د
د.محمد عبدالحليم غنيم
عند الانتهاء من قراءة رواية "استقالة ملك الموت " لصفاء النجار يتعاظم حجم السؤال الذي بدأ يجابه المتلقي من أول صفحة في العمل, وربما من الغلاف ألا وهو : لماذا يستقيل ملك الموت ؟ أو لماذا استقال ؟ بقطع النظر عن عدم واقعية السؤال ؟ وبقدر تعاظم السؤال تكون بساطة الإجابة ومنطقيتها أو واقعيتها أيضا في ذات الوقت , لقد استقال ملك الموت تقديرا واحتراما لهذه الطفلة / الفتاة / السيدة/ المرأة /حسنة الفقي . وهي إجابة تغرينا بالقفز إلى استخلاص الفكرة المركزية للنص والتي يمكن حصرها في جملة بسيطة , تقول في مديح المرأة هذا النص ومن ثم يمكن أن نقول أيضا أن هذا النص الروائي يندرج تحت ما يسمي بالأدب النسوي Feminist literature ودون الدخول في تفصيلات هذا الأدب واتجاهاته ¸حيث تضم هذه الحركة "اتجاهات وتيارات ووجهات نظر متعددة ومختلفة أحيانا " (1)
وطبقا لتاريخ ألين شو ولتر Alain showtier لتاريخ الحركة النسائية في الأدب في كتابها "أدب خاص لهن" تأتي صفاء النجار مقارنة بالأدبيات الإنجليزيات ضمن كاتبات المرحلة الثالثة التي تبدأ من 1920 وما بعدها , وعلي حد قول رامان سلدن عن هذه المرحلة فإن الكتابة النسائية : " ورثت خصائص المرحلتين السابقتين وطورت فكرة الكتابة النسائية المتميزة فضلا عن فكرة التجربة النسائية .(2)
وعلى مستوى الكتابة النسائية العربية فإن استقالة ملك الموت تنظم في حلقات تاريخ الكتابة النسائية في الأدب العربي الذي يتجاوز القرن من الزمان , حيث تقف بهذا العمل صفاء النجار في آخر حلقات هذا التاريخ , ضمن جيل حديث من الكاتبات كسحر توفيق وعفاف السيد ومي خالد و ميرال الطحاوى وغيرهن , حيث تتجلى قدرتهن علي التجول في دقائق وتفاصيل استأثرت بولع الأنثى قد تصل أحيانا إلي درجة كسر بعض التابوهات ,هذا إلي جانب تقديم رؤية للأشياء من منظور يختلف بالقطع عن الرؤية التي اعتدنا أن نقرأها من منظور الذكور .
لا نود أن نستطرد في ذلك فننزلق إلي الأحكام العامة حول هذه الكتابة , لكن أستطيع القول من خلال قراءة هذا العمل الذي بين يدي ، أن صفاء النجار تكتب ذاتها الأنثوية بالقدر نفسه الذي تكتب فيه نصها الخاص بها كمبدعة بقطع النظر عن النوع البيولوجي (رجل / امرأة) فنحن أمام عمل فني ، رواية مكتملة الأركان ، و كما أشرت آنفا ، ثمة وظيفة مركزية أو محتوي عام , يتشكل عبر مكونات النص : أحداث وشخوص وزمان ومكان وهذه الوظيفة المركزية المتمثلة في جملة (في مديح المرأة) تتشكل عبر خطابات ثلاثة , خطاب الراوي , وخطاب المؤلف , وخطاب المروى له .
أولا : خطاب الراوي ( في مديح المرأة أروي لكم : حسنة الفقي وملك الموت )
تنظم الرواية في اثني عشرة فصلا يرويها بالتناوب حسنة الفقي وملك الموت علي الترتيب, فالفصول ذات الأرقام الفردية لحسنة والفصول ذات الأرقام الزوجية لملك الموت , وجملة البداية لحسنة وجملة الختام لملك الموت والجملتان تشكلان عبارة واحدة مترابطة الأجزاء أو جملة خبرية تامة توصل لنا رسالة واضحة في ذات الوقت .
والسؤال ألا يختلف خطاب حسنة عن خطاب ملك الموت ؟ من المؤكد أن الإجابة نعم , إذن فلدينا هنا خطابان , خطاب حسنة وخطاب ملك الموت . وإذا كان خطاب حسنة يمثل الأنثى بحكم طبيعتها , فهل يمثل خطاب ملك الموت الذكر ؟ ومن ثم هل هو خطاب معارض ؟ أم خطاب معضد ؟
الواقع أن خطاب ملك الموت خطاب معضد لخطاب الأنثى فعبر ثلاثين عاما , الزمن الداخلي للأحداث يصحب حسنة الفقي منذ كانت طفلة إلى أن صارت سيدة ناضجة أرملة لفؤاد الكاتب وجدة لأحفاده , ومركز جذب لعدد كبير من الشخصيات حولها . إن خطاب ملك الموت ليس تعضيدا لحسنة فحسب , بل إنه خطاب معضد لكل الشخصيات النسائية داخل هذا النص ، لكن في الخطاب المعضد للمرأة يمكن أن نشتم رائحة إدانة للرجل الحقيقي , وأقصد الرجل بوصف نوعا إنسانيا في مقابل المرأة , وإلا فلماذا اللجوء إلي شخصية فنتازية كملك الموت . إنني هنا لا أستبعد القصدية من المؤلفة في استحضار ملك الموت بوصفه بديلا للرجل المفقود.
ونعود إلي خطاب حسنة الفقي , فنجدها راوية مشاركة وفاعلة في الأحداث فعبر ستة فصول ( وسنلاحظ أنها أطول من حيث الحجم من الفصول التي يرويها ملك الموت ) نجدها دائما في قلب الأحداث , فنصحبها طفلة وشابة في الفصل الأول ثم سيدة متزوجة من فؤاد الكاتب ثم أرملة وأم وجدة مع توالى الفصول ومع ذلك تمد جذورها إلى الحاضر بل إلى المستقبل فتوجه خطابها إلى الحفيدة حبيبة التي تدرس في أوربا, وتتفهم مطلبها في الحصول علي طفل دون وجود زوج , وقبل أن تسافر حبيبة تحاول معها الإمساك بالريشة وتعلم الرسم بالألوان , تقول: في بداية الفصل الحادي عشر :
تعطيني ريشتها , تفتح علبة الألوان , تفرد اللوحة تعلقها علي مسند وتمد يدها بالفرشاة:
ـ ارسمي يا جدتي .
استنكر طلبها , لم يكن لي أي كراسة رسم , هذه الأشياء لم تكن في الكتاب , كان لنا لوح ولكن لتسميع آيات القرآن الكريم . (3)
ويبدو أن محاولة الإمساك بالريشة كانت بداية لمحاولة فكرة أن تلد حبيبة بدون زوج , ومن ثم تحاول إيجاد مخرج لها عبر منطق المرأة (انظر الرواية ص 52 )
إن خطاب حسنة الفقي خطاب أنثوي يعني بالتفاصيل التي تخص الأنثى وعلي الأقل التفاصيل التى لا يلتفت إليها إلا الأنثي , ومع ذلك لا يمكن القول أنها تمادت في ذلك , لقد كان خطابا متوازنا , ربما لأن المؤلفة تعمل علي إعطاء مساحة لخطابات أخرى تعضد في النهاية خطاب حسنة الفقي الأنثوي كخطاب ملك الموت , وخطاب المروي له , وخطاب المؤلف كما سنوضح في الفقرات التالية ، ومع ذلك يمكننا أن نعثر علي كثير من التفاصيل الأنثوية داخل النص لدرجة يصعب حصرها .
في الفصل الأول تقول حسنة وهي تذكر طفولتها عندما جاء ملك الموت واختطف ولدا غيرها:
"انفض ثوبي وأسوي ضفيرتي , وانظر إلى الولد الذي يشاركنا ونحن نستحم في النيل , يأخذ ملابسنا ويصعد بها إلي شجرة الصفصاف , أو يخلع ملابسه متباهيا بعورته .(4)
وجملة مثل "وعادت رائحة الطبيخ للبيت "(5) لا تقولها إلا امرأة . وسنلتقي بمسألة الروائح هذه في الفصول القادمة عندما تميز صفية بين بناتها الثلاثة المتشابهات من خلال رائحة كل منهن . وعندما تنتقل زوجة لفؤاد الكاتب في سرايته تشعر بالغربة في هذا المكان الجديد ولكنها سرعان ما تتآلف معه , وهذا التآلف لا يأتي إلا بعد تجديد البيت, بل إن هذا التجديد جعلها تقترب أكثر من فؤاد , تقول حسنة الفقي :"مدة تجديد البيت كانت أكثر الفترات تقاربنا فيما أنا وفؤاد" (6)
وتجديد البيت وتغيير أثاثه أو نقله من مكان إلي مكان آخر هم أنثوي صرف . والواقع أن الإشارات في هذا الشأن كثيرة ولا نريد أن تستغرقنا بتفصيلاتها , فنزحم بها الدراسة دون جدوى . والذي يعنينا هنا مدلول هذا الهم , هل هو مجرد اهتمام بالتفاصيل أم أنه يشي بمدلولات أعمق؟
والإجابة بنعم لأن المؤلفة طافت بنا بسيرة حياة حسنة الفقي عبر الفصول الستة وفي ما يزيد عن ثلاثين عاما فثمة إشارات في بداية النص إلي التأميم وإشارات إلي وقائع تاريخية أخرى كموت عبد الناصر والانفتاح الاقتصادى فى عهد السادات إلي أن نصل إلي الاستنساخ والنعجة دولي , وكأن المؤلفة , تحكى لنا عبر خطاب حسنة الفقي تاريخ تطور المرأة العربية بعد ثورة يوليو , وربما تاريخ وعى المرأة العربية منذ دخول الكُتاب لحفظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ القراءة والحساب إلي أن وصلت إلى الدخول لأرقى الجامعات , وهكذا يمكن أن نقول أن شخصية راوية ( الابنة ) الحاصلة على شهادة في علم النفس وتشرف الآن على إدارة مدارس خاصة في المنصورة ( تمشيا مع سياسة الخصخصة ) وحبيبة ( الحفيدة ) التي تمارس الرسم وتدرس الآن في أوربا , امتداد طبيعي لتطور وعي حسنة الفى , وإشارة في الوقت ذاته إلي تطور تعليم المرأة من الكُتاب إلى الجامعة .
وعلي مستوي الوعي الأنثوي بالجسد , يدخلنا خطاب حسنة بمعاونة الخطابات الأخرى إلي تفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة , فنلاحظ أن هذه العلاقة تعد التيمة الرئيسية في العمل , فالمرويات جميعا داخل النص عبر فصول الرواية الأثنى عشرة تقوم على هذه العلاقة فهناك :
الأم (أم حسنة) # الأب حسين الفقي
حسنة # وفؤاد الكاتب
الياصابات # الدكتور ناجي
صفية # يحيي الفقي
راوية # عوض
حبيبة # ........
صفية # رزق
حسنة # ملك الموت
ومن المؤكد أن العلاقة الأخيرة علاقة غير واقعية , ولكن على مستوي النص هناك ملك الموت الذي يستحي أن يأخذ روح حسنة ويقرر الاستقالة تبجيلا لها , كما أشرنا في البدء , علي أية حال يمكن القول إنه بديل لفؤاد الكاتب , الذي تركها ومات.
ثمة علاقة أخرى ناقصة هي علاقة فؤاد الكاتب بابنة عمه "حياة" , حيث ترفضه في البداية فتشعر حسنة أنها جاءت بديلا لشخص آخر , ولكن هذه العلاقة يفصلها خطاب ملك الموت وليس خطاب حسنة , بيد أن ذلك يأتي من خلال رواية حسنة لملك الموت " تحكي لي حسنة في أيامها الأخيرة عن ابنة عمه التي تسكن غرفة في الدور الثالث من السرايا ..." (7)
ولنلاحظ أن هذا العلاقات تتأرجح بين المقبول والمرفوض والمكتمل والناقص والغريب والشاذ وكأن المؤلفة تجمع فيها مستويات علاقة المرأة بالرجل. فمن المقبول علاقة حسنة بفؤاد الكاتب ومن المرفوض علاقة صفية ويحيي الفقي إذ يمارسان حياتهما دون زواج , ومن الشاذ علاقة رزق بصفية رغم الزواج الشرعي , فجاءت العلاقة فاترة وباردة , وعلاقة حبيبة بجسدها إذا ترفض إنجاب الطفل عن طريق الزواج الطبيعي وتسعي لإنجاب طفل عبر الهندسة الوراثية . أما العلاقة الغريبة التي بدت شبه مقبولة فهي علاقة حسنة بملك الموت , وقد أشرنا أنها تعد علاقة رمزية أو علاقة مع بديل الرجل المفقود .
وإذا أضفنا إلي كل ما سبق العلاقات النسائية فإن أهم ما يلفت نظرنا في هذه العلاقات ثلاث :
1 ـ علاقة حسنة بالياصابات
2 ـ علاقة حسنة برحيل
3 ـ علاقة حسنة بحبيبة
وسنلاحظ أن العلاقات الثلاث تدخل جميعا تحت مسمي واحد هو اكتساب الخبرات بما فيها الخبرات الأنثوية فمع الياصابات حسنة تسعي مريدة للتعلم , ومع رحيل ناضجة تكتسب منها الخبرات ومع حبيبة معلمة وناصحة ولعل هذا يجرنا إلي علاقتها بملك الموت و لماذا لا تندرج في علاقات تعلم الخبرة ؟ هنا يجب الإشارة إلي أعمال أخرى سابقة لهذه الرواية لعل أشهرها رواية( نائب عزرائيل) ليوسف السباعي , حيث يتعلم الراوي من عزرائيل كيفية قطف الأرواح فيتقمص دوره , وكتاب( إكرمان حوار مع الموت)* حيث يتعلم إكرمان من ملك الموت احترام الموت والتسليم بالقضاء والقدر، أما هنا عند صفاء , فالخطاب المهيمن هو الخطاب الأنثوي وأي خطاب ؟ إنه خطاب حداثي يرفض هيمنة الرجل وسلطة الأبوة. وهنا يصير الذكر نداً وليس أباً مهيمنا , فملك الموت يكاد يتقمص الخطاب الأنثوي , تأكيد لعلاقة التعضيد. وهذا الذي يجعل ختام الرواية منسجما مع هذا الخطاب , ولعل الناشر كان ذكياً عندما دشن فقرة الختام علي الغلاف الخارجي للرواية , حيث يرفض ملك الموت قبض روح حسنة تاركا هذه المهمة لملك آخر كما أنه يرقص معها رقصته الأخيرة تقديرا واحتراما: " لكنى لم أخلق لموتها ، موت آخر أكثر شبابا سيتولى هذه المهمة ... لكن ذلك لن يمنعني كجنلموت أن أمد يدي وأرقص Slow مع السيدة التي عرفتها عمرا طويلا ، بينما حفيدتها تنزل من سيارتها وعلى ذراعها مولودة جديدة ، وبالذراع الأخرى تدفع بوابة السرايا الكبيرة " ( 8 ) .
