نقوس المهدي
كاتب
عندما عادت إِيمَّا زُونْزْ من مصنع الأنسجة تَارْبُوشْ و لُوِينْتَالْ في الرابع عشر من يناير سنة 1922، وجدت رسالةً في عمق الردهة مؤرخةً في البرازيل و التي علمت من خلالها أن أباها قد توفي. من الوهلة الأولى انخدعت بالطابع البريدي و الظرف و بعدها حيَّرها الخط المجهول. تسعة عشر سطرا مخربشا كانت كافية لملء الورقة. قرأت زونز بأن السيد مايِّير قد ابتلع جرعة مركزة من حامض البيرونال خطأً فتوفي في الثالث من الشهر الجاري بمستشفى بَاجِي. كان صديق أبيها في النزل من قد أمضى على الخبر، واحدٌ يسمى فاينو فاين، ينحدر من رِيُّو غراندي و الذي لم يكن بإمكانه أن يعلم أنه كان يتوجه إلى ابنة المرحوم.
أوقعت إيما الورقة من بين يديها. أحست في البداية بألم في البطن و الركبتين و بعدها بالذنب الأعمى، باللاواقعية، بالبرودة، بالخوف ثم أرادت أن يحل اليوم الموالي على وجه السرعة. على الفور تبينت أن هذه الرغبة كانت عديمة الفائدة لأن موت أبيها كان الشيء الوحيد الذي جرى في العالم و الذي قد يحدث دائما إلى ما لا نهاية. تناولت الورقة و ذهبت إلى غرفتها. وضعتها خلسة في جارور كما لو أنها كانت تعرف بطريقة من الطرق مخلفات هذا الأمر. لقد بدأت في تبينها. ربما كان فعلا ما يمكن أن يحدث.
في الظلمة النامية بكت إيما حتى آخر يوم انتحار مانويل مايير و الذي كان يدعى إيمانويل زونز في أيام السعادة الخوالي. تذكرت الاصطيافات في إحدى المزرعات نواحي غواليغواي، تذكرت (حاولت أن تتذكر) أمها، تذكرت بيت اللانوس الصغير الذي صادروه منهم، تذكرت الأشكال المعينة الصفراء في النافذة، تذكرت أمر الاعتقال الاحتياطي، الإهانة، تذكرت...، تذكرت (و لكن لن تنسى هذا أبدا) أن أباها أقسم لها في الليلة الأخيرة أن السارق كان هو لوينتال. لوينتال، آرون لوينتال و الذي كان سابقا مدير أعمال المصنع بينما الآن هو واحد من مالكيه. كانت إيما تحتفظ بالسر منذ سنة 1916. لم تبح به لأحد قطُّ، و لا حتى إلى صديقتها الحميمة إيلسا أُورستين. لعلها كانت تتحاشى السذاجة المقيتة أو ربما كانت تعتقد أن السر رابط بينها و بين الغائب. لم يكن يعرف لوينتال أنها كانت تعرف. كانت إيما زونز تحوز على شعور بالقوة من هذا الحدث البسيط.
لم يغتمض لها جفن في تلك الليلة. و عندما كشف أول نور إطار النافذة كانت خطتها قد جهزت. حاولت أن تجعل من ذاك اليوم، الذي بدا لها أنه لا ينتهي، يوما كباقي الأيام. كانت تروج في المصنع إشاعات بخصوص خوض إضراب. عبرت إيما كما العادة عن مناهضتها لأي شكل من أشكال العنف. عند الانتهاء من العمل على الساعة السادسة، ذهبت رفقة إيلسا إلى أحد النوادي النسائية متخصص في الجمباز و السباحة. تسجلتا و كان عليها أن تكرر و تتهجى اسمها الشخصي و العائلي و أن تشارك في الدعابات الفظة المعلقة على الاختبار الطبي للولوج إلى هناك. رفقة إيلسا و القاصرة ابن آل كرونفوس تحدثن عن أي سينما سيذهبن إليها عشية الأحد. بعدها دار الحديث و لم يتوقع أحد من إيما أن تتحدث. ستتم التاسع عشرة من عمرها خلال شهر أبريل تقريبا لكن الرجال كانوا لا يزالون يحسون اتجاهها تقريبا بنوع من الخوف المرضي...بعودتها أعدت حساء تابيوكا و بعض الخضر. تناولت ذلك باكرا و توجهت إلى الفراش فأجبرت نفسها على النوم. هكذا مرت عشية يوم الجمعة خامس عشر يناير في جو من الكد و الدعابة.
