د
د.محمد عبدالحليم غنيم
يقول جان كوكتو: " إن الفن وحده هو الذي يقول الحقيقة أما التاريخ فيخلق الاضطرابات والبلبلة في زمن وقوعه " والتاريخ في أدق تعريف له وأبسطه هو دراسة الماضي ، ولندع المؤرخين يختلفون فيما بينهم إذا ما كان التاريخ علما أم فنا ؟إن ما يهم الأديب هو الماضي في حد ذاته بوصفه مادة خاما ينطلق منها عمله الإبداعي ، مشكلا هذه المادة أو جزءا منها عملا فنيا : قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو قصيدة شعر .
ولعل الرواية كنثر تخيلي أقرب الأنواع الأدبية إلى التاريخ حيث يعتمد كلاهما على السرد كأسلوب في الكتابة وعلى الأحداث والشخوص كحقائق واقعية .
والرواية التاريخية،كما يقول الدكتور شفيع السيد ، لا تعني بتقديم التاريخ للقارئ بالدرجة الأولى ، لأن وثائق التاريخ كفيلة بآداء هذه المهمة ، وإنما تكون قيمتها الفنية في مدى براعة الكاتب في استغلال الحدث التاريخي واعتماده إطارا ينطلق منه لمعالجة قضية حثية من قضايا مجتمعه الراهنة ، أي أن العمل الذي يستوحي التاريخ لا يعني بالماضي بقدر ما يعني بالحاضر .
لكن الروائي وهو يعتني بالحاضر لا يعني ذلك أن يتوانى في فهم الماضي أو دراسته مثله في ذلك مثل المؤرخ ، بل لابد أن تكون له رؤيته التاريخية أيضا ، بحيث لا يلوي عنق الأحداث أو يتجاوز الحقائق التاريخية ، يقول الأستاذ على أدهم من مقال له عن الروايات التاريخية نشره في مجلة الثقافة ( أكتوبر 1951 ) : " الروائي المؤرخ تلزمه صفتان ، عقلية تاريخية تستطيع أن تستخلص الصور من سجلات الماضي وتكون الأفكار عن حقيقته ، وقوة الخيال الذي يستطيع استحضار الأحاسيس والمشاعر التي ألمت بنفوس أهل تلك العصور العابرة " ( 1 ) .
وهذه العقلية التاريخية ومعها قوة الخيال هما الشيئان المشتركان بين المؤرخ والروائي ، فعلى الروائي أن تكون له رؤيته التاريخية الخاصة به لأن ذلك يساعده في إنجاز مشروعه الروائي ، يقول لوكاش : " كلما كانت معرفة الكاتب بفترة ما أعمق واكثر تاريخية على نحو أصيل كان اكثر حرية في التحرك داخل موضوعه واقل شعورا بالتقيد بالمعطيات التاريخية الفردية " ( 2 ) .
ويرى لوكاش أيضا أن معيار نجاح الرواية التاريخية هو اهتمامها بالحاضر مع التقيد بالحقائق التاريخية ، فيقول : " إن فصل الحاضر عن التاريخ يخلق رواية تاريخية تهبط إلى مستوى التسلية الحقيقية " ( 3) .
وإذا ما جئنا إلى رواية "الغزو عشقا " للكاتبة نجلاء محرم وجدنا أنها يمكن أن تندرج في سياق الرواية التاريخية والتي هي في أبسط تعريف أو تحديد رواية تتخذ من التاريخ أحداثه وحقائقه مادة لتقول شيئا مرتبطا بالحاضر ، ولكنها تبقى في النهاية رواية تلتزم تقاليد الرواية الفنية المتعارف عليها .
الغزو عشقا .. استراتيجية العنوان :
تضع الكاتبة " الغزو عشقا " عنوانا يعود بنا على الغزو الفرنسي لمصر عام 1798 ، وقد قيل عن هذا الغزو ما قيل منذ الجبرتي إلى الآن ، من كونه غزوا عسكريا أو غزوا اقتصاديا أ الاثنين معا ، وهناك من عده غزوا ثقافيا ، يهدف إلى تدمير الثقافة العربية الإسلامية وإحلال الثقافة الغربية مكانها بوصفها ثقافة الكفر والانحلال .