يقوم ملك الموت بسرد نصف الرواية تقريبا ، حيث أن الفصول الزوجية التي رواها جاءت أقل عددا من حيث الصفحات ، ومع ذلك أرى أن هذه المساحة المخصصة له في النص جاءت واسعة ، وقد سمحت هذه المساحة الواسعة بوجود ثغرات في هذا الخطاب مما أتاح الفرصة لظهور خطابات أخرى ، كخطاب المؤلف الحقيقي وخطاب المروي له ، وإن كان الأخير متواجد في معظم فصول الرواية تقريبا
" وحدي أستمع إلى الحقائق المقبورة في الصدور " ( 9) .
يبدأ ملك الموت خطابه بهذه الجملة ، وأعتقد أنها تصلح مفتاحا للحديث عن طبيعة خطابه ومضمونه ، إذن ملك الموت على الرغم من وحدته ، يقوم بدور المستمع إلى الحقائق وأية حقائق ؟ إنه الخفي منها ، ومن يعرف الخفي يعرف الظاهر ، من هنا نزعم أن ملك الموت أقرب إلى الراوي العليم منه إلى الراوي المشارك في الأحداث ، بل يمكن أن نقول أنه راوٍ محايد إلى حد ما ، وهذا ما يميزه عن خطاب حسنة الفقي ، وفيما عدا عتابه لحسنة في بداية الفصل الثاني ، حيث يقول : " لست غاضبا ، لكني مستاء فكيف لحسنة أن تنسى وتنكرني " ( 10 ) وقراره بالتنحي عن وظيفته (الاستقالة) بأخذ روح حسنة ، تاركا هذه المهمة لملك آخر ، يقوم ملك الموت بسرد الأحداث وهو يقف خارجها تقريبا ، وهذه الطريقة في السرد أو قل هذا المنظور السردي مكنه من أن يقص لنا ما لم تستطع قصه حسنة الفقي ، ولذلك نجده يقدم لنا معلومات تاريخية وإشارات عديدة تربط العالم السردي بالعالم الخارجي أو قل الفنى بالتاريخي .
فثمة إشارات تاريخية حقيقية يضعها الراوي بين أيدينا تقوم بدور الإطار الخارجي للأحداث يلون الرواية بملمح واقعي ، مثل إشارته إلى أن حسنة الفقي لا تنتمي إلى عائلة الفقي الإقطاعية أو إلى نرمين الفقي وهي إشارة ذكية سنعود إليها مرة أخرى عند الحديث عن خطاب المؤلف ، وهناك إشارة إلى موت عبد الناصر عام 1970 بعد أقل من شهر وخمسة أيام من خطابه السابق ، كان عبد الناصر قادرا على جمع شمل آل الكاتب حول التلفزيون ودفع حسنة إلى أقصى حدود البكاء " (11)
ففي هذه الجملة إشارة واضحة إلى تغير حسنة التي لم تكن تحب عبد الناصر في البداية ، والآن تبكي إلى أقصي حدود البكاء بعد وفاته .
وفي الفصل الثامن نجد إشارة إلى حريق الأوبرا عام 1975 ، يقول في معرض حديثه عن يحي وبنات صفية اللائى في الأصل هن بناته :
" لكن هذا لن يحدث فدار الأوبرا احترقت بعد ثلاثة أيام من تلك الليلة التي ستبقى في ذاكرتهن ويحكين عنها كلما شاهدن عبد الحليم حافظ يغني نار يا حبيبي نار " (12) .
وإلى جانب هذه الإشارات التاريخية نجد أن ملك الموت ليس مشغولا في السرد عن ذاته كما هو الحال عند حسنة الفقي ، إنه مشغول بالسرد عن الآخرين ، فيخصص الفصلين الثاني والرابع لحسنة الفقي والفصل السادس والثامن يروي عن صفية ويحي ورزق وبنات صفية الثلاثة نور وشمس وقمر ، والفصل العاشر عن عوض وراوية ابنة حسنة ، ثم يعود في الفصل الأخير للحديث عن حسنة ، إذن هناك ثلاثة فصول يخصصها المؤلف تقريبا للحديث عن حسنة وبقية الفصول للشخصيات الأخرى مما يشي بانحياز واضح لحسنة وهو ما يؤكد فكرتنا أن خطاب ملك الموت خطاب تعضيد لخطاب حسنة ، وهذا ما يدفعنا إلى القول أن خطاب الراوي في الرواية كلها يعد خطابا واحدا ذا وجهين ، وجهه الأول يمثله حسنة الفقي ووجهه الثاني يمثله ملك الموت ، وجه ذاتي والآخر موضوعي ، والذاتي والموضوعي يمثلان معا وجهي العملة لخطاب الراوي , إنه في الأخير خطاب مبجل للأنثى .
ثانياً : خطاب المؤلف ( في مديح المرأة تقول صفاء النجار)
يقول بيرسي لبوك : إذا ضعف سلطان الراوية ( الراوي ) في أية لحظة فإن القارئ يُستدعى من المشهد ليري المؤلف مجردا أمامه , وعند ذاك ستعتمد القصة فقط علي إصرار المؤلف المباشر ( 13) . وصفاء النجار واعية لهذه الحقيقة , فاستخدمت راويين للسرد بدلا من راوٍ واحد ,أحدهما مشارك والآخر غير مشارك وأقرب إلي الراوي العليم , كما لجأت إلي استخدام المونولوج الداخلي حيث تركت الشخصيات تتحدث بنفسها , هذا إلي جانب الحوار الخارجى الذي جاء أقل الأدوات استخداماً . كل هذا من أجل أن تخفي صوتها أو تنحسر بعيدا حتى لا يسمعها القارئ لأن صوت المؤلف المسموع لا يمكن إلا أن يكون تقريرا مباشرا في أحسن الأحوال .
ومع كل ذلك , من العبث إلغاء صوت المؤلف من العمل علي نحو كامل , ونحن عندما نبحث عن خطاب المؤلف هنا , لا نقصد ذلك الخطاب الزاعق المباشر الذي يخلخل البناء السردي , إنه ذلك الخطاب الذي يمكن أن ينسب بعد تأويل إلي المؤلف ، خطاب لا يتعدى بعض الجمل أو الألفاظ التي تعبث في أنحاء اللوحة السردية , فقد يأتي من خلال الوصف أو علي لسان إحدى الشخصيات ، أو في تعليق أحد الرواة .
وبدهي أن يكون خطاب المؤلف مطابقاً لخطاب حسنة الفقي حيث تصب الخطابات جميعا في فكرة واحدة , كما أشرنا وهي في مديح المرأة , ولكنه رغم ذلك يبقي خطاب حسنة الفقي ,أما خطاب المؤلف الذي يمكن تمييزه عن خطابى الرواة والمروي لهم , فيتجلى عبر ثناياً السرد في مواضع عديدة , وسنقف عند معظم هذه المواضع حيث تشكل في مجموعها خطاباً متماسكاً أطلقنا عليه مسمى " خطاب المؤلف " .
1- في الفصل الأول تروي حسنة عن ابنتها راوية وكيف أقامت "سبوعا " لابنتها حبيبة يمكن تسميته بالسبوع الإسلامي , فلا طبل ولا زمر ولا رقص ولا أغانٍ , فقط راوية وسط مجموعة من النساء تشبه الغربان السود وهن يقبلنها :
"بعيدة أنا عنك , تحيط بك نساء غربان في سوادهن , يقبلنك
بارك الله فيك يا أختي ، بارك الله فيما رزق
أية سبعينات قميئة تلك التي أتت بالغربان إلى بيتي " (14)
فالسؤال الاستنكاري في الجملة الأخيرة أية سبعينات قميئة تلك..؟ هو سؤال يعزي للمؤلفة أكثر ما يعزي إلي حسنة الفقي حيث يتجلى فيها موقف المؤلفة من فترة السبعينات , حيث الرفض والاستنكار للخطاب السياسي والديني القائم علي الضعف والتزمت .
2 ـ وقي الفصل الثاني يصف ملك الموت جمال حسنة الفقي , فنقرأ في ختام الوصف العبارة الآتية :
" وما يثير الدهشة أن الصفات القديمة والجديدة هي جزء لا يتجزأ منها , بما لا يجعل أحداً يلاحظ هذه التطورات فقدرتها علي التكيف والمواءمة تجعلها في كل الأوقات السيدة الأجمل دائما وبمرور الوقت ستكتسب نوعا من الجمال يطلق عليه خبراء الإعلام جمال الشهرة وتسميه حسنة جمال النعمة ( 15 )
فجملة ستكتسب نوعاً من الجمال ..... الخ جملة صفاء النجار , تكشف عن ثقافتها الخاصة إعلامياً , فهي أقرب للمؤلفة منها إلى الراوي ملك الموت .
3 ـ وفي الفصل نفسه , وعبر مروية ملك الموت عن العلاقة بين حسنة والياصابات وكيف تعلمت الأولي من الأخيرة الحياكة وبعض المعارف والخبرات الحياتية , وكيف جعلت الخياط اليهودي يخيط جلباباً جديدا لحسنة , يقحم الراوي جملة ينفي فيها علاقة لقب الفقي الذي يخص حسنة بلقب عائلة الفقي الإقطاعية المشهورة:
" ولم تجرؤ علي إخبار أبيها عن الجلباب الجديد إلا يوم الخميس , كما لم تجرؤ على إخباره فيما بعد أن مهنته التي اتخذ منه لقبا سببت لها قلقاً كبيراً , فحسنة لا علاقة لاسمها بعائلة الفقي الإقطاعية ولا بالممثلة الشابة نرمين الفقي التي ستظهر وحسنة سيدة تتخطى عامها الستين بثقة وثبات تدعهما برفضها الدائم لصبغات الشعر القديم منها والجديد ( 16)
فهذا الحرص على نفي العلاقة بين لقلب عائلة حسنة وعائلة الفقي الإقطاعية ونرمين الفقي , هو حرص المؤلفة , وهو ما ينسجم مع جملتها السابقة أية سبعينات قيمته تلك.....؟
4 ـ في الفصل الثالث , نقرأ علي لسان حسنة الجملة التالية وهي في منزلها الجديد بعد زواجها من فؤاد الكاتب :
" الأثاث صقيل , صامت , مليء بحواديته التي لا أعرفها , دون شفرة أحاول فك رموزها . ( 17 )
بديهي أن تشعر حسنة بالغربة وهي تنتقل من منزل فقير بسيط بجوار المقابر إلي سراية آل الكاتب , ومن ثم يكون الأثاث صقيلا وصامتا ومليئاً بالحواديت التي لا تعرفها , لكن جملة : دون شفرة أحاول فك رموزها . فأعتقد أنها تنتسب إلي ثقافة حداثية لم تدركها حسنة الفقي .
5ـ في الفصل الرابع وعبر مروية ملك الموت عن علاقة حسنة بفؤاد الكاتب وكيف كانت تشعر أنها استولت علي حظ امرأة أخري , نقرأ العبارة التالية على لسان ملك الموت وهو يخاطب مرويا له غير محدد , يقف خارج السرد, فربما كان القارئ الضمني أو القارئ العادي ! " وفؤاد الكاتب هو الشخص المناسب في المكان المناسب , بما يجعلك تؤمن أن ما يحدث في الحياة ليس عبثاً أو ألعاب مؤلفين يستهويهم قانون الصدفة . (18)
فجملة ألعاب مؤلفين ... الخ هي جملة المؤلفة حيث تؤكد براعتها في القص وقدرتها علي خلق شخصيات روائية وأحداث لا تخضع لقانون الصدفة .
6- في الفصل الخامس تجتر حسنة ذكرياتها وهي صغيرة في السابعة بعد وفاة أمها فنقرأ العبارة التالية حيث تصير حسنة مرويا له : " توقظك تكبيرات العيد من ميكروفونات زاعقة تكبر وكأن الله لا يسمع إن أنكر الأصوات لصوت الحمير قالها الشيخ عبد الجواد " (19) .
إن جملة " كأن الله لا يسمع " تنتمي إلي المؤلفة ولا يمكن أن تكون لحسنة الفتاة الصغيرة التي تجاوزت السابعة بقليل ، وربما كان المبرر لوجود هذه الجملة لأنها يمكن أن تنتمي إلى المروي له وهو هنا حسنة الفقي وقد تجاوزت الستين ، لكنه مع ذلك أكثر انسجاما مع خطاب المؤلفة وثقافتها الرافض لفترة السبعينيات أيديولوجيا .
7 ـ في ختام الفصل السادس وعبر مروية عن يحيي وصفية حيث يتم لقاء حب بينهما في فيلته بالقاهرة بعد عودته من أوربا ، نقرأ : تركت له يدها يقبلها ، وأخذت هي تراقب السقف زجزاج ألوانه المتداخلة بين الأبيض والبمبي حتى منتصفه حيث فتحة دائرية من خارج زجاج شفاف يطل على السماء والنجوم البعيدة ، يتجمع المتناثر من ومضات الضوء، تجلس على حافة السرير ، تتعرى تحت المخروط القادم من رحلته اللانهائية ، متعبا محبطا غريبا ، تستكين في كفها الومضات الواهنة ، تغتسل بها تتلألأ في الكف خطوطه المحجوبة ، أمام مرآة الحمام تمشط شعرها ، سقطت ثلاث قطرات دم من أنفها ، امتزجت القطرات الثلاث مع مياه الصنبور وتسربت إلى المجاري ، عادت إلى الحجرة ما زال يحيي نائما محتضنا بذراعه مكانها الذي سيظل فارغا " (20 ) .
في المشهد السردي السابق نجد جملة الوصف " السقف زجزاج ألوانه .... خطوطه المحجوبة " على دقتها لا ترتبط بالشخصية المتحدث عنها " صفية " ومن ثم فهي جملة ترتبط أكثر بالمؤلفة ، فالوصف مقحم هنا .
8 ـ في الفصل السابع حيث تروي حسنة نقرأ الجملة التالية : " جميعنا يتمنى البنات ، البنت دافئة ، حانية ، يمكنك أن تعيد معها طفولتك " (21 ) .
هذه الجملة تقع في الوسط تماما بين حسنة والمؤلفة وهي عندما تنسب إلى المؤلفة تعضد فحوى الفكرة المركزية للرواية ، أي مديح المرأة .
