مستقيما. أما وجهها فكان بيضاويا لا عيب فيه و بعينين نجلاوين و خضراوين و عطرها طبيعي مدوِّخ على وجه خاص.
في الواحد و العشرين من يوليوز، فجرا، أيقظتني الضجة الجهنمية و غير الاعتيادية في المستودع. عندما نهضت رأيت أنهم في المرحلة الأخيرة من صنع أشياء كبيرة من الخشب. وجدوا إيميليا معتليةً المصلوبَ و هما عاريان معا. الآن كانوا قد ربطوهما منفردين بأسلاك هوائيات التلفاز. كانت البدينة بصدد التكفل بالأسطوانات الموسيقية بينما السيدة إلويسا، على كسلها، نهضت و كلها متعة كي تعد الشاي و الفطائر، في حين أن إيدواردو كان يدير العمليات، عجيج من الناس في نشاط محموم. بمجرد إنهاء الاستعدادات، أطلقت البدينة النشيد الفرنسي و فكوا وثاقهما ثم حملوا إيميليا على الصليبين لأنه ظهر أن المصلوب لم يكن بإمكانه أن يحمل صليبه الجديد. في منتصف الطريق عبر التل بدأ يلوح الصباح. كان موكبا حاشدا و صامتا أما أنا فكنت أمشي في مؤخَّره و لم يكن بإمكاني أن أرى جيدا ما كان يجري. انضم بعض العابرين بالصدفة إلى الموكب بينما آخرون تابعوه من بعيد. لم أكن متفقا مع ما كان يُصنع و لكن ليس من المنصف أن أقول ذلك الآن، في تلك اللحظة لذت بالصمت.
اشتغلوا كالسود من أجل أن يثبتوا الصليبين في الأرض و على وجه الخصوص صليب إيميليا الذي كان على شكل حرف X. قيدوا ساعديها و كاحليها بسلك نحاسي بينما اكتفوا بتسمير صليب المصلوب القديم المنكسر على الحديث.
جعلوهما في وضع تقابلي، على مقربة من بعضهما البعض، تقريبا كان يفصلهما متر و نصف إلى مترين. كانت إيميليا بدم جامد في ساقيها و كدمات في سائر جسدها. في حين كان جسد المصلوب عبارة عن خليط لا يطاق من الآثار القديمة و الجديدة و الندوب و الكدمات.
اقتعد الباقون العشب. كانوا يأكلون و يستمعون إلى مذياع الترانسيستور. كان ضون بيدرو يلعب بكرياته بينما بحثت أنا عن ظل شجرة قريبة ناظرا إلى الحشد بأسف كبير و ندم كذلك.
أخذني النوم و عندما استيقظت وجدتني في غمرة المساء و المشهد لا زال كما كان عليه. اقتربت فتبينت أنهما كانا ينظران إلى بعضهما البعض، المصلوب و إيميليا، كمخدَّرين و عينا هذا في عيني تلك. كانت إيميليا جميلة أكثر من أي وقت مضى و لكنها لم تثر في أية رغبة. كان الآخرون يحسون بأنهم غير مرتاحين. بين الفينة و الأخرى و بدون قصد كانوا ينطقون ببعض الإهانات إزاءهما أو يرمونهما بحجرات أو قاذورة ما لكنهما بديا و كأنهما لم ينتبها إلى هذا الأمر.
بعد ذلك حشا أحدهم بعصا إسفنجةً منقوعةً في الخل في فم المصلوب. بصق هذا الأخير قائلا بصوت واضح و شبابي لا يمكن أن أزيله من ذاكرتي:
- كان الأمر خطأً في المرة الأولى، لقد أربكوني، أما الآن فأنا في وضع جيد.
و لم يمنعهما أحد من أن ينظرا إلى بعضهما البعض بحيث بدا و كأنهما يمارسان الحب بنظرتهما فيتملك أحدهما الآخر. و لم يكن ليتحمس أحد كي يقول أو يفعل أي شيء، إذ أرادوا أن ينصرفوا و لكن لم يستطيعوا، بحيث كنا نحس بالسوء.
