د
د.محمد عبدالحليم غنيم
[SIZE=6]الشكل والمصطلح النقدى:[/SIZE]
القصة القصيرة لها علاقتها الوثيقة بالواقع الحضارى الذى تصدر عنه، بيد أن هذه العلاقة لها الكثير من الخصوصية والتعقيد والتفاعل، فلا نستطيع مثلا أن نقول بأن القصة القصيرة تعكس الواقع الاجتماعى الذى تعبر عنه انعكاسا آليا، ولاحتى انعكاسا تعبيريا، فلم تعد القصة القصيرة محاكاة للواقع وإن كانت بالفعل هى محاكاة ولكن محاكاة خلاقة، ولانستطيع أن نقول بأنها تعبير عن الواقع وإن كانت فى الحقيقة أدق تعبيرا عن الواقع من معطيات الواقع نفسه، ولكن القصة القصيرة هى قوة خلق هائلة أشبه ما تكون بالمعادل الجمالى الموضوعى الموازى فى معطياته الجمالية والروحية لمعطيات الواقع الحسية. وقد سلخت القصة القصيرة من سنى عمرها الفنى وتطورها الجمالى زمنا تطورت فيه من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى الواقعية سواء كانت تسجيلية أو تحليلية أو نقدية أو موضوعية حتى وضعت عصا التسيار الفنى على أرض القص الحداثى الذى غابت معه البنية التقليدية المتعارف عليها فى القص من وحدة الزمان والمكان والشخصية والحكاية والعقدة والحل ، فقد حدث هذا الانقلاب الجمالى فى جماليات القص الحديث بما يوازى الانقلاب العلمى والفكرى والفلسفى والحضارى الذى جد على الواقع الذى نعيش فيه فكل تغير اجتماعى فلسفى قد استتبعه جوهريا تطورا فى تقنية التركيب ومستوى الدلالة وزاوية الرؤية فى القصة، وقد وقف القصاصون طرائق قددا من زاوية النظر سواء إلى مستويات التشكيل الجمالى للقصة أو مستويات تعدد الدلالة الإنسانية داخل البنية الجمالية للقص ، ومن ثم فقد استطاعت القصة القصيرة عبر عمرها الفنى القصير أن تشق لها قنوات جديدة فى البناء والرؤيا.
وقبل أن نتناول المجموعة القصصية التى بين أيدينا الآن نود أن نقدم تصورا سريعا لفن القصة القصيرة ، هذا الفن الغامض المراوغ الرهيف البناء ، حيث ( لانجد لونا قصصيا تنوعت فيه الأساليب واختلفت فيه الاتجاهات كما نجد فى القصة القصيرة، ولانجد لونا قصصيا طرأ عليه من أساليب التجديد والتطور والثورة على الأساليب القديمة كما نرى فى القصة القصيرة، فهناك قصة الحدث وقصة الشخصية وقصة اللقطة أو الموقف وهناك الصورة القصصية واللوحة القصصية والقصة التى تقوم على السرد وحده والقصة التى تقوم على الحوار وحده أو المنولوج الداخلى ( تيار الوعى)) (1) وهذه الحيرة الاصطلاحية ـ إن صح التعبيرـ فى النص السابق يحسها كل من خاض فى وضع اصطلاح علمى محدد لفن القصة القصيرة، ولعل( ايان ريد) فى كتابه القصة القصيرة يضع أيدينا على بواعث هذا القلق الاصطلاحى فى تعريف القصة حيث يقول: ( إن التحديدات الوصفية لمعنى القصة القصيرة لاتكفى لأنه من الواضح أن هذا الفن الأدبى ليس له صفاء الفن الأدبى الواحد) (2)
فالقصة القصيرة فيها من الشعر مشابه وهى ليست بشعر ومن الرواية مشابه وهى تختلف عن الرواية، إذن طبيعتها لاتدرك فيما نرى إلا فى شبكة علاقات متعددة مع الفنون الأخرى القريبة منها سواء كانت الرواية أو الرواية القصيرة إن فن القصة القصيرة هو فن ( الأعراف الجمالية) لو صح التعبير ، فهو فن لايتمتع بحالة من اليقين الجمالى النسبى فالقصة القصيرة دائما نقطة مشعة دائما كما يقول (BOWRA) إن أى تعريف لها إما ( أن يكون واسع جدا أو يكون ضيق جدا) (3) ويعرف (آيان ريد) القصة القصيرة قائلا:ً( القصة القصيرة تقدم شريحة من تجارب الحياة فى حين أن الرواية تنبنى حول أزمة(CRISIS0) وأن الحبكة أو البناء (PLOT) للقصة القصيرة يشبه الشبكة المتداخلة خيوطها بعضها فى بعض ، بينما يقدم حبكة الرواية القصيرة اتجاها تصاعديا ذا ذروة ثم يهبط خط سير الأحداث بعده والبناء الفنى للرواية القصيرة يظهر مسلسلا تسلسلا منطقيا وهو فى هذا يتناقض تناقضا واضحا مع بناء القصة القصيرة الذى كثيرا ما يظهر غير منظم وأحيانا مطولا بطريقة معقدة أو مركزا وغير متناسق) (4) فما يميز القصة القصيرة عن سواها سواء كانت رواية أو رواية قصيرة هو التركيز فى كل شىء أنها فيما أرى نقطة الضوء التى تلخص خصائص الضوء كله، وقطرة المحيط القادرة على اختزال صفات المحيط كله، والشجرة التى تختزن الغابة كلها، فهى مركزة فى الحدث وفى الموقف وفى الشخصية وفى اللغة وفى الصياغة، ويجب أن نكون على وعى بأن معنى التركيز يختلف عن معنى الاختزال، فالتركيز يعنى القدرة على الرؤية الكلية من خلال زاوية صغيرة، أما الاختزال فهو الإخلال بهذه الرؤية وعدم القدرة على السيطرة على الشكل، ويعرف أمين الخولى القصة القصيرة بأنها ( ليست ديباجة مرصعة ولا ألفاظا منسقة ولا أحداثا لافتة ولا حركة عنيفة، ولا عقدة دقيقة ولا حبكة متينة، بل هى همسة أو لمسة خفيفة أو دمعة أو مسقط ظل أو إشعاع ضوء) (5) ولعل غلبة الحس الاستعارى على تعريف أمين الخولى السابق نابع من صعوبة تعريف القصة القصيرة بصورة دقيقة ويدفع الدكتور عبد القادر القط بالتعريف إلى تحديد أدق يقترب من دقة الحسم الاصطلاحى ــ لو صح التعبيرــ ( فالقصة القصيرة لا تعدو أن تكون حكاية لحادثة قصيرة ذات مغزى خاص، أو رسما سريعا لانطباع من الحياة عن شخصية من الشخصيات، أو جو من الأجواء، إنها لقطة واحدة لا تعتمد على سعة المنظر بقدر ما تعتمد على ما تلقيه من ظلال وأضواء واختيار فنى) (6)
إن الجهد الجهيد فى جميع التصورات السابقة من أجل الإمساك بكنه القصة القصيرة نابع من طبيعتها المراوغة المتأبية على التحديد كما انه نابع من الصيرورة الجمالية المتحركة والمتعددة لجماليات القصة القصيرة فهى بقدر ما تحاول الثبات على هوية محددة بقدر ما تنفر من هذه الهوية وتكمن فى سياقات جمالية جديدة لاتهدأ ولاتقر إنها الحياة نفسها فى قبضها وبسطها وفى تمددها والتوائها على نفسها، وهذا راجع كما أشار (آيان ريد) إلى أن فن القصة القصيرة لايعرف صفاء الفن الواحد، بل تنطوى فى مسارب فنية متعددة فهى فن الأعراف الجمالية كما ألمحت آنفا ولايبقى لنا فى النهاية فى محاولة تعريف هذا الفن الصعب سوى القدرة على وعى روح الفن العامة والتى ترى أن الفن(( توازن لطيف مهدد بالتلف فى كل حين وهو توازن محكم دقيق بين عناصر عدة محددة النوع فى المقدار، وإن أدنى ذرة من الزيادة أو النقصان وأى صورة من صور التغيير والتحوير تخل بهذا التوازن المنشود وتدخل على الأثر الفنى من التشويش والاضطراب ما يتبدل معه تبدلا كليا)) (7) ومن ثنايا هذه التوازنات الجمالية الرهيفة يتخلق دائما الشكل الفنى للقصة القصيرة، وقد يتراءى لحدس الفنان أن يسلط طاقة الضوء على هذا الجانب البنائى فى القصة بإشعاع أعمق من هذا الجانب الآخر وقد يرى كاتب آخر غير ذلك وكل على صواب فنى طالما يحدوه الصدق الفنى فى الرؤية والدقة فى الأداء.
لقد استطاع الكاتب الدكتور محمد عبد الحليم غنيم فى مجموعته القصصية ( لن أقلع عن هذه العادة) أن يجرب أشكالا قصصية متعددة عاناها الكاتب معاناة موضوعية من خلال شخوص وأحداث وبناء قصصه وقد كانت هذه الأشكال الجمالية ضرورة حتمية على مستوى الشكل والدلالة معا( ذلك أن تحولات المعنى التى نجدها فى هذا الجنس ا لأدبى ـ القصة القصيرة ـ تقدم لنا تفاصيلها بنفس المقدار من الأهمية والوضوح عبر قضايا الشكل وأدوات التعبير ونوعية الأساليب اللغوية وتغيرات القاموس القصصى واختلافات قواعد الإحالة على الواقع) (8)
فى المصطلح الإبداعى:
تشتمل المجموعة القصصية لن اقلع عن هذه العادة على تسع عشرة قصة قصيرة تتراوح ما بين القصة القصيرة والأقصوصة، وسأحاول معالجة بعضا من هذه القصص التى رأيتها قادرة على اختزال العالم القصصى للكاتب شكلا ودلالة، ومن ثم كان تركيزى على الأشكال التالية:
1-القصة صورة إيقاعية:
يحاول القاص فى قصة( ملكة) أن يصور تجربة عاطفية حميمة بينه وبين ملكة ولعل الدلالة الرمزية منذ البداية توحى لنا بتتويج ملكة على عرش فؤاده، حيث تنمو عاطفة الحب بينهما نموا بريئا بين فتى وفتاة يعملان فى الحقل، وعلى الرغم من أن البطل لم يتعد طور الرجولة الكادحة بعد إلا انه يعمل فهو من الطبقات المكدودة التى تعمل سحابة نهارها لتوفير قوت يومها وقد استطاع الكاتب أن يتدرج فى وصف عاطفة الحب بينه وبين ملكة عبر بناء قصصى دقيق ومحكم وصل حد التجريد الشفيف حتى ليتاخم بالقص حدود الإيقاع الشعرى ، فهو يصف شخصية ملكة فى بداية قصته بقوله (ملكة نحيفة تلمع عيناها ببريق شقى ،نهارها فى الحقول بين أعواد الذرة أوشجيرات القطن،تجمع الحشائش أو بين شتلات الأرز فى المياه الضحلة ) وهو وصف قصصى دقيق يبنى شخصية ملكة فى عالم من البراءة الشقية حتى كأنها فراشة بين الحقول .ثم يبدأ العمل ويكون عمل الراوى بجوار عملها فى خط حقلى واحد: ((جاء خطى بجوار خط ملكة ،فكان مكانى بين ملكة وجارتى أم أحمد...وقبل أن نقطف أول ثمرة قطن مالت على جارتى وحذرتنى من ملكة ..شكرتها بالطبع ويبدو أن ملكة لاحظت ذلك فغمزت لى بعينها الجميلة الشقية) ولعلَّ تكرار اسم الشخصية ملكة فى المشهد القصصى أكثر من أربع مرات يحفر عميقاً فى وعينا تتويجها على العرش الجمالى للقص وعرش فؤاد القاص معاً ،وتكرار الاسم سيوفر على طوال القصة حساً إيقاعياً وبنائياً فى آن واحد.وينتقل الراوى بذكاء القاص ليخلق مفارقة عميقة بين براءة حبة لملكة وقبح علاقة أم أحمد بصاحب الحقل/ والكاتب يخطف بقلمه لمسات لغوية مركزة ليعمق حقيقة المفارقة بين العلاقتين ولكن تظل علاقة القبح فى الظل على مستوى السرد والوصف وتبقى علاقة الطهارة فى النور على مستوى السرد والبناء القصصى فالقصة القصيرة بطبيعتها لا تحتمل سوى التركيز والنبضات اللغوية لا التفصيل الممل وللانتقال من التفصيل إلى التركيز ابتكر القاص حيلة قصصية جميلة نقلة من تأخره فى جمع خط القطن الخاص به حتى يلحق بملكة ولنلاحظ هذا الرمز الخفى الجميل لكلمة (خط الجمع) فالقاص لم يعد قادراً على أن يجمع بأم أحمد خط القبح،بل هو لهيف إلى أن يجمعه بملكة خط واحد خط الحب الشجى الرقيق،فكان أن رأى فجأة أن ( كان خطى شبه مجموع ،لقد كانت ملكة تجمع كل الثمرات التى تميل على خطها وفى الأمام كان خطى مجموعاً تماما،وهكذا وجدت نفسى بجوار ملكة أسبق الأنفار بعدة أمتار وهنا نلمح كتله من الرموز اللغوية القصصية الشقيقة النابعة من طبيعة الحدث والشخصية نفسها ،فثمة رمز (الخط)ورمز (الجمع) ((وعبارة كنت أشعر بقوة خفية تدفعنى للابتعاد فلم أعد أساعد جارتى وبدأت أسبقها)وهنا السبق يكون جميلاً من مجال القبح إلى كون الطهارة ثم يعمق هذا الحب فيجعل ملكة ـ تمهد له خطه ـ إن صح التعبير حتى يصير إلى جانبها لا وراءها كما هو الحال فى العلاقة القبيحة بين جارته أم أحمد وصاحب الحقل فدائما الحب العميق الدافىء العميق يحتاج هذه الندية والمساواة فى النور فهو طلق المحيا، أما العلاقة القبيحة المتردية بين صاحب الحقل وأم أحمد تأتى متأخرة فى خطها ـ خط القطن ـ وخط العلاقة الإنسانية تكتنفها الظلمة والوحدة، ومن هنا كان تعبير الكاتب موفقا فنيا فى قوله:(( وجدت نفسى بجانب ملكة أسبق الأنفار ، وجارتى وصاحب الحقل بعدة أمتار) والكاتب هنا يصفى لغته من الزخارف ويجعلها صافية موحية ويحكمها فى مكانها كأنها العضو الحى فى الجسد الطليق، ويبدو أن الكاتب كان على وعى بأن اللغة فى القصة القصيرة ليست فقط مجرد أداة تعبيرية بل هى أيضا أداة بنائية دالة بل تصير اللغة نفسها هى القص والجمال معا مثلها مثل القصيدة الشعرية وانظر إلى لغة الكاتب فى سرده وما يحتويه من رمز شفيف فى تعميق المشاعر بينه وبين ملكة (بعد أن تناولنا طعام الغذاء،استلم كل واحد منا خطه من جديد، المتقدم متقدم والمتأخر متأخر ، الآن الشمس فى ظهورنا أيضا، ملكة بجوارى نسبق الأنفار، أنا وهى بعدة أمتار. كنا قد تحدثنا فى أشياء كثيرة فعرفت اسمى وأسماء إخوتى وأخواتى ولماذا أعمل ويبدو أنها كانت تعرف عنى أكثر مما أعرف عن نفسى، لأنها أكبر منى وحدثتنى عن جارتى وصاحب الحقل، وكانت تفهم ما يدور تماما وانفكت عقدة لسانى وتمنيت لو أن المدارس تغلق وأظل أعمل طوال العمر بجوار ملكة، ووجدتنى أختلس النظر إليها من آن لآخر، بينما تحدق هى فى وجهى ، مع الوقت لم أعد أختلس النظرات وكنا نبتعد مع الوقت عن الأنفار ونوغل فى الابتعاد وعند ذلك قالت ملكة) إلى أن يقول الكاتب على لسانه مستشعرا حب ملكة وجمال الكون من حوله( كانت الشمس تميل نحو الغروب، وبدأت تهب علينا نسائم رطبة، وقلت فى نفسى ما أجمل الحياة) ولعل شعرية القص هنا تذكرنا بشعرية الحب عند العقاد فى قوله وقد صفت السماء:
صفحة الجو على الزرقاء كالخد الصقيل
لمعة الشمس كعين لمعت نحو خليــل
رجفة الزهر كنجم هزه الشوق الدخيل
حيث يممت مروج وعلى البعد نخيــل
قل ولا تحفل بشىء إنما العيش جميــل (10)
وهى لحظات إنسانية صافية مشرقة تتجلى للروح عندما تحط عنها أثقال الدنيا وشواغل العيش وتسبح مرفرفة طليقة فى روح الطبيعة، وهل أرق من الحب قادرا على أن يدخلنا ملكوت هذه اللحظات الصافية الطليقة.