أيقظتها قلة الصبر يوم السبت. قلة الصبر ليس غياب الطمأنينة و الراحة الفريدة الناتجة عن حلول ذلك اليوم، في النهاية. لم يعد واجبا عليها أن تحيك و تتخيل الخطة؛ قد تبلغ اختزال الوقائع في غضون ساعات. قرأت في الصحف بأن باخرة نردستجورنان دي مالمو قد تبحر هذه الليلة من الرصيف 3، نادت بالهاتف على لوينتال، لمحت إليه بأنها تريد أن تبلغه شيئا دون أن تعلم الأخريات، شيء بخصوص الإضراب و وعدت بالمرور عليه في المكتب عندما يحل الظلام. كان صوتها يرتعد، هذا الارتعاد كان حقيقا بواشية. لم يحدث أي شيء آخر يستحق الذكر في تلك الصبيحة. اشتغلت إيما رفقة إيلسا إلى حدود الساعة الثانية عشرة و دققت مع إيلسا و بيرى كرونفوس تفاصيل تجوال يوم الأحد. خلدت للنوم بعد أن تناولت غذاءها و أعادت في ذاكرتها و عيناها مغمضتان الخطة التي دبرتها. فكرت في أن المرحلة الأخيرة ستكون أقل فظاعة من المرحلة الأولى، لكنها ستوفر لها لا محالة نشوة الفوز و العدالة. فجأة استيقظت قلقة و جرت نحو جارور المنضدة. فتحته، و تحت بورتريه ملتون سيلس حيث وضعتها ليلة أمس، كانت توجد رسالة فاين. لم يتمكن أحد من رؤيتها، شرعت في قراءتها ثم مزقتها. صعب بل و غير منصف أمر ربط ما حصل في تلك العشية بالواقع. اللاواقعية مرادف مطابق لجهنم، مرادف يبدو أنه كان ليخفف من مخاوفها و ربما ليقويها. كيف نجعل فعلا ما واقعيا في حين أن منفذه لم يكن يعتقد فيه تقريبا، ما السبيل إلى تذكر هذه الفوضى القصيرة التي تجحدها و تخلطها ذاكرة إيما زونز اليوم؟ كانت إيما تعيش في الماغرو، في شارع لِينْيِيرْسْ؛ يتبين لنا أنها ربما ذهبت إلى الميناء في تلك العشية. ربما أنها رأت نفسها معكوسة في مرايا منتزه يوليوز السيء السمعة، و منتشرة بفعل الأضواء و عارية بسبب الأعين الجائعة التي ترصدها. لكن الأقرب إلى الصواب أنها تاهت في البداية غير مبالية وسط السوق الشارد...دخلت إلى حانتي خمر أو ثلاث، رأت الروتين أو استغلال نساء أخريات. في النهاية صادفت بعض رجال نردستجورنان. خافت من أن يستأثر بحنانها شاب من بينهم فآثرت آخر ربما أقصر منها و فظ لكي لا تفتر حدة الروع. جلبها الرجل إلى أحد الأبواب و بعد ذلك إلى رواق معتكر فدرج متعرج ثم إلى ردهة (حيث كانت توجد نافذة بأشكال معينية تشبه تلك التي كانت توجد في المنزل بلانوس) و بعدها إلى ممر ضيق و أخيرا إلى باب أُغلِق من خلفهما. الأحداث الخطيرة تقع خارج الزمن إما لأن فيها يبدو الماضي القريب منفصلا عن المستقبل و إما لأن الأجزاء التي تشكلها تبدو غير منطقية.