إذن هل هي وجهة نظر جديدة للحملة الفرنسية لدى الكاتبة الروائية وهل تنبع وجهة النظر هذه من رؤية تاريخية ما ؟ لنعد مرة أخرى للعنوان نجده مكونا من لفظين : الأول الغزو بما يحمله هذا اللفظ من دلالات العنف والقهر والسلب والقوة والهجوم ، والثاني العشق بما يحمله من التآلف والود والحب والاندماج ، إذن ه يتحول الغزو إلى عشق ، هل تتحول النار إلى ماء ؟ إذن ألا يشي هذا العنوان بمباركه الغزو ؟ وبمعنى آخر هل ترى الكاتبة أن المصريين تآلفوا مع هذا الغزو ؟
الحقيقة أن الأحداث لا تقول هذا صراحة ، واعتقد أن الكاتبة ربما كانت متأثرة بصورة ما بغادة رشيد لعلى الجارم ، عندما أحب مينو زينب فتاة رشيد ، بيد أن الصورة هنا مقلوبة لأن شيخ العرب أبا قورة يقع في حب جوليا الفرنسية .
لكن إذا كان مينو أحب زينب ومن ثم أحب رشيد ومصر مثله في ذلك مثل الفرنسيين الذين وقعوا في حب مصر ، فهو أحب شيخ العرب ومن ثم أحب المصريين فرنسا عبر حبهم لجوليا ؟
لا أعتقد أننا كما تقول الأحداث لدينا مثل هذا الولع الفرنسي بمصر ، فليس لدينا الولع المصري بفرنسا ، فأحمد أحد أحفاد أبي قورة بعد مائتين سنة من خروج الفرنسيين ينعى على أمه فخرها بوضاح ابن الفرنسية وابن طه الزعيم الذي جاء يزور قرية أجداده وجدته جوليا ( انظر الفصل رقم 25 ، ص 153 ـ 158 ) .
إن العشق الذي نراه في النص واضح من تحول جوليا ( الفرنسية ) من الكراهية إلى الحب تجاه شيخ العرب ، بل عشقه ، إذن هو عشق فرنسا لمصر ، وإن كان هذا لا ينفى عشق شيخ العرب لجوليا ، ولكنه عشق حذر إذا جاز التعبير . إذن يمكن القول في الأخير أن العشق صفة مشتركة بين الغازي والمغزو .
الغزو عشقا والرؤية التأملية للتاريخ :
أشرنا من قبل أنه لابد للكاتب / كاتب الرواية التاريخية من رؤية تجاه التاريخ يكتب من خلالها عمله ، وإن هذه الرؤية تمتزج برؤيته الفنية ، تقول فريال جبوري غزول : " من الروائيين من يكتب من خلال الوعي الأصلي وهم يهتمون باستعادة الماضي كما كان ، ثم منهم من يكتب من خلال الوعي التأملي ، وهم يهتمون بربط الماضي بالحاضر ، وأخيرا فإن منهم من يكتب من خلال الوعي الفلسفي ، واهتمامهم ينصب على كيفية كتابة التاريخ " (3) .
ونجلاء محرم في الغزو عشقا تكتب من خلال الوعي التأملى ، فهي تكتب ليس بهدف إعادة كتابة التاريخ أو صياغته صياغة جديدة لهدف تعليمي كما نقرأ لدى على الجارم ، ولكن تكتب وعينها على الحاضر في المقام الأول ، معتمدة أسلوب الانتقاء والاختيار ، فالشخصيتان الفاعلتان طه الزعيم واحمد معاصرتان مثلهما مثل الكاتبة يستحضران التاريخ أو الشخصيات الأخرى ، فطه الزعيم يأتي من فرنسا ومعه زوجته وابنيه ليبحث عن جدته .
" جدتي
جدتي البعيدة البعيدة
قادم أنا إلى قارورة التاريخ لأفتحها وأنثر عطرك
هناك حيث التقيت جدي لأول مرة
سأنبش ثرى ميت العامل لأستنطقه
فيحكي لي عنك .. وعن جدي أبي قورة
سيقول لي لماذا تنازل الجد عن حقه في أن يورثنا ملامحه ، ولماذا تشبثت أنت بهذا الحق مائتي عام " ( 4 ) .