ويظل الكاتب مرددا لاسم ملكة فى كل مشهد قصصى وذلك مما يعمق الحب بينهما فى السياق القصصى وذك من خلال رسم العلاقة المتضادة بينها وبين أم أحمد وصاحب الحقل، وبعد أن يطلق صاحب العمل سراح العصفورين الصغيرين نرى القاص يردد اسم ملكة حوالى خمس مرات فى الفقرة الأخيرة من القصة( ومن ليلتها أصبح اسم ملكة يتردد فى بيتنا، كلما هم أحد أن يداعبنى نادانى باسم ملكة فكنت أضحك فى البداية ولكن مع مرور الوقت كنت أغضب وأشعر بالغيظ، ترى هل تغضب ملكة إن ناداها أحد باسمى ) وبهذا الحلول العاطفى حيث يحل اسمه فى اسمها فهل ياترى يحل اسمها فى اسمه ، فهما روحان قد حلا بدنا ويظل القارىء حاملا لعبير لاينتهى بهذه النهاية المفتوحة على أفق الحب الرحيب ولاينسى أيضا انغلاق خط القبح والسقوط بين أم أحمد وصاحب الحقل.
القصة بنية كنائية:
يجوز لى أن أطلق على الكاتب محمد عبدالحليم غنيم مؤرخ القهر الشعبى أو عازف القهر الشعبى ـ إن صح التعبيرـ فدائما أبطاله فى قصصه ضائعون مجهولون يسحقهم الفقر وتتناوبهم العلل والأوجاع، فقد شبوا فى مؤسسة اجتماعية قائمة على بنية التناقضات والصراعات وتخثر الأحلام الخاصة والعامة، ويشير صبرى حافظ إلى هذا التوجه من القص الذى نشا بعد فترة الستينات بقولهL(( استطاعت هذه القصص من خلال التركيز على الجزئيات الحسية الملموسة وحدها أن تكشف عن وجود بلا ماهية وعن هياكل بلا جوهر من خلال تصوير الواقع باعتباره سجنا للأبطال المغتربين المرفوضين العاجزين عن التكيف مع الواقع الخارجى أن تبرز مدى ما فى هذا الواقع من قهر وخواء)(11) هذا ما نراه جليا فى أقصوصة ( الثعبان ذو القرنين) التى يصور فيها الكاتب موت الحب بين السيدة (س) و الأخ الأكبر للكاتب، ولنلحظ هنا منذ البداية توظيف الكاتب لتقنية محو الشخصية من خلال تجريدها من اسمها الدال على هويتها، وقد أشار الكاتب لها بالحرف (س) كناية عن الانغمار فى هوية الطمس والتلاشى ، فمنذ أن أعلن الكاتب الفرنسى( الان جرييه) فى كتابه الشهير ( نحو رواية جديدة) وقد أضحت تقنية توظيف الأرقام عوضا عن السماء فى الرواية الحديثة تقليدا روائيا فاشيا فى القص الحديث، والكاتب محمد غنيم يضعنا مباشرة فى عمق الحدث منذ الجملة الأولى من قصته، هذه الجملة المكونة من الفعل ( طال ) والفاعل المكون من مضاف ومضاف إليه ( مد الصمت) بهذ التركيب يضعنا الكاتب مباشرة فى قلب الحدث القصصى (( فالقصة القصيرة تقاس بالعبارة الواحدة والكلمة الواحدة بل بالحرف الواحد) (12) وذلك لأن القصة القصيرة أشبه بقصيدة الشعر، وكتاب القصة يتفاوتون فيما بينهم فى التوظيف اللغوى المحكم لقصصهم والكاتب يقع فى المرتبة الرفيعة من هذا التوظيف اللغوى ، فجملة البداية فى القصة تلتقى بجملة النهاية فى الفعل والفاعل فى جملة ( طال مد الصمت) حيث ينهى قصته بجملة مماثلة ( فصمت على أثرها ثم تركنا ) ومعنى قصة تبدأ بالصمت وتنتهى بالصمت وترتع ما بين البداية والنهاية سموم الثعبان ذى القرنين وليس القرن الواحد / ولكن كيف بنىالكاتب قصته ؟! بنى الكاتب قصته على الرمزية وأقصد بذلك أن الكاتب قد صورالحدث تصويراً شفافاً يختلط فيه الواقع بالرمز وبالخيال وقد أوغل فى رمزه تخوم الكناية الموسعةوالكاتب يحكى قصة حب ماتت بفعل تحويل العواطف إلى سلع تجارية تباع وتُشترى فيموت الحب بين السيدة (س) وأخيه الأكبر الذى سافر ليستطيع البناء بحبيبته غير أنة ما يلبث أن يعود فيراها وقد سيقت إلى شخص غريب قد بنى بها لا يليق بجمالها ويبدأ الحدث مباشرة يقول الكاتب : (إنها عازفة عن كل أنواع المتع انتبه أخى الأكبر وكمن كان غارقاً فى حلم طويل وقال موجهاً حديثة إلى الفراغ من حولنا هل هذه الحكاية صحيحة)
يضعنا الكاتب مباشرة فى قلب الحدث لولا هذا الخطأ التعبيرى فى (وكمن) لكن لا ضير على الكاتب أن ينتبه إلى هذا فى قصصه القادمة -ثم يسرد الكاتب حكاية ما حدث وشيوعه بين أهل القرية وقصة زواج السيدة (س) من غريب، ومرض أخيه على أثر ذلك،ولكن تثور من حين لآخر قصه أخرى صغيرة بجانب القصة الأصلية السابقة وهى حكاية الثعبان ذى القرنين الذى شاهدة الناس كثيراً بجوار السيدة (س)وهى تقنية قصصية بديعة تذكرنا بالإطار الحكائى التوالدى فى قصص ألف ليلة وليلة حيث تكون القصة الأم تمثل الإطار الحكائى الكبير ثم تتوالد فى داخلة حكايات كثيرة تتفاعل معه وتنمية حتى بلوغ الحدث ذروته.هذا الثعبان يظل يخايلنا طوال القصة هل هو حقيقة أم وهم ؟هنا يختلط الوهم بالحقيقة حتى أن أخ الكاتب يقول أثناء مروره ببيت حبيبته السابقة ،هل رأيت الثعبان ؟فقلت: ((لا فدهش:كيف ذلك لقد كان بجوارها على المصطبة قرناه كبيران؛كيف لم تراه؟فقلت محتجاَ.لكننى لم أره…أقسم لك أننى لم أره))
وهنا تبرز مفارقة عميقة بين الأخ الأكبر رمز الوعى والشقاء وبين الأخ الأصغر الغرارة والبراءة
فقد قال الأخ الأكبر للأصغر بعد عنت الجدال عن حقيقة الثعبان :(فقال وقد اكتسى وجهه بحكمة عميقة أعادت إلى نفسى السكينة) أصدقك والكاتب بارع فى توظيف التقنيات القصية الداخلية فى قصصه ليعمق من قصة الأم،وهذا أمر بالغ الخطر فى بنيه القصة القصيرة إذ لابد له من كاتب ناضج يسيطر على أدواته جيداً حتى لا ينفلت منه الحكى أو الشخصية أو الحدث الرئيسى فى القصة ولكن الكاتب يوظف ذلك بموهبة الفن ونضج الأداة معاً لديه .وبعد أن يصدق الأخ الأكبر براءة أخيه الأصغر يعود إلى منزلهم يلفهما الصمت وقبل أن يدخلاه ينبئهما صوت الناعى بالمسجد بموت السيدة(س) وهنا يتوهج الرمز الكنآئى/ الثعبان ذى القرنين بعدأن تداخلت فيه على طوال القصة حدود الوهم بحدود الحقيقة ، فنراه السبب الرئيسىفى موت السيدة ( س ) ،ولكنه هل كان حقيقة أم وهماً كان واقفاً أمام خيالاً ؟!لا يهم جميع ذلك فما تأكدنا منه وصار تقنياً فهذا الثعبان قد قتل السيدة (س) فعلاً بدلالة واقعة موتها وهنا ينجح الكاتب فى الكشف من خلال هذا الرمز الذى كن به عن تسمم العلاقات الإنسانية فى واقعة وذلك بتحولها من علاقات أتساق وانسجام ودفىء !، علاقات صراع واستهلاك واغتراب فقد بيع قلب السيدة (س) معدومة الهدية إلى من لا يليق بجمالها ،وهل يباع الجمال!!! وهنا تكون الصورة الرمزية الكنائية شكلاً قصصياً جمالياً قادراً على الجدل بين متطلبات الفن وشروط الواقع ((فالجدل بين أى شكل أدبى والواقع الاجتماعى والثقافى الذى يصدر عنه جدل متعدد المستويات تساهم فيه جميع مكونات هذا الواقع ،وتلعب فيه بعناصره المختلفة أدواراً متفاوتة الأهمية فى بلورة المحصلة المعرفية النهائية للنشاط العقلى و النفسى والجمعى فى لحظة حضارية معينة ..وتنطوى قبل كل شىء على أيدلوجية هذه الجماعة التى قد تعيها أو تكون غائبة عن وعيها برغم انطباعها عنه)(13) وإذا كانت الكناية قادرة على تجريد من تكنى عنه فى صفة واحدة تكون ظاهرة ودالة فقد حددت الكناية هذه الصفة الدالة فى رمز التسمم بل التسمم العارم بدليل إضافة(ذى القرنين)إلى هذا الثعبان بل فشا هذا السم على جميع البناء القصصى فنراه فى الشخصية التى تسممت فانقرض كلامها وتحول إلى صمت نلحظ ذلك فى سرد الكاتب عن موقف أخيه عندما أقترب من دار حبيبته السابقة (وقف أخى فوقفت حياها بيده دون أن ينبث بكلمه ولم ترد أو تستجيب له بأى إشارة ظل واقفاً يحدق فيها للحظات وكان يتمتم بكلمات كأنها صلاة،فلم أفهم منها شيئاً) هنا الشخصيتان بكماويتان لا ينبثان ولاينطقان فقد فقدا دلاله وجودهما وهى الحب القادر على التواصل الغوى ؛ونفث السم فيها نفثاته فانقرض الكلام وتتكرر دلالة الصمت كما قلنا فى بداية الجملة الأولى من القص إلى وسط الأحداث كما بينا فى موقف أخيه المار على بيت حبيبته السابقة إلى الفقرة الأخيرة فى القصة حيث يقول الكاتب(وسرنا إلى البيت يلفنا الصمت)إلى الجملة الأخيرة فى القصة حيث يقول الكاتب(فصمت على أثرها ثم تركنا ومضى)وتنتهى القصة بالموت كما بدأت بالصمت.
القصة بنيه مفارقة رمزيه:
المفارقة لغة (اسم مفعول) من (فارق) وجذرها الثلاثى:(فرق) والفرق فى اللغة خلاف الجمع ..ويقال :(فارق الشىء مفارقة وافتراقا)ً أى باينه وفارق فلان امرأته مفارقة وفراقا باينها وافترق عنها ..) وقد وردت ألفاظ ومصطلحات بلاغية عربية قريبة من معنى المفارقة مثل(السخرية) و(الهزء) و(التهكم)و(الازدراء)و(الغمز)وغيرها،أما فى الاستعمال البلاغى فقد استعملت طيفاً من معنى المفارقة فى مصطلح (التعريض)و (التشكك)والمتشابهات و(تجاهل العارف)و(تأكيد المدح بما يشبه الذم) و(تأكيد الذم بما يشبه المدح) وقد تعددت صور المفارقة ـ كما يشير خالد سليمان ـ بصورة يصعب معها حصر أنماطها ،وقد تعددت طرق تنظيرها فتارة من جهة درجاتها وأخرى من جهة طرائقها وأساليبها،ومنها اللفظية ،ومفارقة المواقف التى تنقسم بدورها إلى خمسة أنماط،مفارقة التنافر البسيط،المفارقة الدرامية ومفارقة الأحداث،مفارقة خداع النفس،مفارقة الورطة)(15)
وسوف نتناول فى قصتنا السابقة المفارقة الدرامية وهى تكون :(عندما نرى شخصية ما تتصرف بطريقة تتصف بالجهل بحقيقة ما يدور حولها من أمور،وخاصة عندما تكون هذه الأمور بالصورة التى تراها بها الشخصية مناقضة تماماً لوضعها الحالى)(16) والكاتب محمد غنيم يبنى قصته :(الطائر الذهبى)بناءا رمزياً قائماً على المفارقة حيث يعقد الكاتب من قصته بتداخلات مستويات الرمز بمستويات المفارقة وهى صورة جديدة من صور المفارقة القائمة على تصوير وضعين إنسانيين متناقضين يرمز كل وضع فيها إلى نقيض ما يبدو علية ثم يرمزان معاً من خلال جدلية الطيران/السقوط إلى فداحة انقسامات الذات الإنسانيه التى هى بدورها موازٍ جمالى لانقسام قيم الواقع الاجتماعى المحيط بالبشر الذين يحيون فيه/وقد قصد الكاتب بقصة الطائر الذهبى إلى تصوير أحلام شريحة من شرائح المجتمع قد طحنها الفقر واستبدت بها الحاجة فاضطرت إلى محاولة بيع ابنتها لغريب ثرى يتزوجها بماله وربما كان هذا الغريب من بلدة أخرى غير بلدة هذه الفتاة بدليل ركوبها الطائرة إليه،وموضوع القصة موضوع شائع بين كتاب القصة والرواية بل وحتى بين الشعراء المعاصرين سواء كانوا رومانسيين الذين بدأت عندهم بوادر سقوط المرأة المطحونة أو عند الشعراء الواقيين الذين جعلوها رمزاً متعدد المستويات فنياً وحضارياً،فالموضوع كما قلت مطروق فى الطريق كما يقول الجاحظ ولكن استطاع الكاتب محمد غنيم أن يرقى بالموضوع إ لى الفن ليصير إلى كيفيات جمالية خاصة يقرن بها كثيراً مرجعيته الاجتماعية وهو ما يعنينا هنا فى هذه القصة والكاتب يبنى قصته بناءاً محكماُ من خلال بنية المفارقة الرمزية كما قلت والشىء اللافت للنظر أن الكاتب يفعل ذلك على طوال المكونات البنائية للقصة /الحدث /السرد/الشخصية ـالحوار و كأن هذا الرمز كنقلة ماء انسربت متخللة خلايا يوازيه بنية المفارقة التى تجلت على جميع مستويات القص من الكلمة إلى الجملة إلى الفقرة. ففى بداية القصة يقول الكاتب: ( حط الطائر الذهبى الضخم الكبير فوق شجرة التوت العارية أمام البيت الصغير،كانت شجرة ضخمة كبيرة لا تثمر ،وليس لها فى ذلك ذنب :وما ذنبها إذا كانت ذكرا لا أنثى ،وكانت تميل فوق البيت الصغير بفروعها فلا تحميه من برد الشتاء أو تقيه من حرارة الصيف،أما الطائر فكان له جناحان من ذهب وأرجل رفيعة وطويلة من ذهب، ومنقاره هو أجمل مافيه من ذهب، وشجرة التوت والبيت الصغير ليسا من ذهب، أسنانه فقط هى التى لم تكن من ذهب كانت حمراء كالدم، والفتاة لاتحب اللون الأحمر وهى فى ذلك حرة، هى تحب اللون الأخضر وكل الأطفال والفتيات يحبون اللون الأخضر) وهذا المشهد القصصى يجسد من خلال الرمز جوهر القصة كلها ولكم تظل هذا ا الإجمال تنمو وتطرد بعمق وإحكام على طوال القصة بين الفتاة بطلة القصة ووالديها، بين الفتاة الفقيرة الحالمة بطائر ذهبى جميل يأخذها على جناحيه إلى عالم المودة والسكينة وبين والديها الحالمين بحياة خارج حياة الفقر وبأى ثمن حتى لو كان الثمن هو الفقر نفسه ولكن فى صورة أخرى خادعة من الغنى السطحى الذى يملؤ جيوبنا ويحرق قلوبنا، فالذى فعله الوالدان على طوال القصة مخافة الفقر هو الفقر فى أبشع صوره، وبهذه الأحاسيس المزدوجة سوف تنمو المفارقة ومنذ اللحظة الأولى من الحكى ينمو حس المفارقة( حط الطائر الذهبى الضخم الكبير فوق شجرة التوت العارية أمام البيت) نلحظ الرمز والمفارقة يتوازيان على جميع مستويات القص،فمن جهة اللغة نلحظ المفارقة بين الطائر الكبير/ وبيت الفتاة الصغير/ بين شجرة التوت العارية، الفقير المجدبة، فهى رمزللذات الفقيرة أو رمز للوطن المجدب على المستوى الروحى والمستوى الاجتماعى وهذه الشجرة العارية لاتحمى من برد الشتاء ولا من حرارة الصيف،كل هذه الرموز الصغير المنبثة فى اللغة تتفارق وتتقابل أمام عالم الطائر الكبير الضخم، الذى منقاره من ذهب، ويكاد الكاتب يصل بأعماق رمزه إلى استبطان أعماق الحروف والألفاظ، وليس فقط الفقرات والمشاهد القصصية، فهناك المنقار وما يرمز به إلى التمزيق والافتراس وهذا الموت القادم يحمل بين ثناياه فم من ذهب فأجمل مافيه كما يقول المؤلف منقاره الذهبى ولكن أسنانه ليست من ذهب بل من دم أحمر، إن هذا التداخل التصويرى الرمزى بين المنقار والأسنان وجمع ما لايمكن جمعه فى ربقة تصويرية واحدة يعمق من الإيحاء الرمزى فى هذه القصة، بل يكاد البناء اللغوى للقصة أن يكون رمزا خالصا حيث يتوالد الرمز فى هذه القصة فى دوائر مائية متتابعة متوالدة كماء ألقى فيه بحجر.