في ذلك الزمن خارج الزمن، في تلك الفوضى الحائرة من الأحاسيس غير المترابطة و الفظيعة، هل فكرت إيما زونز لمرة واحدة في الميت الذي كان يقف خلف تضحيتها؟ يبدو لي أنا أنها فكرت مرة واحدة و في تلك اللحظة كادت تعرض هدفها اليائس للخطر. فكرت (لم تستطع ألا تفكر) أن أباها قد فعل لأمها نفس الشيء الذي كانوا يفعلون لها هي. فكرت في ذلك بدهشة ضعيفة و احتمت فورا بالدوار. لم يكن الرجل السويدي أو الفنلندي يتكلم بالإسبانية. كانت وسيلة بالنسبة لإيما مثلما كانت هي كذلك بالنسبة له، لكنها هي خدمت المتعة بينما خدم هو العدالة. عندما بقيت لوحدها لم تفتح عينيها فورا. فوق المنضدة كانت النقود التي تركها لها الرجل: نهضت إيما و مزقتها كما فعلت سابقا مع الرسالة. تمزيق النقود يعتبر معصية كرمي الخبز؛ لهذا استغفرت إيما الله بمجرد أن فعلت ذلك. فِعل تكبرٍ و في ذلك اليوم...اختفى الخوف في حزن جسدها، في الاشمئزاز. كان الاشمئزاز و الحزن يكبلانِها لكن إيما نهضت ببطء و شرعت تلبس ثيابها. بدأ الضوء يهجر الغرفة و يحتد الشفق. تمكنت إيما من الخروج دون أن ينتبه أي أحد و صعدت عند الزاوية إلى إحدى الحافلات الكهربائية المتوجهة إلى الغرب. اختارت حسب خطتها المقعد الأمامي كي لا يرى أحد وجهها. ربما أراحها، في غمرة صخب الشوارع الفاقد للطعم، كون ما وقع لم يؤثر سلبا على الأشياء. سافرت عبر أحياء متضائلة و معتمة، ناظرة إليها و ناسية إياها في عين المكان. ترجلت في أحد مداخل شارع وارنز. و المفارقة هي أن تعبها كان قد انقلب إلى قوة؛ إذ كان يجبرها على أن تركز على دقائق المغامرة و تخفي عمقها و هدفها.
كان آرون لوينتال بالنسبة للجميع رجلا جديا بينما كان يراه قلة من مقربيه بخيلًا. كان يعيش في أعلى المصنع وحيدا. و هو يستقر في تلك الضاحية المفككة، كان لوينتال يخاف من اللصوص. في ساحة المصنع كان يوجد كلب كبير و في جارور مكتبه مسدس كما لم يكن يخفى على أحد. كان قد بكى بلياقة موت زوجته المفاجئ خلال السنة الماضية - سيدة جذابة كان قد أهداها مهرا غليظا! -؛ لكن كان المال هو ولعه الحقيقي. من العيوب الذاتية المعروفة عليه هو أنه كان أقل جدارة لربح المال من الحفاظ عليه. كان متدينا جدا بحيث كان يعتقد أنه يملك عقدا سريا مبرما مع الله يعفيه من أن يفعل الخير و ذلك مقابل بعض الصلوات و التورُّعات. إنه رجل أصلع، بدين، في حالة حداد، يضع نظارتين مضببتين و لحية شقراء. كان ينتظر واقفا جنب النافذة التقرير السري من العاملة زونز.
رآها تدفع البوابة (التي جعلها هو نفسه مواربة عمدا) و تعبر الساحة القاتمة. رآها تستدير قليلا عندما نبح الكلب المربوط. كانت شفتا إيما ترتعشان كمن يصلي بصوت خفيض، متعبتان و هما ترددان الحكم الذي قد يستمع لوينتال إليه قبل أن يموت.
لم تجر الأمور كما كانت قد توقعتها إيما زونز. منذ الفجر السالف كانت قد حلمت أكثر من مرة بأنها كانت توجه المسدس الصلب، مجبرة الشقي على أن يعترف بإدانته البائسة مستعرضة الحيلة الجَسُورَ التي من شأنها أن تسمح للعدالة الإلاهية بالتفوق على العدالة البشرية. (لم تكن تريد أن تعاقب. و هذا ليس خوفا و إنما لأنها كانت وسيلة للعدالة). بعد ذلك طلقة نارية واحدة وسط الصدر ستقضي على لوينتال. لكن الأمور لم تمر على هذا النحو.