9 ـ في الفصل الثامن في معرض حديث ملك الموت عن بنات صفية الثلاثة : نور وشمس وقمر ، نقرأ العبارة التالية : " لكن البنات كن خياليات ويطمحن إلى المستحيل ، لذا تراني معهن وأحمل يوسف إدريس مسئولية مصيرهن ، وعدم زواجهن ، فهن لم يتمسكن بهذا الشرط إلا بعد قراءتهن لقصة " بيت من لحم " أرعبتهن فكرة التواطؤ ، وكان في حياتهن من الغموض ما يكفي ، ومن التساؤلات الخرساء ما يثقل كاهلهن " ( 22 ) .
والمقصود بالشرط في العبارة أن البنات لا يوافقن على الزواج من أي شخص لا يستطيع التمييز بينهن حيث الثلاث متشابهات في الشكل ، وأيا كان الشرط فلا أعتقد أن جملة أحمل يوسف إدريس مسئولية مصيرهن تنتمي إلى ملك الموت ، إنها بالأحرى جملة صفاء النجار المؤلفة القارئة لأدب يوسف إدريس ، لكن هل الجملة هنا مقحمة مثل الوصف في الفقرة رقم (7) ؟ الحقيقة إن استدعاء يوسف إدريس وقصة بيت من لحم أثرى المشهد السردي من خلال المقارنة بين مصير البنات في قصة يوسف إدريس ومصيرهن في رواية صفاء النجار ، فإذا كان المعنى لدى يوسف إدريس ينحو منحا سياسيا فإنه هنا لدى صفاء النجار ينحو منحا اجتماعيا وإن شئنا الدقة قلنا أنثويا ، فترفض صفية عرض يحيي بالزواج منها وترفض البنات العيش مع يحيي ، إنه انتصار لكرامة المرأة .
10 ـ وإذا كانت المؤلفة قد نجحت في استدعاء يوسف إدريس ووظفت جيدا قصة بيت من لحم ، فإنها قد حاولت ذلك مع ابن المقفع وإحدى قصص كتابه "كليلة ودمنة" في الفصل التاسع ، وذلك على لسان حسنة الفقي في معرض مرويتها عن ابنها الذي فقدته في حرب العراق "منير" فتأتي بمقطعين من باب الحمامة المطوقة، يعنينا أن نقف عند المقطع الثاني :
" واقرأ عليك قول الفيلسوف للملك :
فإذا كان هذا الخلق على صغره وضعفه قد قدر على التخلص من مرابط التهلكة ، مرة بعد أخرى بمودته ، وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع أصحابه ، فالإنسان الذي قد أعطيً العقل والفهم وأُلهم الخير والشر ومُنح التمييز والمعرفة أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد " (23) .
إن هذا الاستدعاء على براعته ، وعدم تنافره مع محتوى النص ، إلا أنه ينتمي للمؤلف أكثر مما ينتمي إلى الراوي ، فقد تخلخل الإيقاع السردي داخل النص فلغة ابن المقفع تختلف عن لغة السارد / المؤلف وهذا ما يجعلنا نرجح علو صوت المؤلف هنا .
11 ـ في الفصل العاشر يروي ملك الموت عن عوض أنه كان يأكل نفسه ، وأن أعضاءه كانت تنسلخ منها رقائق تنزل مع برازه وبوله وحتى زفير تنفسه ، كل هذا عدا عضوه فهو الشيء الوحيد الذي نجا من النحت ثم يضع أمامنا ثلاثة احتمالات لتفسير ذلك لا تعنينا بقدر ما تعنينا العبارة التالية :
" وأرجح أنا هذا الاحتمال .. فهو كرجل يمكنه أن يتنازل عن روحه ويبيعها للشيطان ، ولكن لا يمكن مهما كان كارها لنفسه وللآخرين أن يتنازل عن عضوه الذي يحدد وضعه وترتيبه الفحولي وتسيده وحتما فإن عوض كان ابنا بارا لثقافته العضوية " (24) .
فعلى الرغم من "أنا" الضخمة في بداية العبارة فإن العبارة تنتمي إلى المؤلفة وليس ملك الموت , وخاصة الجملة الأخيرة : وحتما فإن عوض كان ابناً باراً لثقافته العضوية . فثمة سخرية مبطنة في هذه العبارة تطلقها المرأة في مواجهة الرجل , إنه الخطاب الأنثوي لا أقول المتعالي ولكن المدافع عن أنوثته ،أما التهكم فما هو إلا وسيلة دفاع .
12- في الفصل الأخير , نقرأ العبارة التالية للراوي ملك الموت :
" تماهت حسنة مع الجلسات الأسبوعية وشيئاً فشيئاً أصبحت أهم أركان هذه الجلسة وموطن استشارة السيدات والمتباهيات بجدودهن وأراضيهن الشاسعة , بل وبمرور الوقت أصبح لها جلستها الأسبوعية الخاصة في سرايتها , التي لم تمتنع عن إقامتها إلا شهري فبراير ومارس بعد وفاة أم كلثوم , وكل هذا لا يعني إلا أن حسنة تغيرت كثيراً كثيرا . "(25)
إن لفظ " تماهت " لا يمكن أن يكون للراوي , إنه يبدو نشازا في لغة الراوي ، لذلك نرجح أن يكون للمؤلف الحقيقى ,كما أن جملة " كل هذا لا يعني إلا أن حسنة تغيرت كثيراً كثيراً " جملة تقريرية زائدة يمكن حذفها من النص دون إلحاق أي ضرر أو تأثير في سير الأحداث أو توصيل الدلالة ، إنها جملة خارج البناء السردي . لذلك فهي جملة المؤلف المقحمة لتقرير ما هو قار .
ثالثا : خطاب المروي له ( في مديح المرأة أقر ) :
يعود الاهتمام بالمروي له بوصفه مكونا أساسيا من مكونات البنية السردية ( راوٍ ـ مروي ـ مروي له ) إلى الاهتمام الكبير الذي أثارته نظرية التلقي ( Reception Theory ) في أوساط المعنيين بالسرديات " (26) . وتجدر الإشارة إلى أن أوضح صورة للمروي له تبرز بشكل جليً في سفرنا العربي المدهش ، ألف ليلة وليلة . فإذا كانت شهرزاد تمثل شخصية الراوي Narrator فإن شخصية شهريار تمثل المروي له Narrtee الذي يتلقى السرد داخل النص ، كما أننا نجد داخل هذا النص أيضا مروي لهم آخرين ، ففي حكايات السندباد على سبيل المثال يتحول السندباد البحري إلى راوٍ ، بينما يصير السندباد الحمال مرويا له .
ويرجع الفضل في الكشف عن مكنون المروي له وطبيعته ووظيفته في البناء السردي إلى الناقد الأمريكي جيرالد برنس Gerald Prince ، إذ يحدده في عبارة موجزة قائلا : " المروي له شخص ما يوجه إليه الراوي خطابه "(27) ثم توالى الاهتمام به في أوساط السرديين مثل سيمور جاتمان وجان لنتفلت وجوناثان كلر ، ويُعد التخطيط التالي الذي أعده جاتمان أوضح الصور التي تحدد مكانة المروى له في البنية السردية وخلاصتها بالنسبة للمروي له القول " إن تقديم نموذج لراوٍ يفضي إلى استدعاء نموذج من المروي له ، يكون موازيا "( 28)
النص السردي
المؤلف الضمني ـ الراوي ـ المروي له ـ القارئ الضمني
المؤلف الحقيقي القارئ الحقيقي
ويفضي بنا هذا التخطيط إلى عد المروي له جزءا عضويا من النص السردي ، وأنه يختلف عن القارئ الحقيقي Real Author الذي هو إنسان من لحم ودم يتناول العمل القصصي أو الروائي ليقرأه متى شاء ، وأين شاء ، كما يختلف عن القارئ الضمني Implied Author الذي هو كائن خيالي يولد لحظة قراءة النص السردي فقط ، وإذا كان القارئ الحقيقي شأنه في ذلك شأن المؤلف الحقيقي ، يقع خارج العملية السردية فإن القارئ الضمني يقع داخل العملية السردية ذاتها ، وهو في هذا يلتقي مع المروي له ، إلا أن المروي له قد يمتلك حضورا مجسدا وممسرحا في شكل شخصية قصصية حقيقية داخل العمل السردي بينما يظل القارئ الضمني شخصية متخيلة داخل السرد .
وإذا لم يمتلك المروي له هذا الحضور المجسد والممسرح يكون من الصعب تحديده ، إذ نجده في هذه الحالة إلى جانب التقائه أو تقاطعه مع القارئ الضمني ، يكاد يتماهى في شخصية الراوي ، إذ يعرف لغته ويفهم ما يقوله ويكون مطيعا له ، ويمكن تسميته بالمروي له النموذجي أو المروي له في درجة الصفر على حد قول برنس ، إذ يقول " لا يفتقر المروي له من درجة الصفر إلى السمات الإيجابية ، لكنه لا يفتقر إلى السمات السلبية كذلك ، إنه يستطيع أن يتابع سردا بشكل واضح وبطريقة عميقة ، ومطلوب منه أن يطلع على الأحداث بالقراءة من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة ، ومن كلمة البداية إلى النهاية ، يضاف على ذلك أن المروي عليه من درجة الصفر بلا شخصية أو سمات اجتماعية إنه ليس حسنا أو سيئا ، وليس متشائما أو متفائلا .... "( 29) .
إذن كيف يمكن تحديد صورة المروي له ، يقول برنس " إن صورة المروي له تتكون تدريجيا على أساس هذه الانحرافات عن خصائص المروي له من درجة الصفر " (30) .
وفي "استقالة ملك الموت " نلتقي بالمروي له ممسرحا بوصفه شخصية داخل البناء السردي ، ونلتقي به أيضا غير ممسرح ، كائن مجهول ، وعلى حد قول برنس مروي له في درجة الصفر حيث يلتقي مع القارئ الضمني أو يتماهى مع الراوي ، لكنه في الحالتين يشكل خطابا يتداخل مع خطاب الراوي والمؤلف يصب في الأخير في محتوى النص أو الفكرة المركزية للرواية ، وفي ذات الوقت يكاد يقوم بمعظم الوظائف التي حددها برنس له حيث " يؤسس توسطا ما بين الراوي والقارئ ، ويساعدنا في إقامة إطار السرد ، ويفيد في تشخيص الراوي ويؤكد موضوعات بعينها ، ويسهم في الحبكة ويصبح المتحدث باسم الجانب الأخلاقي من العمل " (31) .
لكل راوٍ من الرواة الأساسين في العمل مروي له من درجة الصفر يتطابق مع القارئ الضمني ، فلحسنة الفقي مروي له نموذجي مطيع وخانع ومتقبل لكل ما تقوله ، وكذلك الأمر بالنسبة لملك الموت ، وهذا المروي له النموذجي يتطابق خطابه مع خطاب الراوي ، وقد فصلنا الحديث عن هذا الخطاب في الجزء الأول ، ويعنينا هنا هؤلاء المروي لهم الذين يبزون عن درجة الصفر ، فلدى حسنة خمسة من المروي لهم هم ، حسنة وملك الموت وفؤاد الكاتب وحبيبة وراوية ، ولدى ملك الموت مرويان له ، ملك الموت نفسه والمتلقي من البشر .
توجه حسنة الفقي بوصفها راويا خطابها داخل النص للمروي له ، ملك الموت في بداية النص :
آه أيها الموت كم أنت رفيق
ليست المرة الأولى التي تنتظرني فيها .. في الأيام البعيدة كنت تعبر بي الشارع تمسك بيدي ، لا أشعر بملمس جلدك ، لكن إحساسا بالأمان يسري في عروقي " (32)
في هذا النص يتحول ملك الموت إلى مروي له ، مع ملاحظة أن ملك الموت بوصفه راويا لا يجعل من حسنة مرويا له ، على أية حال تكشف هذه العبارة عن تعاطف ملك الموت مع حسنة ، إنه في الأخير معادل موضوعي للتأكيد على خطاب الراوي المنحاز للمرأة .
وإذا انتقلنا إلى حسنة بوصفها مرويا له لحسنة الراوية ، نجد في أكثر من موضع وربما في معظم الفصول التي روتها حسنة توجه الخطاب إلى نفسها ، حيث تسهم هذه المرويات في الكشف عن شخصية الراوي مع التأكيد على بعض القيم التي تنتمي إلى الشخصية أو إلى المؤلف أحيانا ، تخاطب حسنة نفسها بعد أن روت لنا شيئا عن وظيفة أمها وكيف كانت تصحبها إلى بيوت أهل الميت للقيام بوظيفة البكاء : " نفس البكائيات كتب عليك أن تردديها بعد ثلاثين عاما ، في تلك اللحظة ، كنت مركز الضوء ، وصورة منير لا تفارق عينيك ، غابت البنت المنزوية التي تنتظر أن تنتهي أمها من مهمتها ، وأصبحت السيدة التي صادقت الموت طويلا حتى تعودت عليه " (33) .
وفي موضع آخر ، نقرأ :
" فهل تبحثين عن تدويرات ولفات أيامك ؟ "(34) .
إن هذه العبارة الموجهة إلى المروي له حسنة ، تؤكد الاهتمام بالذات وإثبات الوجود الأنثوي في مقابل الذكر ، وهذا ما يجرنا إلى خطاب حسنة إلى فؤاد الكاتب زوجها بوصف الأخير مرويا له ، إنها لا تغفر لفؤاد سخريته منها عندما صدقت المذيع أحمد سعيد عن الانتصارات الكبيرة في حرب 1967 م وقوله لها :" يا عبيطة"
في الفصل الخامس بعد أن تغسله بنفسها مما يشي بالشجاعة والجرأة ، تخاطبه قائلة :
" كيف أمكن لك أن تتصورني بهذا الشكل ؟ ساذجة وعبيطة وأنا التي صدقتك في كل ما قلت .. وللمرة الأولى أرى عينيك التي تحدثوا عنها كثيرا ، حزينة والدموع معلقة فيها وقررت الانسحاب وتخليت عني " (35)
إن هذا الاستنكار يحمل إدانة واضحة بقدر ما يحمل دفاعا عن النفس واحتماء بالذات ، ولكن الإدانة أرجح كما تصور نهاية العبارة ، إذ قرر فؤاد الانسحاب والتخليً ، وفؤاد في الواقع لم يتخل ولم ينسحب ، لقد مات ، ولكنه منطق الأنثى !
وثمة مرويان لهما أعطتهما المؤلفة مساحة كبيرة داخل النص ، وقد تمثلا في شخصيتي "راوية" الابنة لحسنة و"حبيبة" حفيدتها ، وتكمن أهميتهما في أن خطاب الأولى مناوئ لخطابى الراوي والمؤلف معا وخطاب الثانية معضد بل يشكل امتدادا لخطابى الراوي والمؤلف .