إذن فقد جاء طه الزعيم ذي الأصول المصرية والملامح الفرنسية لينبش في تراب ميت العمل / تراب مصر عن جدته / جوليا ، رمز الثقافة الفرنسية ، التي أعطته ملامحها على حين لم يعطه جده ملامحه ؟
وإذا كانت الرواية قد بدأت بصوت طه الزعيم الفرنسي الذي جاء ليفتش في تراب مصر عن ملامحه ، فإنها تنتهي بصوت أحمد / ابن العم الرافض للثقافة الفرنسية والمتحصن بملامحه المصرية يراقب اندماج وضاح وعائشة ابني طه الزعيم ومعهما أمهما الفرنسية في أفراد العائلة المصرية ؛ " وأنا في حجرتي .. تأتيني أصوات حديثهم ولعبهم وضحكهم ونقاشهم ومعاكاساتهم وجدالهم من كل ناحية في الدار يفاجئني تجاوب وضاح مع مشاكلنا وأكاد لا أصدق انتماءه .
لم يناموا
ولم أنم
وفي الصباح .. كنا أسرة كبيرة جدا تتناول إفطارها ولم أحاول تمييز وضاح أو عائشة "( ص 198 ) .
إن هذا الختام يتفق مع استراجية العنوان ، حيث يتحول الغزو إلى عشق ، فطه الزعيم وإن كان من أصل مصري ولكن ملامحه فرنسية هذا بالإضافة إلى زوجته وابنه وضاح وابنته عائشة يصبحون جميعا محل قبول أحمد .
ولكن من أسف أن هذا الوعي التاريخي التأملي كان على حساب الوعي الفني ، ففيما عدا شخصية جوليا ، بدت معظم الشخصيات باهتة لا تجري الحياة في دمها ، وعلى الرغم من طه الزعيم واحمد شخصيتان رئيسيتان ويمثلان وجهتين نظر متعارضتين سمعنا صوتهما وقرأنا أفكارهما أكثر ما لامسنا ملامحهما وانفعالهما .
ثمة شيء آخر أعتقد أيضا أنه أثر كثيرا بالسلب على العمل ألا وهو لغة السرد ، فقد مالت هذه اللغة إلى الخطابية في كثير من المواضع ، ويمكن أن أضع بين أيديكم النموذج التالي من الفصل الخامس والعشرين على لسان أحمد :
لماذا نعجب بغيرنا أكثر من إعجابنا بأنفسنا
ملامح الغير تعجبنا .. ثقافة الغير تستهوينا .. ملابس الغير تجذبنا .. موسيقاهم .. رياضتهم .. لغتهم .
نلهث وراء ما لديهم . . نتجنب أن نكون أنفسنا ..
لا نعتز فينا إلا بأحجار تركها القدماء قبل اندثارهم
هؤلاء أجدادنا
نحن سلالة العظماء
هذا اصلنا
أصل لا نعرف ملامحه على وجه الدقة .. أصل ما زال خافيا غامضا .. ما زلنا نكتشفه ونبحث عن حقيقته .. " ص 154 .
والحقيقة أن هذه اللغة قد تكون أيضا مبررة بشكل ما مع شخصية أحمد الرافض من البدء لثقافة الفرنسية ، ولكن لا يمكن تبريرها مع لغة الجنرال ديجا .
هنا يبرز السؤال لغة من هذه إذن ؟ أظن بل أرجح أنها لغة المؤلف الحقيقي .
الهوامش :
+ الغزو عشقا ، نجلاء محمود محرم ،مطابع آيات ، الزقازيق2005
1 ـ نقلا عن الرواية التاريخية لأحمد الهواري وقاسم عبده قاسم ، دار المعارف ، القاهرة 1979 ، ص 136 .
2 ـ جورج لوكاش ، الرواية التاريخية ( ترجمة جواد كاظم ) بغداد 1978 ، طـ 1 ، ص 239 .
3 ـ المرجع نفسه ، ص 402 .