أمام آرون لوينتال، أحست إيما بالحاجة الملحة إلى معاقبة الإهانة التي عانتها أكثر من الحاجة الملحة إلى الثأر لموت أبيها. لم تستطع ألا تقتله بعد ذلك العار الاستثنائي. و لا هي توفرت على الوقت الكافي لتضيعه في الحركات المسرحية. و هي جالسة، خجولة، طلبت من لوينتال الاعتذار، استحضرت (رغم أنها واشية) واجبات الولاء، نطقت ببعض الأسماء، لمحت إلى أخرى و صمتت و كأنما هزمها الخوف. جعلت لوينتال يخرج لكي يجلب كأس ماء. عندما كان عائدا من غرفة الطعام خالي البال من تصنعات و تعملات كهذه و متساهلا، كانت إيما قد أخرجت المسدس الثقيل من الجارور. ضغطت على الزناد مرتين. انهار الجسد الثقيل كما لو أن الضجيج و الدخان قد كسره. تحطم كأس الماء، نظر إليها بتفاجؤ و حنق، وجه إليها فمُه إهانات بالإسبانية و الإيديش. تلك الكلمات البذيئة لم تكن لتنتهي فأجبرت إيما على إطلاق النار ثانية. بدأ الكلب المربوط في الساحة ينبح، تدفق دم مفاجئ من شفاهه الداعرة و لطخ اللحية و اللباس. شرعت إيما في تلاوة الاتهام الذي كانت قد أعدته ("لقد ثأرتُ لأبي و لن يستطيعوا معاقبتي...")، لكن لم تنهه لأن السيد لوينتال كان قد فارق الحياة. لم تعرف أبدا إذا كان قد استطاع أن يفهم.
النباح المحتد ذكرها بأنه لم يكن بإمكانها أن تستريح. بعثرت الأريكة، فتحت ثياب الجثة، نزعت منها النظارة الملطخة و وضعتها فوق جامع الملفات. بعد ذلك تناولت الهاتف و رددت ما قد تردده العديد من المرات بتلك الكلمات أو أخرى: لقد حدث أمر لا يصدق...لقد استدرجني السيد لوينتال بداعي الإضراب...اغتصبني فقتلته...
كانت القصةُ لا تصدقُ، بالفعل، لكنها فرضت نفسها على الجميع لأنها في الجوهر صحيحةٌ. لقد كانت حقيقيةً نبرة إيما زونز، و كان حقيقياً حياؤها و حقدها. و حقيقيةً كانت الإهانةُ التي عانت منها؛ فقط كانت مزيفةً الظروفُ، الساعةُ و اسمٌ أو اسمانِ.
أوقعت إيما الورقة من بين يديها. أحست في البداية بألم في البطن و الركبتين و بعدها بالذنب الأعمى، باللاواقعية، بالبرودة، بالخوف ثم أرادت أن يحل اليوم الموالي على وجه السرعة. على الفور تبينت أن هذه الرغبة كانت عديمة الفائدة لأن موت أبيها كان الشيء الوحيد الذي جرى في العالم و الذي قد يحدث دائما إلى ما لا نهاية. تناولت الورقة و ذهبت إلى غرفتها. وضعتها خلسة في جارور كما لو أنها كانت تعرف بطريقة من الطرق مخلفات هذا الأمر. لقد بدأت في تبينها. ربما كان فعلا ما يمكن أن يحدث.
في الظلمة النامية بكت إيما حتى آخر يوم انتحار مانويل مايير و الذي كان يدعى إيمانويل زونز في أيام السعادة الخوالي. تذكرت الاصطيافات في إحدى المزرعات نواحي غواليغواي، تذكرت (حاولت أن تتذكر) أمها، تذكرت بيت اللانوس الصغير الذي صادروه منهم، تذكرت الأشكال المعينة الصفراء في النافذة، تذكرت أمر الاعتقال الاحتياطي، الإهانة، تذكرت...، تذكرت (و لكن لن تنسى هذا أبدا) أن أباها أقسم لها في الليلة الأخيرة أن السارق كان هو لوينتال. لوينتال، آرون لوينتال و الذي كان سابقا مدير أعمال المصنع بينما الآن هو واحد من مالكيه. كانت إيما تحتفظ بالسر منذ سنة 1916. لم تبح به لأحد قطُّ، و لا حتى إلى صديقتها الحميمة إيلسا أُورستين. لعلها كانت تتحاشى السذاجة المقيتة أو ربما كانت تعتقد أن السر رابط بينها و بين الغائب. لم يكن يعرف لوينتال أنها كانت تعرف. كانت إيما زونز تحوز على شعور بالقوة من هذا الحدث البسيط.