إن قدرة الخيال الطليقة هى التى جمعت بين المنقار الذهبى والأسنان الدموية فى طائر واحد،ثم يتنقل الكاتب فى الصيرورة المزية للألوان من الأحمر، والذهبى إلى اللون الأخضر الذى تحبه الفتاة وكل الأطفال الذين فى مثل سنها، ومن خلال جدلية الألوان، وإحداث هذا التوازن الرهيف اللطيف بينها وبين البناء القصصى كله يصفى الكاتب رموزه ويركزها حتى تصل إلى مشارف التجريد والتقطير الفنى الدقيق، حتى ليستطيع الكاتب أن يختزل جميع صور المفارقة والتقابل فى البناء القصصى كله إلى مفارقة الألوان وجدليتها الرمزية، فاللون يتنامى ويتلاحق فى القص من خلال الطائر الضخم والبيت الصغير والمنقار الذهبى والأسنان الدموية والشجرة الصغيرة وعريها الممتد وعدم جدواها فى صيف أو شتاء، كل هذه المقابلات تختزل فى ثلاث ألوان تتجادل وتتصارع هى الأحمر الدموى والذهب والأخضر/ فالسياق القصصى يتنامى فيه الحدث من خلال أشكال جمالية متعددة يضمن تطور الحدث من جهة وتماسك البناء القصصى من جهة ثانية،ويجب أن نكون على وعى بأن التوجهات الجمالية للكاتب هى توجهات لمضمون عمله فالكاتب عندما يتوجه للون فهو ((يوظفه لأغراض تعبيرية وإيحائية بحيث تصبح هذه المفردات اللونيه عنده بشكل واع أو غير واع موصلا لرسالة ما أو حالة أو موقف يريد التعبير عنه)) (17) ،كما يجب أن ننتبه إلى أن اللون من أكثر الأشياء نصاعة فى الدلالة على العالم من حولنا، بل نحن لانستطيع أن نقيم علاقتنا بالعالم فى أشياءه الحسية إلا من خلال لون ما، وأستطيع أن أقول بأننا لانستطيع أن نفكر أو نتخيل بدون خلفية لونية خفية أو ظاهرة معروفة أو مجهولة، واقعية أو رمزية، وعندما يعبر الكاتب فى قصته بان الطائر له أسنان على خلاف المعهود ثم يوغل الكاتب فى الإدهاش فيصفها بأنها أسنان لونها أحمر( فأن نعطى شيئا لونا ليس له، وأن نزيد فنجعل هذا اللون (خبرا) له يبدو كل ذلك وكأنه تحد متعمد للعقل) (18) جون كوين بنية اللغة الشعرية، هذا التحدى المتعمد للعقل يذكرنا بقصيدة حجازى عن اللون ( آيات من سورة اللون):
قل هو اللون فى البدء كان
وسوف يكون غدا
فاجرح السطح إن غدا مفعم
ولسوف يسيل الدم(17)
إن التحدى المتعمد للعقل هو الدخول فى تخوم الرؤيا، والفنان وحده هو القادرعلى جرح الألفة الوجودية الزائفة ليكشف تحتها عن هذه الحياة الحقة المفعمة بالاختلاف والحقيقة.ويكرر الكاتب الجملة نفسها التى بدأ بها قصته عبر المشاهد القصصية المتعددة ليحكم من بناء قصته ويطور الحدث فى الوقت نفسه( فى كل ليلة يحط الطائر الذهبى فوق شجرة التوت العارية)وتظل الفتاة تصرخ كلما شاهدت أسنان الطائر وفى النهاية تسلم نفسها لليل أو بتعبير الكاتب ( تتوسد ذراعه) غارقة فى حلم متناقض بين الرغبة من الهروب من الغربة، واللهفة فى تحقيق حلم الطيران على أجنحة هذا الطائر رمز الانتقال من الفقر إلى الغنى، ويدفع الكاتب بالحدث القصصى عبر هذه المشهد الحوارى بين الأم والأب، فالأم تخاف على ابنتها فى حوارها مع زوجها ولكنه خوف زائف فسوف ينهار تحت وطأة الحاجة المادية ويظل بعيدا كل البعد عن أبوته وحبه الحقيقى لابنته ولكننا لانراه فى القصة إلا عبد المال ولنر إلى هذا الحوار، بين الأب وزوجته :
( تقول الأم:
- رجل عجوز والبنت لاتزال صغيرة على الزواج .
تطلع الأسطى سيد إلى زوجته ،فقالت فى فزع.
- لكن عنده نقود ( فلوس) كثيرة
فقال فى اطمئنان وسرور بالغين وهو يعيد ترتيب الأوراق المالية:
- وهى ليست مزيفة. )
ولعلنا نلمح دقة الحوار وقدرته على رسم المعالم النفسية والفكرية للشخصيات الثلاثة الأم والأب والفتاة من جهة، وقدرته على إنماء الحس الدرامى للقص من جهة ثانية، والحوار هنا ليس حوارا بالمعنى الحقيقى للكلمة بل هو حوار المغتربين المنعزلين داخل أسوار نفوسهم، فالحوار هنا من طرف واحد ودن تلاقى جميع الأطراف خرط القتاد، والمتأمل فى لغة الحوار السابق يلمح نفى كل إمكانات اللغة واختزالها فى هم واحد ووحيد هو الهم المالى فكل مايهم الرجل وزوجته أن الفلوس غير مزيفة وانظر إلى هذه السخرية المريرة فى عبارة ( الفلوس غير مزيفة) حقا إنها البطل المستعلى بينما البشر زائفون منكسوا رؤسهم للشبق المالى.
لقد تطور الكاتب برموزه ومفارقاته فى بناء الحدث حدا بالغ الدقة( حيث يتضمن الحوار نموا دراميا فأنت ترى الموقف فى أعقاب الحوار غيره فى مستهله إذ تنمو الانفعالات أو تتضح الصورة أو تتصادم الآراء، فيتقدم الحدث عن طريق الحوار تقدما ملموسا)) (18) و هذا ما نتبينه فى الحوار التالى والأخير بين الفتاة وأمها:
( قالت الأم: لديه فلوس كثيرة وعربات
قالت الفتاة: وله جناحان من ذهب
قالت الأم: وعنده ذهب
قالت الفتاة: وأرجل من ذهب
قالت الأم: يعود ومعه ذهب وملابس
قالت الفتاة: أسنانه حمراء.)
والمتأمل فى الحوار السابق يرى أن المفارقة القصصية قد بلغت ذروة عالية حيث توفر فيها عناصرها الأربعة كما تقول الدكتورة نبيلة إبراهيم حيث:(( يوجد مستويين للمعنى فى التعبير الواحد، المستوى السطحى والمستوى الكامن الذى يلح القارئ على اكتشافه… لأنه فيه من التلميحات ما يشده إلى تعرية المستوى الكامن، لايتم الوصول إلى إدراك المفارقة إلا من خلال إدراك التعارض أو التناقض بين الحقائق على المستوى الشكلى للنص، وغالبا ما ترتبط المفارقة بالتظاهر بالبراءة وقد يصل الأمر إلى حد التظاهر بالسذاجة أو الغفلة، ولابد من وجود ضحية فى المفارقة)(18)
والحوار القصصى السابق بناء على هذا النص النقدى قد استوفى جميع الإمكانات الفنية للمفارقة حيث نلحظ مستويين للمعنى كل منهما يتم بمعزل عن الآخر فى نفس اللحظة التى يتوالد كل منهما من الآخر فالأم تقصد شيئا بخبرة الاحتياج القبيح والفتاة الضحية تقصد شيئا آخر بغرارة الحلم وغفلة الشوق إلى رؤية الطائر وما إن يأتى المساء حتى يصور الكاتب النهاية الفاجعة حيث لم يظهر الطائر الذهبى الذى اعتاد المجىء فى ضحى النهار وميعته، وتوظيف الكاتب للنور والظلام ضمن التطور الفنى للبناء القصصى يعمق من فنية القصة حيث يأتى الظلام هنا رمزا(( للعدم ولكنه عدم مشوب بفكرة الوجود، ذلك أن أشكال الأشياء حينما تذوب فى ظلمات الليل فإن الظلام يغمر بحضرته الثقيلة كل شىء وعندئذ لايكون هناك هذا أو ذاك، بل مجرد وجود لامتحدد ولا متيقن هو أقرب ما يكون إلى العدم)(19) فما إن يجىء المساء حتى يغيب الطائر عن الشجرة العارية وكانت تود أن تقول له( أنها لم تعد تخاف اللون الأحمر ولا الدم يسيل من فمه) لم يأت الطائر وجاء ما رمز إليه وهو السقوط على أرض الواقع الغليظ الجاسى واقع زواجها ممن لايربطها به أى علاقة إنسانية ويكون فراقها الأبدى عن والديها ووطنها ويتحول الطائر الذهبى صاحب الأسنان الدموية إلى طائرة آلية ضخمة تبتلع البشر فى جوفها الحديدى وترمى بهم فى أوطان غير أوطانهم، وتتحول الألوان أيضا حيث يتحول اللون الأحمر رمز الافتراس والحيوانية والانفصال عن الجوهر الدافئ للإنسان إلى اللون الأخضر الذبيح، ولكنه ذبح فى صمت و فى وطن غير وطنه، وهل مثل الموت قادرا على كل هذا السحق بدون صوت.
القصة لوحة سردية :
فى قصة( فنجان قهوة باردة) يلعب السرد دور العنصر الجمالى المهيمن على النص القصصى وهو ما يتماشى مع دلالتها المعبرة عن اغتراب القاص بطل القصة فهو مثقف مغترب ووحيد منعزل يحاول التواصل مع الآخرين، ولكن الآخرين مشغولون بحياتهم بعيدا عنه، ويقوم الحوار القصير الفقير فى هذه القصة بتجسيد حقيقة (اللاحوار) والانفصال بين القاص وزميله،ثم يخفت الحوار تماما، وينداح القاص فى منولوج نفسى طويل يجسد شخصية مغتربة،
لقد نجح الكاتب فى تمديده مساحة السرد على مساحة الحوار فى النص فذلك أشكل بدلالة القصة ومغزاها الذى تبلور منذ عنوانها فى (فنجان قهوةباردة) ورمزالقهوةمن الرموز الشائعة فى القص المعاصر بل أقول فى الخطاب الشعرى أيضاً فقد قرأنا كثيراً وتذوقنا رمز القهوة عند (أمل دنقل)و (سعدى يوسف)و(نزار قبانى)و(حسب الشيخ جعفر)
(ومحمود درويش)وغيرهم ولكن ما يهمنا هنا كيف بنى القاص قصته أو رمزه الكامن فى عنوان القصة وكيف تنزل هذا الرمز مستجداً فى جميع مكونات القص .قلت إن الكاتب أحسن صنعاً حين وسع من مساحة السرد وقلل من مساحة الحوار ،وقلت إن الحوار كان ينبغى الحوار وما يتطلبه من تواصل هذا ما حدث بين القاص وصديقة .(يقول لى صديقى :هل تلعب الطاولة ؟أهز رأسى وأقول له :إن للطاولة لعبتين كنت أعرف إحداهما ولعبتها مرة واحدة والآن نسيتها )يعود من جديد يسألنى :هل تلعب الديمونو؟أهز رأسى..)ثم يدخل الكاتب فى معلومات نظرية عن اللعبة دون ممارستها ثم يعاود صديقة سؤاله .هل تلعب الكوتشينة ؟فيرد علية القاص بسؤال على سؤاله.ثم يتركه ويدخل منولوج داخلى طويل عن معنى ورقة الكومى وحقيقة الرقم سبعة وهكذا لا حوار ولا تواصل وفى المقهى يصور الكاتب اغترابه ووحشته قائلاL((يتوه بصرة فى سقف القهوة المطلى بالزيت تكاد تخفيه سحابات الدخان الكثيف تبدو وسطها اللمبات الكهربائية كنجوم مختنقة )وهو تصوير جميل يبلور مكنون شخصية القاص المغتربة فالنور منطفئ من حوله .ثم يتركه صديقة يرشف قهوته الباردة ويرحل متأبطاً حبيبته ثم يصف القاص فى هيئه حبيبه صديقة الراحل وهو يغادر معها القهوة وصفاً فوتوغرافياً فنياً يكاد ينصب جميعه على هيئتها الحسية فقط بما يعمق من مشاعر اغترابه:يقول الكاتب(دون أن يودعنى يخرج وقد تعلقت الفتاة فى ذراعه نحيلة صغيرة تلم ردفيها الصغيرين فى بنطلون قصير محبوك ينزل أسفل الركبتين بقليل وحذاء دون كعب فى قدميها يظهر منه الجورب قصيراً متسخاً بياضه وبشكل لافت للنظر تبدو (الفردة) اليمنى من الجورب أقصر من اليسرى، حداية تعلقت بغراب) إن هذا الوصف الدقيق يجسد طبيعة الشخصية الفقيرة الضائعة غير القادرة على الحب والحوار سواء تمثل ذلك فى صديق القاص أو القاص نفسه أو صديقة صديقه .انهم جميعاً يشربون القهوة باردة ،فكلهم سواسية فى الاغتراب والضياع كأسنان المشط.وبعد أن يذهب صديقه متأبطاً فتاته يصفق القاص للجرسون معطياً إياه بعض النقود ولم يعطه بقشيشاً فينظر له نظرة شذراء ويبادله القاص نظرة بنظرة ويدلف إلى الشارع ناسياً الصديق كما يقول فى نهاية القصة(فى الشارع أكون قد نسيت الصديق والفتاة ذات الفم المشقوق كجرح حديث ولكن القهوة الباردة يبقى طعمها فى فمى) ثلاث شخصيات جميعهم مغتربون منبوذون فقراء تهمهم متع الحياة الحسية الصغيرة مشغلون بأنفسهم عن أنفسهم وغيرهم ،إنها قصة تجسد هذا الاغتراب حتى لتقع اللغة نفسها فى نهاية القصة فى اغتراب تركيبى أيضاً حيث يقول الكاتب (للقهوة الباردة يبقى طعم لها فى فمى) فهل رأيت هذه الجملة المعكوسة فى تركيبها والممطوطة فى تعبيرها .أنها موازٍ جمالىٍ للاغتراب فلغة الحوار مفقودة أصلا ًمنذ بداية القصة
القصة معادلاً موضوعياً أو بناء نائباً:
فى قصة :(السقوط فى دائرة المحظور) يحاول الكاتب محمد عبدالحليم غنيم أن يقدم لنا شكلاً قصصياً مختلفاً يكون قادراً على تجسيد دلالة كابوسية حيث اغتراب ذات البطل تجره إلى ممارسة بطولة زائفة عوضاً عن انعدام القدرة لدية وانمحاء ذاته فى واقعة ومن ثمة التعويض عن ذلك بالوهم العبثى الكابوسى .فالكاتب يقدم لنا مشاهد قصصية عديدة من خلال حواره مع أصدقائه والقصة فى معظمها تستخدم ضمير الغائب(هو)بما يوحى ويوهم بحقيقة ما حدث وكأنه شىء موضوعى واقعى ،ولكننا فى النهاية نرى أن الكاتب هو بطل هذه البطولة الزائفة .والقاص يرسم بطله على غرار الحساسية الجديدة فى القص لجيل بعد الستينيات :((حيث البطل فى هذه القصص ليس بطلاً على الإطلاق ،وإنما هو بطل مضاد،لا يحاول الخروج إلى العالم وفرصة رؤاه علية كما فعل بطل القصة فى الأربعينات أو الحلم بتغير واقعة المرفوض كما فعل البطل فى الخمسينات ،وإنما يؤثر الانسحاب من هذا العالم الذى لا يستطيع أن يواجهه ..وليس اللابطل سعيداً بانسحابه من العالم إنما هو تعيس بوعيه المقهور وبإحساسه الدائم بالذنب واللاجدوى)(20) والكاتب يعالج شخصية بطلة معالجه فنية قائمة على التوهم والتخيل للحدث وتوالى هذا التوهم لإقناع الآخرين بأنة قاتل فئران جيد ومن الممكن لو فكر أصدقاؤه تفكير مفيد بأن يؤسسوا معه مؤسسة لتصدير الفئران.والقصة تذكرنا بالبطولة الزائفة التى علق عليها الشاعر المتنبى وهو سائر فى الصحراء فوجدا أعرابيا قتل فأراً وقد كومه على الطريق تباهياً بشجاعة مجروحة وربما أوحى هذا للمتنبى بعد ذلك أن يكتب بيته الشهير :
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