في الاحتفال بفرح أول أحفاد حسنة ترقص حبيبة وتشجع جدتها على الرقص ، فتستنكر راوية ذلك منها وتطلب منها أن تكف عن الرقص لأنه عيب ، ولأن حبيبة عنيدة مثل جدتها يكون العقاب إرسالها إلى مدرسة الراهبات الفرنسيسكان بالقاهرة ، إن موقف راوية هنا يمثل موقف الجماعات الإسلامية التي ترى في الرقص والسفور والتعبير عن العواطف من المحرمات ، حتى الاحتفال بالسبوع يجب أن يكون على الطريقة الإسلامية فلا غناء ولا رقص ولا طبل ولا موسيقى .
ولأن النص طويل اجتزأ منه البداية والخاتمة :
في البداية : " تزداد اهتزازات الورود البيضاء على فستانها الأحمر وأنت تقرصينها غيظا وتبتسمين للنساء :
ـ اثبتي يا حبيبة عيب " (36)
وفي الختام : " بعيدا أنا عنك تحيط بك نساء غربان في سوادهن ، يقبلنك
ـ بارك الله فيك يا أختي ، بارك الله فيما رزق
أية سبعينات قميئة تلك التي أتت بالغربان إلى بيتي " (37)
وتكمن أهمية هذا النص وبراعة الكاتبة في ذات الوقت في تداخل الخطابات الثلاثة معا ، فهناك خطاب الراوي (حسنة) الداعي إلى الحرية وعدم التزمت ، وخطاب المؤلفة المعضد لخطاب حسنة والرافض لفترة السبعينيات بكل قيمها السياسية والاجتماعية ، وخطاب المروي له ، خطاب راوية إنه خطاب مضاد لخطاب الراوي ، يؤكد مقولة " والضد يظهر حسنه الضد " .
وفي مقابل هذا الخطاب نجد حبيبة مرويا له يستأثر بمساحة كبيرة على امتداد صفحات الفصول التي ترويها حسنة ، ففي أكثر من موضع توجه حسنة الخطاب إلى حبيبة ، فنعرف أن الأخيرة علمتها الرسم وتراسلها وهي في أوربا وتحكي لها عن التطور الذي يحدث هناك وتخبرها أنها ستنجب طفلة وستسميها مريم ، وأن هذه الطفلة بدون أب ، حيث استخدمت الهندسة الوراثية والاستنساخ للحصول على هذه الطفلة ، إن تعاطف حسنة مع أفعال حبيبة يؤكد الخطاب الحداثي للراوي والمؤلف معا ، ذلك الخطاب المقاوم لهيمنة سلطة الرجل ، فعلى الرغم من عدم اقتناع حسنة بفكرة الإنجاب عن طريق الاستنساخ فإنها تحاول إيجاد مخرج لحبيبة لكي تنجو من بطش راوية أو قل من بطش السلطة المتخلفة المتمثلة في القيم المتزمتة .
" لكنك تقولين أنه لم يكن لديك اختيار ، الاستنساخ يعني ولدا من الرجل وبنتا من المرأة ، البنت يتم تدليلها ، ألوان زاهية سأشتري لابنتك اللعب ...." (38) .
وفي موضع آخر :
" سيكون لك طفلة ، غلطة تحتاجين إلى حمايتي لإصلاحها ، لا تحملي هما ، سوف أجبر أباك على الموافقة على زواجكما ، وإذا لم يوافق فليذهب إلى الجحيم ..."(39) .
فحسنة الفقي على استعداد لحماية حبيبة وإصلاح غلطتها وإقناع أبيها عوض بالموافقة على الزواج ، وإذا لم يوافق يذهب إلى الجحيم ، إذن فهي تدعو حبيبة للثورة ، والحقيقة أن حبيبة ليست في حاجة إلى هذه الثورة الشكلية فقد تجاوزت ذلك بمراحل ، لقد صارت مثل البتول ، فهي على استعداد لمواجهة العالم كله بطفلها الذي ولدته من دون أب تماما مثل المسيح الذي ولد من دون أب ، والفرق أن المولود هنا أنثى وليس ذكرا ، واسمها مريم مما يؤكد الانحياز للأنثى أو مديحها كما يقول المحتوى الرئيسي للرواية .
ونصل أخيرا إلى المروي له المتعلق بملك الموت ، فيلفت نظرنا أنه لا يجعل من حسنة مرويا له ، ولو لمرة واحدة ، إذن لمن يروي ملك الموت ؟ لا يستحضر ملك الموت رواة كثر داخل النص السردي ، فإلى جانب المروي له النموذجي الذي يكاد يتماهى في شخصية الراوي نجد مرويا له واحدا يقابلنا بكثرة حتى لا يكاد يخلو فصل من الفصول الستة المخصصة لملك الموت دون توجيه الخطاب له ، هذا المروي له ليس ممسرحا كشخصية فاعلة داخل النص كحسنة أو حبيبة أو راوية ، ولكنه يقع مع ذلك داخل النص ، إنه مزيج من المروي له والقارئ الضمني ، فملك الموت كـ راوٍ يوجه خطابه إلى جماعة من البشر يشهدهم على أقواله وأفعاله .
يوجه الراوي / ملك الموت في بداية سرده خطابا عاما ، أشبه بموعظة للإنسان ، تأخذ الموعظة معظم الصفحة رقم (22) ولن أقف كثيرا عند هذا الخطاب لأنه ينتمي إلى المؤلف أكثر ما ينتمي إلى الراوي ، لكن في نهاية الصفحة نفسها ، نقرأ :
" ورغم قربي وتجلياتي في الأشياء تدعون أنكم لم تقابلوني فمن قابل الموت وعاد ليروي عنه " (40)
فالمروي له هنا جماعة البشر الذين يتنكرون للموت ، وهذا التنكر أو الاستنكار دليل على وجود الموت .
وفي الفصل الرابع عند حديثة عن فؤاد الكاتب يستحضر الرواي مرة أخرى جماعة البشر فيقول :
" كان فؤاد الكاتب رجلا رومانسيا رغم خطوط وجهه الحادة ، ويمكن في مثل هذه الأجواء أن تقع له حوادث لاشك أنكم ستعجبون لها ، لكنها المقابر والقمر المطل عليها وحورياته التي تنزل لتؤانس أرواح الموتى وتصوب لقلوب الأحياء سهاما من أشعة القمر فلا تشفى من الحب أبدا فلا تقربوها ليلا وقلوبكم في جنوبكم ، وإذا لم يكن بد فسيحدث لكم ما حدث لحسنة "(41)
إن استحضار المروي له هنا وتوجيه عبارات مثل لاشك أنكم ستعجبون لها ، ولا تقربوها ليلا .. الخ حث لكي يتقبل المتلقي عبر المروي له قصة الحب الأسطورية بين فؤاد الكاتب وحسنة ، فالمروي له هنا يلعب دور الوسيط بين الراوي والمتلقي الذي أشار إليه جيرالد برنس . وإذا كان المروي له متشككا أو مندهشا على الأقل فإنه في النهاية يسلم بما قاله الراوي ومن ثم فخطابه معضد لخطاب الراوي المنحاز للمرأة .
وعند حديث المروي له عن صفية ويحيي يستحضر المروي له مرة أخرى لإقناعه بما حدث ، فيناقش أولا قبل أن يعلن الرفض أو القبول ، فمن المؤكد أن ما حدث بين يحي وصفية لا يقبله العرف أو الدين ، ففي العرف عار وفي الدين زنا ، لذلك كان لابد من استحضار المروي له ، لكي نتأمل الحدث قبل إصدار الحكم بالإدانة أو البراءة :
" وما كان لي كملك للموت أن أتدخل أو أمنع شيئا ففي مثل تلك اللحظات يصبح الإخصاب والموت وجهان لعملة واحدة ، ومن الدماء وروح الإخصاب تكونت صفية أخرى جديدة لا أدري موقعها مني ولا تعتقدوا أن الأمر كان يسيرا عليً فطالما تساءلت ماذا أفعل عندما يأتيني أمر الرب ؟ أي الصفيتين سوف أصطحب وأيهما التي تنهمر دموعها وهي تقول لأبيها :
- مش عايزة أتجوز
- ليه
- يحيي " (42)
وفي الفصل الثامن يحدثنا عن رزق زوج صفية فيستحضر المروي له لكي يعرض عليه حيرته في هذا الـ (رزق) ، فيختلق عدة روايات للمروي له الذي عليه أن يختار واحدة منها إذا أراد : " يحيرني هذا الرجل فهو كان يعلم أن يحيي هو أبو بناته أشك وما أدراك ماذا يعني الشك بالنسبة ليً أنا ملك الموت ، لكن أتصور وأنا لا أملك يقينا ،أنه غافلني في هذه النقطة
ليس أمامي غير أن أختلق لكم رواية .. عدة روايات " ( 43)
إن اختلاق الروايات هناك يرجع في الأساس إلى شك المروي له في قدرة ملك الموت على سرد التفاصيل التي تخص البشر ، وهنا يتداخل صوت المؤلف ، فالمؤلف يريد أن يقنعنا بقدرة ملك الموت على السرد .
وفي الفصل ذاته وعبر مروية ملك الموت عن صفية ، يوجه الراوي خطابه إلى المروي له ، فيقول :
" ربما هي صفية الأخرى ، هل نسيتموها ؟ صفية التي لا تحبونها ؟ " ( 44 )
فهذه الجملة تكشف عن دور المروي له في الحفاظ على قيم المجتمع الثابتة ، فالمروي له لا يمكن أن يحب خاطئة مثل صفية .
وفي عبارة أخرى يقول : " وإذا كنتم لا تؤمنون مثلي بالسحر ، فهناك إجابة من ثلاثة احتمالات :
1 ـ إن قلبه يصدق صفية
2 ـ إنها رغبة في أن يكون له ظل على الأرض
3 ـ إنه ككل الرجال مغفل كبير " (45) .
تكشف العبارة السابقة عن أبرز سمات المروي له وهي الإيمان بالسحر والسخرية من قيم هذا المجتمع الذكوري ، فأحد الاحتمالات أن يكون للرجل ظل على الأرض ولكنه يبقى في الأخير مغفلا كبيرا .
ولما كان الراوي ملك الموت يعد وجه العمل المقابل للراوى الأنثوي حسنة الفقي كما أشرنا من قبل ، يعلن في نهاية النص موقفه من المروي له ، فهو محير من ناحية له ، وفي ذات الوقت في حاجة إلى نصيحة أو عظة ، فيقول ملك الموت :
" ألم أقل لكم في البداية أن الإنسان يحيرني كثيرا ويتضح في النهاية أن الرب يكافئ البشر على تجاربهم وخطاياهم وأن حل لغز الحياة في عيشها ونسيان الموت ! " (46) .
هنا يختلط صوت الراوي بصوت المؤلف ، فجملة " أن حل لغز الحياة في عيشها ونسيان الموت" تنتمي إلى المؤلف بالقدر الذي تنتمي فيه إلى الراوي ، أما المروي له فعليه أن يستجيب لهذه النصيحة ، وإلا ظل في حيرته وتخلفه أيضا ، وهكذا تتداخل الخطابات السردية الثلاثة وتتضافر في جديلة واحدة مكونة ما يمكن أن نسميه خطابا أنثويا راقيا يقدر المرأة تقديرا واعيا ، وممتعا أيضا .
ـــــــــــــــــــ
الهوامش :
1 ـ د.صالح هويدي ، النقد الأدبي الحديث ، قضاياه ومناهجه ، منشورات جامعة السابع من أبريل ، ليبيا ، د.ت ، ص 136 .
2 ـ رامان سلدن : النظرية النقدية المعاصرة ، ترجمة جابر عصفور ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1986 ، ص 224 .
3 ـ صفاء النجار : استقالة ملك الموت ، دار شرقيات ، القاهرة 2005 ، ص 144 .
4 ـ الرواية ، ص 10 .
5 ـ الرواية ، ص 13 .
6 ـ الرواية ، ص 37 .
7 ـ الرواية ، ص 63 .
* ـ انظر يوهانيس فون تبل ، إكرمان حوار مع الموت ، ترجمة كمال رضوان ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1984 .
8 ـ الرواية ، ص 17 .
9 ـ الرواية ، ص 22 .
10 ـ الرواية ، ص 23 .
11 ـ الرواية ، ص 33 .
12 ـ الرواية ، ص 115 .
13 ـبيرسي لبوك ، صنعة الرواية ، ترجمة عبد الستار جواد ، دار الرشيد للنشر ، بغداد 1981 ، ص 225 .
14 ـ الرواية ، ص 18 .
15 ـ الرواية ، ص 25 .
16 ـ الرواية ، ص 29 .
17 ـ الرواية ، ص 35 .
18 ـ الرواية ، ص 60 .
19 ـ الرواية ، ص 76 .
20 ـ الرواية ، ص 93 .
21 ـ الرواية ، ص 99 .
22 ـ الرواية ، ص 112 .
23 ـ الرواية ، ص 122 .
24 ـ الرواية ، ص 136 .
25 ـ الرواية ، ص 164 .
26 ـ عبد الله إبراهيم : السردية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، طـ 2 ، بيروت 2000 ، ص ص21 .
27 ـ جيرالد برنس : مقدمة لدراسة المروي عليه ، ترجمة على عفيفي ، فصول ، مج 2 ، ع 2 ، صيف 1992 ، ص 76 .
28 ـ عبد الله إبراهيم ، السردية العربية ، مرجع سابق ، ص 21 .
29 ـ جيرالد برنس ، مقدمة لدراسة المروي عليه ، مرجع سابق ، ص 78 .
30 ـ جيرالد برنس ، المرجع نفسه ، ص 79 .
31 ـ جيرالد برنس ، المرجع نفسه ، ص 89 .
32 ـ الرواية ، ص 9 .
33 ـ الرواية ، ص 11 .
34 ـ الرواية ، ص 19 .
35 ـ الرواية ، ص 70 .
36 ـ الرواية ، ص 17 .
37 ـ الرواية ، ص 18 .
38 ـ الرواية ، ص 100 .
39 ـ الرواية ، ص 151 .
40 ـ الرواية ، ص 22 .
41 ـ الرواية ، ص 55 .
42 ـ الرواية ، ص 87 .
43 ـ الرواية ، ص 110 .
44 ـ الرواية ، ص 115 .
45 ـ الرواية ، ص 116 .
46 ـ الرواية ، ص 170 .