لم يغتمض لها جفن في تلك الليلة. و عندما كشف أول نور إطار النافذة كانت خطتها قد جهزت. حاولت أن تجعل من ذاك اليوم، الذي بدا لها أنه لا ينتهي، يوما كباقي الأيام. كانت تروج في المصنع إشاعات بخصوص خوض إضراب. عبرت إيما كما العادة عن مناهضتها لأي شكل من أشكال العنف. عند الانتهاء من العمل على الساعة السادسة، ذهبت رفقة إيلسا إلى أحد النوادي النسائية متخصص في الجمباز و السباحة. تسجلتا و كان عليها أن تكرر و تتهجى اسمها الشخصي و العائلي و أن تشارك في الدعابات الفظة المعلقة على الاختبار الطبي للولوج إلى هناك. رفقة إيلسا و القاصرة ابن آل كرونفوس تحدثن عن أي سينما سيذهبن إليها عشية الأحد. بعدها دار الحديث و لم يتوقع أحد من إيما أن تتحدث. ستتم التاسع عشرة من عمرها خلال شهر أبريل تقريبا لكن الرجال كانوا لا يزالون يحسون اتجاهها تقريبا بنوع من الخوف المرضي...بعودتها أعدت حساء تابيوكا و بعض الخضر. تناولت ذلك باكرا و توجهت إلى الفراش فأجبرت نفسها على النوم. هكذا مرت عشية يوم الجمعة خامس عشر يناير في جو من الكد و الدعابة.
أيقظتها قلة الصبر يوم السبت. قلة الصبر ليس غياب الطمأنينة و الراحة الفريدة الناتجة عن حلول ذلك اليوم، في النهاية. لم يعد واجبا عليها أن تحيك و تتخيل الخطة؛ قد تبلغ اختزال الوقائع في غضون ساعات. قرأت في الصحف بأن باخرة نردستجورنان دي مالمو قد تبحر هذه الليلة من الرصيف 3، نادت بالهاتف على لوينتال، لمحت إليه بأنها تريد أن تبلغه شيئا دون أن تعلم الأخريات، شيء بخصوص الإضراب و وعدت بالمرور عليه في المكتب عندما يحل الظلام. كان صوتها يرتعد، هذا الارتعاد كان حقيقا بواشية. لم يحدث أي شيء آخر يستحق الذكر في تلك الصبيحة. اشتغلت إيما رفقة إيلسا إلى حدود الساعة الثانية عشرة و دققت مع إيلسا و بيرى كرونفوس تفاصيل تجوال يوم الأحد. خلدت للنوم بعد أن تناولت غذاءها و أعادت في ذاكرتها و عيناها مغمضتان الخطة التي دبرتها. فكرت في أن المرحلة الأخيرة ستكون أقل فظاعة من المرحلة الأولى، لكنها ستوفر لها لا محالة نشوة الفوز و العدالة. فجأة استيقظت قلقة و جرت نحو جارور المنضدة. فتحته، و تحت بورتريه ملتون سيلس حيث وضعتها ليلة أمس، كانت توجد رسالة فاين. لم يتمكن أحد من رؤيتها، شرعت في قراءتها ثم مزقتها. صعب بل و غير منصف أمر ربط ما حصل في تلك العشية بالواقع. اللاواقعية مرادف مطابق لجهنم، مرادف يبدو أنه كان ليخفف من مخاوفها و ربما ليقويها. كيف نجعل فعلا ما واقعيا في حين أن منفذه لم يكن يعتقد فيه تقريبا، ما السبيل إلى تذكر هذه الفوضى القصيرة التي تجحدها و تخلطها ذاكرة إيما زونز اليوم؟ كانت إيما تعيش في الماغرو، في شارع لِينْيِيرْسْ؛ يتبين لنا أنها ربما ذهبت إلى الميناء في تلك العشية. ربما أنها رأت نفسها معكوسة في مرايا منتزه يوليوز السيء السمعة، و منتشرة بفعل الأضواء و عارية بسبب الأعين الجائعة التي ترصدها. لكن الأقرب إلى الصواب أنها تاهت في البداية غير مبالية وسط السوق الشارد...