ويظل القاص يحادث من سيقابلهم بضمير الغائب حتى يلقاهم فيسرد عليهم كل ما اختزنه لهم من أفعال وأقوال .انه البطل المهرج المغترب يفرح بإثارة غيره وجذب انتباهه ولو بالوهم فهو تحقيق لذاته ،على أى حال يقول الكاتب واصفاً ما سيحدث عندما يقابل أصدقاءه لإخبارهم بما حدث:( سيكون مشهداً مثيراً عندما يرون أربعة عشر فأراً قتلى قد تكوموا على شكل هرم يعلوهم أصغرهم حجماً فعلتها فى سبعة شهور لأن 2×7=14 وهم لاشك يحفظون جدول الضرب،سأضحك من كل قلبى عندما أراهم يرتعدون خوفاً من رؤية الفئران) إن الاندماج العميق للبطل فى تحقيق بطولته ينبهنا بعمق على مدى ما يعتريه من ضياع ووحدة وإهمال إنسانى فبدأ يتعامل مع المخلوقات الحيوانية المعزولة المهملة مثل الفئران وعبارة الكاتب (فعلتها فى سبعة شهور لأن 2×7=14) تذكرنا بالسخرية الشعرية التى كنا نلقاها لدى ساخرى العصور المملوكية المتأخرة وعلى رأسهم ((ابن سودون ))(نور الدين أبو الحسن على بن سودون)810هه-1407م(وقد اشتهر بالشعر الفكاهى القصصى المصبوب فى أشكال الموشحات والدوبيت والزجل والمواليا وفى هذا الشعر تهكم على الوعاظ والشراح وغيرهم،وله مقامات كثيرة بلا مضمون أو محتوى وله ديوان(نزهة النفوس ومضحك العبوس)وقد طبع فى القاهرة )(21) ومن يرجع إلى أشعار ابن سودون يراها تحمل خفه دم الروح المصرى الضحوك وابتدع هذا اللون الساخر الذى يشبه الشىء بنفس الشىء على سبيل الفراغ والإضحاك وهو تعبير عن عصر كثرت فيه المظالم والعجائب حتى انخرط أرباب الفكاهة فى خلق المعادل الغوى الجمالى الساخر لعصر غلب علية الفراغ والمظالم .والمؤلف فى قصته نراه يصور جواً غرائبياً متوهماً يضمد به غربته أو بطولته الجريحة الباحثة عن ذاتها فلا تجدها ولنستمع للراوى كيف يصور هذه البطولة لأصدقائه ومن ثم أخذ يشرح كيف يمسك الفأر ويقتله دون أدنى مقاومة منه ؟وأنه يستخدم فى ذلك شيئاً صلباً،أى شىء يقذف به الفأر بمجرد أنه يلمسه يضحى قتيلاً وأنه قد يقذفه بكتاب ردىء وأحياناً بحصوة كبيرة تسقط من السقف المتهالك ،وأنه فى المرة الأخيرة استخدم ساعته القديمة (التى غلب فى إصلاحها) وبعد أن يشارك القاص أصدقائه أنخاب الفرح والشراب والرقص كفاء ما صدقوه طوال السهرة ـ بعد ذلك قصد داره راجعاً مكتفياً بالإياب من غنيمة تصديق أصدقائه له وفى أثناء رجوعه حدثت المفارقةL(( تلفت حوله لم يجد شيئاً،يرعبه صرير الفئران،توقف عن السير ..يرعبنى صرير الفئران ..تطلع الى القمر فى توسل خجل من نفسه وعندما نظر إلى الأرض وجد فأرين يسيران على ذيلهما وأرجلهم الخلفية أمسك على الفور حجراً وقذف الفأرين.اختفى الفأران ..أخاف لمس الفئران ) إذا بالقاص يتحول إلى سامرىكاذب ما إن يمس شيئاً حتى يصير فأراً ويسرد الكاتب القصص الأخير من مشهداً تصويرياً يقترب بنا من العوالم الأسطورية القائمة على التحول والمسخ ( ففى هذه الأساطير يتحول الناس إلى حيوانات بقوة السحر مثل أسطورة باخوس إله الخمر حيث تروىأن باخوس استأجر سفينة من قرصانيرنبا لتنقله إلى مكان معين ولكنهم بدلا من أن يذهبوا به إلى غايته اتجهوا به إلى آسيا ليبيعوه رقيقا فحول الإله الشراع والمجاديف ثعابين وصار أسدا وأنبت اللبلاب حول السفينة… والأسطورة توحى بالحلم الذى يمتزج بالحقيقة والخيال معا ليخلق دنيا جديدة) (22) وهو نفس الجو الخيالى التحويلى الذى نراه فى ألف ليلة وليلة، ويفيد الكاتب من جميع ذلك فى تحولات كائناته وأشيائه ومسخها فئرانا وفق رؤيته القصصية فكل شىء قد يتحول فئرانا حتى ملابسه الخاصة ويسقط القاص أخيرامغشيا عليه، منهيا قصته بنس العبارة التى بدأ بها قصته، ولكن بعد تغير لغوى جذرى على العبارة ينقلها من حالة الإثبات فى بداية القص :( ما عاد يحتمل…. إذا فليبح) إلى حالة النفى فى نهاية القص على لسان كبير الفئران الذى حضر جنازة القاص مرددا :( هو المسئول ما كان يجب أن يبوح)
إن ممارسة القاص لوجوده الإنسانى بصورة فجة داخل مجتمع ينفى وجود أبنائه ويمحو ذواتهم الإنسانية قد أفقدالقاص وعيه وأدخله ذلك فى أن يعيش وهمه عن الواقع حتى صار وهم الواقع هو واقع الوهم وفى النهاية يدفع القاص الثمن، ويدفع معه الواقع الذى يعبر عنه الثمن غاليا وذلك بالسقوط فى دائرة المحظور.
ملاحظات أخيرة حول المجموعة القصصية:
أولا تفكك البنية القصصية:
على قدر نجاح القاص محمد عبدالحليم غنيم فى كثير من قصصه فى خلق البناء القصصى المحكم القادر على تشكيل الدلالة القصصية، غير أنه لم يوفق فى بعض قصصه، ومنها قصة ( أم رفعت) وهى قصة تعرض لمشكله اجتماعية نفسية معروفة لدى معظم الكتاب وتتمثل فى عدم الاتساق العاطفى وما يترتب عليه من عدم التوافق الجنسى بين الزوجين، ومن ثمة الإخفاق فى اجتراح الحياة والإقبال عليها، أو النجاح فى ميدانها الواسع، فالكاتب لم يستطع أن يبنى قصته بناء جماليا محكما يكون قادرا على إقناعنا فنيا بمغزى القصة، فهناك هذه الفجوات الفنية الفادحة فى بناء شخصية الزوج وفى بناء الحدث بما لا يقنعنا بهذا الانفصال النفسى بين الزوج والزوجة، كل ما فى الأمر أن الزوج بلا عمل، والقاص يجعل الزوجة تنفر من زوجها بعد طرده من عمله مرارا، ويجعلها الكاتب تحس فجأة وبدون مبررات :( بأن شعورين تداخلا فى نفسها شعور بالقوة والثقة تجاه الزوج الخائب الذى لا يفلح فى عمل، وشعور بالعجز والخوار كامرأة بلا عائل). ثم تترك المرأة الزوج وتنخرط فى أنانية مقيتة غير مبررة موضوعيا ولاجماليا من داخل بنية القص يتجسد ذلك فى الاعتناء بنفسها وتأمل مفاتن جسدها الأنثوى المكتنز بالإغراء، وتحسرها على نفسها، ثم تسقط ((فجأة)) أيضا فيجتمع الجيران فى بيتها، وعندما يأتى الزوج يرى زوجته ممدة على الأرض ـ ثم نرى القاص وبصورة غير موضوعية لايبررها الحدث القصصى ولا طبيعة الشخصية ـ نرى الزوج ينظر لجسد زوجته نظرات جنسية فيحدق فى هذا البياض الرابى فى فخذيها، وكأن لم يحدث شىء وبعد أن تفيق الزوجة وينفض الناس عنها، يعود الرجل لمعاشرة زوجته فى صورة اغتصاب. وبعد هذا النثر للمضمون أقول: أين القصة ؟! أين الشكل الفنى؟!
( فالشكل ـ فى نهاية المطاف ـ هو ذلك التعالق الذى يتم بين عناصر النص كلها ويقود إلى تحديد سيرورة الدلالة)(23) ولابد من تنامى عناصر الشكل والبناء الفنى من تحقيق خصائص التوازن والوحدة والاستمرار بين مكونات القص حتى لنحس أن القصة أشبه بالممرات الجبرية فلن يستطيع القاص أن يصل إلى هذه النتيجة المحددة إلا بهذه المقدمات المحددة ومن داخل المكونات القصصية نفسها حيث يقول كولردج :(( ليس ثمة ما يمكن إن يمتع باستمرار إذا لم يحتوى بذاته على السبب)(24) وما سبق يؤكد أن القاص فى قصة ( أم رفعت) لم يمر بتجربة ناضجة ولم يبنى تجربته البناء الفنى المحكم، مما أوقعاه فى عدم التجانس الشعورى والفكرىعلى مستوى الشخصية والحدث معا، ودائما الكاتب الموهوب يطير بجناحين فى سماء الفن جناح الخلق والانتقاء وجناح التشكيل (التبنين) ـ إن صح التعبير ـ أعنى بذلك ( قدرة الانتقاء والاختيار لمكونات نصه، وقدرة تشكيل هذه المكونات وإحداث التوازن والاستمرار والوحدة فيها على مدار العمل الفنى كله)(25)
ملاحظات حول اللغة:
بعد أن سقانا الكاتب كؤوس الرحيق القصصى الجميل على مدار قصصه، بيد أن كل شراب جميل مشوب ببعض الكدر، فقد وقع الكاتب كثيرا فى الجمل العارية عن جودة السبك، كما انزلق كثيرا إلى جمل مضطربة فى تركيبها اللغوى، ومن المعلوم أن القصة القصيرة بصورة خاصة دون غيرها من أشكل الفن تمثل فنا رهفا شفافا تجرحه الهمسة فى غير مكانها وتودى ببريقه نقطة الضوء فى غير افقها والفن بصفة عامة هو القدرة على صب العناصر الفنية المتعددة فى شكل جمالى متوازن ومنسجم فيه جودة التصميم وقدرة التركيب، ولكن الكاتب يقع فى مثل هذه التراكيب الفظة الغليظة:
تعبيرات لغوية قلقة:
ص5/ صدقها أهل القرية وبالذات ممن تمسهم هذه الأكاذيب
ص13/ ملت إلى تصديقه خاصة وهالتان سوداوان تحيطان بعينيه
ص 17/ ملكة هو اسمها سمراء
ص7/ وكان يومها كئيبا
ص31/ كان الولد يقترب من البنت وكانت هى مازالت تتطلع إليه
ص38/ اقترب منها أكثر/ عينيه مزيج من الشبق والشرر
ص66/ وكأنى بيدى شلت
ص95/ وخيل إلى أن لازحمة فى الشارع ولاناس بالمرة.
المستوى اللغوى الجمالى العام:
أما على المستوى اللغوى العام فى المجموعة القصصية فإنى أرى أن القاص قد عريت لغته فى مواضع ليست بالقليلة من صفاء العبارة وإشراقة الصورة وقدرتها على إثراء الحدث والشخصية، أو تجسيد الانطباع وهذا راجع إلى حداثة الإبداع لدى القاص فهذه هى المجموعة القصصية الأولى له وقد كتبها فى سن باكرة حيث سيطرت اللغة عليه وفتنته عن نفسه فوقع فى القوالب الجاهزة فى التعبير، وهذا سيلقى على الكاتب عبئا ثقيلا فى سبيل إنضاج لغته القصصية وإنضاج تجربته الجمالية فى أعماله القادمة، وأنا على يقين بأن الكاتب سيذوق العنت فى ذلك فأمامه هذا الميراث القصصى الهائل من أدبيات القصة القصيرة العربية وعليه أن يتخطى جميع ماسبقه حتى يتسنى له امتلاك ناصية ذاته اللغوية ليكون ما يكتبه ملكه الخاص موسوما بطابعه الجمالى الذى لايتكرر، إن اللغة القصصية الجاهزة أمامه مكتنزة بتجارب السابقين، وقد علقت بها أمواج إنسانية هادرة من تجارب الكتاب السابقين ومن ثم يبقى الرهان الوحيد للنجاح الفن كامنا فى السيطرة على اللغة وهذا مرهون بقدرة الكاتب على (التخلية والتحلية) معا بتعبير الصوفيين تخلية اللغة مما علق بها من وجدانات الآخرين وغسلها وتصفيتها تماما من ا لأسلاف، ثم تحليتها من ذاته من عطور روحه وظلال وجدانه وروائح هواجسه الخاصة، وبالطبع نحن نعلم أنه من النادر إن لم يكن من المستحيل أن تصفو اللغة كل الصفاء لأحد،أو حتى تنقاد له كل الانقياد، فعسير بلوغ هاتيك جدا، فغاية ما فى الأمر وهو الحسنى وزيادة أن يحاول الكاتب امتلاك اللغة من جديد، بما يجعلها تكف عن حرانها بعيدا عن ذاته وأن يكلفها من أشواقه وهواجسه ما يجعلها ذلولا طيعة قادرة على الحرث فى أفقه الخاص.
وفى النهاية أقول إن مجالات نجاح الكاتب محمد عبدالحليم غنيم فى هذه المجموعة كانت أكثر من مجالات السقوط وهذا ليس بالشىء الهين البسيط، لدى كاتب يقدم باكورة أعماله القصصية
ثبت المصادر والمراجع:
1-د محمود المرسى، الاتجاهات الواقعية فى القصة المصرية القصيرة، دراسة فى المضمون والبناء الفنى، دار المعارف، مصر، 1984، ص 210
2-آيان ريد، القصة القصيرة، تر /د. منى مؤنس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1990، ص 22
3-د. عز الدين اسماعيل، الأسس الجمالية فى النقد العربي، ط1، دار الكتاب العربي،ص 344، نقلا هن (bora) من كتابه ( تراث الرمزية)
4- آيان ريد مرجع سابق، ص 25
5-د. محمود الحسينى المرسى، نقلا عن،أمين الخولى، مجلة الآداب،ع7 ، أكتوبر/1956
6-د. عبد القادر القط، قضايا ومواقف، الهيئة العامة للتاليف والنشر،1971، ص 151
7-د. البشير المجذوب، الظرف بالعراق فى العصر العباسى،مؤسسة عبد الكريم عبد الله، تونس، مارس،1992، ص24
8-د. صبرى حافظ، استقصاءات تمهيدية حول القصة القصيرة، مجلة إبداع،ع9،السنة6،سبتمبر،1988،ص33
9- المرجع السابق،ص41
10- عباس محمود العقاد، أعمال مختارة،اعداد وتقديم أحمد سويلم، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،ص 104
11- د، صبرى حافظ، مرجع سابق، ص42
12- د، محمود الحسينى، مرجع سابق، ص88
13- د، صبرى حافظ، مرجع سابق ، ص33
14- انظر لمعرفة ذلك ،ابن الأثير، المثل السائر، تحقيق، د. أحمد الحوفى،ود. بدوى طبانة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر،ط2، د. ت ،ج3، ص72
و ـ ابن رشيق القيروانى، العمدة فى محاسن الشعر ونقده، تح، محى الدين عبد الحميد، دار الجبل ، بيروت، د. ت، ص203
15-د . خالد سليمان، نظرية المفارقة، مجلة أبحاث اليرموك، مج 9، اربد ، الأردن، 1991،ص 67
16- المرجع السابق، ص72، نقلا عن ( ميويك)
17-د. فريال جبورى غزول،مدخل إلى السميوطيقا، اشراف سيزا قاسم، نصر ابو زيد، دار الياس،ص 9، 10
18- جون كوهين ، بناء لغة الشعر، تر/د. احمد درويش، ص 154/155
19- أحمد عبد المعطى حجازى، كائنات منتصف الليل، دار اخبار اليوم، 1989، ص 53
20- د. يوسف نوفل ،قضايا الفن القصصى، النهضة العربية، القاهرة ط1،1977، ص 51
21- د. نبيلة ابراهيم، المفارقة، مجلة فصول / سبتمبر / القاهرة / ص 132
22- د. زكريا ابراهيم ، تأملات وجودية،دار الآداب ، بيروت ، ط1،1963، ص52ـ 53
23- د. صبرى حافظ ، مرجع سابق، ص42
24-د/ شوقى ضيف، فى الشعر والفكاهة فى مصر، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1999،ص 100ـ 118
25-د. مجدى محمد شمس الدين، الأسطورة، مجلة آفاق عربية، ع9، ايلول، العراق، 1987، ص71
26- د. بشير القمرى ، شعرية النص الروائى،
27- خلدون الشمعة ، معنى الشكل فى العمل الأدبى، مجلة المعرفة السورية، ع 135، أيّار، 1973،ص 157
28- د. أيمن تعيلب، البناء الفنى والهم الحضارى فى الشعر الليبى المعاصر، مجلة الفصول الأربعة، ليبيا ،ع88 / السنة21/ يوليو 1999/ص23
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[SIZE=5]جدلية الشكل والدلالة فى القصة القصيرة[/SIZE]
( لن أقلع عن هذه العادة)أنموذجا
للكاتب الدكتور محمد عبدالحليم غنيم
دراسة : د. أيمن تعيلب
القصة القصيرة لها علاقتها الوثيقة بالواقع الحضارى الذى تصدر عنه، بيد أن هذه العلاقة لها الكثير من الخصوصية والتعقيد والتفاعل، فلا نستطيع مثلا أن نقول بأن القصة القصيرة تعكس الواقع الاجتماعى الذى تعبر عنه انعكاسا آليا، ولاحتى انعكاسا تعبيريا، فلم تعد القصة القصيرة محاكاة للواقع وإن كانت بالفعل هى محاكاة ولكن محاكاة خلاقة، ولانستطيع أن نقول بأنها تعبير عن الواقع وإن كانت فى الحقيقة أدق تعبيرا عن الواقع من معطيات الواقع نفسه، ولكن القصة القصيرة هى قوة خلق هائلة أشبه ما تكون بالمعادل الجمالى الموضوعى الموازى فى معطياته الجمالية والروحية لمعطيات الواقع الحسية. وقد سلخت القصة القصيرة من سنى عمرها الفنى وتطورها الجمالى زمنا تطورت فيه من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى الواقعية سواء كانت تسجيلية أو تحليلية أو نقدية أو موضوعية حتى وضعت عصا التسيار الفنى على أرض القص الحداثى الذى غابت معه البنية التقليدية المتعارف عليها فى القص من وحدة الزمان والمكان والشخصية والحكاية والعقدة والحل ، فقد حدث هذا الانقلاب الجمالى فى جماليات القص الحديث بما يوازى الانقلاب العلمى والفكرى والفلسفى والحضارى الذى جد على الواقع الذى نعيش فيه فكل تغير اجتماعى فلسفى قد استتبعه جوهريا تطورا فى تقنية التركيب ومستوى الدلالة وزاوية الرؤية فى القصة، وقد وقف القصاصون طرائق قددا من زاوية النظر سواء إلى مستويات التشكيل الجمالى للقصة أو مستويات تعدد الدلالة الإنسانية داخل البنية الجمالية للقص ، ومن ثم فقد استطاعت القصة القصيرة عبر عمرها الفنى القصير أن تشق لها قنوات جديدة فى البناء والرؤيا.