بنزول الظلام، كانت إيميليا قد بلغت منتهى الجمال الممكن و هي تبتسم. بدا المصلوب أكثر بدانة كما لو أنه غلُظ بينما بدأ الدم يتقاطر من جروحه القديمة نتيجة المسامير المغروزة في اليدين و من الندوب التي لم ننتبه إليها على مستوى الرجلين. كذلك كانت تسيل خيوط حمراء من تحت الشعر و تجري على الجبهة و الخدين. أظلمت السماء فجأة. عاود المصلوب الكلام:
- وا أبتاه - قال - لماذا هجرتني.
و ضحك بعد ذلك.
بقي المشهد ثابتا، متوقفا في الزمن. لم يقم أي أحد بأدنى حركة. زمجر الرعد، و رخا المصلوب رأسه ميتا.
بدوا جميعا ميتين، كلهم لم يبرحوا وضعياتهم حيث كانوا، و الباعثة على الضحك غالبيتها. كان ضون بيدرو في وضعية حيث يضع أصبعه في علبة الكريات. اقتربتُ من صليب إيميليا و فككت وثاق رجليها و يديها بجهد جهيد كي لا تسقط فوقي فيصيبها الأذى. كانت لا زالت تبدو كالمخدَّرة، الابتسامة مرسومة على شفتيها و التي يبدو أنه زاد منها جمالُها الجديد فأصبحت كالهالة.
رغما عني كان علي أن أتلمسها قليلا كي أخرجها من هناك، فكرت في أنني قد أتهيج لكن لم يكن الأمر ممكنا، لقد بدا و كأنني بدون جهاز جنسي. و بالرغم من كسلي المعروف فقد حملتها بين ذراعي كما أي مخلوق آخر و جلبتها إلى المنزل. كان الطريق طويلا و شاقا إذ كدت أستسلم آلاف المرات من شدة التعب غير أنه لم يكن علي أن أتوقف. تشنج ذراعاي، شعرت بألم على مستوى الحزام و كنت أتصبب عرقا كالحصان. في المستودع وضعتها على سرير إيدواردو الذي كان الأفضل حالا و بعد ذلك ارتميت على الأرض في مكاني المعتاد.
في اليوم الموالي أيقظتني إيميليا بكأس شاي. تناولته و أنا لا زلت في الفراش فإذا بي أنتبه إلى أنها لا زالت عارية و مبتسمة.
- الآن ماذا سنفعل؟ - سألتها عندما صحوت جيدا. كنت أفكر في جثة المصلوب، في كل الناس المحنطين هناك في التل. هزت كتفيها و أجابتني بصوت في منتهى العذوبة:
- لا شيء يهم.
توقفت قليلا ثم أضافت:
- أنتظر ابنا، سيرى النور خلال ثلاثة أيام.
انتبهت، فعلا، إلى أن بطنها كان قد انتفخ بشكل ملحوظ. ساورني الخوف قليلا.
- هل أبحث عن طبيب؟ - فأجابتني بصوت المصلوب الواضح، المنخفض و الشاب.
- لم يعد لك شيء تفعله هنا. جُلْ عبر العالم و احك ما رأيته.
و قبلتني في فمي.
ذهبت إلى الخزانة و أخرجت القفازات البيضاء و السترة و لبستهما.
- وداعا - قلت بينما إيميليا شيعتني إلى الباب مبتسمةً. كان اليوم ربيعيا و باردا، مضيئا و جميلا. على بعد خطوات استدرت فرأيت إيميليا لا زالت عند الباب.
لم تودعني بيدها، لكن بعد ذلك، في الطريق، اكتشفت أنها كانت تلاعب أصابع يدي اليمني بساق وردة، وردة حمراء.