4 ـ فريال جبوري غزول : الرواية والتاريخ ، مج فصول ع 2 ، مج 2 ( يناير ـ فبراير ـ مارس ) 1982 ، ص 296 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغزو عشقا بين الفن والتاريخ
[SIZE=6]قراءة في رواية نجلاء محرم[/SIZE]
[SIZE=5]د. محمد عبد الحليم غنيم
[/SIZE]
ولعل الرواية كنثر تخيلي أقرب الأنواع الأدبية إلى التاريخ حيث يعتمد كلاهما على السرد كأسلوب في الكتابة وعلى الأحداث والشخوص كحقائق واقعية .
والرواية التاريخية،كما يقول الدكتور شفيع السيد ، لا تعني بتقديم التاريخ للقارئ بالدرجة الأولى ، لأن وثائق التاريخ كفيلة بآداء هذه المهمة ، وإنما تكون قيمتها الفنية في مدى براعة الكاتب في استغلال الحدث التاريخي واعتماده إطارا ينطلق منه لمعالجة قضية حثية من قضايا مجتمعه الراهنة ، أي أن العمل الذي يستوحي التاريخ لا يعني بالماضي بقدر ما يعني بالحاضر .
لكن الروائي وهو يعتني بالحاضر لا يعني ذلك أن يتوانى في فهم الماضي أو دراسته مثله في ذلك مثل المؤرخ ، بل لابد أن تكون له رؤيته التاريخية أيضا ، بحيث لا يلوي عنق الأحداث أو يتجاوز الحقائق التاريخية ، يقول الأستاذ على أدهم من مقال له عن الروايات التاريخية نشره في مجلة الثقافة ( أكتوبر 1951 ) : " الروائي المؤرخ تلزمه صفتان ، عقلية تاريخية تستطيع أن تستخلص الصور من سجلات الماضي وتكون الأفكار عن حقيقته ، وقوة الخيال الذي يستطيع استحضار الأحاسيس والمشاعر التي ألمت بنفوس أهل تلك العصور العابرة " ( 1 ) .
وهذه العقلية التاريخية ومعها قوة الخيال هما الشيئان المشتركان بين المؤرخ والروائي ، فعلى الروائي أن تكون له رؤيته التاريخية الخاصة به لأن ذلك يساعده في إنجاز مشروعه الروائي ، يقول لوكاش : " كلما كانت معرفة الكاتب بفترة ما أعمق واكثر تاريخية على نحو أصيل كان اكثر حرية في التحرك داخل موضوعه واقل شعورا بالتقيد بالمعطيات التاريخية الفردية " ( 2 ) .
ويرى لوكاش أيضا أن معيار نجاح الرواية التاريخية هو اهتمامها بالحاضر مع التقيد بالحقائق التاريخية ، فيقول : " إن فصل الحاضر عن التاريخ يخلق رواية تاريخية تهبط إلى مستوى التسلية الحقيقية " ( 3) .
وإذا ما جئنا إلى رواية "الغزو عشقا " للكاتبة نجلاء محرم وجدنا أنها يمكن أن تندرج في سياق الرواية التاريخية والتي هي في أبسط تعريف أو تحديد رواية تتخذ من التاريخ أحداثه وحقائقه مادة لتقول شيئا مرتبطا بالحاضر ، ولكنها تبقى في النهاية رواية تلتزم تقاليد الرواية الفنية المتعارف عليها .
الغزو عشقا .. استراتيجية العنوان :
تضع الكاتبة " الغزو عشقا " عنوانا يعود بنا على الغزو الفرنسي لمصر عام 1798 ، وقد قيل عن هذا الغزو ما قيل منذ الجبرتي إلى الآن ، من كونه غزوا عسكريا أو غزوا اقتصاديا أ الاثنين معا ، وهناك من عده غزوا ثقافيا ، يهدف إلى تدمير الثقافة العربية الإسلامية وإحلال الثقافة الغربية مكانها بوصفها ثقافة الكفر والانحلال .