وقبل أن نتناول المجموعة القصصية التى بين أيدينا الآن نود أن نقدم تصورا سريعا لفن القصة القصيرة ، هذا الفن الغامض المراوغ الرهيف البناء ، حيث ( لانجد لونا قصصيا تنوعت فيه الأساليب واختلفت فيه الاتجاهات كما نجد فى القصة القصيرة، ولانجد لونا قصصيا طرأ عليه من أساليب التجديد والتطور والثورة على الأساليب القديمة كما نرى فى القصة القصيرة، فهناك قصة الحدث وقصة الشخصية وقصة اللقطة أو الموقف وهناك الصورة القصصية واللوحة القصصية والقصة التى تقوم على السرد وحده والقصة التى تقوم على الحوار وحده أو المنولوج الداخلى ( تيار الوعى)) (1) وهذه الحيرة الاصطلاحية ـ إن صح التعبيرـ فى النص السابق يحسها كل من خاض فى وضع اصطلاح علمى محدد لفن القصة القصيرة، ولعل( ايان ريد) فى كتابه القصة القصيرة يضع أيدينا على بواعث هذا القلق الاصطلاحى فى تعريف القصة حيث يقول: ( إن التحديدات الوصفية لمعنى القصة القصيرة لاتكفى لأنه من الواضح أن هذا الفن الأدبى ليس له صفاء الفن الأدبى الواحد) (2)
فالقصة القصيرة فيها من الشعر مشابه وهى ليست بشعر ومن الرواية مشابه وهى تختلف عن الرواية، إذن طبيعتها لاتدرك فيما نرى إلا فى شبكة علاقات متعددة مع الفنون الأخرى القريبة منها سواء كانت الرواية أو الرواية القصيرة إن فن القصة القصيرة هو فن ( الأعراف الجمالية) لو صح التعبير ، فهو فن لايتمتع بحالة من اليقين الجمالى النسبى فالقصة القصيرة دائما نقطة مشعة دائما كما يقول (BOWRA) إن أى تعريف لها إما ( أن يكون واسع جدا أو يكون ضيق جدا) (3) ويعرف (آيان ريد) القصة القصيرة قائلا:ً( القصة القصيرة تقدم شريحة من تجارب الحياة فى حين أن الرواية تنبنى حول أزمة(CRISIS0) وأن الحبكة أو البناء (PLOT) للقصة القصيرة يشبه الشبكة المتداخلة خيوطها بعضها فى بعض ، بينما يقدم حبكة الرواية القصيرة اتجاها تصاعديا ذا ذروة ثم يهبط خط سير الأحداث بعده والبناء الفنى للرواية القصيرة يظهر مسلسلا تسلسلا منطقيا وهو فى هذا يتناقض تناقضا واضحا مع بناء القصة القصيرة الذى كثيرا ما يظهر غير منظم وأحيانا مطولا بطريقة معقدة أو مركزا وغير متناسق) (4) فما يميز القصة القصيرة عن سواها سواء كانت رواية أو رواية قصيرة هو التركيز فى كل شىء أنها فيما أرى نقطة الضوء التى تلخص خصائص الضوء كله، وقطرة المحيط القادرة على اختزال صفات المحيط كله، والشجرة التى تختزن الغابة كلها، فهى مركزة فى الحدث وفى الموقف وفى الشخصية وفى اللغة وفى الصياغة، ويجب أن نكون على وعى بأن معنى التركيز يختلف عن معنى الاختزال، فالتركيز يعنى القدرة على الرؤية الكلية من خلال زاوية صغيرة، أما الاختزال فهو الإخلال بهذه الرؤية وعدم القدرة على السيطرة على الشكل، ويعرف أمين الخولى القصة القصيرة بأنها ( ليست ديباجة مرصعة ولا ألفاظا منسقة ولا أحداثا لافتة ولا حركة عنيفة، ولا عقدة دقيقة ولا حبكة متينة، بل هى همسة أو لمسة خفيفة أو دمعة أو مسقط ظل أو إشعاع ضوء) (5) ولعل غلبة الحس الاستعارى على تعريف أمين الخولى السابق نابع من صعوبة تعريف القصة القصيرة بصورة دقيقة ويدفع الدكتور عبد القادر القط بالتعريف إلى تحديد أدق يقترب من دقة الحسم الاصطلاحى ــ لو صح التعبيرــ ( فالقصة القصيرة لا تعدو أن تكون حكاية لحادثة قصيرة ذات مغزى خاص، أو رسما سريعا لانطباع من الحياة عن شخصية من الشخصيات، أو جو من الأجواء، إنها لقطة واحدة لا تعتمد على سعة المنظر بقدر ما تعتمد على ما تلقيه من ظلال وأضواء واختيار فنى) (6)
إن الجهد الجهيد فى جميع التصورات السابقة من أجل الإمساك بكنه القصة القصيرة نابع من طبيعتها المراوغة المتأبية على التحديد كما انه نابع من الصيرورة الجمالية المتحركة والمتعددة لجماليات القصة القصيرة فهى بقدر ما تحاول الثبات على هوية محددة بقدر ما تنفر من هذه الهوية وتكمن فى سياقات جمالية جديدة لاتهدأ ولاتقر إنها الحياة نفسها فى قبضها وبسطها وفى تمددها والتوائها على نفسها، وهذا راجع كما أشار (آيان ريد) إلى أن فن القصة القصيرة لايعرف صفاء الفن الواحد، بل تنطوى فى مسارب فنية متعددة فهى فن الأعراف الجمالية كما ألمحت آنفا ولايبقى لنا فى النهاية فى محاولة تعريف هذا الفن الصعب سوى القدرة على وعى روح الفن العامة والتى ترى أن الفن(( توازن لطيف مهدد بالتلف فى كل حين وهو توازن محكم دقيق بين عناصر عدة محددة النوع فى المقدار، وإن أدنى ذرة من الزيادة أو النقصان وأى صورة من صور التغيير والتحوير تخل بهذا التوازن المنشود وتدخل على الأثر الفنى من التشويش والاضطراب ما يتبدل معه تبدلا كليا)) (7) ومن ثنايا هذه التوازنات الجمالية الرهيفة يتخلق دائما الشكل الفنى للقصة القصيرة، وقد يتراءى لحدس الفنان أن يسلط طاقة الضوء على هذا الجانب البنائى فى القصة بإشعاع أعمق من هذا الجانب الآخر وقد يرى كاتب آخر غير ذلك وكل على صواب فنى طالما يحدوه الصدق الفنى فى الرؤية والدقة فى الأداء.
لقد استطاع الكاتب الدكتور محمد عبد الحليم غنيم فى مجموعته القصصية ( لن أقلع عن هذه العادة) أن يجرب أشكالا قصصية متعددة عاناها الكاتب معاناة موضوعية من خلال شخوص وأحداث وبناء قصصه وقد كانت هذه الأشكال الجمالية ضرورة حتمية على مستوى الشكل والدلالة معا( ذلك أن تحولات المعنى التى نجدها فى هذا الجنس ا لأدبى ـ القصة القصيرة ـ تقدم لنا تفاصيلها بنفس المقدار من الأهمية والوضوح عبر قضايا الشكل وأدوات التعبير ونوعية الأساليب اللغوية وتغيرات القاموس القصصى واختلافات قواعد الإحالة على الواقع) (8)
فى المصطلح الإبداعى:
تشتمل المجموعة القصصية لن اقلع عن هذه العادة على تسع عشرة قصة قصيرة تتراوح ما بين القصة القصيرة والأقصوصة، وسأحاول معالجة بعضا من هذه القصص التى رأيتها قادرة على اختزال العالم القصصى للكاتب شكلا ودلالة، ومن ثم كان تركيزى على الأشكال التالية:
1-القصة صورة إيقاعية:
يحاول القاص فى قصة( ملكة) أن يصور تجربة عاطفية حميمة بينه وبين ملكة ولعل الدلالة الرمزية منذ البداية توحى لنا بتتويج ملكة على عرش فؤاده، حيث تنمو عاطفة الحب بينهما نموا بريئا بين فتى وفتاة يعملان فى الحقل، وعلى الرغم من أن البطل لم يتعد طور الرجولة الكادحة بعد إلا انه يعمل فهو من الطبقات المكدودة التى تعمل سحابة نهارها لتوفير قوت يومها وقد استطاع الكاتب أن يتدرج فى وصف عاطفة الحب بينه وبين ملكة عبر بناء قصصى دقيق ومحكم وصل حد التجريد الشفيف حتى ليتاخم بالقص حدود الإيقاع الشعرى ، فهو يصف شخصية ملكة فى بداية قصته بقوله (ملكة نحيفة تلمع عيناها ببريق شقى ،نهارها فى الحقول بين أعواد الذرة أوشجيرات القطن،تجمع الحشائش أو بين شتلات الأرز فى المياه الضحلة ) وهو وصف قصصى دقيق يبنى شخصية ملكة فى عالم من البراءة الشقية حتى كأنها فراشة بين الحقول .ثم يبدأ العمل ويكون عمل الراوى بجوار عملها فى خط حقلى واحد: ((جاء خطى بجوار خط ملكة ،فكان مكانى بين ملكة وجارتى أم أحمد...وقبل أن نقطف أول ثمرة قطن مالت على جارتى وحذرتنى من ملكة ..شكرتها بالطبع ويبدو أن ملكة لاحظت ذلك فغمزت لى بعينها الجميلة الشقية) ولعلَّ تكرار اسم الشخصية ملكة فى المشهد القصصى أكثر من أربع مرات يحفر عميقاً فى وعينا تتويجها على العرش الجمالى للقص وعرش فؤاد القاص معاً ،وتكرار الاسم سيوفر على طوال القصة حساً إيقاعياً وبنائياً فى آن واحد.وينتقل الراوى بذكاء القاص ليخلق مفارقة عميقة بين براءة حبة لملكة وقبح علاقة أم أحمد بصاحب الحقل/ والكاتب يخطف بقلمه لمسات لغوية مركزة ليعمق حقيقة المفارقة بين العلاقتين ولكن تظل علاقة القبح فى الظل على مستوى السرد والوصف وتبقى علاقة الطهارة فى النور على مستوى السرد والبناء القصصى فالقصة القصيرة بطبيعتها لا تحتمل سوى التركيز والنبضات اللغوية لا التفصيل الممل وللانتقال من التفصيل إلى التركيز ابتكر القاص حيلة قصصية جميلة نقلة من تأخره فى جمع خط القطن الخاص به حتى يلحق بملكة ولنلاحظ هذا الرمز الخفى الجميل لكلمة (خط الجمع) فالقاص لم يعد قادراً على أن يجمع بأم أحمد خط القبح،بل هو لهيف إلى أن يجمعه بملكة خط واحد خط الحب الشجى الرقيق،فكان أن رأى فجأة أن ( كان خطى شبه مجموع ،لقد كانت ملكة تجمع كل الثمرات التى تميل على خطها وفى الأمام كان خطى مجموعاً تماما،وهكذا وجدت نفسى بجوار ملكة أسبق الأنفار بعدة أمتار وهنا نلمح كتله من الرموز اللغوية القصصية الشقيقة النابعة من طبيعة الحدث والشخصية نفسها ،فثمة رمز (الخط)ورمز (الجمع) ((وعبارة كنت أشعر بقوة خفية تدفعنى للابتعاد فلم أعد أساعد جارتى وبدأت أسبقها)وهنا السبق يكون جميلاً من مجال القبح إلى كون الطهارة ثم يعمق هذا الحب فيجعل ملكة ـ تمهد له خطه ـ إن صح التعبير حتى يصير إلى جانبها لا وراءها كما هو الحال فى العلاقة القبيحة بين جارته أم أحمد وصاحب الحقل فدائما الحب العميق الدافىء العميق يحتاج هذه الندية والمساواة فى النور فهو طلق المحيا، أما العلاقة القبيحة المتردية بين صاحب الحقل وأم أحمد تأتى متأخرة فى خطها ـ خط القطن ـ وخط العلاقة الإنسانية تكتنفها الظلمة والوحدة، ومن هنا كان تعبير الكاتب موفقا فنيا فى قوله:(( وجدت نفسى بجانب ملكة أسبق الأنفار ، وجارتى وصاحب الحقل بعدة أمتار) والكاتب هنا يصفى لغته من الزخارف ويجعلها صافية موحية ويحكمها فى مكانها كأنها العضو الحى فى الجسد الطليق، ويبدو أن الكاتب كان على وعى بأن اللغة فى القصة القصيرة ليست فقط مجرد أداة تعبيرية بل هى أيضا أداة بنائية دالة بل تصير اللغة نفسها هى القص والجمال معا مثلها مثل القصيدة الشعرية وانظر إلى لغة الكاتب فى سرده وما يحتويه من رمز شفيف فى تعميق المشاعر بينه وبين ملكة (بعد أن تناولنا طعام الغذاء،استلم كل واحد منا خطه من جديد، المتقدم متقدم والمتأخر متأخر ، الآن الشمس فى ظهورنا أيضا، ملكة بجوارى نسبق الأنفار، أنا وهى بعدة أمتار. كنا قد تحدثنا فى أشياء كثيرة فعرفت اسمى وأسماء إخوتى وأخواتى ولماذا أعمل ويبدو أنها كانت تعرف عنى أكثر مما أعرف عن نفسى، لأنها أكبر منى وحدثتنى عن جارتى وصاحب الحقل، وكانت تفهم ما يدور تماما وانفكت عقدة لسانى وتمنيت لو أن المدارس تغلق وأظل أعمل طوال العمر بجوار ملكة، ووجدتنى أختلس النظر إليها من آن لآخر، بينما تحدق هى فى وجهى ، مع الوقت لم أعد أختلس النظرات وكنا نبتعد مع الوقت عن الأنفار ونوغل فى الابتعاد وعند ذلك قالت ملكة) إلى أن يقول الكاتب على لسانه مستشعرا حب ملكة وجمال الكون من حوله( كانت الشمس تميل نحو الغروب، وبدأت تهب علينا نسائم رطبة، وقلت فى نفسى ما أجمل الحياة) ولعل شعرية القص هنا تذكرنا بشعرية الحب عند العقاد فى قوله وقد صفت السماء:
صفحة الجو على الزرقاء كالخد الصقيل
لمعة الشمس كعين لمعت نحو خليــل
رجفة الزهر كنجم هزه الشوق الدخيل
حيث يممت مروج وعلى البعد نخيــل
قل ولا تحفل بشىء إنما العيش جميــل (10)
وهى لحظات إنسانية صافية مشرقة تتجلى للروح عندما تحط عنها أثقال الدنيا وشواغل العيش وتسبح مرفرفة طليقة فى روح الطبيعة، وهل أرق من الحب قادرا على أن يدخلنا ملكوت هذه اللحظات الصافية الطليقة.