المصادر والمراجع :
1- صفاء النجار : استقالة ملك الموت ، دار شرقيات ، القاهرة 2005
2- د.صالح هويدي ، النقد الأدبي الحديث ، قضاياه ومناهجه ، منشورات جامعة السابع من أبريل ، ليبيا ، د.ت
3- رامان سلدن : النظرية النقدية المعاصرة ، ترجمة جابر عصفور ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1986
4- ـبيرسي لبوك ، صنعة الرواية ، ترجمة عبد الستار جواد ، دار الرشيد للنشر ، بغداد 1981
5- عبد الله إبراهيم : السردية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، طـ 2 ، بيروت 2000
6- جيرالد برنس : مقدمة لدراسة المروي عليه ، ترجمة على عفيفي ، فصول ، مج 2 ، ع 2 ، صيف 1992 ،
7- يوهانيس فون تبل ، إكرمان حوار مع الموت ، ترجمة كمال رضوان ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1984
ـــــــــــــــــــ
تداخل الخطابات السردية في رواية "استقالة ملك الموت" لصفاء النجار
الدكتور / محمد عبدالحليم غنيم
وطبقا لتاريخ ألين شو ولتر Alain showtier لتاريخ الحركة النسائية في الأدب في كتابها "أدب خاص لهن" تأتي صفاء النجار مقارنة بالأدبيات الإنجليزيات ضمن كاتبات المرحلة الثالثة التي تبدأ من 1920 وما بعدها , وعلي حد قول رامان سلدن عن هذه المرحلة فإن الكتابة النسائية : " ورثت خصائص المرحلتين السابقتين وطورت فكرة الكتابة النسائية المتميزة فضلا عن فكرة التجربة النسائية .(2)
وعلى مستوى الكتابة النسائية العربية فإن استقالة ملك الموت تنظم في حلقات تاريخ الكتابة النسائية في الأدب العربي الذي يتجاوز القرن من الزمان , حيث تقف بهذا العمل صفاء النجار في آخر حلقات هذا التاريخ , ضمن جيل حديث من الكاتبات كسحر توفيق وعفاف السيد ومي خالد و ميرال الطحاوى وغيرهن , حيث تتجلى قدرتهن علي التجول في دقائق وتفاصيل استأثرت بولع الأنثى قد تصل أحيانا إلي درجة كسر بعض التابوهات ,هذا إلي جانب تقديم رؤية للأشياء من منظور يختلف بالقطع عن الرؤية التي اعتدنا أن نقرأها من منظور الذكور .
لا نود أن نستطرد في ذلك فننزلق إلي الأحكام العامة حول هذه الكتابة , لكن أستطيع القول من خلال قراءة هذا العمل الذي بين يدي ، أن صفاء النجار تكتب ذاتها الأنثوية بالقدر نفسه الذي تكتب فيه نصها الخاص بها كمبدعة بقطع النظر عن النوع البيولوجي (رجل / امرأة) فنحن أمام عمل فني ، رواية مكتملة الأركان ، و كما أشرت آنفا ، ثمة وظيفة مركزية أو محتوي عام , يتشكل عبر مكونات النص : أحداث وشخوص وزمان ومكان وهذه الوظيفة المركزية المتمثلة في جملة (في مديح المرأة) تتشكل عبر خطابات ثلاثة , خطاب الراوي , وخطاب المؤلف , وخطاب المروى له .
أولا : خطاب الراوي ( في مديح المرأة أروي لكم : حسنة الفقي وملك الموت )
تنظم الرواية في اثني عشرة فصلا يرويها بالتناوب حسنة الفقي وملك الموت علي الترتيب, فالفصول ذات الأرقام الفردية لحسنة والفصول ذات الأرقام الزوجية لملك الموت , وجملة البداية لحسنة وجملة الختام لملك الموت والجملتان تشكلان عبارة واحدة مترابطة الأجزاء أو جملة خبرية تامة توصل لنا رسالة واضحة في ذات الوقت .
والسؤال ألا يختلف خطاب حسنة عن خطاب ملك الموت ؟ من المؤكد أن الإجابة نعم , إذن فلدينا هنا خطابان , خطاب حسنة وخطاب ملك الموت . وإذا كان خطاب حسنة يمثل الأنثى بحكم طبيعتها , فهل يمثل خطاب ملك الموت الذكر ؟ ومن ثم هل هو خطاب معارض ؟ أم خطاب معضد ؟
الواقع أن خطاب ملك الموت خطاب معضد لخطاب الأنثى فعبر ثلاثين عاما , الزمن الداخلي للأحداث يصحب حسنة الفقي منذ كانت طفلة إلى أن صارت سيدة ناضجة أرملة لفؤاد الكاتب وجدة لأحفاده , ومركز جذب لعدد كبير من الشخصيات حولها . إن خطاب ملك الموت ليس تعضيدا لحسنة فحسب , بل إنه خطاب معضد لكل الشخصيات النسائية داخل هذا النص ، لكن في الخطاب المعضد للمرأة يمكن أن نشتم رائحة إدانة للرجل الحقيقي , وأقصد الرجل بوصف نوعا إنسانيا في مقابل المرأة , وإلا فلماذا اللجوء إلي شخصية فنتازية كملك الموت . إنني هنا لا أستبعد القصدية من المؤلفة في استحضار ملك الموت بوصفه بديلا للرجل المفقود.
ونعود إلي خطاب حسنة الفقي , فنجدها راوية مشاركة وفاعلة في الأحداث فعبر ستة فصول ( وسنلاحظ أنها أطول من حيث الحجم من الفصول التي يرويها ملك الموت ) نجدها دائما في قلب الأحداث , فنصحبها طفلة وشابة في الفصل الأول ثم سيدة متزوجة من فؤاد الكاتب ثم أرملة وأم وجدة مع توالى الفصول ومع ذلك تمد جذورها إلى الحاضر بل إلى المستقبل فتوجه خطابها إلى الحفيدة حبيبة التي تدرس في أوربا, وتتفهم مطلبها في الحصول علي طفل دون وجود زوج , وقبل أن تسافر حبيبة تحاول معها الإمساك بالريشة وتعلم الرسم بالألوان , تقول: في بداية الفصل الحادي عشر :
تعطيني ريشتها , تفتح علبة الألوان , تفرد اللوحة تعلقها علي مسند وتمد يدها بالفرشاة:
ـ ارسمي يا جدتي .
استنكر طلبها , لم يكن لي أي كراسة رسم , هذه الأشياء لم تكن في الكتاب , كان لنا لوح ولكن لتسميع آيات القرآن الكريم . (3)
ويبدو أن محاولة الإمساك بالريشة كانت بداية لمحاولة فكرة أن تلد حبيبة بدون زوج , ومن ثم تحاول إيجاد مخرج لها عبر منطق المرأة (انظر الرواية ص 52 )
إن خطاب حسنة الفقي خطاب أنثوي يعني بالتفاصيل التي تخص الأنثى وعلي الأقل التفاصيل التى لا يلتفت إليها إلا الأنثي , ومع ذلك لا يمكن القول أنها تمادت في ذلك , لقد كان خطابا متوازنا , ربما لأن المؤلفة تعمل علي إعطاء مساحة لخطابات أخرى تعضد في النهاية خطاب حسنة الفقي الأنثوي كخطاب ملك الموت , وخطاب المروي له , وخطاب المؤلف كما سنوضح في الفقرات التالية ، ومع ذلك يمكننا أن نعثر علي كثير من التفاصيل الأنثوية داخل النص لدرجة يصعب حصرها .
في الفصل الأول تقول حسنة وهي تذكر طفولتها عندما جاء ملك الموت واختطف ولدا غيرها:
"انفض ثوبي وأسوي ضفيرتي , وانظر إلى الولد الذي يشاركنا ونحن نستحم في النيل , يأخذ ملابسنا ويصعد بها إلي شجرة الصفصاف , أو يخلع ملابسه متباهيا بعورته .(4)
وجملة مثل "وعادت رائحة الطبيخ للبيت "(5) لا تقولها إلا امرأة . وسنلتقي بمسألة الروائح هذه في الفصول القادمة عندما تميز صفية بين بناتها الثلاثة المتشابهات من خلال رائحة كل منهن . وعندما تنتقل زوجة لفؤاد الكاتب في سرايته تشعر بالغربة في هذا المكان الجديد ولكنها سرعان ما تتآلف معه , وهذا التآلف لا يأتي إلا بعد تجديد البيت, بل إن هذا التجديد جعلها تقترب أكثر من فؤاد , تقول حسنة الفقي :"مدة تجديد البيت كانت أكثر الفترات تقاربنا فيما أنا وفؤاد" (6)
وتجديد البيت وتغيير أثاثه أو نقله من مكان إلي مكان آخر هم أنثوي صرف . والواقع أن الإشارات في هذا الشأن كثيرة ولا نريد أن تستغرقنا بتفصيلاتها , فنزحم بها الدراسة دون جدوى . والذي يعنينا هنا مدلول هذا الهم , هل هو مجرد اهتمام بالتفاصيل أم أنه يشي بمدلولات أعمق؟
والإجابة بنعم لأن المؤلفة طافت بنا بسيرة حياة حسنة الفقي عبر الفصول الستة وفي ما يزيد عن ثلاثين عاما فثمة إشارات في بداية النص إلي التأميم وإشارات إلي وقائع تاريخية أخرى كموت عبد الناصر والانفتاح الاقتصادى فى عهد السادات إلي أن نصل إلي الاستنساخ والنعجة دولي , وكأن المؤلفة , تحكى لنا عبر خطاب حسنة الفقي تاريخ تطور المرأة العربية بعد ثورة يوليو , وربما تاريخ وعى المرأة العربية منذ دخول الكُتاب لحفظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ القراءة والحساب إلي أن وصلت إلى الدخول لأرقى الجامعات , وهكذا يمكن أن نقول أن شخصية راوية ( الابنة ) الحاصلة على شهادة في علم النفس وتشرف الآن على إدارة مدارس خاصة في المنصورة ( تمشيا مع سياسة الخصخصة ) وحبيبة ( الحفيدة ) التي تمارس الرسم وتدرس الآن في أوربا , امتداد طبيعي لتطور وعي حسنة الفى , وإشارة في الوقت ذاته إلي تطور تعليم المرأة من الكُتاب إلى الجامعة .
وعلي مستوي الوعي الأنثوي بالجسد , يدخلنا خطاب حسنة بمعاونة الخطابات الأخرى إلي تفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة , فنلاحظ أن هذه العلاقة تعد التيمة الرئيسية في العمل , فالمرويات جميعا داخل النص عبر فصول الرواية الأثنى عشرة تقوم على هذه العلاقة فهناك :
الأم (أم حسنة) # الأب حسين الفقي
حسنة # وفؤاد الكاتب
الياصابات # الدكتور ناجي
صفية # يحيي الفقي
راوية # عوض
حبيبة # ........
صفية # رزق
حسنة # ملك الموت
ومن المؤكد أن العلاقة الأخيرة علاقة غير واقعية , ولكن على مستوي النص هناك ملك الموت الذي يستحي أن يأخذ روح حسنة ويقرر الاستقالة تبجيلا لها , كما أشرنا في البدء , علي أية حال يمكن القول إنه بديل لفؤاد الكاتب , الذي تركها ومات.
ثمة علاقة أخرى ناقصة هي علاقة فؤاد الكاتب بابنة عمه "حياة" , حيث ترفضه في البداية فتشعر حسنة أنها جاءت بديلا لشخص آخر , ولكن هذه العلاقة يفصلها خطاب ملك الموت وليس خطاب حسنة , بيد أن ذلك يأتي من خلال رواية حسنة لملك الموت " تحكي لي حسنة في أيامها الأخيرة عن ابنة عمه التي تسكن غرفة في الدور الثالث من السرايا ..." (7)
ولنلاحظ أن هذا العلاقات تتأرجح بين المقبول والمرفوض والمكتمل والناقص والغريب والشاذ وكأن المؤلفة تجمع فيها مستويات علاقة المرأة بالرجل. فمن المقبول علاقة حسنة بفؤاد الكاتب ومن المرفوض علاقة صفية ويحيي الفقي إذ يمارسان حياتهما دون زواج , ومن الشاذ علاقة رزق بصفية رغم الزواج الشرعي , فجاءت العلاقة فاترة وباردة , وعلاقة حبيبة بجسدها إذا ترفض إنجاب الطفل عن طريق الزواج الطبيعي وتسعي لإنجاب طفل عبر الهندسة الوراثية . أما العلاقة الغريبة التي بدت شبه مقبولة فهي علاقة حسنة بملك الموت , وقد أشرنا أنها تعد علاقة رمزية أو علاقة مع بديل الرجل المفقود .
وإذا أضفنا إلي كل ما سبق العلاقات النسائية فإن أهم ما يلفت نظرنا في هذه العلاقات ثلاث :
1 ـ علاقة حسنة بالياصابات
2 ـ علاقة حسنة برحيل
3 ـ علاقة حسنة بحبيبة
وسنلاحظ أن العلاقات الثلاث تدخل جميعا تحت مسمي واحد هو اكتساب الخبرات بما فيها الخبرات الأنثوية فمع الياصابات حسنة تسعي مريدة للتعلم , ومع رحيل ناضجة تكتسب منها الخبرات ومع حبيبة معلمة وناصحة ولعل هذا يجرنا إلي علاقتها بملك الموت و لماذا لا تندرج في علاقات تعلم الخبرة ؟ هنا يجب الإشارة إلي أعمال أخرى سابقة لهذه الرواية لعل أشهرها رواية( نائب عزرائيل) ليوسف السباعي , حيث يتعلم الراوي من عزرائيل كيفية قطف الأرواح فيتقمص دوره , وكتاب( إكرمان حوار مع الموت)* حيث يتعلم إكرمان من ملك الموت احترام الموت والتسليم بالقضاء والقدر، أما هنا عند صفاء , فالخطاب المهيمن هو الخطاب الأنثوي وأي خطاب ؟ إنه خطاب حداثي يرفض هيمنة الرجل وسلطة الأبوة. وهنا يصير الذكر نداً وليس أباً مهيمنا , فملك الموت يكاد يتقمص الخطاب الأنثوي , تأكيد لعلاقة التعضيد. وهذا الذي يجعل ختام الرواية منسجما مع هذا الخطاب , ولعل الناشر كان ذكياً عندما دشن فقرة الختام علي الغلاف الخارجي للرواية , حيث يرفض ملك الموت قبض روح حسنة تاركا هذه المهمة لملك آخر كما أنه يرقص معها رقصته الأخيرة تقديرا واحتراما: " لكنى لم أخلق لموتها ، موت آخر أكثر شبابا سيتولى هذه المهمة ... لكن ذلك لن يمنعني كجنلموت أن أمد يدي وأرقص Slow مع السيدة التي عرفتها عمرا طويلا ، بينما حفيدتها تنزل من سيارتها وعلى ذراعها مولودة جديدة ، وبالذراع الأخرى تدفع بوابة السرايا الكبيرة " ( 8 ) .