إذن هل هي وجهة نظر جديدة للحملة الفرنسية لدى الكاتبة الروائية وهل تنبع وجهة النظر هذه من رؤية تاريخية ما ؟ لنعد مرة أخرى للعنوان نجده مكونا من لفظين : الأول الغزو بما يحمله هذا اللفظ من دلالات العنف والقهر والسلب والقوة والهجوم ، والثاني العشق بما يحمله من التآلف والود والحب والاندماج ، إذن ه يتحول الغزو إلى عشق ، هل تتحول النار إلى ماء ؟ إذن ألا يشي هذا العنوان بمباركه الغزو ؟ وبمعنى آخر هل ترى الكاتبة أن المصريين تآلفوا مع هذا الغزو ؟
الحقيقة أن الأحداث لا تقول هذا صراحة ، واعتقد أن الكاتبة ربما كانت متأثرة بصورة ما بغادة رشيد لعلى الجارم ، عندما أحب مينو زينب فتاة رشيد ، بيد أن الصورة هنا مقلوبة لأن شيخ العرب أبا قورة يقع في حب جوليا الفرنسية .
لكن إذا كان مينو أحب زينب ومن ثم أحب رشيد ومصر مثله في ذلك مثل الفرنسيين الذين وقعوا في حب مصر ، فهو أحب شيخ العرب ومن ثم أحب المصريين فرنسا عبر حبهم لجوليا ؟
لا أعتقد أننا كما تقول الأحداث لدينا مثل هذا الولع الفرنسي بمصر ، فليس لدينا الولع المصري بفرنسا ، فأحمد أحد أحفاد أبي قورة بعد مائتين سنة من خروج الفرنسيين ينعى على أمه فخرها بوضاح ابن الفرنسية وابن طه الزعيم الذي جاء يزور قرية أجداده وجدته جوليا ( انظر الفصل رقم 25 ، ص 153 ـ 158 ) .
إن العشق الذي نراه في النص واضح من تحول جوليا ( الفرنسية ) من الكراهية إلى الحب تجاه شيخ العرب ، بل عشقه ، إذن هو عشق فرنسا لمصر ، وإن كان هذا لا ينفى عشق شيخ العرب لجوليا ، ولكنه عشق حذر إذا جاز التعبير . إذن يمكن القول في الأخير أن العشق صفة مشتركة بين الغازي والمغزو .
الغزو عشقا والرؤية التأملية للتاريخ :
أشرنا من قبل أنه لابد للكاتب / كاتب الرواية التاريخية من رؤية تجاه التاريخ يكتب من خلالها عمله ، وإن هذه الرؤية تمتزج برؤيته الفنية ، تقول فريال جبوري غزول : " من الروائيين من يكتب من خلال الوعي الأصلي وهم يهتمون باستعادة الماضي كما كان ، ثم منهم من يكتب من خلال الوعي التأملي ، وهم يهتمون بربط الماضي بالحاضر ، وأخيرا فإن منهم من يكتب من خلال الوعي الفلسفي ، واهتمامهم ينصب على كيفية كتابة التاريخ " (3) .
ونجلاء محرم في الغزو عشقا تكتب من خلال الوعي التأملى ، فهي تكتب ليس بهدف إعادة كتابة التاريخ أو صياغته صياغة جديدة لهدف تعليمي كما نقرأ لدى على الجارم ، ولكن تكتب وعينها على الحاضر في المقام الأول ، معتمدة أسلوب الانتقاء والاختيار ، فالشخصيتان الفاعلتان طه الزعيم واحمد معاصرتان مثلهما مثل الكاتبة يستحضران التاريخ أو الشخصيات الأخرى ، فطه الزعيم يأتي من فرنسا ومعه زوجته وابنيه ليبحث عن جدته .
" جدتي
جدتي البعيدة البعيدة
قادم أنا إلى قارورة التاريخ لأفتحها وأنثر عطرك
هناك حيث التقيت جدي لأول مرة
سأنبش ثرى ميت العامل لأستنطقه
فيحكي لي عنك .. وعن جدي أبي قورة
سيقول لي لماذا تنازل الجد عن حقه في أن يورثنا ملامحه ، ولماذا تشبثت أنت بهذا الحق مائتي عام " ( 4 ) .