ويظل الكاتب مرددا لاسم ملكة فى كل مشهد قصصى وذلك مما يعمق الحب بينهما فى السياق القصصى وذك من خلال رسم العلاقة المتضادة بينها وبين أم أحمد وصاحب الحقل، وبعد أن يطلق صاحب العمل سراح العصفورين الصغيرين نرى القاص يردد اسم ملكة حوالى خمس مرات فى الفقرة الأخيرة من القصة( ومن ليلتها أصبح اسم ملكة يتردد فى بيتنا، كلما هم أحد أن يداعبنى نادانى باسم ملكة فكنت أضحك فى البداية ولكن مع مرور الوقت كنت أغضب وأشعر بالغيظ، ترى هل تغضب ملكة إن ناداها أحد باسمى ) وبهذا الحلول العاطفى حيث يحل اسمه فى اسمها فهل ياترى يحل اسمها فى اسمه ، فهما روحان قد حلا بدنا ويظل القارىء حاملا لعبير لاينتهى بهذه النهاية المفتوحة على أفق الحب الرحيب ولاينسى أيضا انغلاق خط القبح والسقوط بين أم أحمد وصاحب الحقل.
القصة بنية كنائية:
يجوز لى أن أطلق على الكاتب محمد عبدالحليم غنيم مؤرخ القهر الشعبى أو عازف القهر الشعبى ـ إن صح التعبيرـ فدائما أبطاله فى قصصه ضائعون مجهولون يسحقهم الفقر وتتناوبهم العلل والأوجاع، فقد شبوا فى مؤسسة اجتماعية قائمة على بنية التناقضات والصراعات وتخثر الأحلام الخاصة والعامة، ويشير صبرى حافظ إلى هذا التوجه من القص الذى نشا بعد فترة الستينات بقولهL(( استطاعت هذه القصص من خلال التركيز على الجزئيات الحسية الملموسة وحدها أن تكشف عن وجود بلا ماهية وعن هياكل بلا جوهر من خلال تصوير الواقع باعتباره سجنا للأبطال المغتربين المرفوضين العاجزين عن التكيف مع الواقع الخارجى أن تبرز مدى ما فى هذا الواقع من قهر وخواء)(11) هذا ما نراه جليا فى أقصوصة ( الثعبان ذو القرنين) التى يصور فيها الكاتب موت الحب بين السيدة (س) و الأخ الأكبر للكاتب، ولنلحظ هنا منذ البداية توظيف الكاتب لتقنية محو الشخصية من خلال تجريدها من اسمها الدال على هويتها، وقد أشار الكاتب لها بالحرف (س) كناية عن الانغمار فى هوية الطمس والتلاشى ، فمنذ أن أعلن الكاتب الفرنسى( الان جرييه) فى كتابه الشهير ( نحو رواية جديدة) وقد أضحت تقنية توظيف الأرقام عوضا عن السماء فى الرواية الحديثة تقليدا روائيا فاشيا فى القص الحديث، والكاتب محمد غنيم يضعنا مباشرة فى عمق الحدث منذ الجملة الأولى من قصته، هذه الجملة المكونة من الفعل ( طال ) والفاعل المكون من مضاف ومضاف إليه ( مد الصمت) بهذ التركيب يضعنا الكاتب مباشرة فى قلب الحدث القصصى (( فالقصة القصيرة تقاس بالعبارة الواحدة والكلمة الواحدة بل بالحرف الواحد) (12) وذلك لأن القصة القصيرة أشبه بقصيدة الشعر، وكتاب القصة يتفاوتون فيما بينهم فى التوظيف اللغوى المحكم لقصصهم والكاتب يقع فى المرتبة الرفيعة من هذا التوظيف اللغوى ، فجملة البداية فى القصة تلتقى بجملة النهاية فى الفعل والفاعل فى جملة ( طال مد الصمت) حيث ينهى قصته بجملة مماثلة ( فصمت على أثرها ثم تركنا ) ومعنى قصة تبدأ بالصمت وتنتهى بالصمت وترتع ما بين البداية والنهاية سموم الثعبان ذى القرنين وليس القرن الواحد / ولكن كيف بنىالكاتب قصته ؟! بنى الكاتب قصته على الرمزية وأقصد بذلك أن الكاتب قد صورالحدث تصويراً شفافاً يختلط فيه الواقع بالرمز وبالخيال وقد أوغل فى رمزه تخوم الكناية الموسعةوالكاتب يحكى قصة حب ماتت بفعل تحويل العواطف إلى سلع تجارية تباع وتُشترى فيموت الحب بين السيدة (س) وأخيه الأكبر الذى سافر ليستطيع البناء بحبيبته غير أنة ما يلبث أن يعود فيراها وقد سيقت إلى شخص غريب قد بنى بها لا يليق بجمالها ويبدأ الحدث مباشرة يقول الكاتب : (إنها عازفة عن كل أنواع المتع انتبه أخى الأكبر وكمن كان غارقاً فى حلم طويل وقال موجهاً حديثة إلى الفراغ من حولنا هل هذه الحكاية صحيحة)
يضعنا الكاتب مباشرة فى قلب الحدث لولا هذا الخطأ التعبيرى فى (وكمن) لكن لا ضير على الكاتب أن ينتبه إلى هذا فى قصصه القادمة -ثم يسرد الكاتب حكاية ما حدث وشيوعه بين أهل القرية وقصة زواج السيدة (س) من غريب، ومرض أخيه على أثر ذلك،ولكن تثور من حين لآخر قصه أخرى صغيرة بجانب القصة الأصلية السابقة وهى حكاية الثعبان ذى القرنين الذى شاهدة الناس كثيراً بجوار السيدة (س)وهى تقنية قصصية بديعة تذكرنا بالإطار الحكائى التوالدى فى قصص ألف ليلة وليلة حيث تكون القصة الأم تمثل الإطار الحكائى الكبير ثم تتوالد فى داخلة حكايات كثيرة تتفاعل معه وتنمية حتى بلوغ الحدث ذروته.هذا الثعبان يظل يخايلنا طوال القصة هل هو حقيقة أم وهم ؟هنا يختلط الوهم بالحقيقة حتى أن أخ الكاتب يقول أثناء مروره ببيت حبيبته السابقة ،هل رأيت الثعبان ؟فقلت: ((لا فدهش:كيف ذلك لقد كان بجوارها على المصطبة قرناه كبيران؛كيف لم تراه؟فقلت محتجاَ.لكننى لم أره…أقسم لك أننى لم أره))
وهنا تبرز مفارقة عميقة بين الأخ الأكبر رمز الوعى والشقاء وبين الأخ الأصغر الغرارة والبراءة
فقد قال الأخ الأكبر للأصغر بعد عنت الجدال عن حقيقة الثعبان :(فقال وقد اكتسى وجهه بحكمة عميقة أعادت إلى نفسى السكينة) أصدقك والكاتب بارع فى توظيف التقنيات القصية الداخلية فى قصصه ليعمق من قصة الأم،وهذا أمر بالغ الخطر فى بنيه القصة القصيرة إذ لابد له من كاتب ناضج يسيطر على أدواته جيداً حتى لا ينفلت منه الحكى أو الشخصية أو الحدث الرئيسى فى القصة ولكن الكاتب يوظف ذلك بموهبة الفن ونضج الأداة معاً لديه .وبعد أن يصدق الأخ الأكبر براءة أخيه الأصغر يعود إلى منزلهم يلفهما الصمت وقبل أن يدخلاه ينبئهما صوت الناعى بالمسجد بموت السيدة(س) وهنا يتوهج الرمز الكنآئى/ الثعبان ذى القرنين بعدأن تداخلت فيه على طوال القصة حدود الوهم بحدود الحقيقة ، فنراه السبب الرئيسىفى موت السيدة ( س ) ،ولكنه هل كان حقيقة أم وهماً كان واقفاً أمام خيالاً ؟!لا يهم جميع ذلك فما تأكدنا منه وصار تقنياً فهذا الثعبان قد قتل السيدة (س) فعلاً بدلالة واقعة موتها وهنا ينجح الكاتب فى الكشف من خلال هذا الرمز الذى كن به عن تسمم العلاقات الإنسانية فى واقعة وذلك بتحولها من علاقات أتساق وانسجام ودفىء !، علاقات صراع واستهلاك واغتراب فقد بيع قلب السيدة (س) معدومة الهدية إلى من لا يليق بجمالها ،وهل يباع الجمال!!! وهنا تكون الصورة الرمزية الكنائية شكلاً قصصياً جمالياً قادراً على الجدل بين متطلبات الفن وشروط الواقع ((فالجدل بين أى شكل أدبى والواقع الاجتماعى والثقافى الذى يصدر عنه جدل متعدد المستويات تساهم فيه جميع مكونات هذا الواقع ،وتلعب فيه بعناصره المختلفة أدواراً متفاوتة الأهمية فى بلورة المحصلة المعرفية النهائية للنشاط العقلى و النفسى والجمعى فى لحظة حضارية معينة ..وتنطوى قبل كل شىء على أيدلوجية هذه الجماعة التى قد تعيها أو تكون غائبة عن وعيها برغم انطباعها عنه)(13) وإذا كانت الكناية قادرة على تجريد من تكنى عنه فى صفة واحدة تكون ظاهرة ودالة فقد حددت الكناية هذه الصفة الدالة فى رمز التسمم بل التسمم العارم بدليل إضافة(ذى القرنين)إلى هذا الثعبان بل فشا هذا السم على جميع البناء القصصى فنراه فى الشخصية التى تسممت فانقرض كلامها وتحول إلى صمت نلحظ ذلك فى سرد الكاتب عن موقف أخيه عندما أقترب من دار حبيبته السابقة (وقف أخى فوقفت حياها بيده دون أن ينبث بكلمه ولم ترد أو تستجيب له بأى إشارة ظل واقفاً يحدق فيها للحظات وكان يتمتم بكلمات كأنها صلاة،فلم أفهم منها شيئاً) هنا الشخصيتان بكماويتان لا ينبثان ولاينطقان فقد فقدا دلاله وجودهما وهى الحب القادر على التواصل الغوى ؛ونفث السم فيها نفثاته فانقرض الكلام وتتكرر دلالة الصمت كما قلنا فى بداية الجملة الأولى من القص إلى وسط الأحداث كما بينا فى موقف أخيه المار على بيت حبيبته السابقة إلى الفقرة الأخيرة فى القصة حيث يقول الكاتب(وسرنا إلى البيت يلفنا الصمت)إلى الجملة الأخيرة فى القصة حيث يقول الكاتب(فصمت على أثرها ثم تركنا ومضى)وتنتهى القصة بالموت كما بدأت بالصمت.
القصة بنيه مفارقة رمزيه:
المفارقة لغة (اسم مفعول) من (فارق) وجذرها الثلاثى:(فرق) والفرق فى اللغة خلاف الجمع ..ويقال :(فارق الشىء مفارقة وافتراقا)ً أى باينه وفارق فلان امرأته مفارقة وفراقا باينها وافترق عنها ..) وقد وردت ألفاظ ومصطلحات بلاغية عربية قريبة من معنى المفارقة مثل(السخرية) و(الهزء) و(التهكم)و(الازدراء)و(الغمز)وغيرها،أما فى الاستعمال البلاغى فقد استعملت طيفاً من معنى المفارقة فى مصطلح (التعريض)و (التشكك)والمتشابهات و(تجاهل العارف)و(تأكيد المدح بما يشبه الذم) و(تأكيد الذم بما يشبه المدح) وقد تعددت صور المفارقة ـ كما يشير خالد سليمان ـ بصورة يصعب معها حصر أنماطها ،وقد تعددت طرق تنظيرها فتارة من جهة درجاتها وأخرى من جهة طرائقها وأساليبها،ومنها اللفظية ،ومفارقة المواقف التى تنقسم بدورها إلى خمسة أنماط،مفارقة التنافر البسيط،المفارقة الدرامية ومفارقة الأحداث،مفارقة خداع النفس،مفارقة الورطة)(15)
وسوف نتناول فى قصتنا السابقة المفارقة الدرامية وهى تكون :(عندما نرى شخصية ما تتصرف بطريقة تتصف بالجهل بحقيقة ما يدور حولها من أمور،وخاصة عندما تكون هذه الأمور بالصورة التى تراها بها الشخصية مناقضة تماماً لوضعها الحالى)(16) والكاتب محمد غنيم يبنى قصته :(الطائر الذهبى)بناءا رمزياً قائماً على المفارقة حيث يعقد الكاتب من قصته بتداخلات مستويات الرمز بمستويات المفارقة وهى صورة جديدة من صور المفارقة القائمة على تصوير وضعين إنسانيين متناقضين يرمز كل وضع فيها إلى نقيض ما يبدو علية ثم يرمزان معاً من خلال جدلية الطيران/السقوط إلى فداحة انقسامات الذات الإنسانيه التى هى بدورها موازٍ جمالى لانقسام قيم الواقع الاجتماعى المحيط بالبشر الذين يحيون فيه/وقد قصد الكاتب بقصة الطائر الذهبى إلى تصوير أحلام شريحة من شرائح المجتمع قد طحنها الفقر واستبدت بها الحاجة فاضطرت إلى محاولة بيع ابنتها لغريب ثرى يتزوجها بماله وربما كان هذا الغريب من بلدة أخرى غير بلدة هذه الفتاة بدليل ركوبها الطائرة إليه،وموضوع القصة موضوع شائع بين كتاب القصة والرواية بل وحتى بين الشعراء المعاصرين سواء كانوا رومانسيين الذين بدأت عندهم بوادر سقوط المرأة المطحونة أو عند الشعراء الواقيين الذين جعلوها رمزاً متعدد المستويات فنياً وحضارياً،فالموضوع كما قلت مطروق فى الطريق كما يقول الجاحظ ولكن استطاع الكاتب محمد غنيم أن يرقى بالموضوع إ لى الفن ليصير إلى كيفيات جمالية خاصة يقرن بها كثيراً مرجعيته الاجتماعية وهو ما يعنينا هنا فى هذه القصة والكاتب يبنى قصته بناءاً محكماُ من خلال بنية المفارقة الرمزية كما قلت والشىء اللافت للنظر أن الكاتب يفعل ذلك على طوال المكونات البنائية للقصة /الحدث /السرد/الشخصية ـالحوار و كأن هذا الرمز كنقلة ماء انسربت متخللة خلايا يوازيه بنية المفارقة التى تجلت على جميع مستويات القص من الكلمة إلى الجملة إلى الفقرة. ففى بداية القصة يقول الكاتب: ( حط الطائر الذهبى الضخم الكبير فوق شجرة التوت العارية أمام البيت الصغير،كانت شجرة ضخمة كبيرة لا تثمر ،وليس لها فى ذلك ذنب :وما ذنبها إذا كانت ذكرا لا أنثى ،وكانت تميل فوق البيت الصغير بفروعها فلا تحميه من برد الشتاء أو تقيه من حرارة الصيف،أما الطائر فكان له جناحان من ذهب وأرجل رفيعة وطويلة من ذهب، ومنقاره هو أجمل مافيه من ذهب، وشجرة التوت والبيت الصغير ليسا من ذهب، أسنانه فقط هى التى لم تكن من ذهب كانت حمراء كالدم، والفتاة لاتحب اللون الأحمر وهى فى ذلك حرة، هى تحب اللون الأخضر وكل الأطفال والفتيات يحبون اللون الأخضر) وهذا المشهد القصصى يجسد من خلال الرمز جوهر القصة كلها ولكم تظل هذا ا الإجمال تنمو وتطرد بعمق وإحكام على طوال القصة بين الفتاة بطلة القصة ووالديها، بين الفتاة الفقيرة الحالمة بطائر ذهبى جميل يأخذها على جناحيه إلى عالم المودة والسكينة وبين والديها الحالمين بحياة خارج حياة الفقر وبأى ثمن حتى لو كان الثمن هو الفقر نفسه ولكن فى صورة أخرى خادعة من الغنى السطحى الذى يملؤ جيوبنا ويحرق قلوبنا، فالذى فعله الوالدان على طوال القصة مخافة الفقر هو الفقر فى أبشع صوره، وبهذه الأحاسيس المزدوجة سوف تنمو المفارقة ومنذ اللحظة الأولى من الحكى ينمو حس المفارقة( حط الطائر الذهبى الضخم الكبير فوق شجرة التوت العارية أمام البيت) نلحظ الرمز والمفارقة يتوازيان على جميع مستويات القص،فمن جهة اللغة نلحظ المفارقة بين الطائر الكبير/ وبيت الفتاة الصغير/ بين شجرة التوت العارية، الفقير المجدبة، فهى رمزللذات الفقيرة أو رمز للوطن المجدب على المستوى الروحى والمستوى الاجتماعى وهذه الشجرة العارية لاتحمى من برد الشتاء ولا من حرارة الصيف،كل هذه الرموز الصغير المنبثة فى اللغة تتفارق وتتقابل أمام عالم الطائر الكبير الضخم، الذى منقاره من ذهب، ويكاد الكاتب يصل بأعماق رمزه إلى استبطان أعماق الحروف والألفاظ، وليس فقط الفقرات والمشاهد القصصية، فهناك المنقار وما يرمز به إلى التمزيق والافتراس وهذا الموت القادم يحمل بين ثناياه فم من ذهب فأجمل مافيه كما يقول المؤلف منقاره الذهبى ولكن أسنانه ليست من ذهب بل من دم أحمر، إن هذا التداخل التصويرى الرمزى بين المنقار والأسنان وجمع ما لايمكن جمعه فى ربقة تصويرية واحدة يعمق من الإيحاء الرمزى فى هذه القصة، بل يكاد البناء اللغوى للقصة أن يكون رمزا خالصا حيث يتوالد الرمز فى هذه القصة فى دوائر مائية متتابعة متوالدة كماء ألقى فيه بحجر.