كان ماكرا أو غبيا كفاية بحيث اندس بيننا خِفية. و عندما انتبه إليه إيدواردو كان عليه أن يقبله إذْ كان هناك قانون مضمر مفاده أنه كان يجب أن تستمر الأمور أو تتطور هكذا مثلما هي عليه أو مثلما كانت تسير و إلا فإنه في المقابل لو طلب الإذن لكنا قد رفضناه من دون شك.
كان ذا أسنان قليلة، رشيقا، ملتحيا، متسخا جدا، بوجه بني أدكن، تعرُّق دُهني و شعر متشابك و طويل. رائحته كانت تشبه خليطا من رائحة الفم الكريهة و العرق و البول. كان يحمل كيسا باليا و كبيرا جدا و يلبس سراويل متسخة و ممزقة. ما كان يثير الانتباه فيه أكثر، خاصة في البداية، هو وضعية ذراعيه المفتوحين دائما و الجامدين. فيما بعد سيتبين أن يديه كانتا مسمرتين على خشب. و بتفحصه بعمق اكتشفنا أن هذا الخشب جزء من صليب (مغطى بالكيس) يمتد من الكليتين إلى القفا. كانت جروح اليدين ملتئمة، و بها خليط من الدم الجاف و رؤوس مسامير يعلوها الصدأ.
بإعادة بناء القصة، أتخيل أن أحدهم، و أتصور من، سيُناوله شيئا ليأكله لأن وضعية الذراعين كانت تمنعه من أن يعبُر عبر الفتحة المشرفة على غرفة الطعام. و عليه فمنطقيا كان دائما غائبا عن مائدتنا. أميل إلى التفكير في أنه في الواقع لم يكن يأكل.
في ذلك الحين كنا مشتتين و غير متواصلين و لم تكن تمارس أيّة مراقبة على تصرفات أحد، فقط أن إيدواردو كان يخرج بعض الحسابات بين الفينة و الأخرى. كنا نتحدث لماما و لم يصل المصلوب إلى أن يكون موضوعا. أشك في أننا كنا جميعا نفكر فيه و لكن لسبب ما لم نكن نناقش ذلك. كان ضون بيدرو، الأكثر غيابا و الدائم الشرود أو المنشغل باللعب بكرياته المعدنية، هو الوحيد الذي اقترب منه في البداية كي ينبهه بصوت مائل إلى الإرشاد بأن سحَّاب سرواله مفتوحٌ. رد المصلوب بما يشبه الابتسامة قائلا له بأن يحكيها إلى العاهرة أمه التي خلفته لينقطع الحوار نهائيا بينهما.
كان يبقى على الهامش بوضعية فزاعة الطيور هذه، و في غير ما مرة فكرت بمكر في أن أقترح عليه أن يؤدي هذه الوظيفة في الحقول (و هو الأمر العابر الذي لم ننتبه إليه كفاية؛ فقط البدينة من كانت تتكفل بعملية السقي، لكن في ذلك المستوى لم يعد هذا الأمر مهما).
في المساء كان يدخل إلى المستودع بطريقة جانبية بالضرورة عبر الباب الضيق و كان يكلفه كثيرا أن يتمدد كي ينام. أخيرا، قررتُ أن أساعده في تلبية هذه الحاجة و هو الأمر الذي لم يشكرني عليه بطريقة صريحة و أنا لا أتخيل كيف ينهض كل صباح لأنني كنت أستمر في النوم إلى وقت متأخر. كان الجميع يعلم أنه في فاتح شتنبر قد تقفل إيميليا الخمسَ عشْرة سنة من عمرها و كان مقبولا بلا نقاش بأنها ستُفتض بكارتُها من طرف إيدواردو مثلهن جميعا. بعد ذلك كان هذا الأخير يهملهن لتمر تلك الشابات، أو لا تفعلن، إلى تكوين زِيجة مستقرة نسبيا مع أيٍّ كان من الباقي.
كانت إيميليا أكثرَ مَنْ تُتمنى و الأكثر نضجا: السنون الأربع عشرة و الشهور التسعة من عمرها كانت تجننا. فتاة مِغناج من دون تكبر، كانت لا مبالاتُها تنسحب علينا جميعا بما في ذلك إيدواردو.