يقوم ملك الموت بسرد نصف الرواية تقريبا ، حيث أن الفصول الزوجية التي رواها جاءت أقل عددا من حيث الصفحات ، ومع ذلك أرى أن هذه المساحة المخصصة له في النص جاءت واسعة ، وقد سمحت هذه المساحة الواسعة بوجود ثغرات في هذا الخطاب مما أتاح الفرصة لظهور خطابات أخرى ، كخطاب المؤلف الحقيقي وخطاب المروي له ، وإن كان الأخير متواجد في معظم فصول الرواية تقريبا
" وحدي أستمع إلى الحقائق المقبورة في الصدور " ( 9) .
يبدأ ملك الموت خطابه بهذه الجملة ، وأعتقد أنها تصلح مفتاحا للحديث عن طبيعة خطابه ومضمونه ، إذن ملك الموت على الرغم من وحدته ، يقوم بدور المستمع إلى الحقائق وأية حقائق ؟ إنه الخفي منها ، ومن يعرف الخفي يعرف الظاهر ، من هنا نزعم أن ملك الموت أقرب إلى الراوي العليم منه إلى الراوي المشارك في الأحداث ، بل يمكن أن نقول أنه راوٍ محايد إلى حد ما ، وهذا ما يميزه عن خطاب حسنة الفقي ، وفيما عدا عتابه لحسنة في بداية الفصل الثاني ، حيث يقول : " لست غاضبا ، لكني مستاء فكيف لحسنة أن تنسى وتنكرني " ( 10 ) وقراره بالتنحي عن وظيفته (الاستقالة) بأخذ روح حسنة ، تاركا هذه المهمة لملك آخر ، يقوم ملك الموت بسرد الأحداث وهو يقف خارجها تقريبا ، وهذه الطريقة في السرد أو قل هذا المنظور السردي مكنه من أن يقص لنا ما لم تستطع قصه حسنة الفقي ، ولذلك نجده يقدم لنا معلومات تاريخية وإشارات عديدة تربط العالم السردي بالعالم الخارجي أو قل الفنى بالتاريخي .
فثمة إشارات تاريخية حقيقية يضعها الراوي بين أيدينا تقوم بدور الإطار الخارجي للأحداث يلون الرواية بملمح واقعي ، مثل إشارته إلى أن حسنة الفقي لا تنتمي إلى عائلة الفقي الإقطاعية أو إلى نرمين الفقي وهي إشارة ذكية سنعود إليها مرة أخرى عند الحديث عن خطاب المؤلف ، وهناك إشارة إلى موت عبد الناصر عام 1970 بعد أقل من شهر وخمسة أيام من خطابه السابق ، كان عبد الناصر قادرا على جمع شمل آل الكاتب حول التلفزيون ودفع حسنة إلى أقصى حدود البكاء " (11)
ففي هذه الجملة إشارة واضحة إلى تغير حسنة التي لم تكن تحب عبد الناصر في البداية ، والآن تبكي إلى أقصي حدود البكاء بعد وفاته .
وفي الفصل الثامن نجد إشارة إلى حريق الأوبرا عام 1975 ، يقول في معرض حديثه عن يحي وبنات صفية اللائى في الأصل هن بناته :
" لكن هذا لن يحدث فدار الأوبرا احترقت بعد ثلاثة أيام من تلك الليلة التي ستبقى في ذاكرتهن ويحكين عنها كلما شاهدن عبد الحليم حافظ يغني نار يا حبيبي نار " (12) .
وإلى جانب هذه الإشارات التاريخية نجد أن ملك الموت ليس مشغولا في السرد عن ذاته كما هو الحال عند حسنة الفقي ، إنه مشغول بالسرد عن الآخرين ، فيخصص الفصلين الثاني والرابع لحسنة الفقي والفصل السادس والثامن يروي عن صفية ويحي ورزق وبنات صفية الثلاثة نور وشمس وقمر ، والفصل العاشر عن عوض وراوية ابنة حسنة ، ثم يعود في الفصل الأخير للحديث عن حسنة ، إذن هناك ثلاثة فصول يخصصها المؤلف تقريبا للحديث عن حسنة وبقية الفصول للشخصيات الأخرى مما يشي بانحياز واضح لحسنة وهو ما يؤكد فكرتنا أن خطاب ملك الموت خطاب تعضيد لخطاب حسنة ، وهذا ما يدفعنا إلى القول أن خطاب الراوي في الرواية كلها يعد خطابا واحدا ذا وجهين ، وجهه الأول يمثله حسنة الفقي ووجهه الثاني يمثله ملك الموت ، وجه ذاتي والآخر موضوعي ، والذاتي والموضوعي يمثلان معا وجهي العملة لخطاب الراوي , إنه في الأخير خطاب مبجل للأنثى .
ثانياً : خطاب المؤلف ( في مديح المرأة تقول صفاء النجار)
يقول بيرسي لبوك : إذا ضعف سلطان الراوية ( الراوي ) في أية لحظة فإن القارئ يُستدعى من المشهد ليري المؤلف مجردا أمامه , وعند ذاك ستعتمد القصة فقط علي إصرار المؤلف المباشر ( 13) . وصفاء النجار واعية لهذه الحقيقة , فاستخدمت راويين للسرد بدلا من راوٍ واحد ,أحدهما مشارك والآخر غير مشارك وأقرب إلي الراوي العليم , كما لجأت إلي استخدام المونولوج الداخلي حيث تركت الشخصيات تتحدث بنفسها , هذا إلي جانب الحوار الخارجى الذي جاء أقل الأدوات استخداماً . كل هذا من أجل أن تخفي صوتها أو تنحسر بعيدا حتى لا يسمعها القارئ لأن صوت المؤلف المسموع لا يمكن إلا أن يكون تقريرا مباشرا في أحسن الأحوال .
ومع كل ذلك , من العبث إلغاء صوت المؤلف من العمل علي نحو كامل , ونحن عندما نبحث عن خطاب المؤلف هنا , لا نقصد ذلك الخطاب الزاعق المباشر الذي يخلخل البناء السردي , إنه ذلك الخطاب الذي يمكن أن ينسب بعد تأويل إلي المؤلف ، خطاب لا يتعدى بعض الجمل أو الألفاظ التي تعبث في أنحاء اللوحة السردية , فقد يأتي من خلال الوصف أو علي لسان إحدى الشخصيات ، أو في تعليق أحد الرواة .
وبدهي أن يكون خطاب المؤلف مطابقاً لخطاب حسنة الفقي حيث تصب الخطابات جميعا في فكرة واحدة , كما أشرنا وهي في مديح المرأة , ولكنه رغم ذلك يبقي خطاب حسنة الفقي ,أما خطاب المؤلف الذي يمكن تمييزه عن خطابى الرواة والمروي لهم , فيتجلى عبر ثناياً السرد في مواضع عديدة , وسنقف عند معظم هذه المواضع حيث تشكل في مجموعها خطاباً متماسكاً أطلقنا عليه مسمى " خطاب المؤلف " .
1- في الفصل الأول تروي حسنة عن ابنتها راوية وكيف أقامت "سبوعا " لابنتها حبيبة يمكن تسميته بالسبوع الإسلامي , فلا طبل ولا زمر ولا رقص ولا أغانٍ , فقط راوية وسط مجموعة من النساء تشبه الغربان السود وهن يقبلنها :
"بعيدة أنا عنك , تحيط بك نساء غربان في سوادهن , يقبلنك
بارك الله فيك يا أختي ، بارك الله فيما رزق
أية سبعينات قميئة تلك التي أتت بالغربان إلى بيتي " (14)
فالسؤال الاستنكاري في الجملة الأخيرة أية سبعينات قميئة تلك..؟ هو سؤال يعزي للمؤلفة أكثر ما يعزي إلي حسنة الفقي حيث يتجلى فيها موقف المؤلفة من فترة السبعينات , حيث الرفض والاستنكار للخطاب السياسي والديني القائم علي الضعف والتزمت .
2 ـ وقي الفصل الثاني يصف ملك الموت جمال حسنة الفقي , فنقرأ في ختام الوصف العبارة الآتية :
" وما يثير الدهشة أن الصفات القديمة والجديدة هي جزء لا يتجزأ منها , بما لا يجعل أحداً يلاحظ هذه التطورات فقدرتها علي التكيف والمواءمة تجعلها في كل الأوقات السيدة الأجمل دائما وبمرور الوقت ستكتسب نوعا من الجمال يطلق عليه خبراء الإعلام جمال الشهرة وتسميه حسنة جمال النعمة ( 15 )
فجملة ستكتسب نوعاً من الجمال ..... الخ جملة صفاء النجار , تكشف عن ثقافتها الخاصة إعلامياً , فهي أقرب للمؤلفة منها إلى الراوي ملك الموت .
3 ـ وفي الفصل نفسه , وعبر مروية ملك الموت عن العلاقة بين حسنة والياصابات وكيف تعلمت الأولي من الأخيرة الحياكة وبعض المعارف والخبرات الحياتية , وكيف جعلت الخياط اليهودي يخيط جلباباً جديدا لحسنة , يقحم الراوي جملة ينفي فيها علاقة لقب الفقي الذي يخص حسنة بلقب عائلة الفقي الإقطاعية المشهورة:
" ولم تجرؤ علي إخبار أبيها عن الجلباب الجديد إلا يوم الخميس , كما لم تجرؤ على إخباره فيما بعد أن مهنته التي اتخذ منه لقبا سببت لها قلقاً كبيراً , فحسنة لا علاقة لاسمها بعائلة الفقي الإقطاعية ولا بالممثلة الشابة نرمين الفقي التي ستظهر وحسنة سيدة تتخطى عامها الستين بثقة وثبات تدعهما برفضها الدائم لصبغات الشعر القديم منها والجديد ( 16)
فهذا الحرص على نفي العلاقة بين لقلب عائلة حسنة وعائلة الفقي الإقطاعية ونرمين الفقي , هو حرص المؤلفة , وهو ما ينسجم مع جملتها السابقة أية سبعينات قيمته تلك.....؟
4 ـ في الفصل الثالث , نقرأ علي لسان حسنة الجملة التالية وهي في منزلها الجديد بعد زواجها من فؤاد الكاتب :
" الأثاث صقيل , صامت , مليء بحواديته التي لا أعرفها , دون شفرة أحاول فك رموزها . ( 17 )
بديهي أن تشعر حسنة بالغربة وهي تنتقل من منزل فقير بسيط بجوار المقابر إلي سراية آل الكاتب , ومن ثم يكون الأثاث صقيلا وصامتا ومليئاً بالحواديت التي لا تعرفها , لكن جملة : دون شفرة أحاول فك رموزها . فأعتقد أنها تنتسب إلي ثقافة حداثية لم تدركها حسنة الفقي .
5ـ في الفصل الرابع وعبر مروية ملك الموت عن علاقة حسنة بفؤاد الكاتب وكيف كانت تشعر أنها استولت علي حظ امرأة أخري , نقرأ العبارة التالية على لسان ملك الموت وهو يخاطب مرويا له غير محدد , يقف خارج السرد, فربما كان القارئ الضمني أو القارئ العادي ! " وفؤاد الكاتب هو الشخص المناسب في المكان المناسب , بما يجعلك تؤمن أن ما يحدث في الحياة ليس عبثاً أو ألعاب مؤلفين يستهويهم قانون الصدفة . (18)
فجملة ألعاب مؤلفين ... الخ هي جملة المؤلفة حيث تؤكد براعتها في القص وقدرتها علي خلق شخصيات روائية وأحداث لا تخضع لقانون الصدفة .
6- في الفصل الخامس تجتر حسنة ذكرياتها وهي صغيرة في السابعة بعد وفاة أمها فنقرأ العبارة التالية حيث تصير حسنة مرويا له : " توقظك تكبيرات العيد من ميكروفونات زاعقة تكبر وكأن الله لا يسمع إن أنكر الأصوات لصوت الحمير قالها الشيخ عبد الجواد " (19) .
إن جملة " كأن الله لا يسمع " تنتمي إلي المؤلفة ولا يمكن أن تكون لحسنة الفتاة الصغيرة التي تجاوزت السابعة بقليل ، وربما كان المبرر لوجود هذه الجملة لأنها يمكن أن تنتمي إلى المروي له وهو هنا حسنة الفقي وقد تجاوزت الستين ، لكنه مع ذلك أكثر انسجاما مع خطاب المؤلفة وثقافتها الرافض لفترة السبعينيات أيديولوجيا .
7 ـ في ختام الفصل السادس وعبر مروية عن يحيي وصفية حيث يتم لقاء حب بينهما في فيلته بالقاهرة بعد عودته من أوربا ، نقرأ : تركت له يدها يقبلها ، وأخذت هي تراقب السقف زجزاج ألوانه المتداخلة بين الأبيض والبمبي حتى منتصفه حيث فتحة دائرية من خارج زجاج شفاف يطل على السماء والنجوم البعيدة ، يتجمع المتناثر من ومضات الضوء، تجلس على حافة السرير ، تتعرى تحت المخروط القادم من رحلته اللانهائية ، متعبا محبطا غريبا ، تستكين في كفها الومضات الواهنة ، تغتسل بها تتلألأ في الكف خطوطه المحجوبة ، أمام مرآة الحمام تمشط شعرها ، سقطت ثلاث قطرات دم من أنفها ، امتزجت القطرات الثلاث مع مياه الصنبور وتسربت إلى المجاري ، عادت إلى الحجرة ما زال يحيي نائما محتضنا بذراعه مكانها الذي سيظل فارغا " (20 ) .
في المشهد السردي السابق نجد جملة الوصف " السقف زجزاج ألوانه .... خطوطه المحجوبة " على دقتها لا ترتبط بالشخصية المتحدث عنها " صفية " ومن ثم فهي جملة ترتبط أكثر بالمؤلفة ، فالوصف مقحم هنا .
8 ـ في الفصل السابع حيث تروي حسنة نقرأ الجملة التالية : " جميعنا يتمنى البنات ، البنت دافئة ، حانية ، يمكنك أن تعيد معها طفولتك " (21 ) .
هذه الجملة تقع في الوسط تماما بين حسنة والمؤلفة وهي عندما تنسب إلى المؤلفة تعضد فحوى الفكرة المركزية للرواية ، أي مديح المرأة .
9 ـ في الفصل الثامن في معرض حديث ملك الموت عن بنات صفية الثلاثة : نور وشمس وقمر ، نقرأ العبارة التالية : " لكن البنات كن خياليات ويطمحن إلى المستحيل ، لذا تراني معهن وأحمل يوسف إدريس مسئولية مصيرهن ، وعدم زواجهن ، فهن لم يتمسكن بهذا الشرط إلا بعد قراءتهن لقصة " بيت من لحم " أرعبتهن فكرة التواطؤ ، وكان في حياتهن من الغموض ما يكفي ، ومن التساؤلات الخرساء ما يثقل كاهلهن " ( 22 ) .