إن قدرة الخيال الطليقة هى التى جمعت بين المنقار الذهبى والأسنان الدموية فى طائر واحد،ثم يتنقل الكاتب فى الصيرورة المزية للألوان من الأحمر، والذهبى إلى اللون الأخضر الذى تحبه الفتاة وكل الأطفال الذين فى مثل سنها، ومن خلال جدلية الألوان، وإحداث هذا التوازن الرهيف اللطيف بينها وبين البناء القصصى كله يصفى الكاتب رموزه ويركزها حتى تصل إلى مشارف التجريد والتقطير الفنى الدقيق، حتى ليستطيع الكاتب أن يختزل جميع صور المفارقة والتقابل فى البناء القصصى كله إلى مفارقة الألوان وجدليتها الرمزية، فاللون يتنامى ويتلاحق فى القص من خلال الطائر الضخم والبيت الصغير والمنقار الذهبى والأسنان الدموية والشجرة الصغيرة وعريها الممتد وعدم جدواها فى صيف أو شتاء، كل هذه المقابلات تختزل فى ثلاث ألوان تتجادل وتتصارع هى الأحمر الدموى والذهب والأخضر/ فالسياق القصصى يتنامى فيه الحدث من خلال أشكال جمالية متعددة يضمن تطور الحدث من جهة وتماسك البناء القصصى من جهة ثانية،ويجب أن نكون على وعى بأن التوجهات الجمالية للكاتب هى توجهات لمضمون عمله فالكاتب عندما يتوجه للون فهو ((يوظفه لأغراض تعبيرية وإيحائية بحيث تصبح هذه المفردات اللونيه عنده بشكل واع أو غير واع موصلا لرسالة ما أو حالة أو موقف يريد التعبير عنه)) (17) ،كما يجب أن ننتبه إلى أن اللون من أكثر الأشياء نصاعة فى الدلالة على العالم من حولنا، بل نحن لانستطيع أن نقيم علاقتنا بالعالم فى أشياءه الحسية إلا من خلال لون ما، وأستطيع أن أقول بأننا لانستطيع أن نفكر أو نتخيل بدون خلفية لونية خفية أو ظاهرة معروفة أو مجهولة، واقعية أو رمزية، وعندما يعبر الكاتب فى قصته بان الطائر له أسنان على خلاف المعهود ثم يوغل الكاتب فى الإدهاش فيصفها بأنها أسنان لونها أحمر( فأن نعطى شيئا لونا ليس له، وأن نزيد فنجعل هذا اللون (خبرا) له يبدو كل ذلك وكأنه تحد متعمد للعقل) (18) جون كوين بنية اللغة الشعرية، هذا التحدى المتعمد للعقل يذكرنا بقصيدة حجازى عن اللون ( آيات من سورة اللون):
قل هو اللون فى البدء كان
وسوف يكون غدا
فاجرح السطح إن غدا مفعم
ولسوف يسيل الدم(17)
إن التحدى المتعمد للعقل هو الدخول فى تخوم الرؤيا، والفنان وحده هو القادرعلى جرح الألفة الوجودية الزائفة ليكشف تحتها عن هذه الحياة الحقة المفعمة بالاختلاف والحقيقة.ويكرر الكاتب الجملة نفسها التى بدأ بها قصته عبر المشاهد القصصية المتعددة ليحكم من بناء قصته ويطور الحدث فى الوقت نفسه( فى كل ليلة يحط الطائر الذهبى فوق شجرة التوت العارية)وتظل الفتاة تصرخ كلما شاهدت أسنان الطائر وفى النهاية تسلم نفسها لليل أو بتعبير الكاتب ( تتوسد ذراعه) غارقة فى حلم متناقض بين الرغبة من الهروب من الغربة، واللهفة فى تحقيق حلم الطيران على أجنحة هذا الطائر رمز الانتقال من الفقر إلى الغنى، ويدفع الكاتب بالحدث القصصى عبر هذه المشهد الحوارى بين الأم والأب، فالأم تخاف على ابنتها فى حوارها مع زوجها ولكنه خوف زائف فسوف ينهار تحت وطأة الحاجة المادية ويظل بعيدا كل البعد عن أبوته وحبه الحقيقى لابنته ولكننا لانراه فى القصة إلا عبد المال ولنر إلى هذا الحوار، بين الأب وزوجته :
( تقول الأم:
- رجل عجوز والبنت لاتزال صغيرة على الزواج .
تطلع الأسطى سيد إلى زوجته ،فقالت فى فزع.
- لكن عنده نقود ( فلوس) كثيرة
فقال فى اطمئنان وسرور بالغين وهو يعيد ترتيب الأوراق المالية:
- وهى ليست مزيفة. )
ولعلنا نلمح دقة الحوار وقدرته على رسم المعالم النفسية والفكرية للشخصيات الثلاثة الأم والأب والفتاة من جهة، وقدرته على إنماء الحس الدرامى للقص من جهة ثانية، والحوار هنا ليس حوارا بالمعنى الحقيقى للكلمة بل هو حوار المغتربين المنعزلين داخل أسوار نفوسهم، فالحوار هنا من طرف واحد ودن تلاقى جميع الأطراف خرط القتاد، والمتأمل فى لغة الحوار السابق يلمح نفى كل إمكانات اللغة واختزالها فى هم واحد ووحيد هو الهم المالى فكل مايهم الرجل وزوجته أن الفلوس غير مزيفة وانظر إلى هذه السخرية المريرة فى عبارة ( الفلوس غير مزيفة) حقا إنها البطل المستعلى بينما البشر زائفون منكسوا رؤسهم للشبق المالى.
لقد تطور الكاتب برموزه ومفارقاته فى بناء الحدث حدا بالغ الدقة( حيث يتضمن الحوار نموا دراميا فأنت ترى الموقف فى أعقاب الحوار غيره فى مستهله إذ تنمو الانفعالات أو تتضح الصورة أو تتصادم الآراء، فيتقدم الحدث عن طريق الحوار تقدما ملموسا)) (18) و هذا ما نتبينه فى الحوار التالى والأخير بين الفتاة وأمها:
( قالت الأم: لديه فلوس كثيرة وعربات
قالت الفتاة: وله جناحان من ذهب
قالت الأم: وعنده ذهب
قالت الفتاة: وأرجل من ذهب
قالت الأم: يعود ومعه ذهب وملابس
قالت الفتاة: أسنانه حمراء.)
والمتأمل فى الحوار السابق يرى أن المفارقة القصصية قد بلغت ذروة عالية حيث توفر فيها عناصرها الأربعة كما تقول الدكتورة نبيلة إبراهيم حيث:(( يوجد مستويين للمعنى فى التعبير الواحد، المستوى السطحى والمستوى الكامن الذى يلح القارئ على اكتشافه… لأنه فيه من التلميحات ما يشده إلى تعرية المستوى الكامن، لايتم الوصول إلى إدراك المفارقة إلا من خلال إدراك التعارض أو التناقض بين الحقائق على المستوى الشكلى للنص، وغالبا ما ترتبط المفارقة بالتظاهر بالبراءة وقد يصل الأمر إلى حد التظاهر بالسذاجة أو الغفلة، ولابد من وجود ضحية فى المفارقة)(18)
والحوار القصصى السابق بناء على هذا النص النقدى قد استوفى جميع الإمكانات الفنية للمفارقة حيث نلحظ مستويين للمعنى كل منهما يتم بمعزل عن الآخر فى نفس اللحظة التى يتوالد كل منهما من الآخر فالأم تقصد شيئا بخبرة الاحتياج القبيح والفتاة الضحية تقصد شيئا آخر بغرارة الحلم وغفلة الشوق إلى رؤية الطائر وما إن يأتى المساء حتى يصور الكاتب النهاية الفاجعة حيث لم يظهر الطائر الذهبى الذى اعتاد المجىء فى ضحى النهار وميعته، وتوظيف الكاتب للنور والظلام ضمن التطور الفنى للبناء القصصى يعمق من فنية القصة حيث يأتى الظلام هنا رمزا(( للعدم ولكنه عدم مشوب بفكرة الوجود، ذلك أن أشكال الأشياء حينما تذوب فى ظلمات الليل فإن الظلام يغمر بحضرته الثقيلة كل شىء وعندئذ لايكون هناك هذا أو ذاك، بل مجرد وجود لامتحدد ولا متيقن هو أقرب ما يكون إلى العدم)(19) فما إن يجىء المساء حتى يغيب الطائر عن الشجرة العارية وكانت تود أن تقول له( أنها لم تعد تخاف اللون الأحمر ولا الدم يسيل من فمه) لم يأت الطائر وجاء ما رمز إليه وهو السقوط على أرض الواقع الغليظ الجاسى واقع زواجها ممن لايربطها به أى علاقة إنسانية ويكون فراقها الأبدى عن والديها ووطنها ويتحول الطائر الذهبى صاحب الأسنان الدموية إلى طائرة آلية ضخمة تبتلع البشر فى جوفها الحديدى وترمى بهم فى أوطان غير أوطانهم، وتتحول الألوان أيضا حيث يتحول اللون الأحمر رمز الافتراس والحيوانية والانفصال عن الجوهر الدافئ للإنسان إلى اللون الأخضر الذبيح، ولكنه ذبح فى صمت و فى وطن غير وطنه، وهل مثل الموت قادرا على كل هذا السحق بدون صوت.
القصة لوحة سردية :
فى قصة( فنجان قهوة باردة) يلعب السرد دور العنصر الجمالى المهيمن على النص القصصى وهو ما يتماشى مع دلالتها المعبرة عن اغتراب القاص بطل القصة فهو مثقف مغترب ووحيد منعزل يحاول التواصل مع الآخرين، ولكن الآخرين مشغولون بحياتهم بعيدا عنه، ويقوم الحوار القصير الفقير فى هذه القصة بتجسيد حقيقة (اللاحوار) والانفصال بين القاص وزميله،ثم يخفت الحوار تماما، وينداح القاص فى منولوج نفسى طويل يجسد شخصية مغتربة،
لقد نجح الكاتب فى تمديده مساحة السرد على مساحة الحوار فى النص فذلك أشكل بدلالة القصة ومغزاها الذى تبلور منذ عنوانها فى (فنجان قهوةباردة) ورمزالقهوةمن الرموز الشائعة فى القص المعاصر بل أقول فى الخطاب الشعرى أيضاً فقد قرأنا كثيراً وتذوقنا رمز القهوة عند (أمل دنقل)و (سعدى يوسف)و(نزار قبانى)و(حسب الشيخ جعفر)
(ومحمود درويش)وغيرهم ولكن ما يهمنا هنا كيف بنى القاص قصته أو رمزه الكامن فى عنوان القصة وكيف تنزل هذا الرمز مستجداً فى جميع مكونات القص .قلت إن الكاتب أحسن صنعاً حين وسع من مساحة السرد وقلل من مساحة الحوار ،وقلت إن الحوار كان ينبغى الحوار وما يتطلبه من تواصل هذا ما حدث بين القاص وصديقة .(يقول لى صديقى :هل تلعب الطاولة ؟أهز رأسى وأقول له :إن للطاولة لعبتين كنت أعرف إحداهما ولعبتها مرة واحدة والآن نسيتها )يعود من جديد يسألنى :هل تلعب الديمونو؟أهز رأسى..)ثم يدخل الكاتب فى معلومات نظرية عن اللعبة دون ممارستها ثم يعاود صديقة سؤاله .هل تلعب الكوتشينة ؟فيرد علية القاص بسؤال على سؤاله.ثم يتركه ويدخل منولوج داخلى طويل عن معنى ورقة الكومى وحقيقة الرقم سبعة وهكذا لا حوار ولا تواصل وفى المقهى يصور الكاتب اغترابه ووحشته قائلاL((يتوه بصرة فى سقف القهوة المطلى بالزيت تكاد تخفيه سحابات الدخان الكثيف تبدو وسطها اللمبات الكهربائية كنجوم مختنقة )وهو تصوير جميل يبلور مكنون شخصية القاص المغتربة فالنور منطفئ من حوله .ثم يتركه صديقة يرشف قهوته الباردة ويرحل متأبطاً حبيبته ثم يصف القاص فى هيئه حبيبه صديقة الراحل وهو يغادر معها القهوة وصفاً فوتوغرافياً فنياً يكاد ينصب جميعه على هيئتها الحسية فقط بما يعمق من مشاعر اغترابه:يقول الكاتب(دون أن يودعنى يخرج وقد تعلقت الفتاة فى ذراعه نحيلة صغيرة تلم ردفيها الصغيرين فى بنطلون قصير محبوك ينزل أسفل الركبتين بقليل وحذاء دون كعب فى قدميها يظهر منه الجورب قصيراً متسخاً بياضه وبشكل لافت للنظر تبدو (الفردة) اليمنى من الجورب أقصر من اليسرى، حداية تعلقت بغراب) إن هذا الوصف الدقيق يجسد طبيعة الشخصية الفقيرة الضائعة غير القادرة على الحب والحوار سواء تمثل ذلك فى صديق القاص أو القاص نفسه أو صديقة صديقه .انهم جميعاً يشربون القهوة باردة ،فكلهم سواسية فى الاغتراب والضياع كأسنان المشط.وبعد أن يذهب صديقه متأبطاً فتاته يصفق القاص للجرسون معطياً إياه بعض النقود ولم يعطه بقشيشاً فينظر له نظرة شذراء ويبادله القاص نظرة بنظرة ويدلف إلى الشارع ناسياً الصديق كما يقول فى نهاية القصة(فى الشارع أكون قد نسيت الصديق والفتاة ذات الفم المشقوق كجرح حديث ولكن القهوة الباردة يبقى طعمها فى فمى) ثلاث شخصيات جميعهم مغتربون منبوذون فقراء تهمهم متع الحياة الحسية الصغيرة مشغلون بأنفسهم عن أنفسهم وغيرهم ،إنها قصة تجسد هذا الاغتراب حتى لتقع اللغة نفسها فى نهاية القصة فى اغتراب تركيبى أيضاً حيث يقول الكاتب (للقهوة الباردة يبقى طعم لها فى فمى) فهل رأيت هذه الجملة المعكوسة فى تركيبها والممطوطة فى تعبيرها .أنها موازٍ جمالىٍ للاغتراب فلغة الحوار مفقودة أصلا ًمنذ بداية القصة
القصة معادلاً موضوعياً أو بناء نائباً:
فى قصة :(السقوط فى دائرة المحظور) يحاول الكاتب محمد عبدالحليم غنيم أن يقدم لنا شكلاً قصصياً مختلفاً يكون قادراً على تجسيد دلالة كابوسية حيث اغتراب ذات البطل تجره إلى ممارسة بطولة زائفة عوضاً عن انعدام القدرة لدية وانمحاء ذاته فى واقعة ومن ثمة التعويض عن ذلك بالوهم العبثى الكابوسى .فالكاتب يقدم لنا مشاهد قصصية عديدة من خلال حواره مع أصدقائه والقصة فى معظمها تستخدم ضمير الغائب(هو)بما يوحى ويوهم بحقيقة ما حدث وكأنه شىء موضوعى واقعى ،ولكننا فى النهاية نرى أن الكاتب هو بطل هذه البطولة الزائفة .والقاص يرسم بطله على غرار الحساسية الجديدة فى القص لجيل بعد الستينيات :((حيث البطل فى هذه القصص ليس بطلاً على الإطلاق ،وإنما هو بطل مضاد،لا يحاول الخروج إلى العالم وفرصة رؤاه علية كما فعل بطل القصة فى الأربعينات أو الحلم بتغير واقعة المرفوض كما فعل البطل فى الخمسينات ،وإنما يؤثر الانسحاب من هذا العالم الذى لا يستطيع أن يواجهه ..وليس اللابطل سعيداً بانسحابه من العالم إنما هو تعيس بوعيه المقهور وبإحساسه الدائم بالذنب واللاجدوى)(20) والكاتب يعالج شخصية بطلة معالجه فنية قائمة على التوهم والتخيل للحدث وتوالى هذا التوهم لإقناع الآخرين بأنة قاتل فئران جيد ومن الممكن لو فكر أصدقاؤه تفكير مفيد بأن يؤسسوا معه مؤسسة لتصدير الفئران.والقصة تذكرنا بالبطولة الزائفة التى علق عليها الشاعر المتنبى وهو سائر فى الصحراء فوجدا أعرابيا قتل فأراً وقد كومه على الطريق تباهياً بشجاعة مجروحة وربما أوحى هذا للمتنبى بعد ذلك أن يكتب بيته الشهير :
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