كان شعرها أسود و لامعا، طويلا و مستقيما. أما وجهها فكان بيضاويا لا عيب فيه و بعينين نجلاوين و خضراوين و عطرها طبيعي مدوِّخ على وجه خاص.
في الواحد و العشرين من يوليوز، فجرا، أيقظتني الضجة الجهنمية و غير الاعتيادية في المستودع. عندما نهضت رأيت أنهم في المرحلة الأخيرة من صنع أشياء كبيرة من الخشب. وجدوا إيميليا معتليةً المصلوبَ و هما عاريان معا. الآن كانوا قد ربطوهما منفردين بأسلاك هوائيات التلفاز. كانت البدينة بصدد التكفل بالأسطوانات الموسيقية بينما السيدة إلويسا، على كسلها، نهضت و كلها متعة كي تعد الشاي و الفطائر، في حين أن إيدواردو كان يدير العمليات، عجيج من الناس في نشاط محموم. بمجرد إنهاء الاستعدادات، أطلقت البدينة النشيد الفرنسي و فكوا وثاقهما ثم حملوا إيميليا على الصليبين لأنه ظهر أن المصلوب لم يكن بإمكانه أن يحمل صليبه الجديد. في منتصف الطريق عبر التل بدأ يلوح الصباح. كان موكبا حاشدا و صامتا أما أنا فكنت أمشي في مؤخَّره و لم يكن بإمكاني أن أرى جيدا ما كان يجري. انضم بعض العابرين بالصدفة إلى الموكب بينما آخرون تابعوه من بعيد. لم أكن متفقا مع ما كان يُصنع و لكن ليس من المنصف أن أقول ذلك الآن، في تلك اللحظة لذت بالصمت.
اشتغلوا كالسود من أجل أن يثبتوا الصليبين في الأرض و على وجه الخصوص صليب إيميليا الذي كان على شكل حرف X. قيدوا ساعديها و كاحليها بسلك نحاسي بينما اكتفوا بتسمير صليب المصلوب القديم المنكسر على الحديث.
جعلوهما في وضع تقابلي، على مقربة من بعضهما البعض، تقريبا كان يفصلهما متر و نصف إلى مترين. كانت إيميليا بدم جامد في ساقيها و كدمات في سائر جسدها. في حين كان جسد المصلوب عبارة عن خليط لا يطاق من الآثار القديمة و الجديدة و الندوب و الكدمات.
اقتعد الباقون العشب. كانوا يأكلون و يستمعون إلى مذياع الترانسيستور. كان ضون بيدرو يلعب بكرياته بينما بحثت أنا عن ظل شجرة قريبة ناظرا إلى الحشد بأسف كبير و ندم كذلك.
أخذني النوم و عندما استيقظت وجدتني في غمرة المساء و المشهد لا زال كما كان عليه. اقتربت فتبينت أنهما كانا ينظران إلى بعضهما البعض، المصلوب و إيميليا، كمخدَّرين و عينا هذا في عيني تلك. كانت إيميليا جميلة أكثر من أي وقت مضى و لكنها لم تثر في أية رغبة. كان الآخرون يحسون بأنهم غير مرتاحين. بين الفينة و الأخرى و بدون قصد كانوا ينطقون ببعض الإهانات إزاءهما أو يرمونهما بحجرات أو قاذورة ما لكنهما بديا و كأنهما لم ينتبها إلى هذا الأمر.
بعد ذلك حشا أحدهم بعصا إسفنجةً منقوعةً في الخل في فم المصلوب. بصق هذا الأخير قائلا بصوت واضح و شبابي لا يمكن أن أزيله من ذاكرتي:
- كان الأمر خطأً في المرة الأولى، لقد أربكوني، أما الآن فأنا في وضع جيد.