دخلت إلى حانتي خمر أو ثلاث، رأت الروتين أو استغلال نساء أخريات. في النهاية صادفت بعض رجال نردستجورنان. خافت من أن يستأثر بحنانها شاب من بينهم فآثرت آخر ربما أقصر منها و فظ لكي لا تفتر حدة الروع. جلبها الرجل إلى أحد الأبواب و بعد ذلك إلى رواق معتكر فدرج متعرج ثم إلى ردهة (حيث كانت توجد نافذة بأشكال معينية تشبه تلك التي كانت توجد في المنزل بلانوس) و بعدها إلى ممر ضيق و أخيرا إلى باب أُغلِق من خلفهما. الأحداث الخطيرة تقع خارج الزمن إما لأن فيها يبدو الماضي القريب منفصلا عن المستقبل و إما لأن الأجزاء التي تشكلها تبدو غير منطقية.
في ذلك الزمن خارج الزمن، في تلك الفوضى الحائرة من الأحاسيس غير المترابطة و الفظيعة، هل فكرت إيما زونز لمرة واحدة في الميت الذي كان يقف خلف تضحيتها؟ يبدو لي أنا أنها فكرت مرة واحدة و في تلك اللحظة كادت تعرض هدفها اليائس للخطر. فكرت (لم تستطع ألا تفكر) أن أباها قد فعل لأمها نفس الشيء الذي كانوا يفعلون لها هي. فكرت في ذلك بدهشة ضعيفة و احتمت فورا بالدوار. لم يكن الرجل السويدي أو الفنلندي يتكلم بالإسبانية. كانت وسيلة بالنسبة لإيما مثلما كانت هي كذلك بالنسبة له، لكنها هي خدمت المتعة بينما خدم هو العدالة. عندما بقيت لوحدها لم تفتح عينيها فورا. فوق المنضدة كانت النقود التي تركها لها الرجل: نهضت إيما و مزقتها كما فعلت سابقا مع الرسالة. تمزيق النقود يعتبر معصية كرمي الخبز؛ لهذا استغفرت إيما الله بمجرد أن فعلت ذلك. فِعل تكبرٍ و في ذلك اليوم...اختفى الخوف في حزن جسدها، في الاشمئزاز. كان الاشمئزاز و الحزن يكبلانِها لكن إيما نهضت ببطء و شرعت تلبس ثيابها. بدأ الضوء يهجر الغرفة و يحتد الشفق. تمكنت إيما من الخروج دون أن ينتبه أي أحد و صعدت عند الزاوية إلى إحدى الحافلات الكهربائية المتوجهة إلى الغرب. اختارت حسب خطتها المقعد الأمامي كي لا يرى أحد وجهها. ربما أراحها، في غمرة صخب الشوارع الفاقد للطعم، كون ما وقع لم يؤثر سلبا على الأشياء. سافرت عبر أحياء متضائلة و معتمة، ناظرة إليها و ناسية إياها في عين المكان. ترجلت في أحد مداخل شارع وارنز. و المفارقة هي أن تعبها كان قد انقلب إلى قوة؛ إذ كان يجبرها على أن تركز على دقائق المغامرة و تخفي عمقها و هدفها.
كان آرون لوينتال بالنسبة للجميع رجلا جديا بينما كان يراه قلة من مقربيه بخيلًا. كان يعيش في أعلى المصنع وحيدا. و هو يستقر في تلك الضاحية المفككة، كان لوينتال يخاف من اللصوص. في ساحة المصنع كان يوجد كلب كبير و في جارور مكتبه مسدس كما لم يكن يخفى على أحد. كان قد بكى بلياقة موت زوجته المفاجئ خلال السنة الماضية - سيدة جذابة كان قد أهداها مهرا غليظا! -؛ لكن كان المال هو ولعه الحقيقي. من العيوب الذاتية المعروفة عليه هو أنه كان أقل جدارة لربح المال من الحفاظ عليه. كان متدينا جدا بحيث كان يعتقد أنه يملك عقدا سريا مبرما مع الله يعفيه من أن يفعل الخير و ذلك مقابل بعض الصلوات و التورُّعات. إنه رجل أصلع، بدين، في حالة حداد، يضع نظارتين مضببتين و لحية شقراء. كان ينتظر واقفا جنب النافذة التقرير السري من العاملة زونز.