ويظل القاص يحادث من سيقابلهم بضمير الغائب حتى يلقاهم فيسرد عليهم كل ما اختزنه لهم من أفعال وأقوال .انه البطل المهرج المغترب يفرح بإثارة غيره وجذب انتباهه ولو بالوهم فهو تحقيق لذاته ،على أى حال يقول الكاتب واصفاً ما سيحدث عندما يقابل أصدقاءه لإخبارهم بما حدث:( سيكون مشهداً مثيراً عندما يرون أربعة عشر فأراً قتلى قد تكوموا على شكل هرم يعلوهم أصغرهم حجماً فعلتها فى سبعة شهور لأن 2×7=14 وهم لاشك يحفظون جدول الضرب،سأضحك من كل قلبى عندما أراهم يرتعدون خوفاً من رؤية الفئران) إن الاندماج العميق للبطل فى تحقيق بطولته ينبهنا بعمق على مدى ما يعتريه من ضياع ووحدة وإهمال إنسانى فبدأ يتعامل مع المخلوقات الحيوانية المعزولة المهملة مثل الفئران وعبارة الكاتب (فعلتها فى سبعة شهور لأن 2×7=14) تذكرنا بالسخرية الشعرية التى كنا نلقاها لدى ساخرى العصور المملوكية المتأخرة وعلى رأسهم ((ابن سودون ))(نور الدين أبو الحسن على بن سودون)810هه-1407م(وقد اشتهر بالشعر الفكاهى القصصى المصبوب فى أشكال الموشحات والدوبيت والزجل والمواليا وفى هذا الشعر تهكم على الوعاظ والشراح وغيرهم،وله مقامات كثيرة بلا مضمون أو محتوى وله ديوان(نزهة النفوس ومضحك العبوس)وقد طبع فى القاهرة )(21) ومن يرجع إلى أشعار ابن سودون يراها تحمل خفه دم الروح المصرى الضحوك وابتدع هذا اللون الساخر الذى يشبه الشىء بنفس الشىء على سبيل الفراغ والإضحاك وهو تعبير عن عصر كثرت فيه المظالم والعجائب حتى انخرط أرباب الفكاهة فى خلق المعادل الغوى الجمالى الساخر لعصر غلب علية الفراغ والمظالم .والمؤلف فى قصته نراه يصور جواً غرائبياً متوهماً يضمد به غربته أو بطولته الجريحة الباحثة عن ذاتها فلا تجدها ولنستمع للراوى كيف يصور هذه البطولة لأصدقائه ومن ثم أخذ يشرح كيف يمسك الفأر ويقتله دون أدنى مقاومة منه ؟وأنه يستخدم فى ذلك شيئاً صلباً،أى شىء يقذف به الفأر بمجرد أنه يلمسه يضحى قتيلاً وأنه قد يقذفه بكتاب ردىء وأحياناً بحصوة كبيرة تسقط من السقف المتهالك ،وأنه فى المرة الأخيرة استخدم ساعته القديمة (التى غلب فى إصلاحها) وبعد أن يشارك القاص أصدقائه أنخاب الفرح والشراب والرقص كفاء ما صدقوه طوال السهرة ـ بعد ذلك قصد داره راجعاً مكتفياً بالإياب من غنيمة تصديق أصدقائه له وفى أثناء رجوعه حدثت المفارقةL(( تلفت حوله لم يجد شيئاً،يرعبه صرير الفئران،توقف عن السير ..يرعبنى صرير الفئران ..تطلع الى القمر فى توسل خجل من نفسه وعندما نظر إلى الأرض وجد فأرين يسيران على ذيلهما وأرجلهم الخلفية أمسك على الفور حجراً وقذف الفأرين.اختفى الفأران ..أخاف لمس الفئران ) إذا بالقاص يتحول إلى سامرىكاذب ما إن يمس شيئاً حتى يصير فأراً ويسرد الكاتب القصص الأخير من مشهداً تصويرياً يقترب بنا من العوالم الأسطورية القائمة على التحول والمسخ ( ففى هذه الأساطير يتحول الناس إلى حيوانات بقوة السحر مثل أسطورة باخوس إله الخمر حيث تروىأن باخوس استأجر سفينة من قرصانيرنبا لتنقله إلى مكان معين ولكنهم بدلا من أن يذهبوا به إلى غايته اتجهوا به إلى آسيا ليبيعوه رقيقا فحول الإله الشراع والمجاديف ثعابين وصار أسدا وأنبت اللبلاب حول السفينة… والأسطورة توحى بالحلم الذى يمتزج بالحقيقة والخيال معا ليخلق دنيا جديدة) (22) وهو نفس الجو الخيالى التحويلى الذى نراه فى ألف ليلة وليلة، ويفيد الكاتب من جميع ذلك فى تحولات كائناته وأشيائه ومسخها فئرانا وفق رؤيته القصصية فكل شىء قد يتحول فئرانا حتى ملابسه الخاصة ويسقط القاص أخيرامغشيا عليه، منهيا قصته بنس العبارة التى بدأ بها قصته، ولكن بعد تغير لغوى جذرى على العبارة ينقلها من حالة الإثبات فى بداية القص :( ما عاد يحتمل…. إذا فليبح) إلى حالة النفى فى نهاية القص على لسان كبير الفئران الذى حضر جنازة القاص مرددا :( هو المسئول ما كان يجب أن يبوح)
إن ممارسة القاص لوجوده الإنسانى بصورة فجة داخل مجتمع ينفى وجود أبنائه ويمحو ذواتهم الإنسانية قد أفقدالقاص وعيه وأدخله ذلك فى أن يعيش وهمه عن الواقع حتى صار وهم الواقع هو واقع الوهم وفى النهاية يدفع القاص الثمن، ويدفع معه الواقع الذى يعبر عنه الثمن غاليا وذلك بالسقوط فى دائرة المحظور.
ملاحظات أخيرة حول المجموعة القصصية:
أولا تفكك البنية القصصية:
على قدر نجاح القاص محمد عبدالحليم غنيم فى كثير من قصصه فى خلق البناء القصصى المحكم القادر على تشكيل الدلالة القصصية، غير أنه لم يوفق فى بعض قصصه، ومنها قصة ( أم رفعت) وهى قصة تعرض لمشكله اجتماعية نفسية معروفة لدى معظم الكتاب وتتمثل فى عدم الاتساق العاطفى وما يترتب عليه من عدم التوافق الجنسى بين الزوجين، ومن ثمة الإخفاق فى اجتراح الحياة والإقبال عليها، أو النجاح فى ميدانها الواسع، فالكاتب لم يستطع أن يبنى قصته بناء جماليا محكما يكون قادرا على إقناعنا فنيا بمغزى القصة، فهناك هذه الفجوات الفنية الفادحة فى بناء شخصية الزوج وفى بناء الحدث بما لا يقنعنا بهذا الانفصال النفسى بين الزوج والزوجة، كل ما فى الأمر أن الزوج بلا عمل، والقاص يجعل الزوجة تنفر من زوجها بعد طرده من عمله مرارا، ويجعلها الكاتب تحس فجأة وبدون مبررات :( بأن شعورين تداخلا فى نفسها شعور بالقوة والثقة تجاه الزوج الخائب الذى لا يفلح فى عمل، وشعور بالعجز والخوار كامرأة بلا عائل). ثم تترك المرأة الزوج وتنخرط فى أنانية مقيتة غير مبررة موضوعيا ولاجماليا من داخل بنية القص يتجسد ذلك فى الاعتناء بنفسها وتأمل مفاتن جسدها الأنثوى المكتنز بالإغراء، وتحسرها على نفسها، ثم تسقط ((فجأة)) أيضا فيجتمع الجيران فى بيتها، وعندما يأتى الزوج يرى زوجته ممدة على الأرض ـ ثم نرى القاص وبصورة غير موضوعية لايبررها الحدث القصصى ولا طبيعة الشخصية ـ نرى الزوج ينظر لجسد زوجته نظرات جنسية فيحدق فى هذا البياض الرابى فى فخذيها، وكأن لم يحدث شىء وبعد أن تفيق الزوجة وينفض الناس عنها، يعود الرجل لمعاشرة زوجته فى صورة اغتصاب. وبعد هذا النثر للمضمون أقول: أين القصة ؟! أين الشكل الفنى؟!
( فالشكل ـ فى نهاية المطاف ـ هو ذلك التعالق الذى يتم بين عناصر النص كلها ويقود إلى تحديد سيرورة الدلالة)(23) ولابد من تنامى عناصر الشكل والبناء الفنى من تحقيق خصائص التوازن والوحدة والاستمرار بين مكونات القص حتى لنحس أن القصة أشبه بالممرات الجبرية فلن يستطيع القاص أن يصل إلى هذه النتيجة المحددة إلا بهذه المقدمات المحددة ومن داخل المكونات القصصية نفسها حيث يقول كولردج :(( ليس ثمة ما يمكن إن يمتع باستمرار إذا لم يحتوى بذاته على السبب)(24) وما سبق يؤكد أن القاص فى قصة ( أم رفعت) لم يمر بتجربة ناضجة ولم يبنى تجربته البناء الفنى المحكم، مما أوقعاه فى عدم التجانس الشعورى والفكرىعلى مستوى الشخصية والحدث معا، ودائما الكاتب الموهوب يطير بجناحين فى سماء الفن جناح الخلق والانتقاء وجناح التشكيل (التبنين) ـ إن صح التعبير ـ أعنى بذلك ( قدرة الانتقاء والاختيار لمكونات نصه، وقدرة تشكيل هذه المكونات وإحداث التوازن والاستمرار والوحدة فيها على مدار العمل الفنى كله)(25)
ملاحظات حول اللغة:
بعد أن سقانا الكاتب كؤوس الرحيق القصصى الجميل على مدار قصصه، بيد أن كل شراب جميل مشوب ببعض الكدر، فقد وقع الكاتب كثيرا فى الجمل العارية عن جودة السبك، كما انزلق كثيرا إلى جمل مضطربة فى تركيبها اللغوى، ومن المعلوم أن القصة القصيرة بصورة خاصة دون غيرها من أشكل الفن تمثل فنا رهفا شفافا تجرحه الهمسة فى غير مكانها وتودى ببريقه نقطة الضوء فى غير افقها والفن بصفة عامة هو القدرة على صب العناصر الفنية المتعددة فى شكل جمالى متوازن ومنسجم فيه جودة التصميم وقدرة التركيب، ولكن الكاتب يقع فى مثل هذه التراكيب الفظة الغليظة:
تعبيرات لغوية قلقة:
ص5/ صدقها أهل القرية وبالذات ممن تمسهم هذه الأكاذيب
ص13/ ملت إلى تصديقه خاصة وهالتان سوداوان تحيطان بعينيه
ص 17/ ملكة هو اسمها سمراء
ص7/ وكان يومها كئيبا
ص31/ كان الولد يقترب من البنت وكانت هى مازالت تتطلع إليه
ص38/ اقترب منها أكثر/ عينيه مزيج من الشبق والشرر
ص66/ وكأنى بيدى شلت
ص95/ وخيل إلى أن لازحمة فى الشارع ولاناس بالمرة.
المستوى اللغوى الجمالى العام:
أما على المستوى اللغوى العام فى المجموعة القصصية فإنى أرى أن القاص قد عريت لغته فى مواضع ليست بالقليلة من صفاء العبارة وإشراقة الصورة وقدرتها على إثراء الحدث والشخصية، أو تجسيد الانطباع وهذا راجع إلى حداثة الإبداع لدى القاص فهذه هى المجموعة القصصية الأولى له وقد كتبها فى سن باكرة حيث سيطرت اللغة عليه وفتنته عن نفسه فوقع فى القوالب الجاهزة فى التعبير، وهذا سيلقى على الكاتب عبئا ثقيلا فى سبيل إنضاج لغته القصصية وإنضاج تجربته الجمالية فى أعماله القادمة، وأنا على يقين بأن الكاتب سيذوق العنت فى ذلك فأمامه هذا الميراث القصصى الهائل من أدبيات القصة القصيرة العربية وعليه أن يتخطى جميع ماسبقه حتى يتسنى له امتلاك ناصية ذاته اللغوية ليكون ما يكتبه ملكه الخاص موسوما بطابعه الجمالى الذى لايتكرر، إن اللغة القصصية الجاهزة أمامه مكتنزة بتجارب السابقين، وقد علقت بها أمواج إنسانية هادرة من تجارب الكتاب السابقين ومن ثم يبقى الرهان الوحيد للنجاح الفن كامنا فى السيطرة على اللغة وهذا مرهون بقدرة الكاتب على (التخلية والتحلية) معا بتعبير الصوفيين تخلية اللغة مما علق بها من وجدانات الآخرين وغسلها وتصفيتها تماما من ا لأسلاف، ثم تحليتها من ذاته من عطور روحه وظلال وجدانه وروائح هواجسه الخاصة، وبالطبع نحن نعلم أنه من النادر إن لم يكن من المستحيل أن تصفو اللغة كل الصفاء لأحد،أو حتى تنقاد له كل الانقياد، فعسير بلوغ هاتيك جدا، فغاية ما فى الأمر وهو الحسنى وزيادة أن يحاول الكاتب امتلاك اللغة من جديد، بما يجعلها تكف عن حرانها بعيدا عن ذاته وأن يكلفها من أشواقه وهواجسه ما يجعلها ذلولا طيعة قادرة على الحرث فى أفقه الخاص.
وفى النهاية أقول إن مجالات نجاح الكاتب محمد عبدالحليم غنيم فى هذه المجموعة كانت أكثر من مجالات السقوط وهذا ليس بالشىء الهين البسيط، لدى كاتب يقدم باكورة أعماله القصصية
ثبت المصادر والمراجع:
1-د محمود المرسى، الاتجاهات الواقعية فى القصة المصرية القصيرة، دراسة فى المضمون والبناء الفنى، دار المعارف، مصر، 1984، ص 210
2-آيان ريد، القصة القصيرة، تر /د. منى مؤنس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1990، ص 22
3-د. عز الدين اسماعيل، الأسس الجمالية فى النقد العربي، ط1، دار الكتاب العربي،ص 344، نقلا هن (bora) من كتابه ( تراث الرمزية)
4- آيان ريد مرجع سابق، ص 25
5-د. محمود الحسينى المرسى، نقلا عن،أمين الخولى، مجلة الآداب،ع7 ، أكتوبر/1956
6-د. عبد القادر القط، قضايا ومواقف، الهيئة العامة للتاليف والنشر،1971، ص 151
7-د. البشير المجذوب، الظرف بالعراق فى العصر العباسى،مؤسسة عبد الكريم عبد الله، تونس، مارس،1992، ص24
8-د. صبرى حافظ، استقصاءات تمهيدية حول القصة القصيرة، مجلة إبداع،ع9،السنة6،سبتمبر،1988،ص33
9- المرجع السابق،ص41
10- عباس محمود العقاد، أعمال مختارة،اعداد وتقديم أحمد سويلم، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،ص 104
11- د، صبرى حافظ، مرجع سابق، ص42
12- د، محمود الحسينى، مرجع سابق، ص88
13- د، صبرى حافظ، مرجع سابق ، ص33
14- انظر لمعرفة ذلك ،ابن الأثير، المثل السائر، تحقيق، د. أحمد الحوفى،ود. بدوى طبانة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر،ط2، د. ت ،ج3، ص72
و ـ ابن رشيق القيروانى، العمدة فى محاسن الشعر ونقده، تح، محى الدين عبد الحميد، دار الجبل ، بيروت، د. ت، ص203
15-د . خالد سليمان، نظرية المفارقة، مجلة أبحاث اليرموك، مج 9، اربد ، الأردن، 1991،ص 67
16- المرجع السابق، ص72، نقلا عن ( ميويك)
17-د. فريال جبورى غزول،مدخل إلى السميوطيقا، اشراف سيزا قاسم، نصر ابو زيد، دار الياس،ص 9، 10
18- جون كوهين ، بناء لغة الشعر، تر/د. احمد درويش، ص 154/155
19- أحمد عبد المعطى حجازى، كائنات منتصف الليل، دار اخبار اليوم، 1989، ص 53
20- د. يوسف نوفل ،قضايا الفن القصصى، النهضة العربية، القاهرة ط1،1977، ص 51
21- د. نبيلة ابراهيم، المفارقة، مجلة فصول / سبتمبر / القاهرة / ص 132
22- د. زكريا ابراهيم ، تأملات وجودية،دار الآداب ، بيروت ، ط1،1963، ص52ـ 53
23- د. صبرى حافظ ، مرجع سابق، ص42
24-د/ شوقى ضيف، فى الشعر والفكاهة فى مصر، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1999،ص 100ـ 118
25-د. مجدى محمد شمس الدين، الأسطورة، مجلة آفاق عربية، ع9، ايلول، العراق، 1987، ص71
26- د. بشير القمرى ، شعرية النص الروائى،
27- خلدون الشمعة ، معنى الشكل فى العمل الأدبى، مجلة المعرفة السورية، ع 135، أيّار، 1973،ص 157
28- د. أيمن تعيلب، البناء الفنى والهم الحضارى فى الشعر الليبى المعاصر، مجلة الفصول الأربعة، ليبيا ،ع88 / السنة21/ يوليو 1999/ص23
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[SIZE=5]جدلية الشكل والدلالة فى القصة القصيرة[/SIZE]
( لن أقلع عن هذه العادة)أنموذجا
للكاتب الدكتور محمد عبدالحليم غنيم
دراسة : د. أيمن تعيلب