و لم يمنعهما أحد من أن ينظرا إلى بعضهما البعض بحيث بدا و كأنهما يمارسان الحب بنظرتهما فيتملك أحدهما الآخر. و لم يكن ليتحمس أحد كي يقول أو يفعل أي شيء، إذ أرادوا أن ينصرفوا و لكن لم يستطيعوا، بحيث كنا نحس بالسوء.
بنزول الظلام، كانت إيميليا قد بلغت منتهى الجمال الممكن و هي تبتسم. بدا المصلوب أكثر بدانة كما لو أنه غلُظ بينما بدأ الدم يتقاطر من جروحه القديمة نتيجة المسامير المغروزة في اليدين و من الندوب التي لم ننتبه إليها على مستوى الرجلين. كذلك كانت تسيل خيوط حمراء من تحت الشعر و تجري على الجبهة و الخدين. أظلمت السماء فجأة. عاود المصلوب الكلام:
- وا أبتاه - قال - لماذا هجرتني.
و ضحك بعد ذلك.
بقي المشهد ثابتا، متوقفا في الزمن. لم يقم أي أحد بأدنى حركة. زمجر الرعد، و رخا المصلوب رأسه ميتا.
بدوا جميعا ميتين، كلهم لم يبرحوا وضعياتهم حيث كانوا، و الباعثة على الضحك غالبيتها. كان ضون بيدرو في وضعية حيث يضع أصبعه في علبة الكريات. اقتربتُ من صليب إيميليا و فككت وثاق رجليها و يديها بجهد جهيد كي لا تسقط فوقي فيصيبها الأذى. كانت لا زالت تبدو كالمخدَّرة، الابتسامة مرسومة على شفتيها و التي يبدو أنه زاد منها جمالُها الجديد فأصبحت كالهالة.
رغما عني كان علي أن أتلمسها قليلا كي أخرجها من هناك، فكرت في أنني قد أتهيج لكن لم يكن الأمر ممكنا، لقد بدا و كأنني بدون جهاز جنسي. و بالرغم من كسلي المعروف فقد حملتها بين ذراعي كما أي مخلوق آخر و جلبتها إلى المنزل. كان الطريق طويلا و شاقا إذ كدت أستسلم آلاف المرات من شدة التعب غير أنه لم يكن علي أن أتوقف. تشنج ذراعاي، شعرت بألم على مستوى الحزام و كنت أتصبب عرقا كالحصان. في المستودع وضعتها على سرير إيدواردو الذي كان الأفضل حالا و بعد ذلك ارتميت على الأرض في مكاني المعتاد.
في اليوم الموالي أيقظتني إيميليا بكأس شاي. تناولته و أنا لا زلت في الفراش فإذا بي أنتبه إلى أنها لا زالت عارية و مبتسمة.
- الآن ماذا سنفعل؟ - سألتها عندما صحوت جيدا. كنت أفكر في جثة المصلوب، في كل الناس المحنطين هناك في التل. هزت كتفيها و أجابتني بصوت في منتهى العذوبة:
- لا شيء يهم.
توقفت قليلا ثم أضافت:
- أنتظر ابنا، سيرى النور خلال ثلاثة أيام.
انتبهت، فعلا، إلى أن بطنها كان قد انتفخ بشكل ملحوظ. ساورني الخوف قليلا.
- هل أبحث عن طبيب؟ - فأجابتني بصوت المصلوب الواضح، المنخفض و الشاب.
- لم يعد لك شيء تفعله هنا. جُلْ عبر العالم و احك ما رأيته.
و قبلتني في فمي.
ذهبت إلى الخزانة و أخرجت القفازات البيضاء و السترة و لبستهما.
- وداعا - قلت بينما إيميليا شيعتني إلى الباب مبتسمةً. كان اليوم ربيعيا و باردا، مضيئا و جميلا. على بعد خطوات استدرت فرأيت إيميليا لا زالت عند الباب.
لم تودعني بيدها، لكن بعد ذلك، في الطريق، اكتشفت أنها كانت تلاعب أصابع يدي اليمني بساق وردة، وردة حمراء.