إذن فقد جاء طه الزعيم ذي الأصول المصرية والملامح الفرنسية لينبش في تراب ميت العمل / تراب مصر عن جدته / جوليا ، رمز الثقافة الفرنسية ، التي أعطته ملامحها على حين لم يعطه جده ملامحه ؟
وإذا كانت الرواية قد بدأت بصوت طه الزعيم الفرنسي الذي جاء ليفتش في تراب مصر عن ملامحه ، فإنها تنتهي بصوت أحمد / ابن العم الرافض للثقافة الفرنسية والمتحصن بملامحه المصرية يراقب اندماج وضاح وعائشة ابني طه الزعيم ومعهما أمهما الفرنسية في أفراد العائلة المصرية ؛ " وأنا في حجرتي .. تأتيني أصوات حديثهم ولعبهم وضحكهم ونقاشهم ومعاكاساتهم وجدالهم من كل ناحية في الدار يفاجئني تجاوب وضاح مع مشاكلنا وأكاد لا أصدق انتماءه .
لم يناموا
ولم أنم
وفي الصباح .. كنا أسرة كبيرة جدا تتناول إفطارها ولم أحاول تمييز وضاح أو عائشة "( ص 198 ) .
إن هذا الختام يتفق مع استراجية العنوان ، حيث يتحول الغزو إلى عشق ، فطه الزعيم وإن كان من أصل مصري ولكن ملامحه فرنسية هذا بالإضافة إلى زوجته وابنه وضاح وابنته عائشة يصبحون جميعا محل قبول أحمد .
ولكن من أسف أن هذا الوعي التاريخي التأملي كان على حساب الوعي الفني ، ففيما عدا شخصية جوليا ، بدت معظم الشخصيات باهتة لا تجري الحياة في دمها ، وعلى الرغم من طه الزعيم واحمد شخصيتان رئيسيتان ويمثلان وجهتين نظر متعارضتين سمعنا صوتهما وقرأنا أفكارهما أكثر ما لامسنا ملامحهما وانفعالهما .
ثمة شيء آخر أعتقد أيضا أنه أثر كثيرا بالسلب على العمل ألا وهو لغة السرد ، فقد مالت هذه اللغة إلى الخطابية في كثير من المواضع ، ويمكن أن أضع بين أيديكم النموذج التالي من الفصل الخامس والعشرين على لسان أحمد :
لماذا نعجب بغيرنا أكثر من إعجابنا بأنفسنا
ملامح الغير تعجبنا .. ثقافة الغير تستهوينا .. ملابس الغير تجذبنا .. موسيقاهم .. رياضتهم .. لغتهم .
نلهث وراء ما لديهم . . نتجنب أن نكون أنفسنا ..
لا نعتز فينا إلا بأحجار تركها القدماء قبل اندثارهم
هؤلاء أجدادنا
نحن سلالة العظماء
هذا اصلنا
أصل لا نعرف ملامحه على وجه الدقة .. أصل ما زال خافيا غامضا .. ما زلنا نكتشفه ونبحث عن حقيقته .. " ص 154 .
والحقيقة أن هذه اللغة قد تكون أيضا مبررة بشكل ما مع شخصية أحمد الرافض من البدء لثقافة الفرنسية ، ولكن لا يمكن تبريرها مع لغة الجنرال ديجا .
هنا يبرز السؤال لغة من هذه إذن ؟ أظن بل أرجح أنها لغة المؤلف الحقيقي .
الهوامش :
+ الغزو عشقا ، نجلاء محمود محرم ،مطابع آيات ، الزقازيق2005
1 ـ نقلا عن الرواية التاريخية لأحمد الهواري وقاسم عبده قاسم ، دار المعارف ، القاهرة 1979 ، ص 136 .
2 ـ جورج لوكاش ، الرواية التاريخية ( ترجمة جواد كاظم ) بغداد 1978 ، طـ 1 ، ص 239 .
3 ـ المرجع نفسه ، ص 402 .
4 ـ فريال جبوري غزول : الرواية والتاريخ ، مج فصول ع 2 ، مج 2 ( يناير ـ فبراير ـ مارس ) 1982 ، ص 296 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغزو عشقا بين الفن والتاريخ
[SIZE=6]قراءة في رواية نجلاء محرم[/SIZE]
[SIZE=5]د. محمد عبد الحليم غنيم