والمقصود بالشرط في العبارة أن البنات لا يوافقن على الزواج من أي شخص لا يستطيع التمييز بينهن حيث الثلاث متشابهات في الشكل ، وأيا كان الشرط فلا أعتقد أن جملة أحمل يوسف إدريس مسئولية مصيرهن تنتمي إلى ملك الموت ، إنها بالأحرى جملة صفاء النجار المؤلفة القارئة لأدب يوسف إدريس ، لكن هل الجملة هنا مقحمة مثل الوصف في الفقرة رقم (7) ؟ الحقيقة إن استدعاء يوسف إدريس وقصة بيت من لحم أثرى المشهد السردي من خلال المقارنة بين مصير البنات في قصة يوسف إدريس ومصيرهن في رواية صفاء النجار ، فإذا كان المعنى لدى يوسف إدريس ينحو منحا سياسيا فإنه هنا لدى صفاء النجار ينحو منحا اجتماعيا وإن شئنا الدقة قلنا أنثويا ، فترفض صفية عرض يحيي بالزواج منها وترفض البنات العيش مع يحيي ، إنه انتصار لكرامة المرأة .
10 ـ وإذا كانت المؤلفة قد نجحت في استدعاء يوسف إدريس ووظفت جيدا قصة بيت من لحم ، فإنها قد حاولت ذلك مع ابن المقفع وإحدى قصص كتابه "كليلة ودمنة" في الفصل التاسع ، وذلك على لسان حسنة الفقي في معرض مرويتها عن ابنها الذي فقدته في حرب العراق "منير" فتأتي بمقطعين من باب الحمامة المطوقة، يعنينا أن نقف عند المقطع الثاني :
" واقرأ عليك قول الفيلسوف للملك :
فإذا كان هذا الخلق على صغره وضعفه قد قدر على التخلص من مرابط التهلكة ، مرة بعد أخرى بمودته ، وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع أصحابه ، فالإنسان الذي قد أعطيً العقل والفهم وأُلهم الخير والشر ومُنح التمييز والمعرفة أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد " (23) .
إن هذا الاستدعاء على براعته ، وعدم تنافره مع محتوى النص ، إلا أنه ينتمي للمؤلف أكثر مما ينتمي إلى الراوي ، فقد تخلخل الإيقاع السردي داخل النص فلغة ابن المقفع تختلف عن لغة السارد / المؤلف وهذا ما يجعلنا نرجح علو صوت المؤلف هنا .
11 ـ في الفصل العاشر يروي ملك الموت عن عوض أنه كان يأكل نفسه ، وأن أعضاءه كانت تنسلخ منها رقائق تنزل مع برازه وبوله وحتى زفير تنفسه ، كل هذا عدا عضوه فهو الشيء الوحيد الذي نجا من النحت ثم يضع أمامنا ثلاثة احتمالات لتفسير ذلك لا تعنينا بقدر ما تعنينا العبارة التالية :
" وأرجح أنا هذا الاحتمال .. فهو كرجل يمكنه أن يتنازل عن روحه ويبيعها للشيطان ، ولكن لا يمكن مهما كان كارها لنفسه وللآخرين أن يتنازل عن عضوه الذي يحدد وضعه وترتيبه الفحولي وتسيده وحتما فإن عوض كان ابنا بارا لثقافته العضوية " (24) .
فعلى الرغم من "أنا" الضخمة في بداية العبارة فإن العبارة تنتمي إلى المؤلفة وليس ملك الموت , وخاصة الجملة الأخيرة : وحتما فإن عوض كان ابناً باراً لثقافته العضوية . فثمة سخرية مبطنة في هذه العبارة تطلقها المرأة في مواجهة الرجل , إنه الخطاب الأنثوي لا أقول المتعالي ولكن المدافع عن أنوثته ،أما التهكم فما هو إلا وسيلة دفاع .
12- في الفصل الأخير , نقرأ العبارة التالية للراوي ملك الموت :
" تماهت حسنة مع الجلسات الأسبوعية وشيئاً فشيئاً أصبحت أهم أركان هذه الجلسة وموطن استشارة السيدات والمتباهيات بجدودهن وأراضيهن الشاسعة , بل وبمرور الوقت أصبح لها جلستها الأسبوعية الخاصة في سرايتها , التي لم تمتنع عن إقامتها إلا شهري فبراير ومارس بعد وفاة أم كلثوم , وكل هذا لا يعني إلا أن حسنة تغيرت كثيراً كثيرا . "(25)
إن لفظ " تماهت " لا يمكن أن يكون للراوي , إنه يبدو نشازا في لغة الراوي ، لذلك نرجح أن يكون للمؤلف الحقيقى ,كما أن جملة " كل هذا لا يعني إلا أن حسنة تغيرت كثيراً كثيراً " جملة تقريرية زائدة يمكن حذفها من النص دون إلحاق أي ضرر أو تأثير في سير الأحداث أو توصيل الدلالة ، إنها جملة خارج البناء السردي . لذلك فهي جملة المؤلف المقحمة لتقرير ما هو قار .
ثالثا : خطاب المروي له ( في مديح المرأة أقر ) :
يعود الاهتمام بالمروي له بوصفه مكونا أساسيا من مكونات البنية السردية ( راوٍ ـ مروي ـ مروي له ) إلى الاهتمام الكبير الذي أثارته نظرية التلقي ( Reception Theory ) في أوساط المعنيين بالسرديات " (26) . وتجدر الإشارة إلى أن أوضح صورة للمروي له تبرز بشكل جليً في سفرنا العربي المدهش ، ألف ليلة وليلة . فإذا كانت شهرزاد تمثل شخصية الراوي Narrator فإن شخصية شهريار تمثل المروي له Narrtee الذي يتلقى السرد داخل النص ، كما أننا نجد داخل هذا النص أيضا مروي لهم آخرين ، ففي حكايات السندباد على سبيل المثال يتحول السندباد البحري إلى راوٍ ، بينما يصير السندباد الحمال مرويا له .
ويرجع الفضل في الكشف عن مكنون المروي له وطبيعته ووظيفته في البناء السردي إلى الناقد الأمريكي جيرالد برنس Gerald Prince ، إذ يحدده في عبارة موجزة قائلا : " المروي له شخص ما يوجه إليه الراوي خطابه "(27) ثم توالى الاهتمام به في أوساط السرديين مثل سيمور جاتمان وجان لنتفلت وجوناثان كلر ، ويُعد التخطيط التالي الذي أعده جاتمان أوضح الصور التي تحدد مكانة المروى له في البنية السردية وخلاصتها بالنسبة للمروي له القول " إن تقديم نموذج لراوٍ يفضي إلى استدعاء نموذج من المروي له ، يكون موازيا "( 28)
النص السردي
المؤلف الضمني ـ الراوي ـ المروي له ـ القارئ الضمني
المؤلف الحقيقي القارئ الحقيقي
ويفضي بنا هذا التخطيط إلى عد المروي له جزءا عضويا من النص السردي ، وأنه يختلف عن القارئ الحقيقي Real Author الذي هو إنسان من لحم ودم يتناول العمل القصصي أو الروائي ليقرأه متى شاء ، وأين شاء ، كما يختلف عن القارئ الضمني Implied Author الذي هو كائن خيالي يولد لحظة قراءة النص السردي فقط ، وإذا كان القارئ الحقيقي شأنه في ذلك شأن المؤلف الحقيقي ، يقع خارج العملية السردية فإن القارئ الضمني يقع داخل العملية السردية ذاتها ، وهو في هذا يلتقي مع المروي له ، إلا أن المروي له قد يمتلك حضورا مجسدا وممسرحا في شكل شخصية قصصية حقيقية داخل العمل السردي بينما يظل القارئ الضمني شخصية متخيلة داخل السرد .
وإذا لم يمتلك المروي له هذا الحضور المجسد والممسرح يكون من الصعب تحديده ، إذ نجده في هذه الحالة إلى جانب التقائه أو تقاطعه مع القارئ الضمني ، يكاد يتماهى في شخصية الراوي ، إذ يعرف لغته ويفهم ما يقوله ويكون مطيعا له ، ويمكن تسميته بالمروي له النموذجي أو المروي له في درجة الصفر على حد قول برنس ، إذ يقول " لا يفتقر المروي له من درجة الصفر إلى السمات الإيجابية ، لكنه لا يفتقر إلى السمات السلبية كذلك ، إنه يستطيع أن يتابع سردا بشكل واضح وبطريقة عميقة ، ومطلوب منه أن يطلع على الأحداث بالقراءة من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة ، ومن كلمة البداية إلى النهاية ، يضاف على ذلك أن المروي عليه من درجة الصفر بلا شخصية أو سمات اجتماعية إنه ليس حسنا أو سيئا ، وليس متشائما أو متفائلا .... "( 29) .
إذن كيف يمكن تحديد صورة المروي له ، يقول برنس " إن صورة المروي له تتكون تدريجيا على أساس هذه الانحرافات عن خصائص المروي له من درجة الصفر " (30) .
وفي "استقالة ملك الموت " نلتقي بالمروي له ممسرحا بوصفه شخصية داخل البناء السردي ، ونلتقي به أيضا غير ممسرح ، كائن مجهول ، وعلى حد قول برنس مروي له في درجة الصفر حيث يلتقي مع القارئ الضمني أو يتماهى مع الراوي ، لكنه في الحالتين يشكل خطابا يتداخل مع خطاب الراوي والمؤلف يصب في الأخير في محتوى النص أو الفكرة المركزية للرواية ، وفي ذات الوقت يكاد يقوم بمعظم الوظائف التي حددها برنس له حيث " يؤسس توسطا ما بين الراوي والقارئ ، ويساعدنا في إقامة إطار السرد ، ويفيد في تشخيص الراوي ويؤكد موضوعات بعينها ، ويسهم في الحبكة ويصبح المتحدث باسم الجانب الأخلاقي من العمل " (31) .
لكل راوٍ من الرواة الأساسين في العمل مروي له من درجة الصفر يتطابق مع القارئ الضمني ، فلحسنة الفقي مروي له نموذجي مطيع وخانع ومتقبل لكل ما تقوله ، وكذلك الأمر بالنسبة لملك الموت ، وهذا المروي له النموذجي يتطابق خطابه مع خطاب الراوي ، وقد فصلنا الحديث عن هذا الخطاب في الجزء الأول ، ويعنينا هنا هؤلاء المروي لهم الذين يبزون عن درجة الصفر ، فلدى حسنة خمسة من المروي لهم هم ، حسنة وملك الموت وفؤاد الكاتب وحبيبة وراوية ، ولدى ملك الموت مرويان له ، ملك الموت نفسه والمتلقي من البشر .
توجه حسنة الفقي بوصفها راويا خطابها داخل النص للمروي له ، ملك الموت في بداية النص :
آه أيها الموت كم أنت رفيق
ليست المرة الأولى التي تنتظرني فيها .. في الأيام البعيدة كنت تعبر بي الشارع تمسك بيدي ، لا أشعر بملمس جلدك ، لكن إحساسا بالأمان يسري في عروقي " (32)
في هذا النص يتحول ملك الموت إلى مروي له ، مع ملاحظة أن ملك الموت بوصفه راويا لا يجعل من حسنة مرويا له ، على أية حال تكشف هذه العبارة عن تعاطف ملك الموت مع حسنة ، إنه في الأخير معادل موضوعي للتأكيد على خطاب الراوي المنحاز للمرأة .
وإذا انتقلنا إلى حسنة بوصفها مرويا له لحسنة الراوية ، نجد في أكثر من موضع وربما في معظم الفصول التي روتها حسنة توجه الخطاب إلى نفسها ، حيث تسهم هذه المرويات في الكشف عن شخصية الراوي مع التأكيد على بعض القيم التي تنتمي إلى الشخصية أو إلى المؤلف أحيانا ، تخاطب حسنة نفسها بعد أن روت لنا شيئا عن وظيفة أمها وكيف كانت تصحبها إلى بيوت أهل الميت للقيام بوظيفة البكاء : " نفس البكائيات كتب عليك أن تردديها بعد ثلاثين عاما ، في تلك اللحظة ، كنت مركز الضوء ، وصورة منير لا تفارق عينيك ، غابت البنت المنزوية التي تنتظر أن تنتهي أمها من مهمتها ، وأصبحت السيدة التي صادقت الموت طويلا حتى تعودت عليه " (33) .
وفي موضع آخر ، نقرأ :
" فهل تبحثين عن تدويرات ولفات أيامك ؟ "(34) .
إن هذه العبارة الموجهة إلى المروي له حسنة ، تؤكد الاهتمام بالذات وإثبات الوجود الأنثوي في مقابل الذكر ، وهذا ما يجرنا إلى خطاب حسنة إلى فؤاد الكاتب زوجها بوصف الأخير مرويا له ، إنها لا تغفر لفؤاد سخريته منها عندما صدقت المذيع أحمد سعيد عن الانتصارات الكبيرة في حرب 1967 م وقوله لها :" يا عبيطة"
في الفصل الخامس بعد أن تغسله بنفسها مما يشي بالشجاعة والجرأة ، تخاطبه قائلة :
" كيف أمكن لك أن تتصورني بهذا الشكل ؟ ساذجة وعبيطة وأنا التي صدقتك في كل ما قلت .. وللمرة الأولى أرى عينيك التي تحدثوا عنها كثيرا ، حزينة والدموع معلقة فيها وقررت الانسحاب وتخليت عني " (35)
إن هذا الاستنكار يحمل إدانة واضحة بقدر ما يحمل دفاعا عن النفس واحتماء بالذات ، ولكن الإدانة أرجح كما تصور نهاية العبارة ، إذ قرر فؤاد الانسحاب والتخليً ، وفؤاد في الواقع لم يتخل ولم ينسحب ، لقد مات ، ولكنه منطق الأنثى !
وثمة مرويان لهما أعطتهما المؤلفة مساحة كبيرة داخل النص ، وقد تمثلا في شخصيتي "راوية" الابنة لحسنة و"حبيبة" حفيدتها ، وتكمن أهميتهما في أن خطاب الأولى مناوئ لخطابى الراوي والمؤلف معا وخطاب الثانية معضد بل يشكل امتدادا لخطابى الراوي والمؤلف .
في الاحتفال بفرح أول أحفاد حسنة ترقص حبيبة وتشجع جدتها على الرقص ، فتستنكر راوية ذلك منها وتطلب منها أن تكف عن الرقص لأنه عيب ، ولأن حبيبة عنيدة مثل جدتها يكون العقاب إرسالها إلى مدرسة الراهبات الفرنسيسكان بالقاهرة ، إن موقف راوية هنا يمثل موقف الجماعات الإسلامية التي ترى في الرقص والسفور والتعبير عن العواطف من المحرمات ، حتى الاحتفال بالسبوع يجب أن يكون على الطريقة الإسلامية فلا غناء ولا رقص ولا طبل ولا موسيقى .
ولأن النص طويل اجتزأ منه البداية والخاتمة :
في البداية : " تزداد اهتزازات الورود البيضاء على فستانها الأحمر وأنت تقرصينها غيظا وتبتسمين للنساء :
ـ اثبتي يا حبيبة عيب " (36)
وفي الختام : " بعيدا أنا عنك تحيط بك نساء غربان في سوادهن ، يقبلنك
ـ بارك الله فيك يا أختي ، بارك الله فيما رزق
أية سبعينات قميئة تلك التي أتت بالغربان إلى بيتي " (37)
وتكمن أهمية هذا النص وبراعة الكاتبة في ذات الوقت في تداخل الخطابات الثلاثة معا ، فهناك خطاب الراوي (حسنة) الداعي إلى الحرية وعدم التزمت ، وخطاب المؤلفة المعضد لخطاب حسنة والرافض لفترة السبعينيات بكل قيمها السياسية والاجتماعية ، وخطاب المروي له ، خطاب راوية إنه خطاب مضاد لخطاب الراوي ، يؤكد مقولة " والضد يظهر حسنه الضد " .
وفي مقابل هذا الخطاب نجد حبيبة مرويا له يستأثر بمساحة كبيرة على امتداد صفحات الفصول التي ترويها حسنة ، ففي أكثر من موضع توجه حسنة الخطاب إلى حبيبة ، فنعرف أن الأخيرة علمتها الرسم وتراسلها وهي في أوربا وتحكي لها عن التطور الذي يحدث هناك وتخبرها أنها ستنجب طفلة وستسميها مريم ، وأن هذه الطفلة بدون أب ، حيث استخدمت الهندسة الوراثية والاستنساخ للحصول على هذه الطفلة ، إن تعاطف حسنة مع أفعال حبيبة يؤكد الخطاب الحداثي للراوي والمؤلف معا ، ذلك الخطاب المقاوم لهيمنة سلطة الرجل ، فعلى الرغم من عدم اقتناع حسنة بفكرة الإنجاب عن طريق الاستنساخ فإنها تحاول إيجاد مخرج لحبيبة لكي تنجو من بطش راوية أو قل من بطش السلطة المتخلفة المتمثلة في القيم المتزمتة .
" لكنك تقولين أنه لم يكن لديك اختيار ، الاستنساخ يعني ولدا من الرجل وبنتا من المرأة ، البنت يتم تدليلها ، ألوان زاهية سأشتري لابنتك اللعب ...." (38) .
وفي موضع آخر :
" سيكون لك طفلة ، غلطة تحتاجين إلى حمايتي لإصلاحها ، لا تحملي هما ، سوف أجبر أباك على الموافقة على زواجكما ، وإذا لم يوافق فليذهب إلى الجحيم ..."(39) .
فحسنة الفقي على استعداد لحماية حبيبة وإصلاح غلطتها وإقناع أبيها عوض بالموافقة على الزواج ، وإذا لم يوافق يذهب إلى الجحيم ، إذن فهي تدعو حبيبة للثورة ، والحقيقة أن حبيبة ليست في حاجة إلى هذه الثورة الشكلية فقد تجاوزت ذلك بمراحل ، لقد صارت مثل البتول ، فهي على استعداد لمواجهة العالم كله بطفلها الذي ولدته من دون أب تماما مثل المسيح الذي ولد من دون أب ، والفرق أن المولود هنا أنثى وليس ذكرا ، واسمها مريم مما يؤكد الانحياز للأنثى أو مديحها كما يقول المحتوى الرئيسي للرواية .
ونصل أخيرا إلى المروي له المتعلق بملك الموت ، فيلفت نظرنا أنه لا يجعل من حسنة مرويا له ، ولو لمرة واحدة ، إذن لمن يروي ملك الموت ؟ لا يستحضر ملك الموت رواة كثر داخل النص السردي ، فإلى جانب المروي له النموذجي الذي يكاد يتماهى في شخصية الراوي نجد مرويا له واحدا يقابلنا بكثرة حتى لا يكاد يخلو فصل من الفصول الستة المخصصة لملك الموت دون توجيه الخطاب له ، هذا المروي له ليس ممسرحا كشخصية فاعلة داخل النص كحسنة أو حبيبة أو راوية ، ولكنه يقع مع ذلك داخل النص ، إنه مزيج من المروي له والقارئ الضمني ، فملك الموت كـ راوٍ يوجه خطابه إلى جماعة من البشر يشهدهم على أقواله وأفعاله .
يوجه الراوي / ملك الموت في بداية سرده خطابا عاما ، أشبه بموعظة للإنسان ، تأخذ الموعظة معظم الصفحة رقم (22) ولن أقف كثيرا عند هذا الخطاب لأنه ينتمي إلى المؤلف أكثر ما ينتمي إلى الراوي ، لكن في نهاية الصفحة نفسها ، نقرأ :
" ورغم قربي وتجلياتي في الأشياء تدعون أنكم لم تقابلوني فمن قابل الموت وعاد ليروي عنه " (40)
فالمروي له هنا جماعة البشر الذين يتنكرون للموت ، وهذا التنكر أو الاستنكار دليل على وجود الموت .
وفي الفصل الرابع عند حديثة عن فؤاد الكاتب يستحضر الرواي مرة أخرى جماعة البشر فيقول :
" كان فؤاد الكاتب رجلا رومانسيا رغم خطوط وجهه الحادة ، ويمكن في مثل هذه الأجواء أن تقع له حوادث لاشك أنكم ستعجبون لها ، لكنها المقابر والقمر المطل عليها وحورياته التي تنزل لتؤانس أرواح الموتى وتصوب لقلوب الأحياء سهاما من أشعة القمر فلا تشفى من الحب أبدا فلا تقربوها ليلا وقلوبكم في جنوبكم ، وإذا لم يكن بد فسيحدث لكم ما حدث لحسنة "(41)
إن استحضار المروي له هنا وتوجيه عبارات مثل لاشك أنكم ستعجبون لها ، ولا تقربوها ليلا .. الخ حث لكي يتقبل المتلقي عبر المروي له قصة الحب الأسطورية بين فؤاد الكاتب وحسنة ، فالمروي له هنا يلعب دور الوسيط بين الراوي والمتلقي الذي أشار إليه جيرالد برنس . وإذا كان المروي له متشككا أو مندهشا على الأقل فإنه في النهاية يسلم بما قاله الراوي ومن ثم فخطابه معضد لخطاب الراوي المنحاز للمرأة .
وعند حديث المروي له عن صفية ويحيي يستحضر المروي له مرة أخرى لإقناعه بما حدث ، فيناقش أولا قبل أن يعلن الرفض أو القبول ، فمن المؤكد أن ما حدث بين يحي وصفية لا يقبله العرف أو الدين ، ففي العرف عار وفي الدين زنا ، لذلك كان لابد من استحضار المروي له ، لكي نتأمل الحدث قبل إصدار الحكم بالإدانة أو البراءة :
" وما كان لي كملك للموت أن أتدخل أو أمنع شيئا ففي مثل تلك اللحظات يصبح الإخصاب والموت وجهان لعملة واحدة ، ومن الدماء وروح الإخصاب تكونت صفية أخرى جديدة لا أدري موقعها مني ولا تعتقدوا أن الأمر كان يسيرا عليً فطالما تساءلت ماذا أفعل عندما يأتيني أمر الرب ؟ أي الصفيتين سوف أصطحب وأيهما التي تنهمر دموعها وهي تقول لأبيها :
- مش عايزة أتجوز
- ليه
- يحيي " (42)
وفي الفصل الثامن يحدثنا عن رزق زوج صفية فيستحضر المروي له لكي يعرض عليه حيرته في هذا الـ (رزق) ، فيختلق عدة روايات للمروي له الذي عليه أن يختار واحدة منها إذا أراد : " يحيرني هذا الرجل فهو كان يعلم أن يحيي هو أبو بناته أشك وما أدراك ماذا يعني الشك بالنسبة ليً أنا ملك الموت ، لكن أتصور وأنا لا أملك يقينا ،أنه غافلني في هذه النقطة
ليس أمامي غير أن أختلق لكم رواية .. عدة روايات " ( 43)
إن اختلاق الروايات هناك يرجع في الأساس إلى شك المروي له في قدرة ملك الموت على سرد التفاصيل التي تخص البشر ، وهنا يتداخل صوت المؤلف ، فالمؤلف يريد أن يقنعنا بقدرة ملك الموت على السرد .
وفي الفصل ذاته وعبر مروية ملك الموت عن صفية ، يوجه الراوي خطابه إلى المروي له ، فيقول :
" ربما هي صفية الأخرى ، هل نسيتموها ؟ صفية التي لا تحبونها ؟ " ( 44 )
فهذه الجملة تكشف عن دور المروي له في الحفاظ على قيم المجتمع الثابتة ، فالمروي له لا يمكن أن يحب خاطئة مثل صفية .
وفي عبارة أخرى يقول : " وإذا كنتم لا تؤمنون مثلي بالسحر ، فهناك إجابة من ثلاثة احتمالات :
1 ـ إن قلبه يصدق صفية
2 ـ إنها رغبة في أن يكون له ظل على الأرض
3 ـ إنه ككل الرجال مغفل كبير " (45) .
تكشف العبارة السابقة عن أبرز سمات المروي له وهي الإيمان بالسحر والسخرية من قيم هذا المجتمع الذكوري ، فأحد الاحتمالات أن يكون للرجل ظل على الأرض ولكنه يبقى في الأخير مغفلا كبيرا .
ولما كان الراوي ملك الموت يعد وجه العمل المقابل للراوى الأنثوي حسنة الفقي كما أشرنا من قبل ، يعلن في نهاية النص موقفه من المروي له ، فهو محير من ناحية له ، وفي ذات الوقت في حاجة إلى نصيحة أو عظة ، فيقول ملك الموت :
" ألم أقل لكم في البداية أن الإنسان يحيرني كثيرا ويتضح في النهاية أن الرب يكافئ البشر على تجاربهم وخطاياهم وأن حل لغز الحياة في عيشها ونسيان الموت ! " (46) .
هنا يختلط صوت الراوي بصوت المؤلف ، فجملة " أن حل لغز الحياة في عيشها ونسيان الموت" تنتمي إلى المؤلف بالقدر الذي تنتمي فيه إلى الراوي ، أما المروي له فعليه أن يستجيب لهذه النصيحة ، وإلا ظل في حيرته وتخلفه أيضا ، وهكذا تتداخل الخطابات السردية الثلاثة وتتضافر في جديلة واحدة مكونة ما يمكن أن نسميه خطابا أنثويا راقيا يقدر المرأة تقديرا واعيا ، وممتعا أيضا .
ـــــــــــــــــــ
الهوامش :
1 ـ د.صالح هويدي ، النقد الأدبي الحديث ، قضاياه ومناهجه ، منشورات جامعة السابع من أبريل ، ليبيا ، د.ت ، ص 136 .
2 ـ رامان سلدن : النظرية النقدية المعاصرة ، ترجمة جابر عصفور ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1986 ، ص 224 .
3 ـ صفاء النجار : استقالة ملك الموت ، دار شرقيات ، القاهرة 2005 ، ص 144 .
4 ـ الرواية ، ص 10 .
5 ـ الرواية ، ص 13 .
6 ـ الرواية ، ص 37 .
7 ـ الرواية ، ص 63 .
* ـ انظر يوهانيس فون تبل ، إكرمان حوار مع الموت ، ترجمة كمال رضوان ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1984 .
8 ـ الرواية ، ص 17 .
9 ـ الرواية ، ص 22 .
10 ـ الرواية ، ص 23 .
11 ـ الرواية ، ص 33 .
12 ـ الرواية ، ص 115 .
13 ـبيرسي لبوك ، صنعة الرواية ، ترجمة عبد الستار جواد ، دار الرشيد للنشر ، بغداد 1981 ، ص 225 .
14 ـ الرواية ، ص 18 .
15 ـ الرواية ، ص 25 .
16 ـ الرواية ، ص 29 .
17 ـ الرواية ، ص 35 .
18 ـ الرواية ، ص 60 .
19 ـ الرواية ، ص 76 .
20 ـ الرواية ، ص 93 .
21 ـ الرواية ، ص 99 .
22 ـ الرواية ، ص 112 .
23 ـ الرواية ، ص 122 .
24 ـ الرواية ، ص 136 .
25 ـ الرواية ، ص 164 .
26 ـ عبد الله إبراهيم : السردية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، طـ 2 ، بيروت 2000 ، ص ص21 .
27 ـ جيرالد برنس : مقدمة لدراسة المروي عليه ، ترجمة على عفيفي ، فصول ، مج 2 ، ع 2 ، صيف 1992 ، ص 76 .
28 ـ عبد الله إبراهيم ، السردية العربية ، مرجع سابق ، ص 21 .
29 ـ جيرالد برنس ، مقدمة لدراسة المروي عليه ، مرجع سابق ، ص 78 .
30 ـ جيرالد برنس ، المرجع نفسه ، ص 79 .
31 ـ جيرالد برنس ، المرجع نفسه ، ص 89 .
32 ـ الرواية ، ص 9 .
33 ـ الرواية ، ص 11 .
34 ـ الرواية ، ص 19 .
35 ـ الرواية ، ص 70 .
36 ـ الرواية ، ص 17 .
37 ـ الرواية ، ص 18 .
38 ـ الرواية ، ص 100 .
39 ـ الرواية ، ص 151 .
40 ـ الرواية ، ص 22 .
41 ـ الرواية ، ص 55 .
42 ـ الرواية ، ص 87 .
43 ـ الرواية ، ص 110 .
44 ـ الرواية ، ص 115 .
45 ـ الرواية ، ص 116 .
46 ـ الرواية ، ص 170 .
المصادر والمراجع :
1- صفاء النجار : استقالة ملك الموت ، دار شرقيات ، القاهرة 2005
2- د.صالح هويدي ، النقد الأدبي الحديث ، قضاياه ومناهجه ، منشورات جامعة السابع من أبريل ، ليبيا ، د.ت
3- رامان سلدن : النظرية النقدية المعاصرة ، ترجمة جابر عصفور ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1986
4- ـبيرسي لبوك ، صنعة الرواية ، ترجمة عبد الستار جواد ، دار الرشيد للنشر ، بغداد 1981
5- عبد الله إبراهيم : السردية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، طـ 2 ، بيروت 2000
6- جيرالد برنس : مقدمة لدراسة المروي عليه ، ترجمة على عفيفي ، فصول ، مج 2 ، ع 2 ، صيف 1992 ،
7- يوهانيس فون تبل ، إكرمان حوار مع الموت ، ترجمة كمال رضوان ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1984
ـــــــــــــــــــ
تداخل الخطابات السردية في رواية "استقالة ملك الموت" لصفاء النجار
الدكتور / محمد عبدالحليم غنيم