رآها تدفع البوابة (التي جعلها هو نفسه مواربة عمدا) و تعبر الساحة القاتمة. رآها تستدير قليلا عندما نبح الكلب المربوط. كانت شفتا إيما ترتعشان كمن يصلي بصوت خفيض، متعبتان و هما ترددان الحكم الذي قد يستمع لوينتال إليه قبل أن يموت.
لم تجر الأمور كما كانت قد توقعتها إيما زونز. منذ الفجر السالف كانت قد حلمت أكثر من مرة بأنها كانت توجه المسدس الصلب، مجبرة الشقي على أن يعترف بإدانته البائسة مستعرضة الحيلة الجَسُورَ التي من شأنها أن تسمح للعدالة الإلاهية بالتفوق على العدالة البشرية. (لم تكن تريد أن تعاقب. و هذا ليس خوفا و إنما لأنها كانت وسيلة للعدالة). بعد ذلك طلقة نارية واحدة وسط الصدر ستقضي على لوينتال. لكن الأمور لم تمر على هذا النحو.
أمام آرون لوينتال، أحست إيما بالحاجة الملحة إلى معاقبة الإهانة التي عانتها أكثر من الحاجة الملحة إلى الثأر لموت أبيها. لم تستطع ألا تقتله بعد ذلك العار الاستثنائي. و لا هي توفرت على الوقت الكافي لتضيعه في الحركات المسرحية. و هي جالسة، خجولة، طلبت من لوينتال الاعتذار، استحضرت (رغم أنها واشية) واجبات الولاء، نطقت ببعض الأسماء، لمحت إلى أخرى و صمتت و كأنما هزمها الخوف. جعلت لوينتال يخرج لكي يجلب كأس ماء. عندما كان عائدا من غرفة الطعام خالي البال من تصنعات و تعملات كهذه و متساهلا، كانت إيما قد أخرجت المسدس الثقيل من الجارور. ضغطت على الزناد مرتين. انهار الجسد الثقيل كما لو أن الضجيج و الدخان قد كسره. تحطم كأس الماء، نظر إليها بتفاجؤ و حنق، وجه إليها فمُه إهانات بالإسبانية و الإيديش. تلك الكلمات البذيئة لم تكن لتنتهي فأجبرت إيما على إطلاق النار ثانية. بدأ الكلب المربوط في الساحة ينبح، تدفق دم مفاجئ من شفاهه الداعرة و لطخ اللحية و اللباس. شرعت إيما في تلاوة الاتهام الذي كانت قد أعدته ("لقد ثأرتُ لأبي و لن يستطيعوا معاقبتي...")، لكن لم تنهه لأن السيد لوينتال كان قد فارق الحياة. لم تعرف أبدا إذا كان قد استطاع أن يفهم.
النباح المحتد ذكرها بأنه لم يكن بإمكانها أن تستريح. بعثرت الأريكة، فتحت ثياب الجثة، نزعت منها النظارة الملطخة و وضعتها فوق جامع الملفات. بعد ذلك تناولت الهاتف و رددت ما قد تردده العديد من المرات بتلك الكلمات أو أخرى: لقد حدث أمر لا يصدق...لقد استدرجني السيد لوينتال بداعي الإضراب...اغتصبني فقتلته...
كانت القصةُ لا تصدقُ، بالفعل، لكنها فرضت نفسها على الجميع لأنها في الجوهر صحيحةٌ. لقد كانت حقيقيةً نبرة إيما زونز، و كان حقيقياً حياؤها و حقدها. و حقيقيةً كانت الإهانةُ التي عانت منها؛ فقط كانت مزيفةً الظروفُ، الساعةُ و اسمٌ أو اسمانِ.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: